تفسير سورة الشورى -14- من قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ.. (38)} إلى الآية 43
الدرس الرابع عشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
الثلاثاء 25 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بالذِّكر الحكيم، وبيانهِ على لسانِ عبده الرؤوف الرحيم، سيدنا مُحمَّد صلَّ الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم، وعلى من والاهم واتَّبع منهجه القويم، وعلى ابائه واخوانه من الأنبياء والمُرسلين؛ أهل المنزِلة والمكانة والتّقدير والتفخيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكة الله المُقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم انه أكْرم الأكرَّمين وأرحمُ الراحمين.
وبعدُ،،،
فإنِّنا في فضل تأمُّلِنا لكلام الرحمن، ونعمة تدبّرنا لما أوحى على قلب عبده سيّد الأكوان، مَرَرنا على سورة الشورى إلى قول الحق -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- يمدحُ الذين أعدّ لهم ما هو خيرٌ وأبقى من سعادة الأبد، وما لا يُوصف ولا يُعدّ ولا يُحدّ، ولا ينتهي ولا ينفد، في جنَّة يُنَادى داخلها: "إن لكم أن تحيوا فيها فلا تموتوا أبدا، وأن تشبُّوا فلا تهرموا أبدا، وأن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وأن تصِّحوا فلا تمرضوا أبدا"، جعلنا الله من أهل جنَّاته.
ذكر في أوصافهم:
-
الإيمان والتوكل عليه.
-
واجتناب كبائر الإثم والفواحش.
-
ومغفرتهم إذا غضِبوا.
-
واستجابتهم لربهم فيما دعاهم إليه، وفيما أمرهم به ونَدَبهم إليه.
(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)؛ يتراجعون في الأمور وينظروا فيها، مُتحرِّين فيها الأحبَّ إلى الرب.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)، قال: (يُنفِقُونَ (38))؛ يعشقون الإنفاق في سبيل الله:
-
من الزكاة المفروضة.
-
إلى الصدقة المندوبة، وهم في ذلك على درجات.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38))؛ أيضًا من غير المال:
-
ينفقون من رزقِ العقلِ:
-
بحُسن النظر والتأمُّل.
-
والمشورة وإفادة الآخرين.
-
والتفكير فيما يخدم الدين وفيما يصلح أحوال الناس.
-
-
ينفقون من العلم إذا رزقهم علمًا بتعليمه، وإهدائه لمن لا يعلمه.
-
وينفقون من كل القوى التي آتاهم الله إيَّاها فيما يعود بالفائدة والنفع على الخلق.
و "الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله"؛ أي: الذين هم في كفالتهِ ورعايتهِ ويعولهم ويكفلهم ويربّيهم سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39))؛ إذا أصابهم البغي؛ بأن بغى الباغيِّ عليهم. فكونهم ينتصرون إما: دعوة إلى ترتيب الأمور، والإعداد للمُستطاع من القوة؛ حتى لا يتجرأ أهل البغي، فيكونون على استعداد وعلى قدرة أن ينتصروا؛ وهذا لا يتناقض مع العفو فيعفُون مع القدرة، وتقدَّم معنا: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)).
(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39))؛ ثم إنَّ هذا الانتصار في ردِّ البغي وهو الظُلم والعدوان، يختلف؛
-
فمنه ما يتعلّق بحق شخصي ذاتيُّ للإنسان، لا يضُرّ غيره، ولا يضرّ في الدين، ولا تحصل به جراءة على أمر الدين، ولا على الناس ولا يستفحل به الشر ويتزايد؛ هذا محل المغفرة يكون فيه أفضل، ومحل العفو فيه أفضل.
-
و يتأكد هذا إذا كان الذي حصل منه البغي ندِم واعتذر، وطلب العفو والمغفرة؛ فحينئذٍ يكون الأفضل هو التجاوز والعفو والمغفرة.
-
وأحيانًا يترتب على هذا العفو جراءة للبُغاة ليجترئوا على المسلمين والضعفاء، فحينئذٍ يكون الانتصار هو الأفضل؛ ولكن الانتصار مُقيّدٌ بأن لا يتجاوز المِثْل.
وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39))، وهكذا كل ما ترتّب على المسامحة فيه والعفو فيه؛ جراءة على المسلمين أو على الدين، ووقوع ضُرّ، وتكاثر ذلك، فالانتصار فيه أفضل؛ إذًا فتختلف الأحوال.
ثم بعد ذلك يَذكر الحق -تعالى- في مجرِيات ما يكون من الناس، يقول: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)؛ فقيَّد في الجزاء أنْ يكون مثل ذاك أو أقل؛ وحرَّم أن يكون أكثر، وهذا يأتي في القِصاص في الحدود: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة:45].
يقول: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)؛ فكيف سمَّى المعاقبة سيئة؟ سُمّيت سيئة من حيث أن كلاهما يسُوء من فُعل به؛ فالأول يسُوء المظلوم، والثاني انتصارٌ من المظلوم يسُوء الظالم؛ فهو سيئة باعتبار أنه يسُوء ذلك الإنسان.
إلى جانب ما ذكروا:
-
أنه لأجل المقابلة؛ وإلا هذا ما هو سيئة؛ ليس سيئة باعتبار أنه فعلٌ مشروع، وقد يترتَّب عليه خير، أو نصر أهل الحق، أو هداية للظالم هذا نفسه ورجعة إلى الحق، فيترتب عليه خير كثير؛ فما هو سيئة في الميزان الشرعي في العُرف الشرعي؛ في ميزان الشرع هذا ليس سيء، لكنه أطلق عليه هذا.
-
ذكر بعضهم للمقابلة، وذكر بعضهم للتأكدَّ من نفس اللفظ أن معناه يسيءُ إلى الآخر، نعم هو إساءة، لكن هذه الإساءة جاءت مشروعة؛ عقوبة على إساءةٍ مُبتدأة؛ لم تكن بسبب ولا بحق؛ هذه إساءة إلى الظالم؛ ولكنها غير مبتدأة بل هي معاقبة ومكافأة ومجازاة على ما كان منه، وفيها فوائد، وفيها ردع للظُلم وأهله وما إلى ذلك.
فما إطلاق السيئة إلا من حيث كونها تُسيء صاحبها.. نعم تُسيء للذي فُعلت به؛ لأنه أساء، مقابل إساءة.. إساءة.
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)؛ قيَّد بمثلها لئلا يتجاوزوا، كما قال: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ) [البقرة:194]؛ لا تزيّد..
ومع ذلك كله كرَّر مسألة العفو؛ يشير إلى: أنه ليس الأفضل الانتصار دائمًا، والمُقدم هو العفو.
-
قال: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37))
-
ثم قال: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ..(40)).
-
ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس من سبيل على من انتصر بعد ظلمه، والسبيل على الذين يظلمون الناس، ثم كرَّر: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)).
حتى قال الإمام الفخر الرازي: إنما ذكر مشروعية الانتصار، ولم يأتِ به في معرض المدح والترغيب، لكن العفو ذَكَره: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43))، ويقول في الآية الأخرى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
فإذًا؛
-
ذكر العفو في معرض الثناء والترغيب.
-
وذكر الانتصار في معرض الإباحة والجواز، وأنّ صاحبه ما يخرج عن دائرة أهل هذا الفضل.
ولكن مع ذلك لابُد من اعتبار ما ذَكَرنا: أن الانتصار في بعض الأحوال يكون لازمًا؛ وخصوصًا إذا اجتُرئ على الدِّين، ومع القدرة على ذلك، والرَّد على ذلك لا يُؤدي إلى فتنة أكبر ولا إلى مشاكل أكثر، فيجب الرد من أجل الردع.
وفي الصحيح أنه ﷺ لم ينتقم لنفسه قط، وإنما يغضب لله؛ إذا عُصيَ الله نعم يغضب؛ وأما في نفسه لم ينتقم لنفسه، لا من أذى ولا غيره.. حتى تولّى الحق الجواب عنه، الذين يتكلمون على ذاته الكريمة ومنصبه الشريف ﷺ، الحقُّ يتولى الدِّفاع عنه والرَّد عليهم وهو ما يجاوبهم.
لمَّا في طريقه إلى المدينة في الهجرة، لقيَ بعض الرَّعاة، وقالوا: أنت الذي يقولوا لك الصابئ؟ -هم يذمّونه بهذا- فأجابه ﷺ قال: "كذلك يزعُمون"! وما قال: لماذا تقول لي هكذا وأنا نبي وأنا رسول وتقول لي كذا!... قال: "كذلك يزعُمون".. فقط.
ما رأينا الأنبياء كذلك من قبله؟ يرُّدون على قومهم بِرد كامل لطيف:
-
قالوا لسيدنا نوح: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، قال لهم: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) فقط؛ لا لجاج ولا جِدال ولا أنا وأنا وأنتم .... (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:60-62].
-
قالوا لسيدنا هود: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) يقولون لنبيّ!.. (فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، قال لهم سيدنا هود في الجواب: (يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف:66-68]، وانتهت المسألة.
والحبيب الأعظم حتى ما كان يجيب عليهم، تولّى الحق الجواب: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:2-4]؛ ما قال لهم كيف تقولون لي مجنون وتشوفوني كيف أعاملكم، وكيف أتكلم معكم.. هو ما تكلم وسكت لأن الأمر يرجع إلى ذاته، فتولّى الحق عنه قال صاحب الخُلق العظيم تسمُّونه مجنون؟! بهرت أخلاقه صغاركم وكباركم من أيام صغره، هل يتأتى هذا من مجنون؟ الخُلق العظيم منهج سويّ في الحياة، لا يقوم به إلا من قويَ فهمه وعقله وإدراكه، وغَلَبَته على نفسه؛ خُلُق عظيم، كيف يتأتى من مجنون؟ ما يتأتى!.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وهكذا وإذا قالوا كذَّاب إذا قالوا ساحر يُجيب الحق -سبحانه وتعالى- عنه وما يجيب عن نفسه ﷺ.
إذًا، هكذا يقول: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)؛
-
(عَفَا): سامح.
-
(وَأَصْلَحَ):
-
أصلح ما بينه وبين ذاك.
-
وأصلح في عمله.
-
وأصلح في باطنه؛ كان العفو من أجل الله خالص لوجه الحقّ -تبارك وتعالى- لا يطلب به سُمعة ولا رياءً.
-
أو يكون أيضًا في حالٍ وإن لم يكن واصلًا إلى حرام ومذمَّة من كل الوجوه، ولكنه يريد النتائج المُعَجَّلة، هذا قد يقصد بعض النتائج المُعَجَّلة للعفو:
-
من راحة الضمير.
-
ومن وقوف الناس معه.
إذا قَصَدَها أيضًا يحصل له نقص في المقابلة، أمَّا إذا عفا لوجه الله؛ جزاءه على الله، وأجره على الله مباشرة، من أجل الله سبحانه وتعالى.
يقول: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، لا إله إلا الله.. وقد جاء عن بعض الأخبار والأحاديث: أنه ينادي منادٍ يوم القيامة: ليقُم من كان أجره على الله، قال: فيقوم العافون عن الناس وهم قليل! الذين يعفون لوجه الله تعالى، قال: فيناديهم الحق -جل جلاله- عفوتم عن عبادي من أجلي؟ يقولون: نعم ربّنا، يقول: فاليوم أجركم عليّ، تَمَنَّوا ما شئتم، واشفعوا فيمن شئتم؛ اطلبوا ما تشاءون واشفعوا فيمن تشاءون.. الله! (أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا جاء أيضًا في الحديث أنه يُؤمَر بأهل الفضل، يُنادى على أهل الفضل، فيقوم قليل من الناس، فيقال لهم: دونكم الجنة، تتلَقَّاهم الملائكة تقول لهم: إلى أين؟ يقولوا: إلى الجنة؛ تقول: قبل الحساب؟! عاد الناس ما تحاسبوا، عاد الناس ما مرّوا... يقولون: إنما نادانا الله بفضلنا؛ فيقولون: ما فضلكم؟ قالوا: كنا نحلم عمّن ظلمنا ومن أساء إلينا؛ فكنا نحلم عنهم؛ هذا فضلهم فكان أجرهم على الله.
وهكذا.. (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)،
-
ويروي الإمام الشافعي حديث أن النبي ﷺ يقول: من جاءه أخوه معتذرًا إليه من شيءٍ بلغه عنه، -أساء إليه أو أساء إليه بشيء- فقَبِلَ عذره، غفر الله له ألفي ذنب من الكبائر. عفو عن ألفيّ ذنب من الكبائر بقبول العذر.
-
في الحديث الآخر: من جاءه أخوه معتذرًا مُتَنَصِّلاً فلم يقبل عذره لم يرد عَلَيَّ الحوض يوم القيامة. إذا ما يريد يسامح أحد ولا يعفو عن أحد؛ يُحرَم من ورود الحوض في القيامة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
إذًا، فالحقُّ دعانا إلى المسامحة:
-
(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37))
-
(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40))
ويذكر عندنا أهل التاريخ أن أحد القضاة في بلدة شبام، عيَّنَهُ السلطان فذهب وجلس في محل القضاء، ولم يأتِ أحد، أول يوم، ثاني يوم، ثالث يوم، أسبوع، أسبوعين، شهر شهرين،… فتساءل: لماذا ما يجيء أحد للقاضي؟! ما بينكم خصومات؟ ما بينكم نزاعات؟.. يقولوا: هؤلاء قد أصلح بينهم القرآن! كيف؟! قالوا: يقرؤون قوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)؛ فما يصِلُون إلى عندك، ما يحتاجون يصِلُون إلى عندك، هم يصلحون ما بينهم.. فتعجّب وكتب إلى السلطان قال: أنا ما أستحق أُجرة، قاعد هكذا، كل يوم أجيء إلى محل القضاء وأرجع ما يجيء أحد عندي! فكتب إليه السلطان، قال: هذه وظيفة أمرنا الشارع أن نقيمها فأقِمها؛ إن جاء أحد أو ما جاء أحد، أنت لابُدَّ تكون حاضر وجالس، إن جاء أحد فاقضِ، ماجاء أحد محلَّك؛ لابُدَّ نعمر الوظيفة وخُذ أُجرتك من بيت المال.
فصار كل يوم يجيء إلى محل القضاء بالذكر، ومطالعة العلم، ويصلي، وساعة يركع، وساعة يذكر الله، وساعة يطالع في العلم، وإن أحد جاء يتذاكر هو وإياه في العلم ويروحون، ما توجد قضايا! سنة، سنتين، ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع.
في السنة الرابعة عشر جاءوا اثنين، ظنّ أنهم كالعادة إما يستفتون أو يتذاكرون معه في شيء.. قال لهم: مرحبا أهلًا وسهلًا، قالوا: عندنا قضية، قال: تفضلوا! مشتاق يقضي، كم سنة ولا قضى في مسألة، جاء بالآداب كلها حق القضاء، اجلسوا معًا، ثم سوَّى بينهم في المجلس، سوَّى بينهم في النظر، قال: تَقَدَّم بالدعوى، تقدم صاحب الدعوى يقول: أنا اشتريت أرض من هذا ثم خرجت، سلَّمني إياها، انتهى البيع، وكنت أبحث فيها فوجدت فيها كنز فيه ذهب، فجئتُ به إليه، قلت له: أنا اشتريت منك أرض ما اشتريت ذهب! قال لي: أنا بعتك الأرض بما فيها! هذه هي الدعوى!..
قال: ما رضي يقبله! قال: ماذا تقول؟ أجِب يا المدَّعى عليه؛ قال: يا حضرة القاضي أنا قد بعته الأرض بما فيها، فكيف لي آخُذ شيء منها؟! قال: إيش تفكرون تعملون؟ قالوا: أنت قاضي وتعرف أحكام الله وشرعه، خذه وأنفِقه حيث أمرك الله.. قال: تنجون بأنفسكم وتغرقون القاضي؟! ما هكذا.. أين الكنز؛ فتَّش عليه حصّله قديم من قبل الإسلام -دفين من الجاهلية يعني- قال: هذا اسمه رِكَاز في الشريعة، -الرِّكَاز دفين الجاهلية- هذا خُمسه الآن تخرجونه زكاة، باقي أربعة أخماس، إيش أصلِّح بينكم؟.. عندك أولاد؟ قال: عندي ابن؛ قال للثاني: عندك أولاد؟ قال: عندي بنت، قال: خلاص خذوا الأربعة الأخماس وزوجوا الابن على البنت وأنفقوا عليهم، قوموا من عندي روحوا أنتم ومالكم.. ما أنتم حق مخاصمات، إيش من قضية هذه! هذه الدعوى وذي الإجابة وذا القضاء!...
والقاضي استفاد القضاء هذا من مسألة ذكرها ﷺ في بني إسرائيل، وَقَعَت مثل هذا، لكن ما هو قاضي استمر أيام، قاضي عادي، لكنه وَقَعَت قضية بين اثنين في شراء أرض، وجدوا هكذا، فأمرهم بإنفاقه على أولادهم، وهذه جاءت مثلها، فقال: روحوا وأنفقوا على الأولاد وخلاص، وتخلصوا من هذا الخُمس الآن أخرجوه زكاة، الأربعة أخماس أنفقوها على الابن والبنت وخلّوهم يتزوجون، ومع السلامة.
سمعت!.. قالوا: ما احتاجوا إليك لأن القرآن قد أصلح بينهم، يقرؤون قول ربهم: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، وكل واحد يريد يطبّق فما جاء أحد إلى عندك! هذا مثال المجتمع المؤمن، مجتمع الإيمان يصل إلى هذا المستوى وإلى هذه الحدود.. فأين المسلمون اليوم؟! لا إله إلا الله..
يقول: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40))، الذين يبتدئون بالظلم، والذين يأخذون فوق حقّهم، صاروا مثلهم! هو في البداية كان مظلوم، لكن يرجع يأخذ فوق حقه يصير ظالم، كلهم ظالمين! لا يحب ذا، ولا يحب ذا ربنا، (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)؛
-
الذين يبتدئون بالظلم.
-
أو الذين يأخذون فوق حقهم.
(إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ولكن يحب العدل، يحب المقسطين.
(وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)) كمثل ساداتنا المهاجرين، ظلموهم، وأخذوا أموالهم هناك في مكة وحاربوهم، فقاموا وتعرَّضوا لقوافلهم؛ (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ)؛ لم يأتوا إلا مشروعًا وعدلًا حقًّا لهم.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ)؛ يأخذونه من غير حق، (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)؛ هذه المصائب التي تسمعها اليوم؛ تقتيل أطفال، تقتيل نساء، تقتيل أبرياء، يقولون لهم هذا موطن آمن روحوا، فإذا راحوا فيه يدقّون فوقهم، لا إله إلا الله! زمن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان؟!!.. كذب في كذب..
العدل في الإسلام، وأُمِر أهل الإسلام أن يجتهدوا في إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، الله ابتعثهم بذلك؛ أن يخرجوا الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ لأن عدل الإسلام منهج إلهي ربّاني فوق البشر كلهم، لا يُجحف على أحد ولا يظلم أحد، فهو منهج الحكيم العليم، جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
قال: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يقول أنا أريد الأرض هذه ابعد أنت منها، فيقول له: هذه حقي وملكي، فيقول له: أنا أريدها أنت رُح! (يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42))؛ معجّلٌ يسيرٌ منه في الدنيا، وهم لابُدَّ يُعذَّبون بذلك، وهو في شدته وشدة ألمه مخبوءٌ لهم في الآخرة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42))، كل الظالمين؛ يكون من يكون، عربي أعجمي، يدَّعي الإسلام أوغير مسلم؛ يظلم، ويأخذ حقوق الناس بغير حق، له عذاب أليم. "مَن ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ"؛ إلى الأرض السابعة يحمله، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111] والعياذ بالله تبارك وتعالى.
يقول: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43))؛ من العزائم التي أُحبِّها من عبادي وشرعتها لهم، صَبِر ومغفرة، يصبر ويسامح، يصبر ويستر مساوئ الغير ولا يظهرها؛ صَبَر وغَفَر؛ (إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
ولما شكا بعضهم إلى النبي ﷺ قال: أنا لي أقارب أُحسِن إليهم ويسيئون إليّ، أوصِلهم ويقطعوني، قال: "لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلا يَزالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم" -عون من الله ونصير عليهم- "ما دُمْتَ على ذلكَ"، إن كان الأمر هكذا.
وهكذا يقول الله في حديثه القدسي فيمن لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه، ويسامح عباده من أجله، أنه يرضى لرضاهم، ويغضب لغضبهم وينتقم لهم سبحانه وتعالى ممن آذاهم. لا إله إلا الله.. (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)).
وحملت لنا السيرة النبوية في عفوه وصفحه الشيء العظيم، وكله مع المقدرة، كان يقدر، والعجيب أن من الأفراد الذين عفا عنهم مَن هَمَّ بقتله -من خطَّط لقتله- وعفا عنهم؛ واحد في مكة، واحد في المدينة واحد أيام غزو الطائف في يوم حُنَين.
فهذا عمير بن وهب جاء من مكة بعد غزوة بدر، كان اتفق مع صفوان بن أمية، جالس هو وصفوان وحدهم في الحِجّر، تذكَّروا بدر وما قُتل من زعمائهم وكبرائهم وما أهانهم الله وأذلَّهم، يقول عمير بن وهب: لولا دَيْن عليّ وعيالٌ لي لذهبتُ حتى أقتل محمد، قال له صفوان: أتعمل؟ قال: نعم، قال: دَينك دَيْن عليَّ؛ كم دَين عندك؟ وعيالك عيال لي؛ أنا أنفق عليهم طول أعمارهم أو طول ما أنا حيّ، قال: خلاص اُكتم عليَّ الأمر بيني وبينك، قال: تم. قال: هذا السيف أسِنَّه وأسُمُّه وأذهب إليهم أتذرَّع بأنَّ ولدي عندهم أسير، فأقول أني جئت أتخاطب في شأن الأسير وأفديه وأقرُب من محمد وأقتُله، بعد ذلك يقتلوني أو إيش ما يعملوا خلاص؛ قال: هذا بيني وبينك واتَّفَق.
وصل إلى المدينة، أول ما شافه سيدنا عمر قال: هذا وجه شر! قام أمسكه، قال: أريد رسول الله، قال له: لماذا؟ قال له: أكلمه في ابني أسير، فمسكه من ثوبه ودخل به المسجد، والنبي في المسجد، قال: أطلِقه، أطلَقَه، فقرب منه، قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت أخاطبكم من أجل ابني أسير لديكم، قال له النبيّ: "فما بال السيف"؟ إذا تجيء تخاطب في أسير لك فلماذا السيف؟ إيش من حاجة للسيف حتى تحمله وأنت تخاطب في أسير؟! -صلّح له جواب دبلوماسي على قولهم- قال: قبّحها الله من سيوف ما أغنت عنّا شيء يوم بدر! ما منها فائدة هذه ما صلّحت لنا شيء في يوم بدر، قال له: "اصدقني، لمَ جئت"؟ قال: ما هو إلا هذا يا محمّد، وهو يترقب فرصة يريد يضرب، قال: "لا، بل جلست أنت وصفوان عند الحِجْر، وقلت: كذا وكذا، فقال لك: كذا وكذا، وتكفّل لك بأهلك ودَيْنك، وجئت لتقتُلني، والله حائلٌ بينك وبين ذلك"؛ فارتعد، قال: والله ما عَلِمَ بهذا أحد، أنا وصفوان وحدنا في الحِجْر، ما أحد معنا، امدد يدك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فأسلم ودخل الإيمان قلبه، سبحان الله.
رأيت كيف؟! ولا عاتبه، ولا آذاه، وبعدها خلاص عدّه مثل أصحابه، يُحسن إليه، ويكلمه الكلام الطيب، ويُجلس جنبه، الله!.. ما هذا العفو العجيب؟!.
صفوان في مكة يقول: يجيء الآن خبر جيد ممتاز من المدينة، تنسون به ألم بدر، هيا أين الخبر هذا؟! سيأتي .. سيأتي، يسألونه، وهذا يتخبّر أحد جاء من جهة المدينة، يقول: هل من حدث؟ ما من حدث، ما حصل شيء هناك؟.. حتى جاء وفد من عند المدينة بعد مدة، قال: هل من خبر؟ قالوا: ولا أي خبر، قال لهم: ما فعل عمير بن وهب؟ قالوا: عمير أسلم، قال: أسلم؟! قالوا: أسلم هذا خلاص ودخل مع محمد! وروّح الخبر حق الرجال وهو يتهدد، سبحان الله!..
كم خُطَط؟.. ومثل هذا واقع الأنبياء: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ)، والصالحين على مدى القرون، كم همّ بقتلهم من أفراد وجماعات وهيئات؟ ولا يُقتل إلا من كتب الله له شهادة على هذا الوجه، وانقضى عمره في هذا، وإلا أكثرهم ما نالوا منهم، نسبة المقتولين سواءً من الأنبياء أو من الأولياء من مات بهذه الصورة قليل جدًا، بالنسبة لمن هُمّ بقتلهم؛ كثير، لا يكاد نبي ولا ولي صالح إلا همّوا بقتله، همّوا بقتله، كلهم.. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ) قال الله: أنا الذي أخذتهم، (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) [غافر:5]، جلّ جلاله وتعالى في علاه.
يقول: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43))، والثانية في أيام الفتح، كان فُضالة يمشي قفا النبي ﷺ وقد هيأ السيف، ويترقب فرصة، وحصّل فرصة قريبة مناسبة جدًا، وكان ﷺ يطوف وحده، وكان مشيه الطبيعي العادي سريع، فذا يجري قفاه، وحامل السيف وهو فرحان، ما أحد حواليه سيضربه من خلفه ﷺ، فوقف ﷺ والتفت، قال: "ما تحدّث به نفسك يا فضالة؟" قال: لا شيء كنت أذكر الله! فتبسّم ووضع يده على صدري، قال: فقرأ عليّ، واحد بيقتلك وتقوم تعالجه وتداويه!.. وعلاج من أخطر شيء في الوجود.. من كُفْر، عازم على أعظم بليّة لو كان تصرّف في هذا لن يكون أشقى الآخرين عبدالرحمن بن ملجم، بيكون هو أشقى الآخرين، لكن سبحان الله!..
وقام النبي ﷺ يعامله هكذا، ويصفّيه ويداويه، قال: فوالله ما رفع يده من على صدري وأحدٌ على وجه الأرض أحب إليّ منه! خلاص.. لا عاد كفر، ولا شرك، ولا بغض، قده ألّا في محبة! وأثّرت فيه، صار يمشي مع النبي ﷺ الآن ما عاد بيقتله، إلا قده يتبرّك به.
وخرج بعد الطواف، وبسرعة أثّر فيه، ظهور الآثار عليه قوية؛ النقلة من حالة الكفر والفسق، فمرّ بامرأة كان يعتاد يجلس معها ويتحدث معها، قالت: هلمّ إلى الحديث؛ تعال فضالة، قال:
قالت: هلمّ إلى الحديث فقلتُ كلّا *** ……..
خلاص هذا فضالة ما عاد ذاك الذي تعرفينه، هذا واحد ثاني، صار فضيل الآن، صار فضيل، قال ما أجلس مع النسوان أتكلم، عيب، تغيّر الحال كله!
قالت: هلمّ إلى الحديث، فقلتُ كلا *** يأبى عليّ الله والإسلامُ
لو ما رأيتِ محمدًا وقبيلهُ *** بالفتح يوم تُكسّرُ الأصنامُ
لرأيتِ دينَ الله أضحى بيِّنًــا *** والشركُ يغشى وجهَهُ الإظلامُ
فتحوّل ثابت وداعي، ومترفّع ومتنزّه عن النقائص باليد الكريمة، لا إله إلا الله..
وغورث بن الحارث لما رجعوا من غزوة وتفرّقوا في الشجر، شاف الصحابة شجرة فيها ظل كثير تركوها للنبي ﷺ، وراحوا وتفرّقوا في الأشجار الأخرى، كانت متباعدة، وعلّق سيفه الكريم ﷺ، واضطجع تحت الشجرة، وغورث من فوق الجبل يرقبه ويشوفه، وهو وحده ولا أحد حواليه من الصحابة كلّهم راحوا إلى الأشجار الثانية، خرج وتسلّل تسلّل حتى وصل، واستلّ السيف من الشجرة، والنبي راقد، اخترط السيف، فتح عينيه ﷺ، قال: من يمنعك منّي يا محمّد؟ فقال ﷺ: "الله!"؛ فارتعد وسقط السيف، فحمله ﷺ، قال: "من يمنعك منّي الآن"؟! قال: لا أحد، كُن خير آخذ، فترك السيف.
دعا الصحابة، لمّا سمعوا صوته جاءوا وأقبلوا، وجلسوا والرجل عنده، فلما جلسوا حدّثهم، قال: إن هذا كان كذا وكذا، ذكر لهم ما كان منه، فالصحابة اغتاظوا، قال: قد عفونا عنه!.. ارجع إلى قومك .. إذهب، حُر، اللهم صلّ وسلم عليه. فراح وقال: هذا إنسان ما هو عادي، حتى هداه الله فيما بعد.
صلوات ربي وسلامه عليه، هو يقدر يعمل به أي شيء، يقدر يقتله هو كافر حربي، ولكن جاء في غير وقت الحرب، فقال له رُح.. وهو اخترط السيف، سيف الحبيب بنفسه وكان بيهوي به عليه، فلما نطق باسم الجلالة ارتعد وسقط السيف من يده، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ولم يزل كذلك، قال لليهودية: الذراع أخبرني أنك سممتي الشاة! قالت: نعم؛ اعترفت. قال: لماذا؟ قالت: قلت إن كان نبي ما بيضرّه وإن كان ما هو نبي نريح الناس منه؛ فعفا عنها في حق نفسه. لكن الذي أكل معه مات، فدفعها إلى أولياءه، وقال: إما سامحوها وإلا اقتلوها به، ﷺ.
وأراد الله له حتى مظهر الشهادة الحسّية مع نبوّته ورسالته ﷺ، كان يقول: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام"، وكان يحتجم في كل سنة، وكان عنده موته قال: "وهذا أوان قطع أبهري"؛ أن أثر الأكل هذا بيعود عليه الآن ويكون من جُملة أسباب الموت، ليجمع الله له الشهادة. وبعده الصدّيق كذلك مات مسموم. لا إله إلا الله.
(وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43))، فانظر كيف يربّينا الحق تعالى ويهذّبنا، وكيف يهدينا القرآن: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، ولن نجد في دساتيرهم ولا أنظمتهم شيء يشبه هذا ولا يقرب من هذا، لا في نورانيته ولا في روحانيته ولا في حقيقته ولا في عظمته ولا في مصدره، من أين جاء؟..
فالله يغنينا بالقرآن، ويرفعنا بالقرآن، ويرحمنا بالقرآن، ويجعلنا عنده من أهل القرآن، يا رب في شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن لا ينقضي عنّا إلا ونحن عندك من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصّته، "أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته"، ولكن أهلية القرآن هذا كيف تحصل؟!..
بفضلك يا رب أكرمنا وامنحنا وجُد علينا، وأدخلنا في دائرة أهل القرآن وأهلينا وقراباتنا وطلابنا وذوي الحقوق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد ﷺ
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه
الفاتحة
27 رَمضان 1446