تفسير سورة الشورى -10- من قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ (27)} إلى الآية 29

للاستماع إلى الدرس

الدرس العاشر من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الشورى، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)

الجمعة 21 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله مُكْرِمُنا بالقرآن وبَيانِه على لِسان عبدِه المُصطفى سيّد الأكوان، محمد بن عبد الله رفيع القدر والمَنزِلة والشأن، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه في كل وقت وآن، وعلى آله وأصحابه الغُرِّ الأعيان، وعلى من اتّبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين، من اعتَلى لهم القَدر والمكان، وعلى آلهم وصحبهم وتابِعيهم، وعلى الملائكة المُقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.

وبعد،،،

 فإننا في نِعمة تأمُّلِنا لمعاني كلام ربّنا، مَررنا في سورة الشورى على آية: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)) وعلِمنا عجائِب إجرائِه المَقادير، وترتيب الأمور بين الخَلائق لحِكَمٍ لا يُستَجلى منها إلا اليسير لذوي العُقول من الملائكة والنبيّين وخِيارِ الخلق، ولا يُحيط بهذه الحِكمة في الخلق والإيجاد والتقديم والتأخير والإسعاد والإشقاء والإحياء والإماتة، لا يُحيط بالحكمة فيها من كُل وجهٍ إلا هو سبحانه وتعالى.

والملائكة والأنبياء من أعلم الخلائق بهذه الحِكَم فيما آتى الله -سبحانه وتعالى- الخَلق من مَعرِفة الحكم، فلهُ بَسْطُ الرِّزق وله قَبضُ الرِّزق، له التَّوسِعة في الرِّزق والتَقتير، وكلُّ ذلك جارٍ من جُملة ما يظهرُ من الحِكم أنه يكون اختبارًا للناس، سواء الفقر أو الغنى، مُواتاة الأسباب أو مُخالفتِها لمُراد الإنسان، أو وُجود الغنى أو الفقر، الصِّحة أو المرض، الكُل امتحان واختبار؟ نعم.

(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر:15-16]؛ كُلُّه ابتلاء على وجه العُموم، ولكُلِ فردٍ بعد ذلك هو لمن سبَقت لهم السعادة؛ سواء كان فقرًا أو غنى، صِحَّة أو سقمًا، فرحًا أو حزنًا؛ هو بالنسبة لهم مجال شُكر وذِكر واتِّساع فِكرٍ وحُسن تقرُّبٍ وأدبٍ مع هذا الرب، ولذا قُلنا أنهم:

  • في غِناهُم لا يَبطُرون ولا يستكبرون.

  • وفي فَقرِهم لا يجزَعون ولا يَتَضجَّرون ولا يُسيئُون قولًا ولا فعلًا ولا يَحسُدون أصحاب الأموال ولا شيء من هذا. 

فهم في هذه الأشياء كُلها، كلُّ فردٍ منهم مَحظِيّ برفعة درجاته، وتوسيع مَعارِفه ومَدارِكه وأذواقِه العالية الرفيعة.

وفي هذا إشارة من قول النبي ﷺ: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ -حالهُ- كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له.".وليسَ ذلكَ  إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إذن غير الذين أُكرِمُوا بالإيمان:

  • إن جاءتهم الأموال فهُم أقرب إلى الطُغيان والبَغي وإلى الظُّلم وإلى التكبُّر. 

  • وإن أصابتهم الضّراء والبأساء والفَقر فهم أقرب للضّجر والتّسخُّط واللجوء إلى السرقات والإيذاء والحسد على ذوي الأموال وما إلى ذلك فيكون بلاء عليهم.

فالأمر ما هو دائِر في الأحوال الواقعة؛ ولكن دائِر في القُلوب والنفُوس وصِفاتها، ومن هنا تَجِد عجائب الحِكَم لكل فردٍ، وكثيرًا ما يكون الفرد الواحد يتنقّلُ في حياته ما بين سرّاء وضرّاء؛ وما بين فقر وغِنىً؛ وما بين حُزنٍ وفَرح، أحيانًا في السنة الواحدة، وأحيانًا في اليوم الواحد، وأحيانًا في بعض العُمر لمُدة سنوات، والخُلاصة أنها:

  •  حِكَمُ حكيمٍ لا يُحيط بها غيرُه. 

  • ويَظهر للمُؤمنين من عجائِبها ما يَكفِيهم لامتِلاء قُلوبهم بتعظيمِه وإجلالِه والتسليم لأمرِه -جلّ جلاله وتعالى فِي عُلاه-.

(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) -أي العامّة منهم- (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ما بين:

  • ظُلمٍ وعدوان.

  • وما بين بَطَرٍ وتَكبُّر وتَرَف واستِرسال في المعاصي.

 (وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ) -مقدار معلوم- (مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)) وله شريفُ مُعامَلة مع أهل الإيمان وأهل الصدق معه في فَقرهم وغِناهم وصحَّتهم ومَرَضِهم وفَرحِهم وحُزنهم، وسائر الأحوال التي تَرِد عليهم.

وبذلك جَعل من حِكمته أيضًا أن يختَبِر الأصفياء منهم؛ بل المَعصُومين من الأصفياء بأنواعٍ من الابتلاءات، ورُبما سلَّط على بعضهم قومَه في أذاه وسبِّهِ وشَتمِه ورُبما ضَربه وربما قَتله، وكم قُتِل من الأنبياء -صلواتُ الله وسلامُه عليهم-؛ ولكن هم في كلِّ ذلك في درجاتٍ رفيعة وفي حقائِق نُصرة، والذين عانَدوهُم كانت عواقِبُهم في الدنيا قبل الآخرة وَخيمة وسيّئة وقَبيحة، والعذابُ في الآخرةِ شديد.

ولذا مع مُصيبة القتل كُله وأنّ أول ما يَقضِ الله بين الخلائق يوم القيامة في القتل، يقول - ابْن عَبّاس- : "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ على مَن قَتَلَهُ نَبِيٌّ.." أي اشتّد غضبُ الله على مَن قتل نبيًا أو قَتلهُ نبي؛ لأن النبي ما يُباشِر قتل إلا لِواحد اجترأ واجترم الجُرم الفظيع الذي غضِب الله به عليه، اشتد غضب الله على من قتل نبيًا أو قتله نبي. 

ولذا مع شجاعة نبيّنا وكونُه أقربُ الناس عِند الحرب في الصُّفوف إلى العدو ما بَاشر بيَدِه قتلَ أحد من المُشركين إلا واحد أو اثنين.

وذلك الذي تحدَّاه وبلغ من الجراءة ما كان يتحدّى أيام النبي في مكة! وتسرَّب للمشركين أخبار أنه يأتي وقت يُقاتل النبي ومن معه من المؤمنين المُعانِدين والمُضادِّين والمُصادِّين من الكفار، فكان يقول للنبي وهو في مكة: إن لي فرسًا أعلفه كل يوم فرقين -أعطيه طعام كثير- لأقتلك عليه؛ جراءة وقلة حياء وقلة الأدب؛ وقبل وجود المقابلة والقتال، وثاني مرة، وثالث مرة، ويقول للنبي كل ما يحصله يقول: عندي فرس أعلفه فرقًا وفرقين كل يوم من الطعام لأقتلك عليه، كرر الكلام، فقال ﷺ: "بل أنا قاتلك إن شاء الله".

مرت السنوات، وجاءت الهجرة، وهاجر ﷺ، وجاءت غزوة بدر، وجاءت غزوة أحد، وجاء على نفس الفرس ولما وقعت الهزيمة، يمشي ويقول: أين مُحمَّد؟ أين مُحمَّد؟ ويتكلم بكلام وحامل سيفه، فتعرض له بعض الصحابة، قال لهم ﷺ: ابعدوا عنه، كان واحد من الصحابة جنبه حربة من عصا، قال: ناولني هذا، ركب على الفرس وقابله ﷺ، لما قابله ضربه ﷺ في عنقه في الحربة -عصا-؛ فوقع من على الفرس يخور ويصيح كما يخور الثور، وجاؤوا المشركين يأخذونه ويضحكوا، يقولون: ايش هذا؟ ليش الصياح هذا كله؟ يقول له بعضهم: لو كان هذا في عيني ما أحسست بهذا، عيب عليك! نحن في حرب، قال: هذه لو كانت على جبل لدكته، أما أنه قد كان يقول لي: إني قاتلك، والله ما كذب مُحمَّد قط، والله لو بصق علي لقتلني، هذا قد قال: باقتلك، وهذا لابد كلامه هو هو،  -طيب ليه بالتكذيب ليه بالعناد- أخذوه وهو يصيح وفي الطريق مات، هذا الذي باشره. 

ومع كونه أقرب المجاهدين إلى العدو ما تعمد.. كانوا يفرون من حواليه -سبحان الله- من هيبته وهو حامل السيف، وهو ما أحب المباشرة لأنه يعلم أن الذي بيقتله هو الغضب عليه أشد من الذي يقتله الصحابة، فكان ينتظر، وحتى شجعان الصحابة قالوا: إذا اشتد الوطيس وحمي واشتد بنا نتقي برسول الله، كما نتقي بالجدار، كأنه جدار بيننا وبينهم ﷺ.

 ويقول: (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)) -جل جلاله- ... ما أعظم حكم الحق تبارك وتعالى، ويقول الحبيب علي الحبشي: 

خَلَقَ الخَلْق لِحِكْمَة *** وطَوَى عَلْيها عِلْمَهْ

 فلا يحيط بها إلا هو،

 ولكن بدايع في الحكم تستجليها عقول المؤمنين من الملائكة، ومن النبيين؛ ومن أتباع النبيين عظيمة كافية؛ لأن تملأ القلوب هيبة وإجلال، وتعظيم للرحمن، وتسليم لأمره -سبحانه وتعالى-.

حتى كان يقول سيدنا علي: (لو كُشِفَ الغطاء -عن الحقائق وعرفتم أسرار الحكم- لما اخترتم إلا الواقع)، هذا هو الواقع الذي يدور، هذا هو أحسن شيء لأنه صنع حكيم، خبير، قوي، قدير، عليم، بصير، -جل جلاله- أحد يدير الكون أحسن منه؟! أحد يدبر شؤون الوجود خير منه، لا إله إلا هو -جل جلاله-.

بذلك يقول: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا)، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ما يُغاث به الناس: 

  • إما مطر في حالة القحط والجدب.

  •  وإما أي إدراك وغوث في أي شدة من الشدائد. 

من عنده ينزلها قال نبيه: "برحمتك أستغيث ومن عذابك أستجير".

 (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) من بعد ما يئسوا: 

  • يئسوا من شفاء من مرض؛ شُفي.

  • يئسوا من مجيء ولد؛ جاء.

  • يئسوا من ملاقات مسافر بعيد عنهم؛ وصل.

  • يئسوا من الرحمة بعد شدة؛ جاءت.

يكون طعمه أحسن بعد اليأس، ولذاذتها وحلاوتها بعد اليأس أكبر، سبحان الله.

  (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) يعني: يُعرضهم لقنوط ويأس ثم يفك الأمر، تدبير حكيم خبير -جل جلاله وتعالى في علاه-. 

(وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ..) أنواع الأمطار؛ أنواع الخيرات؛ الغيث الحسي الغيث المعنوي هذا؛ هو الذي أنزل القرآن، القرآن غيث كما أن المطر غيث، لكن هذا غيث للقلوب والعقول والأرواح.. القرآن.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ..(28)) له الحمد، فلا ينفك عن هذه الرحمة أحد:

  • من حيث أنه كوَّنه بعد العدم. 

  • وأخَّر عنه العقوبات مهما استحق. 

  • وقادر على كل من عذبهم أن يعذبهم بأكثر مما عذبهم. 

ولكن لانفصالهم عن عظيم هذه الرحمة التي تقضي عدم العذاب، سُمُّوا بمعذبين مقابل المرحومين، (يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ) [العنكبوت:21]؛ وإلا فالرحمة حاصلة للجميع حتى المعذبين، المعذبين قادر أن يعذبهم أكثر مما عذبهم، وأن يؤاخذهم أعظم مما آخدهم، وأن يعجل لهم العقوبة وأخرها وجعلها بهذا المقدار، فكلهم ما يخرجون عن الرحمة، لكن خصائص الرحمة وعظيمها كبيرها: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ) [آل عمران:74].

قال: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) والغيوث المعنوية قويٌّ سكبها في مثل العشر الأواخر من رمضان، للعقول وللقلوب وللأرواح وللأسرار، معارف ومحبات وشهود وأذواق وعوارف ولطائف وعجائب من الفيض الرباني موجودٌ في هذه الأيام والليالي في مثل هذا الموسم بكثرة. 

فإن كان ما ينحصر جود الله في وقت؛ ولكن يعظم ويكبر في مواسم وأوقات هذا منها، فتعرض لغيث ربك يغيثك..

  • (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال: 9].

  • "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم".

يا ما أعجبه من رب وما أعظم جودة الأرحب!

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) ينشر أنواع الأمطار أو الأرزاق أو الأخلاق أو الهداية أو النور لعباد الله تبارك وتعالى.

  • (وَهُوَ الْوَلِيُّ) الذي يتولى المؤمنين فينصرهم ويرعى شؤونهم ويدبرهم بأحسن التدوير. 

  • (الْحَمِيدُ(28)): الذي يستحق الحمد بكل المعاني وبكل الوجوه في كل الأحوال. 

فهو الحميد الذي يستحق الحمد لتصدر منه:

  • ما من واحد ولا ذرّة من المحامد في الكائنات إلّا وهو مصدرها وأصلها. 

  • وما من ذرّة من نعمة على أحد في الأرض ولا في السماء إلا وهي منه -جلّ جلاله-.

  • ثم جميع الكمالات والفضائل بلا عَدّ ولا حَدّ ولا قِياس له -جلّ جلاله-.

  • ثم هو الذي أثنى على نفسه وحَمِد نفسه، الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي حَمَد في الكتاب نفسه، واسْتَفتح بالحمد كتابه، وجَعل الحمد دليلًا على طاعته، ورَضِي بالحمد شكرا له من عِباده. 

  • ولا يحمده العباد ولا يفعلون محامد إلّا وهي منه وإليه وحده؛ فَالحَميد هو، الله أكبر. 

ولذا اختار لعبده المصطفى اسمه محمّد وأحمد، لأنّه ليس في بريِّته مَن جمع فيه المحامد ومن يَستَحقّ الحمد كمثل محمّد، لذا يقول شاعره:

وَضمَّ الإلهُ اسْم النَّبِيِّ إلى اسْمِه *** إِذَا قَالَ في الخَمْس المُؤَذّنُ: أَشْهَدُ

وَشَـقَّ  لَـــهُ مِن اسْمِـه  ليُجِلَّهُ *** فَذُو العَرشِ مَحْمُودٌ وهَذا مُحَمَّدُ 

 

 يَا ربّي صلّ عليه، فهو محمّد وهو أحمد.

وجماعة مِن الحسدة مِن النّصارى لمّا بدأ ظهور النّبيّ ومشهور باسم محمّد، جاءوا إلى الإنجيل يبعدون اسم محمّد.. محمّد وتركوا اسم أحمد؛ فأنزل الله في القرآن على لِسان عيسى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف:6]؛ هو ذا الاسم الذي تركته عندكم في الانجيل هو نفسه، بَشَّرَ به، وهذا هو محمّد وأحمد صلى الله وسلم عليه؛ إلّا أنّ الشُّهرة في الأرض بمحمّد، وهو في السماء وعند أهل السماء الشُهرة أكثر بأحمد. 

يقول: (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28))، وما جعل الله سببًا لإفاضة النِّعم على عِباده أكثر مِن عبده محمّد، ولذا في الموقف الأصعب الذي لا يَمرّ على جميع المُكلّفين، مِن أوّلهم إلى آخرهم إنسًا وجنًا، أصعب منه، يجعله الله الشّفيع ويقول: "أَنَا لَهَا"؛ ولذا سُمِّيَ صاحب المقام المحمود: 

  • قال له ربّه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء:79]، يَحمده فيه الأوّلون والآخرون ﷺ.

    • فهذا أحمد الخلق.

    • والحمد بكلّ معانيه وبكلّ حقائقه للرّحمن الخالق الحيّ القيّوم -جلّ جلاله-. 

  • قال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم:18]. 

وعند المقام المحمود يحصل من العبد الحميد لله، المحمود، مَحامد ما قد حَمَدَه بها أحد، نعم ولكنّها منه تعالى، قال: "يُلْهِمُنِي إِيَّاهَا"؛ حتّى قال في شرف مقامه: "لَا أَعْلَمُهَا الآن وَلَكِنْ يُلْهِمُنِي إِيّاها فِي ذَاك المَوقف"؛ فَتَعْجَب؛ موقف الشّدائد والأهوال لكن مَوقف تجلِّيه بالفَيض والفَضل على محمّد الحامد، الله أكبر! سبحان الذي يُحبِّه، أحبّه محبّة لم يُحبّ بها أحدًا مِن خلقه، الأنبياء يقولون: نَفْسِي، نَفْسِي وهذا يقول: "أَنَا لَهَا، وَيُلْهِمُنِي رَبِّي"، تَجَلِّي عجيب! وبعد ذلك قال: "أُنَادَى ارْفَعْ رَأْسَك! ارْفَعْ رَأْسَكْ! قُلْ يُسمع لِقَولِك وسَلْ تُعطي" ﷺ، ويرفع رأسه ويقول: "أُمَّتِي". يقول: "إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِك"، الشّفاعة الأولى يُنقل بها المكلّفون من تحت الشّمس، تَرتفع عنهم إلى أرض الحساب؛ فهذه كلٌّ يَدخل فيها حتّى الكُفّار، والمُلْحِدِين، والشَّاكّين، كلّهم يدخلون في هذه الشّفاعة. 

صلّى الله على أوّل شافع وأوّل مُشفّع؛ 

  • هذا الذي ينبغي أن تكثر الصّلاة والسّلام عليه في يوم الجمعة، وليلة الجمعة. 

  • هو القائل كما روى التّرمذي في سننه وغيره من أئمة الحديث: "إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً". 

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28))، وإذا تَوَلَّى عبده؟ فما أحسن وِلَاية الله لِعبده، لا أحسن ناصرًا منه، ولا أحسن مُدبرًا منه، ولا أحسن مُراعيًا منه، ولا أحسن مُسعدًا منه جل جلاله. 

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. (29)) إلى آخر ما يأتي معنا في الآيات الكريمة. ملأنا الله إيمانًا، ويقينًا، ومحبّة، ومعرفة، وقُربًا، ورِضوانًا منه، وشهودًا له بِمِرآة عبده ورسوله المصطفى محمّد، اللّهمّ آمين. 

ووَفّرْ حظّنا مِن هذه المواهب في هذه اللّيالي، وفي هذه الأيّام، ولا تَحْرِمنا خير ما عندك لشرِّ ما عندنا، يا ذا الجلال والإكرام! هَبْ لنا مِن عطاياك الجِسام ومِنَحِك العظام، وَإِفْضَالَاتِك التي لا حدّ لها ولا غاية، يا ذا الجلال والإكرام! يا عظيم الطَّوْل والإنعام! يا حيّ يا قيّوم! يا رحمن يا رحيم. 

وَفّرْ حظّنا من المِنَن وادْفع عنّا وعن أمّة حبيبك البلايا والآفات والفِتَن ما ظهر منها وما بطن، رُدّ كيد المُعتدين الظّالمين الغَاصبين ومَن والاهم في نُحُورِهم، وشتِّت شملهم، وخالف بين وجههم وكلماتهم، واهْزِمهم، واخْذُلهم، وانْصُر المَظلومين وأهل الحقّ والهُدى من المؤمنين على جميع الضّالين، والمُجرمين، والمُفسدين، يا قويّ يا مَتين! يا رحمن يا رحيم! وأَرِنَا في أمّة نبيّك، ما يُسرّ به قلب نبيّك، وما تقر بها عين نبيّك، برحمتك، يا أرحم الرّاحمين!

بسر الفاتحة

 إلى حضرة النبي محمد ﷺ

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه

 الفاتحة

أكْرِمْنَا بِقُرْبِك وقُرْب حبائب حبيبك، ولا تُخلِّفنا عن رَكبه ولا عن حزبه ولا عن دائرته، اجعلنا من أسعد أمته بِنُصرته، ومن أسعد أُمّته بمحبّته، ومن أسعد أمّته بِرؤيته، ومن أسعد أمّته بشفاعته، ومن أسعد أمّته بمرافقته، يا أكرم الأكرمين! أجِبْ دُعاءنا وحقّق رَجاءنا، وَزِدْنَا مِن فضلك مَا أنت أهله، يا أكرم الأكرمين! يا أرحم الرّاحمين! اجْعَل لنا في ليالينا هذه قربا منك، وفهما عنك، ومعرفة بك، وصِدقا معك، وإخلاصا لوجهك، وفيض فضْلٍ من عندك لا غاية له، ولا حدّ، ولا نهاية برحمتك، يا أرحم الراحمين!.

تاريخ النشر الهجري

24 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

22 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام