تفسير سورة الزخرف -08- من قوله تعالى: { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) } إلى الآية 70

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثامن من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)}

صباح السبت 8 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمدُلله مُكرِمِنا بالقرآن والآيات وبيانها على لسان خير البريات سيدنا محمد سيِّد أهل الأرض والسماوات، صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن على منهجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله معادن الأسرار والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أمَّا بعد؛

فإنَّنا في نعمة تأمُّلنا لكلام إلهنا وربنا وخالقنا -جلَّ جلاله- وما يَقصُّ علينا وما يُبَيِّن وصلنا في سورة الزخرف إلى قصة سيدنا عيسى بن مريم وقوله لأمَّته: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64)).

ونتبين أنَّ شرف كل ذي شرف على ظهر الأرض من جميع المكلفين إنَّما كان بالعبادة للإله، وأمرنا الحق -سبحانه وتعالى- أن نعلن عبادتنا إياه -جلَّ جلاله-، وقال لنا عن أهل الأفكار والاعتقادات والاتجاهات المختلفة المخالِفة لمنهج الحق والهدى: (وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة:137-138].

فشرَّفنا الله وإياكم بالتحقق بحقائق العبادة، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

  • وإنَّ روح هذه العبادة تعرج بروح المؤمن من عالَم المحسوسات وعالَم المُلك وعالَم الشهادة إلى عالَم المعنى وعالَم الروح وعالَم الملَكُوت وعالَم الغيب، فيعبد الله كأنه يراه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-،

  • فلنتطلب روح هذه العبادات؛ لتعرج بأرواحنا من أراضي الحجابات والغفلات والمحسوسات؛ لنُعاين أمراء الهدى والحق والصراط االمستقيم، ونُمسي ونُصبح كأنَّنا نرى عرش ربنا بارزًا، وكأنَّنا نرى أهل الجنَّة يتنعمون فيها ونسمع أهل النار يتعاوون فيها.

  • هذه وظيفة الصيام والقيام والتلاوة والصدقة والذكر والزكاة والصلاة، وأنواع العبادات وظيفتها: أنْ تُوصِلَك إلى هذا المقام وترفعك إلى هذه الدرجات العاليات السَّوام، فاحذر أن تكون كالأنعام، وتشبَّث بروح العبادة.

قال سيدنا عيسى لقومه: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)؛ ‏الصراط المستقيم:

  • التحقق بالعبادة للرب، قال سيد العابدين لسيدنا معاذ: "يا مُعَاذُ، إنِّي أُحِبُّكَ، فَلا تدَعنَّ أنْ تقول في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ". اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

  • قال لهم: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) وقد تقدَّم دعوته لقومه، وقال الحق عنه: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61)) فاتِّباع النبي محمد هو العبادة وهو الصراط المستقيم.

قال عيسى: (فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ (65))، أي: قامت حجة الله، وظهرت دعوة الله، وبلَّغ نبي الله عيسى قومه؛ ولكنَّ الناس أمام دعوة الحق دائمًا تختلف بهم أهواؤهم وتتباعد بهم آراؤهم ويختلفون في مناحيهم ومذاهبهم واتجاهاتهم.

قال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ) فالموفقون الصادقون منهم ثبَتوا أنَّه عبد الله ورسوله، وكلمةٌ منه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فهم أهل الحق والهدى إلى أن بقي أواخرهم قريبًا من بعثة النبي محمد ﷺ، ولم يكن في ذلك الوقت منهم إلا من يُعد بأصابع اليد الواحدة، وخلَّط الآخرون وخبَّطوا، ومنهم قال ابن الله، ومنهم قال إنَّه إله، ومنهم ومنهم..

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ) الفِرَق والاتجاهات المختلفة، وهكذا يختلفوا أمام الأنبياء من أنواع: من يضل ويزل ويخرج عن سبيلهم.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا (65)) مِمَّن خالفوا الأنبياء، واعتقدوا غير ما دعوهم إليه من الإيمان، وانتهجوا غير ما بينَّوا لهم من الشرائع؛ هؤلاء الظالمون. فهذا الظلم ثابت لكلِّ مُكَلَّف عاقل بلغته دعوة الله ورسوله وأبى وأصرَّ إلَّا أنْ يتخذ مسلكًا في اتباع الشهوات واتباع الغي وترك الصلوات وما إلى ذلك، كما قال عمَّا ذكر عددًا من الأنبياء السابقين: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59]، فكلهم واقعون في الظلم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ويتعدون من ظلم أنفسهم إلى ما تسمعونه من المخادعات والمكايدات والكذب والحيل، وإلى ما يتجاهرون به في نهايات المطاف من سفك الدماء والاعتداء على الآخرين، وأخذ حق الغير بغير حق، وإلى حدِّ تدمير المنازل والديار والمستشفيات والمساجد، وقتل الأطفال والبرآء..إلى غير ذلك، فهم هكذا هم أهل الظلم، كذَّبوا وخالفوا الأنبياء والمرسلين -صلوات الله عليهم- واغتروا بأنفسهم.

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)) من عذابِ يومٍ يُنبئ عنه؛ عن الله بألسن أنبيائه من آدم، أخبر أولاده أنَّ الذي خلقني وكوَّنني ونفخ فيَّ من روحه، ثم خلق منّي أمكم حواء وأسكنني الجنة واختبرني وأنزلني إلى الأرض، سيجمعكم ومن يتناسل منكم إلى أن تقوم الساعة في يومٍ عظيم، يوم يُعرض فيه الخلق على خالقهم فيقفون بين يديه ويجازيهم ويحاسبهم، هكذا قال آدم لأولاده وهكذا بلَّغ أولاده لأولادهم، والأنبياء نبيًا بعد نبي إلى أن جاء نبينا محمد كلهم يذكرون هذا اليوم، وكلهم يُبشِّرون ويُنذِرُون بهذا اليوم؛ يوم رجوعِهم الحق.

ولهذا قال الله تعالى عن من حملته نفسه على أن يُطَفِّف في الكيل والوزن ويُبخس فيه، يقول: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:1-6].

(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) شديد الإيلام (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25-26]. اللهم أجرنا من العذاب، اللهم أجرنا من النار.

قال الله تعالى: هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمكذبون برسلي وأنبيائي والمعاندون لنبيي محمد ﷺ ماذا ينتظرون؟ ماذا ينتظرون من خلال ما يُنازلهم ويجيء عليهم وينتهون إليه وتنتهي غاياتهم؟ ماذا ينتظرون؟

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66))، قل لهؤلاء الموجودين على ظهر الأرض: ماذا تنتظرون؟ يا أهل الخطط المختلفة والمشاريع المتنوعة: ماذا تنتظرون؟ وأمامكم المَصارع لكم ولأمثالكم واحدًا بعد الثاني فماذا تنتظرون؟

(السَّاعَةَ) لكل فردٍ ساعته؛ ساعة خروج الروح من جسده ساعة الغرغرة، و (السَّاعَةَ) للكل وقت النفخ في الصور يوم القيامة، ولكن كل واحد ينتظر ساعته "منْ ماتَ قامتْ قيامتُه"، يعني انكشفت له الحقائق وانتهت علاقته بالفانيات من أصلها وبهذه الحياة الدنيا وعلم حقيقتها، وعلِمَ حقيقة ما دعا الأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم-.

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ومن حين الموت إلى وقت استتمام الانكشاف للحقائق ووقوع الجزاء في القيامة؛ تبدو الحقائق ويعادي أرباب الكفر بعضهم بعضًا، وكل من تعاونوا وكل من تخاللوا وتصادقوا وتزاملوا في الدنيا على معصية الله ومخالفة رسله يَكفُر بعضهم ببعض، يلعن بعضهم بعض، يسب بعضهم بعض، يعادي بعضهم بعضًا، مع أنَّ كثيرًا من مقدمات هذا العداء تحصل لأكثر المخالفين لأمر الله تعالى والمتعاونين على معصيته في الدنيا، 

كم وكم من أحزاب وهيئات وجماعات ودول وطوائف تعاونوا على معاصي وعلى ذنوب وعلى مخالفة للشرع مدة، وذا تحول عدوّ لذا وذا تحول عدو لذا، هذا وهم في الدنيا.. والخبر مقبل؛ سيلعن بعضهم بعضًا وسيتبرأ بعضهم من بعض في المقبل، وأحدهم من حين موته وهو في لعن الذين تعاون معهم وتعاونوا معه على مخالفة الرسل وعلى مخالفة الشرع المصون، إلى القيامة يتجابهون ويتقابلون ويتلاعنون، وإلى النار، وفي القيامة يلعن بعضهم بعض، يسب بعضهم بعض (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا) [سبأ:31-33]، (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف:38]، (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَٰكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ) [ق:27-28]، وهكذا.. ثم إذا وصلوا للنار يتلاعنون (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) [الأعراف:38].

فأيُّ قيمة لمعاهداتهم وللاتفاقيات وللمواثيق؟ كلُّ ما كان على مخالفة الله ورسله لا قيمة له، بل والله هو العار وهو النار وهو العداوة، وسيعادي بعضهم بعضًا، كل الأصناف والطوائف الذين يتعاهدون اليوم ويتعاونون على معاداة الله ورسوله وعلى مخالفة شرع الله سيعادي بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، على أي شيء هم جالسون؟ لا أصل لهم ولا قرار لهم! -والعياذ بالله تعالى- (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:41].

  • ولكن أرباب الصدق مع الله في مثل هذه المجالس: فيهم المتواصون بالحق والصبر، فيهم المتعاونون على تزكية أنفسهم وإقامة شرع ربهم في أنفسهم وأسرهم ومعاملاتهم في الحياة، من الموجودين الصادقين على ظهر الأرض؛

  • هؤلاء هذه العلاقة بينهم هي الشريفة، وهي النظيفة، وهي الرفيعة، وهي القوية، وهي القويمة، وهي النافعة، وهي المفيدة، وهي المُسعِدة.

  • من كريم العلاقة التي بينهم؛ تدخل في العلاقة معهم ملائكة في الأرض والسماء يدعون لهم، ويحضرون مجالسهم، ويؤمِّنون على دعواتهم، ويحبونهم ويستغفرون لهم. فهم في الأرض يشاركهم في وجهاتهم إلى رب السماء والأرض، وأدبهم مع رب السماء والأرض، وقيامهم بشرع رب السماء والأرض: ملائكة السماوات والأرض والملأ الأعلى.

فنِعمَ العلائق هذه، نِعمَ الروابط هذه القلبية المخلصة لوجه الله، قوَّاها الله لنا وجعلنا من خواص أهل خالصها وصافيها وقويها وقويمها.

يقول تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ) من جميع المخالفين للأنبياء وما جاءوا به من شرع الله (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) كل الأخلاء؟ قال: كل الأخلاء (إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67))؛ الذين كانت علائقهم والروابط بينهم على تقوى الله، على الإيمان به، على محبته، على تعظيمه، على امتثال أمره واجتناب نهيه، على اتباع شرعه، هؤلاء فقط العلائق بينهم لا تتحول إلى عداوة، بل يزدادون محبةً لبعضهم البعض، حينما يرون نتيجة التحابب في الله من النعيم والقرب والخير يزدادون محبة لبعضهم البعض، ثم يتآنسون بها حتى وسط الجنة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].

يخطر على بال هذا أخاه، في نفس اللحظة يخطر على بال هذا أخاه، فيسير سرير هذا إلى سرير هذا بالخاطر الذي يخطر، وَسرير هذا يسير؛ فيلتقيان، يقول: كنت الآن أذكرك أود أن أجيئ إليك، وأنا الآن أذكرك أود أن أجيئ إليك، ويتجالسون ويتقابلون، هذه العلائق المثمرة، هذه الخلَّة النافعة.

خلَّك من صَدَاقات هؤلاء على ظهر الأرض (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) [النور:39].

  • فلنُقِم شريف هذه الروابط والعلائق من أجل الخالق بيننا،

  • ولنصدق في التحابب فيه، والاجتماع من أجله والتزاور فيه.

  • (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فالمتقون هؤلاء على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء،

  • كما جاء أيضًا في مسند الإمام أحمد: "على يَمِينِ الرَّحْمَنِ وكِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ: أقوامٌ يغشاهم النور يغبِطُهم الأنبياء والشهداء"، من هم يا رسول الله؟ "من نزَّاع القبائل، من نوازعِ القبائلِ يجتمعون على ذكرِ اللهِ فينتقون أطايِبَ الكلامِ" على غير أرحام بينهم، ولا تجارة ولا غرض من أغراض الدنيا، "من نوازعِ القبائلِ يجتمعون على ذكرِ اللهِ فينتقون أطايِبَ الكلامِ".

هذه نتيجة العلائق الصافية العالية الطيبة النقية القائمة على التقوى.

يقول سيدنا أبو إدريس الخَوْلاني -عليه رحمة الله-: جئت إلى المسجد -في دمشق- ووجدت رجلًا برَّاق الثنايا ورأيت الناس يرجعون إليه إذا اختلفوا في الأمر ويصدرون عن رأيه، قلت: من هذا؟ قالوا: معاذ بن جبل -عليه رضوان الله تعالى-، "أعلمُكم بالحلالِ والحرامِ معاذُ". قال: أحببته، ثم ترقبت الفرصة في اليوم الثاني، الثالث جئته من قبل وجهه، وقلت له: إنِّي أحبك في الله، فقال: آلله؟ قلت: الله، قال: آلله؟ قلت: الله، قال: آلله؟ قلت: الله، قال: فجذبني بردائه وضمني إليه، قال: أبشر فإنِّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: "المتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء".

-الله أكبر- هذه العلائق النافعة، وجاء في الحديث يقول ﷺ: "لو أن رجلًا بالمشرق أحبه في الله رجل بالمغرب جمع الله بينهما يوم القيامة، وقال: هذا الذي أحببته فيَّ".

 ترى أثر هذه العلائق؟

  • إذا صفَت، إذا زكَت، إذا علَت من أجل الله -تبارك وتعالى- ومناديه ينادي في القيامة: "أين المتحابون فيّ؟ أين المتجالسون فيّ؟ أين المتزاورون فيّ؟ أين المتباذلون فيّ؟ اليوم أظلهم في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي". وهنيئًا لهم!

  • والعجيب أنَّ خيط هذه المحبة في الله ومن أجل الله؛ يمتد بعظمة الحق -تبارك وتعالى- حتى تُشارك بخالص المحبة من مضى قبلك من قرنين وقرنين وثلاثة وأربعة وأكثر، حتى تصل إلى زين الوجود، حتى تصل إلى السابقين الأولين المهاجرون والأنصار، حتى تصل إلى الأنبياء من قبل!

  • وعلى قدر رسوخ قدمك وتحققك بحقائق المحبة: تظفر من شرف المرافقة لأولئك الأكابر، ويكون مقدار لقائك بهم في دار الكرامة والبقاء على قدر ما قويت محبتك لهم أيام كنت في الدنيا.

فالله يملأ قلوبنا بمحبته، ومن أجله بمحبة أنبيائه ورسله وآلهم وصحبهم وتابعيهم والمقربين الصديقين العارفين به..اللهم آمين، اجعل لنا من صدق المحبة لهم من أجلك ما تجمع لنا به خيرات المرافقة لهم ولسيِّدهم يا أكرم الأكرمين.

  • لكن هذه المحبة إذا صدَقت؛ تملأ جوانح الإنسان وتأخذ بِكُلِيّتِه، ومن أجلها يسهر، ومن أجلها يتعب، ومن أجلها يستعذب التعب، ومن أجلها يبذل، وربما طار النوم عن عينه في شيء من منازلات أحوالها له.

كان يقول أحد شيوخنا الحبيب جعفر بن أحمد العيدروس:

قال الفتى العيدروسي حُبُّ خير الأنام *** مزَّق فؤادي وقلبي والحشا والعظام

كلّفني أتعب وأسهر والخلايق نيام *** كل مَن عشق للنبي إذا رقدوا الخلق قام

مَن حَب صفوة مُضَر يَحرُم عليه المنام

سيدنا ثوبان لمَّا نازله حال المحبة، ودار في باله فكرة الحياة الأبدية في الآخرة، وأين أنا من رسول الله؟! إن لم أدخل الجنة لم أره أصلًا، وإن دخلتها كنت في منزلة دون منزلته فلا أراه! فذهب عنه النوم، ما استطاع أن يتناول طعامًا ولا أن يشرب شرابًا، والفكر يغالبنا اليوم الأول واليوم الثاني، لا طعام ولا شراب ولا نوم، واليوم الثالث، حتى اصفر لونه وراقبه ﷺ: ثوبان مالي أراك مصفر اللون نحيل الجسد؟ قال له: حبك! قال: ما تقول؟ قال: محبتك يا رسول الله، قال: ما شأن محبتي؟ قال: إني أذكرك وأنا بين أهلي وولدي فلا أقدر أن أبقى وأخرج من بينهم، ولا يقر لي قرار حتى آتي وأنظر إلى وجهك الشريف، وإني ذكرت الآخرة وأنَّها الحياة الأبدية وقلت إن لم أدخل الجنة لم أرك، وإن دخلتها كنتُ في مرتبة دون مرتبتك فلا أراك، فهذا الذي كدَّر علي عيشي وحال بيني وبين طعامي وشرابي ومنامي يا رسول الله!

سمع النبي منه الكلام فسكت وأطرق، وإذا بجبريل يُرفرف بالوحي من قِبَل رب العرش بقوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70]، فتلا له الآية مُبَشِّراً، ففتحت عيناه وقام مستبشر، وأكل وشرب وقدر أن ينام، وقد بُشِّر من قِبَل الحق أنَّه سيكون في المعيَّة وسيراه، وسيُجالسه في دار الكرامة، وسيُآكله ويُشاربه ويُسامره، فقرَّت عينه.

قال: وكان هذا الفكر نازل عددًا من الصحابة، فما برَّد غليل أشواقهم إلا الآية لما نزلت؛ آية المعية.

 وانظر: ما ذكر الحق جزاء في الآية إلا المعية! (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) لا ذكر جنة ولا ذكر حور ولا ذكر قصور ولا ذكر طعام ولا ذكر شراب؛ ذكر المعية فقط (فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].

الله لا يُخلِّفنا عن ركب من أَنزَل عليه هذا القرآن، ولا يُباعدنا عنه، ولا يُفرِّق بيننا وبينه، وما آتى من حظوظ من رؤيته ومرافقته ومكالمته ومسامرته في البرازخ والقيامة ودار الكرامة؛ يهب لنا أوفى الحظوظ من ذلك، وأجزلها، وأعلاها، اللهم آمين، في خير ولطفٍ وعافية.

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) المتقون لا خوف ولا حزن ولا تباعد ولا تلاعن ولا عداوة، بل يُنادَون: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)).

(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) ويُسمِع الله النداء لأهل الموقف كلهم، فيُأمِّل عامة أهل الموقف، فيُقال: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) فيَخْزَى على أنفسهم أهل الكفر وجميع أهل الضلال ومن لم يدن بدين الحق.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا) صدَّقوا تصديقًا حملهم على حسن امتثال الأمر واجتناب النواهي، (وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) مستسلمين لأوامرنا وأحكامنا، فيُبلِس وييأس غير المسلمين.

ويختص النداء بهؤلاء فيُنَادُون: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)) تُنَعَّمُون، تُسَرُّون، سرور حبَرته -أي أثره- يظهر على وجوهكم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين:24]، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) [عبس:38-39].

(تُحْبَرُونَ): تُنَعَّمون وتُسَرُّون مسرَّة تظهر حبَرتها عليكم.

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ) المؤمنات الذين كانوا معكم في الدنيا، تُحْبَرُونَ بأنواع هذه العجائب التي كان كل ما ذكر منها ﷺ جزءًا وأخبارًا وقف ثم قال: "وفيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، اقرأوا إن شئتم قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]".

اللهم زدنا إيمانًا، وزدنا يقينًا، وزدنا محبة فيك، وزدنا أدبًا معك، وإخلاصًا لوجهك، وعملًا بالصالحات، أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واحشرنا في خواص أهل محبتك ومودتك، مِمَّن كتبت لهم سعادة الأبد وفوز الأبد والحسنى وأنت عنهم راضٍ يا حي يا قيوم، يا من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع كل شيء، يا ربَّ كل شيء بقدرتك على كل شيء وعلمك بكل شيء؛ اغفر لنا كل شيء، وأصلح لنا كل شيء، ولا تسألنا عن شيء، ولا تعذبنا على شيء، برحمتك يا أرحم الراحمين.

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي الأمين ﷺ 

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه

الفاتحة
 

تاريخ النشر الهجري

09 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

08 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام