تفسير سورة الزخرف -07- من قوله تعالى: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) } إلى الآية 65
الدرس السابع من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
الجمعة 7 رمضان 1446هـ
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله على نِعمة القرآن وتنزيله، وبَلاغِه على لسانِ حبيب الله وعبدِه ورسُولِه سيدنا محمد صلَّى الله وسلّم وبارك وكرَّم عليه، وعلى آله وأصحابه وأهل مُتابعتِه في نِيّته وفِعلِه وقِيله، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين؛ المُبَيّنين لعظمةِ الله تعالى وشرائعِه وسبيله، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين وجميع عبادِ الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
أما بعد،،،
فإننا في فضلِ ونعمةِ ومِنَّة تأمُّل كلام الله الخالق الحق، وما أنزلَ على قلب حبيبه -سيد الخلق- وتَعاليمِه تعالى وإرشاداته، انتهينا في سورة الزُخرف إلى قول ربّنا -جل جلالُه-: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57))، وفي قراءة: (يَصُدُّونَ)، (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)).
يذكر الحقُّ -تبارك وتعالى- سيدَنا عيسى بن مريم -على نبيّنا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام-، وهو من أولي العزم من الرُّسل، ومِن الذين افتَتنوا قومه.
-
فمنهم -والعياذ بالله- كاليهود من بَهتُوهُ وسبُّوهُ وشَتَموه وتكلَّموا عليه، وادَّعَوا فيه ما هو براءٌ عنه وأمُّه الطاهرة البَتول عليها رضوان الله تعالى،
-
ومنهم من جاوزَ الحدَّ في تعظيمِه والثّناء عليه؛ حتى جعلوه ابن الله -والعياذ بالله تعالى- وجعلوه إلهًا مع الله -سبحانه وتعالى-.
وكان في بلاغِ نبيّنا محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- ما كان يتردَّدُ:
-
إلى مجالس القوم.
-
وحوالَي الكعبة حين يجتمعون.
-
كما أنه يقصِد مَواطِن اجتماعاتهم الأُخَر.
-
ويخرُج إلى أماكن التجمُّع في الأسواق التي تعقد سنويا من منطقة إلى منطقة.
يبلغ أمر ربه، فيتردَّدُ على قُريش بالبيان والتوضيح وإقامةِ الحُجّة رجاء أن يهدي الله من يشاء.
وتكلّموا معه يومًا قريبًا من الكعبة فكلّمهم وأجاب على تساؤلاتهم وأفحَمهُم حتى قال لبعض المُعَاندين منهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) [الأنبياء:98]. وانصرف ﷺ وأخذ القوم يقولون أنَّهُ أسكتَنا وغلَبَنا في قوله، فجاء ابن الزبْعَري أحدهم يقول وأخبروه بما جرى وكان، وقال لهم: لو كنتُ عنده لخاصَمتُه. قالوا: ماذا؟ قال: قال لكم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). قالوا: نعم، قال: فنسألُه كل ما عُبد من دون الله حصب جهنم؟ يقول: نعم، فنقول له: أن النصارى عبدوا عيسى وأنت تُثني على عيسى وتذكُرُه بالخير، وأنّ اليهود عبدُوا عُزير وأنت تذكُرُه بالخير، وأن طائفةً عبدوا الملائكة، فإذا كان عيسى وعُزَير والملائكة حصب جهنم فآلهتنا هذا خير منها، ونكون معهم مع آلهتنا حصب جهنم. ففرِح الوليد بن المُغيرة فقال للنبي ﷺ: إنك تقول هكذا يا مُحمَّد؟ قال: نعم. قال: فالنَّصارى عبدوا عيسى وأنت تذكُره بالخير، واليهود عبدُوا عُزير بن الله، وطائفة عبدوا الملائكة، فهل عيسى وعُزَير والملائكة حصبُ جهنَّم؟ فنحن معهم وآلهتنا معهم. فقال رسول الله ﷺ: "ما أجْهَلَك بلُغةِ قومِك ما لما لا يَعقِل". فلم يقل إنكم ومَن تعبدون ولكن قال: (وَمَا تَعۡبُدُونَ). و(مَا) لما لا يَعقِل، ومن المعلوم أنه خطابٌ لهم وهم عَبَدة أصنام فهم وأصنامُهم يُدخَلون النار. وقال له: كلُّ من عُبِد من دون الله ففَرِح بِعبادتِه من دون الله فهو مع عابِدِهِ في النار؛ سكَتَ وأُفحِم، فأنزل الله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *) -عن النار- (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء:101-102] أمثال عيسى وعُزير.
قال وأنزل هذه الآية: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) وقالوا: عُبِد من دون الله فيكون حصب جهنم على حدِّ قولِك، (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)) -أي: يصيحون ويضِجُّون بما قال ابن الزَّبعَري هذا- (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ):
-
إما قولُهم عن آلهتِهم أنها ليست خيرًا من عيسى وعزير.
-
أو أنهم أيضا يقولون: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) محمد هذا الذي يدعونا إلى عِبادة الله وتَرك عِبادة هذه الآلهة.
يقول الحق -سبحانه وتعالى- كلُّ كلامِهم هذا: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) يعلمون أنه ليس في الآية دلالة على ما يقولون، وأنها لا تتناول شيء من الملائكة ولا من الأنبياء وإنّما خِطابٌ لهم وهم يعبدون الأصنام والآلهة وأن المُراد أصنامهم؛ ولكن مُكابَرة منهم ومُجادلة بالباطِل: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)، "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ"، "أبغَضُ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألدُّ الخصِمُ"؛ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)) يُخاصِمون ويُنازِعون بغير حق بغير علم.
(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)) يقول الله -تبارك وتعالى- يُلاقي أهلُ الحق في كلِّ زمان وفي كلّ مكان أهل خصامٍ وجدلٍ من المُعانِدين المُضادِّين فلا ينبغي أن يعبؤوا بهم ولا أن ينزعجوا من وجودِهم: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ) [آل عمران: 186].
(مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(58)) يجادلون ويُحبُّون الخِصام على غير بيّنة ولا عِلم.
-
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) يعني: عيسى بن مريم -عليه السلام- إلا عبد من عبادنا أنعمنا عليه، فخلقناه من أمٍّ بلا أب؛ آية من آياتنا.
-
(وَجَعَلْنَاهُ) بأمرنا يحيي الموتى بإذننا، ويبرئ الأكمه والأبرص، وأنزلنا عليه الإنجيل، وآتيناه النبوة، (أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ).
-
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) من أنواع النعم التي اختصصناه بها.
-
(وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)) آيةً وحجة يعلمون بها قدرتنا في خلق الإنسان بلا أب، وفي إبراء الأكمه أي: الأعمى والأبرص فكان يمسح عليه فيذهب برصه ويعود جلده خير ما كان، ويمسح على عيني الأعمى فيبصر، لا عمليات ليزر ولا شق ولا شيء من هذا (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ) [آل عمران:49].
(وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا) آية وحجة وبرهانا لبني إسرائيل؛ فهذا شأن المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين والملائكة المكرمين كلهم عباد كما قال عن الملائكة: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء:26]؛
وما شرع لنا من مودتهم وولائهم وتعظيمهم لا يتصل بعبادة غيره -سبحانه وتعالى-؛ ولا يكون خروجا عن توحيده وتعظيمه:
-
بل يجب أن نعرف ما خصَّهم الله به وما أنعم عليهم المنعم.
-
ونعرف قدرهم عند المنعم.
-
ومن أجله تعالى نعظمهم بما شرع لنا ونحبهم ونواليهم ونودهم ونجلهم.
قال سبحانه وتعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) -أي: عظمتموهم- (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [المائدة:12].
وكل المعظمين من الملائكة والأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين والصديقين والمقربين إنما هم عباد، عباد لله تعالى، عبيدًا خلقهم وأنعم عليهم ففضَّلهم وميزهم وأمرنا أن نواليهم أن نمشي في طريقهم ونتجنب طرق من خالفهم، ونقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:6-7]؛
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(59))؛ وبهذا استشهد الإمام الشيخ أبو بكر بن سالم -عليه رحمة الله- لما نشر الله علمه ومودته ومحبته في القلوب، وتجمع الناس عليه في آخر عمره وازدحموا للاقتراب منه والتبرك به بكى وقرأ الآية: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ).
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) ولم يزل سيدنا عيسى والملائكة والأنبياء يفتخرون بعبوديتهم لله: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) -بل يفتخرون بذلك- (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 172-173].
-
وقال سيد هؤلاء المنعم عليهم: "إِنَّمَا أَنا عبد آكل كَمَا يَأْكُل العَبْد وأجلس كَمَا يجلس العَبْد". ونعم العبد مُحمَّد.
-
وقال تعالى عن بعض الأنبياء: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًاۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44]؛ فلنا الفخر بعبوديتنا لله، وحققنا الله بها، ورقانا في مراقيها.
وهو من أعظم مقاصد الصلاة والزكاة والصيام والحج أن تتحقق العبودية في العابد، والصائم، والقائم، والمزكي، والحاج، والمصلي، تتحقق عبوديته لله تعالى ويرقى في مراقي العبودية بالذلة لله والخضوع له وإدراك عظمته جل جلاله. (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)).
يقول الله مع ذلك أنتم وشؤونكم وأحوالكم هذه خلقٌ من خلقنا أوجدناكم، لا تغترون، ولا تتمادوا في افترائكم، أنتم بأنفسكم خلق من خلقنا لو نشاء أبعدناكم وجئنا بغيركم، ولو أردنا أن لا يكون في الأرض من العقلاء إلا عابد لنا لجعلناه ملائكة، خلي في الارض ملائكة يعبدوننا، لسنا بحاجة إلى أحد ولا إلى عبادة أحد ولا شيء، أنا الله الغني القدوس القيوم الحي الذي عمَّت قدرتي كل شيء ولا أحتاج إلى شيء.
يقول: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ(60)) -منكم يعني: بدلا منكم- (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ) أي: بدلا منكم (مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ).
-
(يَخْلُفُونَ) يخلفونكم يستمرون في العبادة .
-
أو يخلف بعضهم بعضهم: يتناوبون على عبادتنا.
فلم نخلقكم ولم نخلق الكون لحاجة عبادة أحد منكم، ولكن لنختبركمْ ولنبتليكم وليكون مصيركم إما جنتنا وإما نارنا، بذلك قضينا ولا راد لقضائنا.
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ) يعني: بدلا منكم ملائكة في الأرض (يَخْلُفُونَ) يخلفونكم ويخلف بعضهم بعضهم. قال سبحانه وتعالى:
(كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)، إن شاء يذهبكم ويبعدكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء.
(كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) إن شاء يذهبكم ويبعدكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام:133]، كان على ظهر الأرض غير الموجودين كلهم هؤلاء، من الإنس ومن الجن على ظهر الأرض كان غيرهم وعايشين على ظهر الأرض، ونحن جئنا من بعد الخلف وسيأتي بعدنا غيرنا وسنذهب، سبحان الله.
قال الله ولو أردنا أن الخلق كلهم يعبدوننا بعثنا ملائكة وخلقنا ملائكة وملأنا الأرض بملائكة وانتهت المسألة، لكن لسنا بحاجة إلى أحد: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]، فانتبهوا من أنفسكم، واعلموا عظمة هذا الرب، واحذروا من هذا الطغيان وهذا التكبر وهذه الجراءة فمصير ذلك قبيح وسيء وخطير.
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ) -عيسى بن مريم- (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)، سنعيده إلى الأرض، ويكون من أقوى علامات قرب الساعة.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) وقد عهد إليه الحق أنه سينزله إلى الأرض في آخر الزمان، ليقوم بأمر الله وينفذ شريعة مُحمَّد بن عبد الله، وسنة النبي مُحمَّد بن عبد الله، وملة النبي مُحمَّد بن عبد الله، ويقتدي به ويهتدي وينصره، وعند ذلك يبعث يأجوج ومأجوج، ثم يهلكهم الله، فعند ذلك تكون الساعة كالمرأة الحبلى التي آن مخاضها؛ مضت أشهرها وعاد باقي وقت الولادة.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) وإن عيسى بن مريم علم للساعة يخرج ولا يقبل إلا الإسلام، ويضع الجزية، ولا يقبل من النصارى إلا أن يؤمنوا ويسلموا أو يقاتلهم، وفي أيامه تضمحل أديان الباطل ويبقى دين الحق، وهو حاكم بدين الحق على مستوى الأرض كلها؛ فليعلم ذلك من على ظهر الأرض اليوم:
-
وأَكثرهم قبل مجيء سيّدنا عيسى سَيَذهبون وَيَتلَاشَوْن وَيَضْمَحِلٌّون.
-
وكثير منهم سَيَقعون في شدائد وأَزَمَات وخَيْبَات قبل مَجِيء عيسى بن مريم.
-
وأمّا أيّام عيسى بن مريم؛ فالحُكم في الأرض لهذا القُرآن وسنّة سيِّد الأكوان وَلَا يُقَابِلها قانون إنسيّ وَلَا جِنِيّ وَلَا شَرْقِيّ وَلَا غَرْبِيّ وَلَا صَغِير وَلَا كَبِير؛ فَلَيْسُوا بشيء، ويَعُمُّ دين الله الأرض.
الحكم في أيّام عيسى بن مريم حتّى تُخْرِج الأرض بَرَكَاتها؛ فيعيش النّاس صالحا بِقِشر الرّمّانة يَسْتَظِلُّ أهل بيت، الله! لا إله إلا الله! وتُشبِع النّفر والعدد مِن النّاس؛ حتّى تُخرج الأرض كُنُوزها والنّاس يُعْرِضُون عنها ويمرّ بعضهم بِأَثرِ ذهبٍ على الأرض، يقول: هذا الذي كنّا نَتَقَاتَلْ عليه وكُنَّا تَقَاتَلْنَا عليه؛ وَلَا يَأْخُذُونَه.
ثمّ تأتي فتنة ياجوج وماجوج؛ ثم يعود سيّدنا عيسى ومَن معه إلى الأرض؛ ثم يُتوفّى عليه السّلام؛ وحينئذ، تكون السّاعة أَزْمَعَت على الظّهور والقيام فلا تكون إلّا أكبر العلامات الكبرى بعد عيسى بن مريم:
-
مِن خروج الدّابّة، تُكلم النّاس مِن جبل الصّفا.
-
ومِن رفع القرآن.
-
ومِن هبوب ريح تخطف كلّ مؤمن.
-
ومِن طلوع الشّمس مِن مَغربها.
فتنتهي العلامات الكبرى بعد ذلك؛ فيبقى شِرَارُ الخلق عَلَيْهِمْ تقوم السّاعة.
(وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم) -أي: بَدَلًا مِنْكم- (مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا)، وَلَا تَشُكُّوا في أمر القِيَامة والسّاعة فَهِي آتية لا رَيْبَ فيها،
(وَاتَّبِعُونِ)، يَقُول سيّدنا عيسى -عليه السّلام- هو أمر من الله، يقول: (وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا)، هذا الذي أدعوكم إليه من شهادة لا إله إلا الله والإيمان بالله وملاكته وكُتُبه ورُسُله واليوم الآخر والقَدَرِ خيره وشرّه. (صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61))، صراط الله الذي أَحبّه واسْتَقام عليه أنبياءه ومَن أحسن اتّباعهم مِن الصّدّقين والشُّهداء والصّالحين، جعلنا الله على هذا الصّراط، اللّهمّ اهْدِنا صِرَاطَك المُستقيم، وقد قال الله لنبيّنا: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى:52]. (وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61))
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)، المُتَرَبِّصِ بِكُم بتلبِيسَاتِه، وَتَدْلِيسَاتِه وَكَذِبِه وَوَسْوَسَتِه عليكم.
-
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس:60-61].
-
وقال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)، في سورة الكهف التي ينبغي لنا قراءتها في هذا اليوم، في ليلة الجمعة، وفي يوم الجمعة، "ومَن قرأها في يوم الجمعة، مُدّ له نُور مِن مكان قِراءتها إلى البيت العتيق وإلى السّماء الدّنيا إلى الجمعة الأخرى". يقول في سورة الكهف: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف:50].
(وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)، هؤلاء أعداء لكم وتتخذونهم أولياء من دون الله (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6].
(وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62))، بَيِّن العداوة مِن أوّل ما خُلِق أبوكم آدم وهو في العداوة.
-
يقول للجبّار الأعلى: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص:82].
-
ويقول: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) [الاسراء:62].
-
يقول: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الاعراف:17].
عَدُوّ! كيف نتّبِعه؟ كيف نُصدِّقه؟
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ):
-
إحْيَاء الموت بإذن الله.
-
إِبْرَائِه الأكمه والأبرص بإذن الله.
-
وجَاءَهم آية من آيات الله، من غير أب.
(وَلَمَّا جَاءَ عِيسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ)، النّبوّة والإنجيل المُنزل والعِلْم الصّحيح، (جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)، مِن شُؤون الدّيانة بَعْدما طال عَهْدُكم بموسى وتَفَرَّقْتُم واخْتَلَفْتُم بعد ذلك.
-
(وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ)، مِن الغَيِّ والضّلال والتّشبُّث بالتّغيير والتّحريف الذي غَيَّرتم فيه مَا جَاءَكم به موسى.
-
(وَأَطِيعُونِ)، فيما أدعوكم إليه بأمر الله مِن المنهج القويم والصّراط المُستقيم.
-
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، أنا وإيّاكم عبيد لهذا الإله، هو ربّ كلّ شيء ولا إله إلا هو.
(هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ)، مِن بين هؤلاء، تَفرّقوا وجاءت منهم فِرَق وأنواع وإلى أن ظهروا الذين يقالون ابن الله، وظهروا الذين يقولون أنّه ثالث ثلاثة، إلى غير ذلك.
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا)، بِإِيثَار الفَانِيَات وتَغْيِير الآيَات واتِّبَاع الأهواء والشّهوات، (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65))، شديد الإيلام.
أجِرنا اللّهمّ مِن عذابك يوم تَبْعَثُ عبادك، واجْعَلْنَا في ذاك اليوم مِن الآمنين، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) هل تعرف الفزع الأكبر؟! كلّ ما حَصَل مِن فزع للأفراد والجماعات مِن يوم خُلِقَت السّماوات والأرض إلى الآن ما هو الأكبر، فزع الأكبر مُقْبِل عليهم، فَزَع يوم القيامة، (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء:101-103].
قال: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65))، اللّهمّ أجرنا مِن العذاب، وَأَلْحِقْنا بالصّالحين الأحباب، أهل السّنّة وأهل الكتاب، يا كريم يا وهّاب يا أرحم الرّاحمين.
وَفِّر حظّنا اللّهمّ مِن هذا اليوم وساعة الإِجَابة فِي يوم الجُمعة، وَفِّرْ حَظَّنَا مِن هذا الشّهر وَمَا فِيه وَمَا تَجُود على أهليه، لا تَحرِمنا خير ما عندك لِشَرّ مَا عِنْدَنَا، يا رحمن! يا كريم! يا منان! وَفِّر حَظَّنَا مِن ساعة الإجابة فِي يَوْمِنا وَمِنْ ساعات رمضان وليالي وأيّام رمضان، وأَثْبِتْنَا في خير دِيوان، مَعَ مَن ارْتَضَيْتَ مِن أهل العِرفان وأهل الصِّدق والإيقان ممّن طَهّرتهم عن جميع الأدران، يا كريم يا منّان يا أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي الأمين ﷺ
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
09 رَمضان 1446