تفسير سورة الزخرف -02- من قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } الآية 9 إلى الآية 20

للاستماع إلى الدرس

الدرس الثاني من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الزخرف، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1446هـ ، تفسير قوله تعالى:

{  وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)  وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}

الأحد 2 رمضان 1446هـ 

 

نص الدرس مكتوب:

الحمدلله مكرمنا بالقرآن، ومواهبه الجزيلات الحِسان، وكريم التوضيح والبيان، وصلى الله وسلم وبارك وكرم على عبده  المجتبى المصطفى من عدنان، سيدنا محمد من جعله سيد الأكوان أدم صلواتك عليه ياحنان يا منان وعلى آله وأهل بيته المطهرين عن الأدران، وعلى أصحابه الغُرِّ الأعيان وعلى مَن والاهم فيك واتّبعهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين مَن رفعت لهم القَدْر والمَنزِلة والشّأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين، وجميع عبادك الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين. 

أما بعد،،،

فإنّنا في نِعمة تأمّلنا لكلام ربِّنا -جلّ جلاله-، مررنا على أوائل سورة الزخرف، انتهينا إلى قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10))، يُقيم الله -تبارك وتعالى- الحُجج والبَيِّنات على عَظَمَتِهِ ووَحْدَانِيَّتِه وأُلُوهِيّته ورُبُوبِيّته التي يُعبِّر عنها كلّ شيء في الوجود، ويُثير التّعجب مِن الذين آتاهم العُقول والأسماع والأبصار ثمّ حادوا عن سواء السّبيل، وانْحَرَفُوا عن الاستدلال بها على المُوجِدِ الخَالِق، وَمَعرفة وُجُوب طاعته -سبحانه وتعالى-، والعمل بالمنهج الذي ارتضاه للمُكلّفين مِن الخلائق، واسْتِبدال ذلك بأهواء وشهوات مِن قِبلهم ومِن قِبل نُظَرائهم مِن المخلوقين أمثالهم، مِن الذين مَرُّوا في تكوين أجسادهم على النُّطَف والعَلَق والمُضَغ والبُنْيَة العظميّة ثمّ كِسْوة اللّحم لها وما إلى ذلك، كيف ينصرفون إلى ذلك أو يعبدون غير الله مِن أصنام أو أيّ شيء مِن الكائنات الأخرى؟! انْحِراف عن المسلك القويم وعن حسن استعمال ما أُوتُوا مِن عُقول وأَسماع وأَبصار.

قال: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم)، هؤلاء المُعاندين لك والمُضادّين مِن الكفّار والمُشركين الذين ثَقُلَت عليهم لا إله إلا الله وَأَبَوْا أن يَقولوها، مُتَشَبِّثِينَ بِأَصْنامهم وآلهتهم، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ (9))، قُلْ لهم: أيّ أصنامكم هذه خلقت السّماوات والأرض؟ بل مَن منكم خلق السّماوات والأرض؟ (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، وكانوا أمام هذه المسائل دائما يقولون: الله، ومع ذلك لم يعرفوا لله حَقّه ورُبُوبيّته وأُلُوهِيّته ووُجُوب العُبودية له، يقولون: الله، والحقّ تبارك وتعالى قال: إنّ معنى قولكم الله، يَحتوي على هذه الحقائق وهذه المعاني التي يجب أن لا تَغِيبُوا عنها. 

فقال: (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9))، هذا الله الذي تقولون عنه الله، هو العزيز، فهذا مِن كلام الله -تبارك وتعالى-، إنّما هُم يقولون: خلقها الله؛ فلمّا تقولون الله، فمن هذا الله؟ هذه أوصافه، فكيف تعبدون غيره؟ 

  • (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ) -جلّ جلاله- وبِعزّته يَغار أن يُتّخذ له شريك؛ أن يُعبَد معه غيره، ويَنْتَقم مِن كلّ مَن عَادَاه.

  • (الْعَلِيم)، أحاط عِلْمُه بكلّ شيء؛ فَفِيمَا الانصراف إلى غيره للاستفادة أو لإقامة المنهج والمسلك في الحياة؟

تقولون: الله الذي خلق، هو (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا (10))، خلق لكم الأرض مُمَهّدة؛ فَجَعلها مِهَادًا تَأويكم كما يَأوِي المَهْد الصّبيّ فيَستقِرّ فيه، أنتم في هذا المِهاد لا تَضْطَرِب الأرض مِن تحتكم وَلَا تَمِيد بكم ولا تَكْثُر فيها الزّلزلة فلا تستطيعون الاستقرار عليها، (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ:6]، مَهَّدَهَا، فمن ذا الذي مَهَّدَ هذه الأرض؟ فَلِمَ الانصراف إلى الغير؟! 

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا (10))، طُرُقًا: 

  • تَهْتَدُون إليها.

  • وتَصِلُونَ مِن مكان إلى مكان. 

  • وتَصنعون مِن أجزائها أَوَانِيَكم وَمَلابِسكم وما تحتاجون إليه. 

(سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10))

  • إلى مَصَالحكم. 

  • إلى طُرقكم في الوصول. 

  • إلى مَقَاصدكم وأغراضكم مِن بقاع هذه الأرض ومختلف بُلدانها.

مهّد الأرض وجَعل فيها سُبُلا، طُرُقا للوصول إلى المصالح: 

  • إمّا بالمشي في مَناكبها والوصول مِن مَنطقة إلى مَنطقة ومِن بَلد إلى بَلد. 

  • وإمّا باستعمال ما في أجزاء الأرض؛ فَتَصْنعون منه ما تحتاجون إليه: مِن ملابس، ومِن أواني، ومِن أدوات، ومن أجهزة، وكلّ شيء. 

(جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10))، إلى مصالحكم القاصرة؛ فتتذكّرون أنّ الذي قدّر كلّ هذا وخلقه إلهكم الحقّ؛ فَتَهْتَدُون إلى تَوْحِيدِه والإيمان به والعَمَل بشريعته، وما جاء عنه.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10))، مَن هذا وَصْفُه؟ كيف يُعبَدُ غَيْرُه؟ كيف يُدْعَى معه الشّريك؟ كيف يُكذَّب بِرُسُلِه؟ 

(الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10))، في طرقكم الحسّيّة ومصالحكم الماديّة؛ فيكون ذلك سبب لِهدايتكم للحقيقة ومعرفة الخالق والعمل بشريعته جل جلاله.

(لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً..)، مَن غَيْرُه يَفْعَل هذه الأشياء؟ فكيف تَنْحَرفون عن الخُضُوع له، ثمّ تَنْصِبون لكم أصنامًا كائنةً ما كانت، بأيِّ معنًى مِن المعاني؟ 

  • (نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ)، فَإذا زاد أَغْرَق، وإذا زاد خَرَّب وضرّ، كما تُشاهدونه إذا أراد أن يُؤدِّب أو يُعذِّب كيف يفعل بهذا الماء، وإذا شاء نَفْعَ العباد به، أنزله بِقَدَرٍ مَقْدُور وَحَدٍّ مَعلوم، بِمِقْدَار مَا يَنْفَعْ.

  • (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا) -أحْيَيْنا، وأَقَمْنَا، وجَدَّدْنَا- (بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا)، فصارت حيّةً بعد أن كانت ميِّتة، خضراء بعد أن كانت يابسة، مُزدهرة بعد أن كانت قالحة. 

قال: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11))، من هذه الأرض، كما نُخرج لكم؛ منها الزّرع والثّمار من الحبوب التي توضع فيها، ونُحَوِّل مَوْتَهَا إلى حياة؛ فكذلك نُميتكم ثمّ نُخرِجكم منها بِقُدْرَتِنَا، كما أحْيَيْنَا هذه الأرض الميّتة. 

وكما أخرجنا الشّجرة من هذه الحبّات والبُذور؛ فَكَذَلِكَ نُحْيِيكُمْ ونَرُدُّكُمْ، وَنُبْقَي مِن أجسامكم التي كوّنّاها أولاً، عَجب الذّنَب مِن كلّ أحد لا تأكله الأرض ولا يَفْنَى، وإذا أصابته المطر النّازل بين النّفختين، بين النّفخة الأولى والنّفخة الثاّنية في الصور تكوّن نفس الجسد الذي كان على عَجب الذّنب هذا، فآخر الفَقَار، آخر العمود الفقري، حبّة صغيرة مثل حبّة الذّرة، عجب الذنب، منها يُركّب الخلائق في القيامة فيَرُدّ الله أجسادهم؛ ثمّ يُحيِي سيدنا إسرافيل وَيَأمره بالنّفخ في الصّور؛ فتطير الأرواح منه، كلّ روح إلى جسدها الذي عاشت فيه أيّام كانت في الدّنيا، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر:68]. 

(فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11))، كذلك يكون بَعثكم وخُروجكم من هذه الأرض، أمّا أجساد الأنبياء والشّهداء والعلماء العاملين بعلمهم والمُؤذّنون المُحتسبين لله في المساجد سبع سنين فأكثر؛ فهؤلاء لا تمسّهم الأرض أصلا ولا تزال أجسادهم كما دُفِنُوا تعود إليها الرّوح عند النّفخ في الصّور كمثل حملة القرآن للذين لا يُغَالون فيه ولا يَجْفُون عنه؛ فهؤلاء الخمسة أصناف: 

  1. الأنبياء. 

  2. والشّهداء. 

  3. والعلماء العاملون بعلمهم. 

  4. وحفظة القرآن غير الجَافِين عنه ولا الغَالين فيه. 

  5. والمُؤذنون المُحتسبون لمن أذن سبع سنوات محتسبا في المسجد. 

هؤلاء الخمسة ممّن لا تأكل الأرض أجسادهم؛ وهذه من آيات الله البديعة. كيف تُفرِّق الأرض بين جسد وجسد؟ ولما تأكل هذا ولا تأكل هذا وتركيبة الجسد واحدة وتركيبة الأرض واحدة؟ تأكل هذا وتترك هذا! لِتَعْلَمُوا أنّه ليس شيء من الأسباب بنفسه يشتغل ولا يتصرّف؛ ولكن بأمر المُسبّب من فوق، بأمر المُكوّن -جلّ جلاله وتعالى في علاه-. 

قال: (كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11))، فأيُّ غَرَابة في إعادتنا للخلق بعد أن صَنَعْنَاهم أوّلًا، وَهُمْ يَرَوْنَ أنّنا نُحيِي الأرض بعد موتها مرة بعد أخرى، لا يَصعب علينا شيء، ولا نَعْجَزُ عن شيء. 

(فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا (12))، الأصناف من الكائنات، جمادات، وحيوانات، ونباتات، وإنس، وجنّ، وملائكة، وكواكب، ونُجوم، وبُرُور، وبِحار، (خَلَقَ الْأَزْوَاجَ) -الأنواع- (كُلَّهَا). 

مَن شَارَكهُ في خَلْقِها؟ مَنْ كان معهُ في إيجادها؟ ومَن شَارَكه في الحُكْمِ بأحوال كلّ صِنْفٍ من هذه الأصناف؟ هذه تَنْبُت في أرض كذا، وهذه تَنْبُتُ في أرض كذا، وهذا يَقْطَع هذا، وهذا يُمَزِّق هذا، وهذا يُنْهِي هذا؛ بِتَرْتِيب مَن؟

قال تعالى: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)).

  • (مِّنَ الْفُلْكِ)، السّفن في البحر.

  • (وَالْأَنْعَامِ) في البرّ، (مَا تَرْكَبُونَ)، السّفن في البحر و الأنعام في البرّ.

(وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12))، (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس:41]، معنى ذُرِّيَّتَهُمْ هنا آباؤهم؛ لإنّ الذُّريّة تُطلق على الآباء والأجداد وعلى الأبناء والأحفاد؛ (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ)، يعني: آباءهم وأجدادهم على مدى القُرون الماضية، (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)، 

ولمّا كُنَّا في أصلاب مَن فِي السّفينة، سفينة النّبيّ نوح، قال الله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) [الحاقة:11]؛ فهؤلاء الذين في سفينة نوح، هُم آباء المَوْجودين من بني آدم كلّهم، (وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ) -آباءهم الأوّلين- (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) [يس:41-42].

(وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ) -الإبل والبقر والغنم- (مَا تَرْكَبُونَ (12))، بِتَسخير مَن؟ وَلِماذا حيوانات متوسّطة وكبيرة مسخّرة لكم وحيوانات أصغر منها لا تَرْكبونها ولا تستطيعون تَنْتَفِعُون بها وَتَخَافون مِنها وَتَقْتُلكم؟ لأنّ الأمر ليس عائدًا إلى كِبَر وَلَا إِلَى صِغَر، وإلى قُوّة عضليّة وعدم قوّة؛ الرّاجع إلى ماذا يسخر وماذا يسلط، وما سُلِّطْ هو المُسَلَّطْ، وَمَا سَخَّرْ هُوَ المُسَخِّرْ.

قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ)، الذي خلقكم وخلق لكم ما تَركبون. قال تعالى: (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) [يس:72-73]؛ فَنَشرَب منها الألبان، ومِنها نَلْبَسُ أيضًا ثياب، ومِنها نَرْكَب عليها في الأسفار، ومِنها نأكل اللّحوم، تسخيرًا مِن العليّ الكبير القدير جلّ جلاله.

قال تعالى: (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ..(13))، ويأتي بعد ذلك كُلُّ ما سخّر لنا مِن الرُّكوب عليه: مِن الدّراجات أو السّيّارات أو الطّائرات، نَذْكُرُ أنّ كُلّ ذلك بِتَسْخِيره وتَقْدِيره وتَدْبِيره؛ فَنَذْكُرُ نِعمة الله علينا؛ فَنَحْمَدُه إذا رَكِبْنَا على شيء مِن هذا، كَمَا نَحمَدُه إذا طَعِمْنا، ونحمده إذا شَرِبْنا، ونَحْمَدُه إذا لَبِسْنا، ونَحْمَدُه إذا دَخَلْنَا أو خَرَجْنَا، لأنّ الكلّ مِنه وبِتَيْسِيرِه وَبِتَوْفِيقِه. 

ولو أَعَجَزَنا عن الدُّخولِ والخُروجِ لَعَجَزنا، ولو مَنَعَ عنا الطعام أو الشراب لَمتَنَعنا، ولكن سَخر لنا كُل ذلك فنحمده إن لَبِسنا، ونحمده إن أَكلنا، ونحمده إن شَرِبنا، ونحمده إذا رَكِبنا على شيءٍ من المَركوبات التي سَخَرَها لنا.

قال تعالى: (لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ..(13)) وَلِهذا لَما رَكِب بَعض الناس على دابة يَسمَعهُ سيدنا الحسن يقول: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، قال له: إبدأ، إبدأ بما أُمِرتَ به أولًا، قال: ماذا؟ قال: تَذكُر نعمة ربك أولا ثم تقول سبحان الذي سخر لنا هذا، إحمد أولا ثم سَبِح، قال له: إبدأ بما بدأ الله به، ثم ركب وقال سبحان الذي سخر لنا هذا، قال له اسمع: أبدأ بما بدأ الله به قال: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ)، إحمده أولا ثم تقول سبحان الذي سخر لنا هذا، وهو فِعله ﷺ إذا رَكِبَ على الدابة قال: بسم الله وإذا استوى حَمِدَ الله ثلاثًا وكبر الله ثلاثًا، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وطَلَبَ المغفرة.

 ولما رَكِب بعضهم مع سيدنا علي قال: فلما  وضع رجله، قال: بسم الله، فلما استوى قال: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله الأكبر، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وقال: اللهم اغفر لي، وضحك، قالوا: مايُضحِكُكَ يا أمير المؤمنين!  قال: فعل هكذا رسول الله ﷺ كُنت معه فسألته ما أضحكك؟ قال: "إن الله يَضحَكُ إلى عَبدِه إذا فعل ذلك، وقالَ: عَلِمَ أن له ربًا يغفر الذنب وأنه لا يغفر الذنب غيري"، يعني يَرضى عن عَبدِه وَيُقَرِبه ويغفر له سبحانه وتعالى.

فهذا من الأذكار التي تُقالُ عِندَ الركوب، حَمدُ لله تعالى: تَذكُروا رَحمَة رَبِكم إذا استويتم عليه، وتقولوا: "سُبحان الذي سخر لنا هذا"، تُسَبِّحون بِحَمده وتُقَدِّسونَهُ أن يكون له مِثلٌ أو نَظيرٌ أو شَبيهٌ أو شَريك.

  • " سبحان":  تَقَدَّسَ وَتَنَزَّه.

  • "الذي سخر لنا هذا وما كنا له مُقرِنين": بأنفسنا لا نُطيقُ أن نُسَخِرَ هذه الكائنات ولا هذه الوَسائل ولا نَستطيع ضبط ذلك.

  • "ما كُنا له مقرنين": نَقدِرُ على قَرنِها بالغير وتقديمها وتأخيرها، ولكن هو جل جلاله سَخَر لنا ذلك، فَوَفَقنا ولا نُطيقُ ذلك بأنفُسِنا بل بِفَضله علينا وتسخيره لنا، وما كنا له مُقرنين.

  • "وإنا إلى ربنا لمنقلبون": المَرجَع بعد هذا كله ما سَخَره لنا وما أنعم علينا، وما اختبرنا به في هذه الحياة، وما أَرسل رُسل وأَنزَلَ كُتب، المَرجِع إليه سبحانه وتعالى، المُنقَلَب إليه، والمآل إليه، والحُكمُ له.

  •  "وإنا إلى ربنا لمنقلبون": أي أن هذه الأشياء التي وَضَعها أمامنا، وضعها لنأخذ منها العِبرة، ونأخذ منها الادكار، ونتزوَّد منها للمَوقِف الذي يَحكُم فيه بين عِباده، لأن المَرجِع إليه والحُكم له -جل جلاله-.

إذًا فالمؤمن بكل شيء يتذكّر العاقبة، ويَتَذَكَّر المَصير، ويَتَذَكَّر الحاكِم الذي إليه المَرجِع -جل جلاله-، وكذا يجب أن يعيش المؤمن على هذه المشاعر وعلى هذه الأحاسيس، فإن كُل شيء يُذَكِّر، حتى قال الله تعالى في هذه النار: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً) [الواقعة:71-73] تُذَكِّر بِنار الآخرة، وعَلَّمَنا ﷺ أي شيء يُعجِب في الدُّنيا تَستَروِح إليه النفس ويُحبه الإنسان إذا رآه أو أكله أو زاوله أن يقول: "لَبيك إن العيش عَيش الآخرة".

فكل ما في الدنيا من خَيرٍ يُذَكِّرُنا بالخير الأعلى الذي يَدوم في دار الكرامة، كل ما في الدنيا من بؤس وشدة وشر، يُذَكِرُنا بشدائد النار وأهوالِ يوم القيامة، فيجب أن نَكون على هذه الذكرى، قال الله في أنبياء قَبلَنا اصطفاهم: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) [ص:46-47].

فيا وَيح الذي يَمشي في الدنيا ولا يَذكُر خالِقَه ولا المرجع إليه ولا المآل ولا المَصير، ما أغفله! 

قال: (وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا..) كيف؟! ذهبوا بغير بَصيرة وبغير نورٍ وتَعليمٍ من الله، يَصِفون الله بما هو مُنَزَه عنه، ويُسَمون الملائكة بنات الله، (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا)، قال: تَعَجَب من أين يأتون بهذا الكلام؟! كيف يتصورون هذا التصور؟ كيف يعتقدون هذا الاعتقاد؟ 

(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15)) كثير الكُفر؛ الجُحد بالنِّعَم والمِنَن والدلائل والبراهين يَجحَد بها، قال سبحانه وتعالى: 

  • (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) -جَحود- (وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات:6-7]، 

  • (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17]. 

ما أشد جُحدَهُ نِعَم تَترى عليه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، وخَلق وتَكوين بعد عدم، وسَمع وبَصَر، ورزق، وأرض مُمَهَّدَة، وسماء من فَوقه وأمطار؛ ثم يَجحد، يعصي، يكفر، يتخذ مع الله شريك آخر -نعوذ بالله-.

قال: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ۚ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15)) يَنسِب إلى الله الولد، ولهذا قال ﷺ: "لا أحَدَ أصْبَرُ علَى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، إنَّه يُشْرَكُ به، ويُجْعَلُ له الوَلَدُ، ثُمَّ هو يُعافيهم ويَرْزُقُهُمْ" أي: ويَنسِبون إليه الوَلد والشريك وهو يَرزُقهُم ولا يَقطَع نِعَمهُ عليهم -سبحانه عز وجل-، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) [فاطر:45].

قال: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ..) سميتم الملائكة بنات الله وأنتم بأنفسكم في خَلقُكُم ومن جِنسكم تَتَقَزَّزون من البنات وتُقَتِلونهم وتعملون وتنسبون كثرة البنات إلى الله تعالى! حتى عما أنتم تتنزهون عنه ما تنزهون الله جل جلاله؟!

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16)) لو أراد الله أن يتخذ لاصطفى من خَلقِه ما يَشاء لكن (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص:3-4]، 

(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ) قالوا بنات الرحمن، يعني قيل لو وُلِدَت لك أنثى جاءتك بنت. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) -لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم- (وَهُوَ كَظِيمٌ (17)) بعكس المؤمنين الذين يَعلَمون أن الله هو الخَلاق، وكان بعض الصالحين عندنا إذا بُشر بأنه وُلِدَ له ابن يُعطي من بَشَّرَهُ قِرش -من القروش الفضة السابقة-، فإذا قيل له جاءت بنت يُعطيه قِرشين، فقالوا له لماذا تُزَيِّد إذا بُشِرت ببنت؟ قال: إن الذي بشرني ببنت بشرني بعون الله لي، لأنه في الحديث أنه عند خروج الابن يقول الله: اخرُج وأنا عونٌ لك وعند خروج البنت يقول اخرجي وأنا عونٌ لأبيكِ، قال: فالذي يُبَشِرني بالبنت بَشَرني بعون الله لي فأعطيه بشارة على المولودة وبشارة على العون من الله -سبحانه وتعالى- لي.

أما الجاهلية لا (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) [النحل:58-59]، وبعدين تفكيرهم هذا الخاطئ الغريب (أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) يقتلونهن ويدفنونهن حَيَّات -والعياذ بالله تعالى- (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل:59].

(أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)) الإناث عندكم للزينة وللحِلية لا يستطعن في كثير من أحوالهن أن يقاومن ويبين الحُجة ويدافعن في غالب الأمر، (أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)) تنسبونه إلى الله، ما عرفتم قَدرَ رَبِكُم، ما عرفتم عظمة إلٰهِكُم، ما تُنزِّهونه، ما تُسَبِّحونه، ما تُقَدِّسونه، هو الأَجَل الأعلى -سبحانه وتعالى- (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات:180].

سبحان رب العزة المتعالي *** عن كل ما يَصِفون من أقوالِ

(وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا) قال لهم: من أين جئتم بالخبر؟ (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ..(19))، 

  • في بعض القراءات: (الَّذِينَ هُمْ عِند الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا)، 

  • وفي القراءة هنا: (الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا)، (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء:19]. 

قال: (عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا) جعلوهم إناثًا، أي: وصفوهم بأنهم إناث؛

  • (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أنتم رأيتموهم لما خَلَقتُهُم؟ خلقهم من نور كما أخبرنا على ألسن رسله، لا ذكور ولا إناث، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون (لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) [التحريم:6] من نور مُجَرَد، خلقنا من طين وخلقهم من النور -جل جلاله- قالوا: إنهم إناث. 

  • قال الله: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)، حضروا لما خلقتهم؟ أشهدتم؟ فمن أين تجيبون؟ من أين؟ كيف هذا الحُكم؟ من أين؟ ما المَصدر لهذا الحُكم؟ هذا الإنسان المُتَجَرّئ الكَفور يَحكُم على الأشياء بلا بَيِّنَة، بلا دَليل، بلا أصل، بلا مَرجِع.

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) لما سألهم ﷺ من قال لكم إنهم بنات؟ قالوا: أبانا، آبائنا ما يَكذِبون (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19))، قال: أنتم وآبائكم كلامكم هذا مُسَجَل والسؤال أمامكم، السؤال عليه، هاتوا خبر ما قلتم وكيف اجترأتم؟ (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) لا إله إلا الله، 

  • كما تَجَرَأ اليهود لما سمعوا قول الله: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد:11]، قالوا: إن الرب فقير ونحن أغنياء، ماهذا الكلام؟! أنتم وما معكم خَلقُه، يوجدكم متى شاء ويفنيكم أي لحظة شاء، ولكن أراد أن تكسبوا المنزلة عنده بالإنفاق لوجهه، فتقولون هذا الكلام؟ 

  • (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران:181] يعني كل قول صدر سَيُقبِل صاحبه على جزاء هذا القول، ولا يظن أن شيء يَفلُت يَذهَب سُدى.

(سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُم) آلهتهم التي يعبدون من دون الله تعالى، قال الله: (مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ)، من قال لهم أني أرضى عن عبادتهم؟ وقالوا إنه ما تَرَكنا نعبدهم هذه المدة الطويلة إلا وهو راضي، قال: من قال لكم؟ وكُلها أحكام هكذا .. أهواء وعجرفة.

(مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)) فجميع ما مالوا إليه من السوء والكُفر والشرك مكتوب عليهم ومحسوب؛ وسيجزون به عند المآب والمَرجع.

ثبتنا الله على ما يحب منا ويرضى به عنا في جميع نياتنا ومقاصدنا وأقوالنا وأفعالنا، اللهم أعِذنا من قَولٍ تَسوَدُّ به الوجوه يوم القيامة أو يَلقى صاحبه غَضَبًا أو عَذابًا، وأَعِذنا من أي فعل يصيب صاحبه عذابًا أو تغضب به عليه أو تَسود به وجهه في القيامة، ومن كل نية ومن كل مقصد ومن كل حركة أو سكون تعقبها حسرة أو ندامة؛ أعذنا يا ربنا من كل ذلك، واجعل لنا في رمضاننا هذا رُقيًّا بخير المسالك إلى عليّ ما هنالك من عطاياك الواسعات، ومِنَنِكَ العظيمات ومنحك الجسيمات، يا مجيب الدعوات يا رب الأرضين والسماوات، وفر حظنا من المنن والمواهب، وادفع عنا وعن الأمة جميع البلايا والأذايا والمصائب وأَنلنا المَطالب وفوق المطالب مما أنت أهله، يا خير واهب في خير ولطف وعافية. 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ وبارك عليه وعلى آله وأصحابه 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

03 رَمضان 1446

تاريخ النشر الميلادي

02 مارس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام