(228)
(536)
(574)
(311)
الدرس الثالث من تفسير العلامة عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الجاثية، ضمن الدروس الصباحية لشهر رمضان المبارك من عام 1445هـ ، تفسير قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) نْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
الثلاثاء 16 رمضان 1445 هـ
الحمدلله مُكرمنا بالتنزيل والتبيين والتفصيل، والهداية إلى أقوم سبيل، على لسان ويد خير هادٍ ومعلمٍ من الخلق ودليل؛ سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه، ومن والاه وسار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل محبة الله وقربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،
فإننا في نعمة تلقينا لتعليمات ربّنا وتوجيهاته وتبييناته وآياته، قد مررنا على آياتٍ من سورة الجاثية، كان آخرها قوله تبارك وتعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13))، رزقنا الله التفكّر القويم السليم الذي نزداد به بصيرة وإدراك لحقيقة عظمة الإله العظيم. وألمحنا إلى عجائب ما سخَّر لنا -سبحانه وتعالى- مما في السماوات:
سخَّر لنا حَفَظَة من السماوات ملائكة يتعاقبون فينا بالليل وبالنهار.
وسخَّر لنا أمطارًا تنزل.
وسخر لنا شمسًا وقمرًا نستضيء بهما؛ ونستفيد عديدًا من الفوائد الكثيرة.
وسخَّر لنا عجائب كثيرة مما في السماوات ننتفع بها في الأرض.
وسخَّر لنا ممّا في الأرض:
جبالها فرسَّى بها الأرض، وجعلها أوتادًا لِئلَّا تميد بنا، وهيَّأها ومهَّدها تمهيدا، (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) [الذاريات: 48]، (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ: 6].
وجعل لنا فيها نبات.
وجعل لنا فيها بحار، وجعل لنا في البحار أسماك وجواهر ولآلئ ويواقيت.
وجعل لنا في بطن الأرض ماءً، وأنواع من الغاز والنفط والذهب والفضة.
(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ..(13)) قولوا من رتب هذا؟! من دبَّر هذا؟! من كوَّن هذا؟ فما لكم تعرضون عن إلهكم مغرورين بشيء من شؤون حياتكم الفانية وقُواكم القاصرة؟ (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ..) وجاء في رواية عند الحاكم والبيهقي وغيرهما من أهل السنة عن طاؤوس اليماني -عليه رحمة الله- قال: جاء رجل إلى عبدالله بن عمرو يسأله ممّا خَلَق الله هذا الخلق؟ قال له: من الماء ومن الهواء ومن النار؛ قال: فمِمَّ خَلَق هذه الأشياء؟ قال: لا أدري، فرجع إلى ابن الزبير فسأله فقال كما قال عبد الله بن عمرو، فذهب إلى ابن عباس فسأله قال: خَلَقَها من الرياح ومن الماء ومن النار، قال: ومِمَّ خَلَقَ الأشياء؟ قال: فتلا الآية: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ..(13))،
(جَمِيعًا مِّنْهُ ..(13)) قال: فقال ما يأتي هذا إلا من بيت النبوة -أحد من بيت النبوة- جاوب عليّ بالآية الكريمة، فلا يحتاج في الابتداء إلى شيء، ويوجد الشيء من غير شيء، ويُسبب الشيء عن الشيء، وكله بيده، وهو بيده ملكوت كل شيء -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- فلا يعجزه شيء، ولا يصعب عليه شيء، ولا يعسر عليه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، وهو على كل شيءٍ قدير.
قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14))، (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا..): إنَّ لي حكمةً في خلق هذا الكون والوجود والحياة؛ لأختبِر ولأُبيِّن ولأُميِّز ولأرتضي من شئتْ؛ فتشتمل هذه الحياة منهم على إيذاء، وعلى اعتداء، وعلى سبٍّ وشتم، وخصوصًا مِن قِبَل الذين (..لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ..)؛
(..لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ..)، لا يؤمنون بأنه المُدَبِّر المُصَرِّف المُقَدِّر المُقَدِّم المُؤَخِّر؛
الذي له أيام انتقام وعذاب وغضب واختبار؛ لا يملك أحد ردَّها.
وله أيام إنعام ومَنٍّ وإحسانٍ وإفضال لا يملك أحد صرفها،(..أَيَّامَ اللَّهِ..) أيام إنعامه أيام بلاءه.
(..لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ..)، لا إيمان لهم، لا مبالاة لهم بعظمة المُقَدِّم المُؤَخِّر الخَافِض الرَّافِع، أي: هم ماديين مثل الذين يسمّون أنفسهم في عصورنا علمانيين ليبراليين.. أمثال هذه من الأشياء، قوم ما يعرفون إلا الحِسَّ القصير الذي أمامهم، ولا يؤمنون بالغيب.
قال هؤلاء في قصورهم هذا، وانحباسهم هذا، وانحصارهم؛ لا يُستبعد أن يأتي منهم كذب، سب، شتم وإيذاء لمن يخالفهم، وأنتم معاشر المؤمنين بي أدركتم الحقيقة، وأمامكم الدار الباقية التي فيها الجزاء، فكونوا في هذه الدار خير من يحمل الخُلُق الكريم، كونوا في هذه الدار خير من يحمل العفو والصفح ومكارم الأخلاق.
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ..(14))؛ لا يقومون على المناوئة وعلى المنابذة، وعلى المُرادَّة، وعلى المصارعة، وعلى المنازعة؛ اتركوه (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186]، ويذكرون هل كان لهذه الآية ونزولها سبب؟ وقيل أنها وقائع وقعت لسيدنا عمر منها:
أنه لمَّا سمع سبًّا وشتمًا وأذى من أحد من المشركين في مكة حمل سيفه وخرج ليقابله، فأنزل الله الآية، وأرسل النبي ﷺ وراء سيدنا عمر وقال له: تعال لا تذم.
وكذلك يقال: حصل أنه لمَّا قال عبدالله بن أُبَي -لما أرسل غلامه يستقي فأبطأ- قال: ما لك تبطي؟ قال: كان عمر على البئر وينزح وما ترك أحد ينزح حتى ملأ قِرَب رسول الله ﷺ وقِرِب أبي بكر ثم... قال: أفلا ترون هؤلاء؟ ما مَثَلُنَا ومَثَلَهم إلا كما يُقال سمُّن كلبك -يعقرك- يأكلك! فبلغت المقالة سيدنا عمر، وحمل سيفه فأوقفه ﷺ؛ ولما جاء الخبر، جاء إلى النبي ﷺ يستأذنه فقال له: لا؛ وقال تقتل فلان وفلان وهم المتَقوِّلين، وهذا يقول ويقول، وقال: لَيُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذل، في نفس غزوة المريسيع، فقال ﷺ: لا؛ بعد مدة لقيه في المدينة ذكره ﷺ قال له: أترى فلان وفلان الذين لو تركناك تَمَسُّ عبدالله بن أُبَي ذاك اليوم لثاروا، ألا تراهم اليوم لو أمرناهم أن يقتلوه لقتلوه هم بأنفسهم -مِن قراباته- قال: الله ورسوله أعلم، يا رسول الله، أنت أدرى بتصفية النفوس وتزكيتها والأخذ بإيدي الناس، أنت أعلم؛ صَبَر عليهم وهَذَّبهم فتحولوا إلى هذا المستوى وإلى هذا الحال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ..(14)) لِمَ؟ لأنهم قد أيقنوا بالجزاء، والجزاء مُقبل:
فمن حمل المكارم وحسن الشيم وحميد الأخلاق فيجازيه عليها الله.
ومن اعتدى، ومن طغى، ومن تكَبَّر، ومن كذب فسيأتيه الجزاء من الله.
(لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14))، فما تأملونه من رجاء الثواب والخير على الصفح والعفو مذخور لكم؛ وهو خير لكم من أن تنقموا لأنفسكم وتردّوا على من سبَّكم. ولذا ما وجدنا رسول الله ﷺ في كل ما قابله به المشركون من أوصافٍ كاذبة قبيحة يصفونه بها، ومن تَطَاولٍ عليه، ومن نسبة أشياء هو بعيد عنها ﷺ، ما رأينا منه مِن ذاته مباشرة رد واحد على أحد منهم؛ حتى يتولى القرآن الجواب عنه، ويغار الله عليه وينزل.
لمَّا قالوا مجنون، وأكثروا من لفظة مجنون ما جاوب على أحد منهم، ﷺ يدعوهم إلى الله، استمر يدعوهم الى الله، ولا يقول كيف تقول أنا مجنون؟ أين الجنون الذي فيّ؟ ولا ذَكر أحد؛ أنزل الرحمن: (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ) [القلم:1-3]. أيها الصابر، أيها المجاهد، أيها المُكابد، أيها العفُوُّ والصفوح من أجلنا، أيها الصابر على أنواع الاختبارات؛ (وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ) [القلم:2-3]. قل لهم: هل في مجنون يكون على خُلُق عظيم؟ ترون الأخلاق قدامكم، إيش الكلام حقكم هذا؟ كلام الواقع يكذِّبه! الخُلُق العظيم هو ميزان ومنهج سوي في التعامل مع الأحداث ومقابلة التقلبات للأشياء، ما يحصل إلا من قوي العقل؟ كيف يكون مجنون؟ (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ) [القلم:3] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) [الحاقة:41]، (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) [الحاقة:42]،
ويجيب الحق تبارك وتعالى عنه، وهو ما يُكلِّمهم، قال له بعضهم وهو في طريقه إلى الهجرة مع سيدنا أبوبكر الصديق؛ يقول له واحد من الرعاة مرّ عليه: أنت الذي يقولون لك الصابئ؟ قال: "كذلك يزعمون"، قال: هم يقولون هكذا، ما جاوب، ما غضب عليه، ما رد على نفسه ما نازعه، قال هكذا: "كذلك يزعمون"، يقولون هكذا -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ) [القلم:3].
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) يقول: أي معشر المؤمنين بي أنتم أولى الناس على ظهر الأرض في ضبط الأقوال والأفعال منكم، وإقامة منهج الخُلُق الكريم؛ أنتم أولى به ممّن سواكم؛ دعوا المسابَّات والمشاتمات والمنازعات لمن كفر، وأنتم تحمّلوا الأذى، تحمّلوا السب والشتم من ذا ومن ذاك؛ لأن وراءكم من سيجزي؛ سَيَرُدُّ على هؤلاء ويخاطبهم بما قالوا وكيف قالوا، ويعذّبهم عليه، وسيثيبكم الثواب الجزيل فلماذا تقلقون؟ دعه يقول ما شاء.
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ..(14)) لا يخافون من عذابه ولا يرجون رحمته! ماديين يرون الدنيا فقط والحس ما لهم غرض وراء ذلك شيء؛ ناقصين في مداركهم وأذواقهم وعقولهم، وإن ادعوا العقل والتقدم والتكنولوجيا؛ ناقصين في عقولهم محصورين في المادة والحس! (..لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ..(14)) فهؤلاء سيأتيكم منهم أذى، سيأتيكم منهم سب، سيأتيكم منهم كذب، سيأتيكم منهم افتراء… دعوهم، امضوا فيما أمرتكم به، واحملوا ألوية الدلالة على الخير والحق والهدى والتنوير واتركوهم.
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) وهذا تمامًا لا يتناقض مع قتال المقاتلين منهم، ولا ردِّ ظلم الظالمين منهم، فإنه ينهى وينأى بالمؤمنين عن المشاتمة والمخاصمة والكلام الفارغ وكثرة المزايدات بالأقوال، وأمثال هذه السفاهات، وكذلك تحمّل الأذى وأن لا يغضبوا لأنفسهم، ولا يجعلوا الغضب إلا لربهم -جلّ جلاله- طهرًا وارتقاءً وسموًا في التعامل والخُلُق وزكاة النفس؛ هذا شأنهم.
حتى وسط القتال والجهاد وهم يقاتلون من قاتلهم وهم أشداء على الكفار، ويجد الكفّار فيهم غلظة، لا يمثّلون بأحد منهم، ولا يقتلون امرأة، ولا يقتلون صبي وطفل، ولا يحرّقون الأشجار، ولا يمثّلون بأحد ولا يتبعون المدبر، مكارم أخلاق وسط القتال، وهم أهل لها؛ لأنهم لا يقاتلون لأنفسهم، ولا لغيظ أنفسهم ولكن انتصارًا لربهم وإنقاذًا لخلقه، ورحمة بخلقه. وعلى هذا الحال جاء الجهاد على أيدي الأنبياء، غير الأنبياء وأتباعهم لماذا يعدّون جيوشهم؟ لماذا يقوون أسلحتهم؟ لنيل المطامع والأغراض وأخذ الثروات ومد السلطة على الغير؛ أم لهم مقاصد غير هذا؟ هذه مقاصدهم، لكن الأنبياء يعدّون العدة لنصر الله، لنفع خلق الله، لإنقاذ الخلق من الضر، أما زمانكم ترون الدول إذا واحدة لها غرض في مكان تقول أنا بجيب لكم الحرية والديمقراطية… وتأخذ مصلحتها وتروح وتتركم! ما تشوفوا بعيونكم؟ ما قصدهم عدل، ولا قصدهم صلاح ولا قصدهم… عبيد فروج وبطون وسلطة وانتهت المسألة!
لكن الجهاد الصحيح مع أتباع الأنبياء هو الشريف المقدّس، هو النافع للخلائق وحده دون غيره، وكل قوة صُرفت في غير هذا المسلك ضُرّ على العباد، ضُر على البلاد. (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205]. وهكذا، يعدّون قواتهم الآن وخططهم وسياساتهم حتى يهجروا الناس من بلدانهم! إيش لنا؟ لأن لنا مصلحة! وبعدين؛ لك مصلحة تخرج عباد الله من ديارهم وأماكنهم؟ وتقتل نسائهم وتقتل أطفالهم! تكسر مستشفياتهم! ولا حد تقف عنده لأن لك مصلحة ولك غرض! كيف يعني؟ هكذا.. أسلحتهم لهذا، وأنظمتهم لهذا، وبرامجهم لهذا والعياذ بالله! لكن الأنبياء والمرسلين لتكون كلمة الله هي العليا، ليُرفع الظلم، ليقوم الناس بالقِسط، فقط ولذا كانوا على مكارم حتى في قتالهم، وحتى في جهادهم، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى من اتبعهم بإحسان.
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) قبلهم رأينا أنظمة في كثير من الدول جاءت تحمل هذه الديمقراطية ولحكم الشعب ولإنصاف المظلم… حبست بغير حق، أخذت حقوق الآخرين، قتلت بغير حق، خطفت بغير حق!! ويدّعون ما يدّعون، قواهم لهذا، فخرّبوا بلدانهم دينًا ودنيا، تحت أي شعار! كم رأينا من أنظمة في العالم تتصرف هذه التصرفات، لكن نظام الحق لخلقه أرفع من هذا وأشرف.
حتى يروى أن سيدنا علي قاتله بعض المشركين، فأمسكه وضعه على الأرض وهوى بالسيف، فبصق في وجه سيدنا علي، فرفع السيف وتركه، وقال له بعض الذين يلاحظونه: كيف؟ أنت في قتال المشرك لما تمكنت منه تركته! قال: كنت أقاتله لله فلمّا بَصَق في وجهي غضبت نفسي وأرادت أن أضربها لها، وأنا لا أضرب بسيفي إلا لله! قال سيف ذو الفقار أخذته من يد المختار أضرب به لأجل نفسي؟! يوم بصق في وجهي أغضب وأقوم أضربه! من أجل معاداته لله أضربه لا من أجل نفسي -عليه الرضوان-، قابله بعض الخصوم له، وعرف أنه مهزوم والإمام علي سينهيه في لحظة، فيكشف نفسه؛ كشف عورته غضّ طرفه سيدنا علي، قال لن أتخلص منه إلا بهذا! بروح فيها وأنتهي لكن أعرف ورعه وأعرف تقواه! غضّ طرفه حتى لا يرى العورة وشرد الرجال.
هكذا كانوا يقاتلون؛ لله لا لأنفسهم، ولا لقصد غيره. قالوا: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة، الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، أيهم في سبيل الله؟ نفاهم كلهم، قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، هذا وحده في سبيل الله، الباقي في سبيل الشيطان، في سبيل النفس، في سبيل الهوى. وأكثر القتال الدائر بين الناس على هذه الصورة، ما كان إلا في هذه الأشهر ممّا برز فيه قتال كفّار معتدين ظالمين بمسلمين أصحاب حق؛ وإلا الحروب مرّت علينا كلها مسلم مع مسلم، دقدقة في دقدقة، على سياسات وعلى دنيا! في مثلها قال لنا فاعتزل تلك الفرق كلها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ولكن المهتدون بنور الله وكتابه وكلام رسوله من سبقت لهم السعادة، وإلا الناس أتباع كل ناعق، مسلمين ولكن يُضحَك عليهم وعلى عقولهم، وتغلبهم في شهواتهم ونفوسهم؛ وكلٌّ يُجازى بما نوى، وبما عمل، والحكم العدل أمام الكل. (..لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) فهذه الحقيقة المبسوطة (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا..(15)) والسلام.. غير هذا لا شيء! وهكذا حتى يقول العوام عندنا فيما يردّدونه: ما تعمله أم سويد في ذيلها يرجع كل ما تحوكه عليها! كذلك (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا..(15)) فكرّرها الله لنا في آيات، قال ومن الذي سيقوم على هذا الحكم؟ قال الجبّار بنفسه: (..ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)) سترجعون إليه ولن يكون إلا هذا. (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة :7-8] ما يجد شيء فائت من الخير ولا مثقال ذرة عمله لوجه الله محفوظ؛ فاز الصادقون، فاز المخلصون، فاز العاملون لله، وأي ذرة يعملها من شر لا يظن أنها ستضيع ولا تروح سيجازى عليها، (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). إن أغوته نفسه، وإن أغووه أصحابه، وإن أغواه حزب، وإن أغوته دولة، وإن أغواه مال… صلِّح شر وقدامك الجزاء، لن تفوت منه ولن تتخلص منه (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ولن ينجّيك تقول الحزب قال لي.. ولا الجماعة قالوا لي... قالوا سيعطونا سيارة.. سيعطونا بيت… تعمل شر خذ الجزاء.. ولو مثقال ذرة! (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47] إيش الكلام هذا من الجبار الأعلى؟! ما هي إرصادات.. لكم كاميرات ترقبكم.. بل أكبر من ذلك؛ الجبّار الأعلى قال أقيم الحساب عليكم، الذي هو أعلم بكم من أنفسكم. لا إله إلا الله! (..ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15))
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)) ويُقال للكفار (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115] وقد قال -جلّ جلاله-: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم) [الغاشية:25-26] فما أحد يفلت، (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:47-49]. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا…) تريد حقيقة الحكاية؟ انتبه لنفسك.. (..وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ..) واحذر أن تيأس (..وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30] . (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ..)؛ احسب حسابك زين (..وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ..) ولا تقع في اليأس (..وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) وتريد طريق قريب تصل؟ (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...) [آل عمران:31] مخارجة حصلت، ونجوت من كل شر؛ اتبع سيد الناجين، اتبع سيد الخائفين سيد الراجين، اتبع إمام أهل الاستقامة (..فَاتَّبِعُونِي..) والنتيجة حصلت خلاص، وانتهت المشاكل كلها! (..يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...)، (..وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا..) [النور:54] (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..) [النساء:80].
(..ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)) مرّت أوقات كانوا على ظهر الأرض بنو سيدنا يعقوب -عليه السلام- المسمّى اسرائيل؛ يعقوب بن إاسحاق بن إبراهيم؛ كانوا هم الأصفياء الأتقياء وفيهم الأنبياء وأتباع الانبياء وفيهم البرّ والقسط والعدل والخشية والإنابة، كما وصف الله طائفة منهم، قال: (لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [ال عمرآن:113-114] قد كان في بني إسرائيل أمثال هؤلاء، ثم ظهرت الأعاجيب فيهم والغرائب، وما ائتمنوا عليه من كتب الله.. بدّلوها وحرّفوها وغيّروها، وظهر فيهم الفسّاق والمجرمين وكان ما كان!
(وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ..):
(الْكِتَابَ) التوراة ثم الإنجيل.
(وَالْحُكْمَ) الحكمة وولاية الأمور كذلك.
(وَالنُّبُوَّةَ) جعل فيهم أنبياء كثير.
(وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) المن والسلوى وأنواع الرزق.
(..وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)) في زمانهم، عالمِ زمانهم من الإنس والجن كانوا هم: أنبياء وأتباع الأنبياء، كانوا هم المفضّلين.
(وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ.. (17)) أوامر ونواهي وترغيب وترهيب، وعد ووعيد، (وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ..)؛ أحكام واضحات، مربوط فيها الثواب على الطاعات والعقاب على السيئات.
(وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ..(17))، العلم قد جائهم وعرفوا الطريق، وكان فيهم قدوات ومهتدين، بعد ذلك دخلتهم الأهواء، ماذا معهم؟ (..بَغْيًا بَيْنَهُمْ ..(17))، حسدوا بعضهم البعض، وطلبوا الرئاسة والرفعة ولعبوا بالدين، وجاء الخلاف بينهم؛ إشارة من الله أن كل الصادقين من أتباع أيِّ نبي من الأنبياء، لا يُغلِّبون ولا يتّبعون ولا يطيعون أهواءهم ولا ينقادون لها، ويحكّمون شرع الله؛ لا يحصل الاختلاف بينهم، ولا التنازع بينهم، ولا السوء بينهم، ولا ضرب بعضهم لبعض، ولا الشر يحدث بينهم، حتى يدخلو أهواءهم ويدخلوا أغراضهم وشهواتهم وطلب المنفعة فتقع المصائب والفتن.
أمّا ما دام هواهم تبع لما أنزل الله على الرسل، فلا خوف عليهم، وأمورهم صالحة، معاشًا ومعادًا.
ولكن إذا اتبعوا الأهواء وانحرفوا عن سواء السبيل وأدخلوا الشهوات بينهم (..بَغْيًا ..(17))؛ دخل الحسد، والتطاول على الرئاسة، اختلفوا (..فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا..) -حسدًا- (..بَيْنَهُمْ ..(17)).
قال الله لهؤلاء والذين قبلهم والذين من بعدهم: يوم المحكمة مقبل على الكل، (..إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)) وهو أعلم بنية كل واحد، ومقصد كل واحد، وغرض كل واحد، وإرادة كل واحد، وماذا يحيك في نفسه؟ وماذا يرتّب في باطنه؟ هو داري به الرب سبحانه، (..إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)).
يقول الله: وتوالت الرسل؛ وأتباعهم ممّن صَدَق؛ وممّن كَذَب؛ وممّن انحرف؛ والآن جئت أنت يا خاتم (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ ..(18))، يعني: أوامر من الدين؛ أوامر ونواهي.
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ ..(18)) من هذا الدين:
فيها الوعد بالثواب لمن أطاع، والوعيد بالعقاب لمن عصى.
فيها حلال وحرام، واجب ومستحب، ومكروه ومحرّم ومباح.
نظام ربّاني ليحكم حركة الناس في الحياة.
(جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ) -من الدين- (..فَاتَّبِعْهَا ..(18))؛ فالفوز فيها، والنجاة فيها، والعز فيها، والشرف فيها، والخير فيها، صلاح المعاش فيها، وصلاح المعاد فيها، وإن غرّبوا أو شرّقوا أو وصلوا ما وصلوا، مع مخالفتها لن يجدوا صلاحًا ولا فلاحًا ولا نجاحًا إلا في هذه الشريعة، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ ..(18))، فالحمد لله على نعمة النبي محمّد، والإسلام والدين والشريعة التي جاء بها من الله، رزقنا الله تعظيم الشريعة، والعمل بالشريعة، وإقامة الشريعة على الوجه الذي يحبّه ويرضاه.
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) لا يعلمون حقيقة خلقهم، ولا مئابهم ومصيرهم، ولا عظمة خالقهم، مغترّون بأنفسهم وما أوتوا من مسمّى العلم الذي ليس بعلم حقيقة، (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [غافر:83-84]، حقنا العلم ذاك كذب ضائع ما هو بشيء! (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا..) [غافر:85] بعد ظهور القوة من الجبار ما يبقى شيء ينفع، من عند الغرغرة ما ينفع أحد إيمانه!
قال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18))، ومن العجيب انتحلوا ادّعاء العلم بجرأة وافتراء كبير! حتى صار كثير من عقليات المسلمين يظنّون أن العلم عند هؤلاء، ومرجعهم إلى ذلك شيء من المادّيات أو الأجهزة؛ وهذه شؤون مادية يستوي فيها البر والفاجر، لا مرجعها إلى كفرهم -والعياذ بالله- ولكن مرجعها إلى تسخير الجبّار -جلّ جلاله- ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه لنا، من مشى فيها ورتبها تأتيه نتائجها..
لكن أين العلم؟
أين العلم.. مَن خلقنا؟
أين العلم .. لماذا خلقنا؟
أين العلم ..إلى أين نصير؟
هذا العلم الأهم الأكبر الأعلى، الذي تجاهلوه تناسوه؛ وسبّوه وسبّوا أهله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وحثالات من المسلمين بل أعداد كبيرة تبعوهم، تخربطت عقولهم! ما كأنهم يقرؤون القرآن، ولا كأنهم سمعوا كلام من أُنزل عليه القرآن، وكيف بنى هذا الدين في قلوب وأرواح أولئك السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ليكونوا ممن اتّبعهم بإحسان، الله يجعلنا ممّن اتبعهم بإحسان، وقد جمعهم ربك، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ..) [التوبة:100]، اللهمّ اجعلنا منهم.
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ..(19))، قالوا له سيعطونك شيء أو يوظّفونك وظيفة؟! لن يدفعوا عنك عذاب الجبار، لن يمنعونك من دخول النار، لن يسترونك وقت ظهور الفضائح في يوم القيامة.
(لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا..)..وأنت في الدنيا لا يستطيعون إذا أصاب الله عينك بِداءٍ أن يدفعوه، أو أصاب بطنك بداء أن يدفعوه، أو زلزل على الأرض من تحتك أن يمنعوك منها، (إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ..(19))، إلا اختبار وامتحان في شيء أقدرهم عليه حقير يضرّ الكثير.
(إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ..(19))، ما يدفعون عنك ضر أراده بك، ولا يكشفونه، ولا يمنعون عنك خير أراده لك. (..إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ) [يس:23]، (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس:107].
يقول: (إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ..(19))؛
وَالظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ؛ يتعاونون على المنكرات، والمآثم، والاعتداء على الآخرين، وما إلى ذلك، ثم تنقطع ولايتهم لبعضهم البعض، وكثيرًا ما يتخالفون وهم في الدنيا، ويفضح بعضهم بعض، ويسبّ بعضهم بعض، ثم يرجعون إلى الحَكَم الحق وأنه لا فائدة في موالاة بعضهم لبعض.
لكن المتقين؛ (..وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19))، الله مولانا ولا مولى لهم للكفار والفجار. هم المتقون هؤلاء وليّهم الله، ملك السماء والأرض والدنيا والآخرة، ينصرهم؛ (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) [غافر:51].
إلى آخر ما يذكر ربنا ونتأمّله إن شاء الله فيما بقي من أيام الشهر الذي توالت علينا أيامه، وما بقي إلا أقلّه، الله يوفّر حظنا فيه، الله يوفّر حظنا فيه، من جوده وكرمه وإحسانه لمن يرتجيه، ويدخلنا فيمن يرتضيه، يا رب اجعله من أبرك الرمضانات علينا وعلى أمة حبيبك محمد ﷺ أجمعين وبارك لنا في آخره وما بقي، وليلتنا هذه المقبلة ليلة السابع عشر، التي كانت صبيحتها يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، اجعل لنا فيها قربًا منك، اجعل لنا فيها فهمًا عنك، اجعل لنا فيها إنابةً إليك، اجعل لنا فيها سرايةً لما نوّرت به قلوب أتباع حبيبنا محمد من أهل بدر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، نوّر قلوبنا بما نوّرت به تلك القلوب، واهدنا لما هديت له أولئك الأقوام، ولا تفرّق بيننا وبينهم في يوم الحشر والقيام، ولا في دار الكرامة والسلام، برحمتك يا ذا الجلال والإكرام يا كريم يا منان.
يا الله .. يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين اجعل بواقي ليالي رمضان سلالم نرتقي فيها إلى مراتب القرب والرضوان، وواسع الفضل والامتنان، وادفع عنّا كيد النفس والهوى والشيطان، وخلّص أمة النبي محمد من البلايا والرزايا في السِرّ والإعلان، يا محوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجهّال واختم لنا بأكمل حسنى وأنت راضٍ عنّا.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
16 رَمضان 1445