شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -9- أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى (8)

الدرس التاسع من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، تتمة شرح أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى، الجزء الثامن.
فجر الثلاثاء 4 شوال 1439 هـ.
تتمة أدب المؤمِن بَين يَدي الله تعالى
"ودوام التوبة خوف الإصرار، ودوام التصديق بما غاب، ووجل القلب عند الذكر، وزيادة الأنوار عند الوعظ، واستشعار التوكل عند الفاقة، وإخراج الصدقة من غير بخلٍ مع الإمكان".
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا ببيان الآداب، والموفّق لها من شاء له الاقتراب، وصلى الله وسلم وبارك وكرّم على عبده الذي تولّى بنفسه تأديبه، وجعله صفوته ومصطفاه وحبيبه، سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار الذين نالوا تزكيته وتهذيبه، فتَزكّوا وتَهذّبوا وبِآدابه تأدّبوا، فكانوا أنجمًا لدين الله والدلالة عليه بين البريّة، وعلى من تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الحكم في القضية، وعلى آبائه وإخوانه من المرسلين والأنبياء سادة أهل المراتب العليّة، وآلهم وصحبهم والملائكة المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويحدّثنا الشيخ -عليه رحمة الله- عن أدب كل فردٍ منّا بين يديّ ربه، كيف يكون حاله ووصفه؟ وبما يتحلّى وهو يُرى ويُنظر ويُطلَع عليه من قِبل إلٓهه العلي الأعلم.
وذكر: "دوام التوبة"؛ وهي: نتيجة معرفة خطر الذنب والمعصية والتقصير، وسوء عاقبته ومصيره، وينتج عن ذلك خوف المصير والعاقبة، فيحمل ذلك على الإقلاع، وعلى الندم الصادق على ما صدر، وعلى العزم الصادق ألّا يعود إلى المعصية.
ثم إننا ذكرنا اتساع مجالات التوبة؛ وأنها تكون من الكفر والشرك، ثم تكون من كبائر الذنوب وصغائرها، ثم تكون التوبة من ترك المندوبات أو الوقوع في المكروهات، والتوبة من الشبهات، والتوبة من فضول الحلال، إلى غير ذلك من شؤون التوبة الذي إذا فُتحت ومُنحت لم يبق لها نهاية. ولذا كان من أعظم التوابين المعصومون من الأنبياء والمرسلين المعصومين من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، هم أعظم التوابين إلى الله وسيدهم يقول لنا: "فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة" صلوات ربي وسلمه عليه، وجاء في لفظٍ " إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، فأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَومِ والليلَة سَبعين مرة أو فأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم والليلة سبعين مَرَّةٍ". ولما رآه بعض الصالحين يقول: يا رسول الله إنك قلت إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم… وقال: نعم غين أنوار لا غين أغيار، يا موفّق! غين أنوارٍ، تزاحم الأنوار الأجلى والأجلى.. والأصفى والأصفى، فهذا هو الغين الذي أشار إليه ﷺ وأنه المترقي على الدوام في الدرجات العُلا، فَتحدُث الاستغفار والتوبة كلما بلغ رتبة من الرتب وارتقى إليها، لِما يرى من قصور التي قبلها عنها أو دونها، وهي مراتب شريفة وأحوال عظيمة منيفة.
"ودوام التوبة"؛ فنحتاج إلى أن نُديم التوبة، كما نحتاج إلى أن نديم الصلاة، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[المعارج:22-23] والمعنى علينا أن نجتهد أن معاني الصلاة تستقرّ في قلوبنا حتى نكون في خارج الصلاة ومعاني الصلاة حاضرة معنا. فقلوبنا ساجدة وراكعة وماثلة بين يديّ مولاها أبدًا، ونحن كما ذكر الإمام الغزالي في الستة المعاني للخشوع، أنها انتظام سِتَة معاني:
-
حضور القلب
-
وتدبّر المعنى
-
والتعظيم
-
والهيبة
-
والرجاء
-
والحياء
فإن هذه الستة المعاني إذا انتظمت فهي الخشوع. (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1-2]
-
فمن لم يكن حاضر القلب فليس بخاشع
-
ومن كان حاضر القلب ولا يتدبر المعاني ليس بخاشع
-
ومن كان حاضر القلب ويتدبّر المعاني من غير تعظيمٍ فليس بخاشع
-
ومن كان يحضر قلبه ويتدبّر المعاني وهو معظّم وتنقص هيبته وخوفه أن يرد فلا يقع في باله أنه ربما يُرَد أو يُعرَض عنه أصلًا؛ كالآمن من مكر الله ليس بخاشع
-
ومن كان مع ذلك لا يرجو أن يُقبل ولا أن يُتفضّل عليه فليس بخاشع؛ فلابد أن يهاب وأن يرجو، فالهيبة خوف منشأه التعظيم، يهاب ثم يرجو
-
ومن كان معه كل ذلك ولا يستشعر تقصيره وأنه لم يقم بالأمر كما ينبغي، فليس عنده حياء فليس بخاشع
ولكن إذا اجتمعت هذه الست المعاني كان خاشعًا. فإذا كان الأمر كذلك فكما قال الإمام الغزالي ليس هذا خاص بالصلاة؛ هو عند أرباب القلوب مصاحبًا لهم في أوقاتهم فَهُم في كل وقت حَاضرة قلوبهم متأمّلين المعاني، يقرؤون قرآن الوحي، وقرآن الكون، يقرؤون القرآن المتلو والقرآن المرئي والقرآن المسموع والقرآن المشموم والقرآن المطعوم والقرآن المحسوس، يقرؤون كل هذه المعاني، وهم يتأملون المعاني وهم يعظّمون الرب جل جلاله.
قال سيّدهم: "إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد". فهو في وقت أكله في قلبه تعظيم لمولاه جل جلاله. قال سيدنا الخليل إبراهيم: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)؛ أنا آكل وأشرب وأنا معه حاضر أشهد أنه هو الذي يُطعم وهو الذي يَسقي جلّ جلاله وتعالى في علاه (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:79]، وهم مع هذا التعظيم أعظم الناس هيبة للرحمن وخوف منه، وهم مع هذا كله أكبر الخلق رجاء في الله، وهم مع ذلك كله أشد الخلق حياءً إلى حد أن يقول الأطهر المعصوم سيدهم: "لو يُؤاخذْني اللهُ وابنَ مريمَ بما جنَتْ هاتانِ - يعني الإبهامَ والتي تليها - لعذَّبَنا، ثم لم يظلِمْنا" جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وقد تأمل الصحابة حالة حيائه، فقالوا: "كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها" ﷺ. فهم موجود عندهم هذه المعاني حتى خارج الصلاة، في الذكر، وفي القراءة، بل حتى عند أكلهم وشربهم وقيامهم وقعودهم؛ فَهُم في صلاة دائمة، دائمون على الصلاة، دائمون على الخشوع، وقد أفلحوا.. وقد قال سيدنا عبد الله بن مسعود: إن أول عِلم يُنزع من الأمة الخشوع، حتى لا تكاد تجد خاشعُا! وقد صدق.. وقد تجمّعت أعداد من هذه الأمة في أماكن كثيرة وأزمنة كثيرة ما تجد فيهم خاشعًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى- من منسوب إلى علم، ومن منسوب إلى عبادة، ومن منسوب حتى إلى جهاد ولا فيهم خاشع، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون! فهو علم عظيم شريف، كبير رفيع، (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ).
قال: "دوام التوبة"، فينبغي أن نستديم التوبة، ونخشى الإصرار على أيّ تقصير، وعلى أيّ غفلة، وعلى أيّ صغيرة من الصغائر، وعلى أي إهمال، وعلى أي تقديم مهمٍ على أهم منه، على أي عدم مراعاة الآداب وإنزال الأشياء منزلها، فنستديم على التوبة حتى لا نُصِرّ على شيءٍ من ذلك، الذي لا ندري بأنفسنا إلا وقعنا فيه فلا نُصِرّ، ونرجع، نحاسب، ونراجع حساباتنا، ونقوّم وجهات قلوبنا ونياتنا مرة بعد الثانية، وقد قال بعض الصادقين المخلصين: لي عشرين سنة ما كان أشد عليّ في المجاهدة من النية، ما لك أنت والنية؟ قال: تتغيّر بسرعة، تقومها، وبعد مدة تعرض، تنحرف، يطرأ عليها، قال: أنا لي عشرين سنة مجاهد في النية، إخلاصها لوجه الرب، ودوامها على الصدق مع الله، لا إله إلا الله!
"ودوام التوبة خوف الإصرار، ودوام التصديق بما غاب"، واستشعار ما أُمرنا بالإيمان به من الغيب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة:3] ودوام التصديق بذلك، دوام استشعاره واستحضاره، كما تسمع قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون:57-60]. فلما يكون عندنا دوام التذكّر، يقوى هذا التصديق، حتى نصير في إيماننا بما أُمرنا به بالإيمان به من الغيب كأننا نراه وكأننا نشاهده، فإن غيبة ذلك عن الذهن والغفلة عنه، يُضعِف التصديق به، يضعف الإيمان، ويضعف التفاعل مع هذا الإيمان، حتى يقوى الضعف في الإيمان ويتعرض الإنسان لكثير من الخسران، فلا بدّ من تذكّر الأمر.
ولهذا يقول الصحابة لسيدنا المصطفى: إننا نكون بين يديك تذكرنا الجنة والنار -هذا مما أُمِروا بالإيمان به من الغيب- حتى كأننا نراها رأي عين؛ أي: ينزل علينا من إفاضات نور اليقين في مجلسك ما كأننا نشاهد الأمر مشاهدة عيانًا، فإذا غبنا عنك نازَلنا ما نازَلنا قال: لو تدومون على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعةً فساعة. لا إله إلا الله… ولولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات، فالغفلة عن ذاك اليوم وعن الغيب الذي أُمرنا بالإيمان به، الغفلة عن صفات الله، الغفلة عن ملائكة الله، الغفلة عن البرازخ والقبور، الغفلة عن البعث والنشور، الغفلة عن الجنة، الغفلة عن النار؛ أسباب ضعف الإيمان، ولهذا كرر الله سبحانه ذكرها في كتابه كثيرًا كثيرًا كثيرًا، والكتاب كله ذكر ملائكة وأنبياء وموت وقيامة وجنة ونار وأكثره كذلك.
فتَذكر هذا يقوّي التصديق به، حتى يرتقي من الإيمان إلى علم اليقين إلى عين اليقين، والخاصة من الأنبياء وخواصّ الأولياء يرتقون مرتبة حق اليقين.
ونجد القرآن الكريم يذكر لنا أن مما يُعاتَب به أهل النار والعذاب في الآخرة ويُعابون عليه، نسيانهم لهذا المصير، نسيانهم لهذا الغيب، (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [السجدة:14]، (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص:26]. فتكررت الآيات في هذا المعنى هذا الذي نسيتموه، هذا الذي كذبتم به، هذا الذي أعرضتم عنه، خذوه الآن، أعوذ بالله من غضب الله!
فمن أدبنا مع الله "دوام التصديق بما غاب"، بتذكر ما أمرنا بالإيمان به من الغيوب، وأحوالها وأوصافها وما قَصّ الله ورسوله علينا منها، فكل ذلك ينفعنا ويرفعنا وينوّرنا ويطهرنا ويفيدنا، فالغفلة عن ذلك مصيبة، قال عنها تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ) تذكير بأمر الغيب هذا (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)[الأنبياء:1-2] إيش نوع لعبهم؟ قال: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء:3]. لا إله إلا الله…
يقول: "دوام التصديق بما غاب"، والموت أقرب غائب يُنتظر، وكل آتٍ فهو قريب؛ بما أنه سيأتي فهو قريب مهما كان الأمر، يقول سيدنا أبو بكر الصديق:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ *** والمَوْتُ أدْنَى مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ
بل جاء في الخبر: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك"؛ ما بينه وبين الجنة إلا أن يموت على الحالة الحسنة، ولا بينه وبين النار إلا أن يموت على الحالة السيئة، فهي أقرب من شِراك النعل. يالله بها يالله بها يالله بحسن الخاتمة، ارزقنا كمال الإيمان والتصديق بكل ما أمرتنا أن نؤمن به من الغيب يا رب العالمين.
"دوام التصديق بما غاب"، وكان سيدنا عثمان بن عفان شديد الحياء، وإذا أراد أن يدخل الخلاء لقضاء الحاجة يفرش رداءه ويقول للملكين هاهُنا فاقعدا أكرمكم الله، ويدخل إلى قضاء الحاجة ويخرج ويحمل الرداء، يستشعر وجودهم ويفرش لهم رداءه، هذا إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وهكذا؛ "دوام التصديق بما غاب". ولَما كان ذلك الغيب الذي يدعوهم ﷺ إلى الإيمان به بالنسبة له مرئيًا بالقلب والبصيرة مشاهَدًا، قال لهم الحق: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ)[النجم:12]؛ تمارونه وتجادلونه في شيء يراه بعينه؟ شيء يشاهده بعينه تريدونه أن يتخلى عنه! هل يصدقكم على باطلكم وكذبكم ويداهنكم؟ (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ) فإنه هو يرى -صلوات ربي وسلامه عليه- حتى يُروى إنه لأعرف بمنازل أمّته في الجنة، (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ).
يقول: "ووجل القلب عند الذكر"، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) نتيجة المعرفة، نتيجة الهيبة، نتيجة الرجاء، نتيجة الحياء؛ وَجَل، (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وذكر: "وزيادة الأنوار عند الوعظ"، (وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال:2-4]؛ هذا الوَجَل هو الموصل إلى حقائق الطمأنينة وغاياتها؛ لأن الوجل من الإله الحق، فيه:
-
اللجوء إليه والركون عليه والاستناد إليه واللياذ به
-
وفيه أمنهم وفيه كل طمأنينتهم إذ لجأوا إلى من بيده الأمر
فلذا ذكر الله الوجل في القلوب والطمأنينة عند ذكره، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28]؛ لأنه بهذا الذكر تنجلي الحقيقة وبهذا الذكر يتم صدق اللجأ إلى رب الخليقة، وحينئذٍ يتم الاستمساك بالعروة الوثيقة، فالطمأنينة كلها هناك، (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
ولذا ارتبطت كل معاني الأمن في القيامة بمعاني الخوف في الدنيا، وعلى قدر الخوف يكون الأمن، وعلى قدر ما تخافه يؤمّنك جلّ جلاله، وكذلك كلما وجل قلبك بذكره اطمأن بذكره، يقول: "ووجل القلب عند الذكر"، فيبعد عن هذا الأدب:
-
من تَصحبه الغفلة وقت ذكر وعند سماعه لذكر الله.
-
ومن يتمادى في ضحكه أو لهوه أو لعبه.
-
ومن يجادل عباد الله، بدل ما يوجل قلبه ويطمئن إذا به يجادل وينتقد!
(إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، وأنت إذا ذكر الله طولت لسانك وفكيت انتقادك على خلق الله، ما هذا وصف المؤمنين يا هذا!! إذا سمعت ذكره أين الوجل أين الطمأنينة؟ وإذا ذكر الله سبّوا خلق الله؟!.. (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ).
بالوصف المقابل وصف الله المشركين والكفار: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)[الصافات:35] وإذا سمعك تهلل يستكبر، إن سمعك تسبّح يستكبر، إن سمعك تكبّر يستكبر، إن سمعك تحمد يستكبر، ما لك هكذا؟ يقول لك: أنت مبتدع وأنا على السنة!! (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) يا هذا! عاد علامة الإيمان ليست عندك بعد حتى تكون على السنة!.. أوّل حقق الإيمان حتى تكون من أهل السنة، إذا تسمع ذكر الله تستكبر، تستمع ذكر الله تسب وتشتم! (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). وهكذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الحج:34-35]، بشّرهم.. يتعلق قلبه بالصلاة ويحب الصلاة ويرتاح بالصلاة، وإذا أصابه أي شيء يصبر، وإذا ذكر ربه وجل هذا مخبت وله بشارة من رب العرش، حملها الزين الوجود يزفّها إليه، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
فإن هذا مِن الذي يسمع ذكر الله فلا يوجل، ولا يصبر على ما أصابه، وإذا أحد قال له كلمة رد عليه بعَشَر، وَهُوَ والصلاة في مهادّة… صورة بلا روح، والإنفاق صعب عليه، فلا هو من المخبتين ولا تصلح له البشارة.. والدعوى كثير واللسان طويل، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون! اللهم أصلح قلوبنا والمسلمين واجعلنا من المخبتين المنيبين.
"وَجَل القلب عند الذكر، وزيادة الأنوار عند الوعظ"؛
-
فإن المؤمن إذا وَعَظ تلطّف، وإذا وُعِظ قَبِل.
-
والمنافق إذا وَعَظ عَنّف وإذا وُعِظ أنِف.
فاحذر أن يقرب وصفك من وصف المنافقين، إذا أحد وعظك تقول له أنت بتعلمنا أو إيش؟! أعرف هذا من قبلك، إلى غير ذلك، إذا وعظك أحد اقِبل.. وإذا وَعَظت لا تعنف وتشدد وتُسب، انظر كيف كان يعظ ﷺ، انظر كيف كان يعظ أصحابه الكرام، وهذه علامة المنافق والمتكبر إذا وعَظ عنّف وإذا وُعِظ أنِف، وقال الله في وصف طائفة من الخاسرين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ)[البقرة:206]، نعوذ بالله من غضب الله.
وكان الحبيب أحمد بن حسن العطاس يصلي بعض النوافل في جامع شبام، وجاء شخص لا يعرف من هذا، وجاء إلى عند الحبيب، فقال له بعد أن سلم: انظر الصلاة حقك باطلة! وقال له: جزاك الله خير.. ما الذي لاحظته؟ قال له: تأتي بأذكار كثيرة وترفع صوتك، ولا أدري ما الذي تقوله وما الذي تفعله، لا تعمل كذا، رد عليه : مرحبا، قال له: كيف أعمل؟ قال له: كذا كذا، وصل الخبر للناس أن هذا العالم والإمام العارف قدم البلد وهو في الجامع، أقبلوا الناس، أقبلوا يقبّلونه ويجلسون بين يديه، سأل: من هذا؟ قالوا هذا الإمام أحمد بن حسن وهو يعرف اسمه ما يعرف شكله، قال: هذا العالم الولي العارف، أنا صلّحت نفسي عالم فوقه وأعلمه، ومع ذلك قال لي مرحبا وسمع الكلام مني ولا رد عليّ وهو أعلم مني وأعرف!.. فجاء إلى عنده يبكي قال: العفو يا حبيب أنا ما عرفتك، قال: لا، أنت ما صلحت شيء أنت علمتنا جزاك الله خير، قال: علمتك ماذا؟ أنت أعلم مني! قال: لا، ما كان قصدك إلا الخير وبارك الله فيك وأحسن الله إليك.
وإذا واحد عالم جاء حد يقول له الصلاة حقك فيها ولا فيها.. ماذا سيقول؟ حتى لو ما كان عالِم… ولكن هذا قال مرحبا، قال علمنا كيف؟ إيش اللي لحظته في صلاتي علمنا، لا إله إلا الله…
قال: "زيادة الأنوار عند المواعظ"؛ نور الإيمان واليقين، قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات:55] هذا لما وصل بعض الصلحاء أيضًا من هنا إلى شرق آسيا وفي بعض المجالس قالوا له: قُم ذكر الناس، قال: أنا ما اعتدت للتذكير والوعظ، قالوا: نريد يرون وجهك والنور الذي عليك، فقم قل أي كلمة، فاستقام قائم وقال لهم: إن الله تعالى يقول: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فكل من لم يحسّ النفع بالذكرى فليتنبّه لنفسه؛ ومعنى الكلام ما هو من المؤمنين هذا، وجلس وفاضت الخشية على الناس، فترجموا لهم معنى الكلمة التي قالها وهي كلمة وحدة.
وهكذا قال محمد بن صالح المحضار عليه رحمة الله: أنه في سنة 1361 هجرية في مكة المكرمة، دعا مجموعة من الوافدين للحج من العلماء من مختلف الأقطار ليقرأون المولد الشريف، فجاءوا عنده وحضروا في المجمع جماعة من العلماء من مختلف الأقطار، وتكلموا واحد بعد الثاني، وأفاضوا إفاضات، وكان جالس بينهم الحبيب عبد الله بن طاهر الحداد، صاحب رباط قيدون، ساكت، قالوا له: قُم نريد منك تتكلم، قال: تكلم أخواننا من الحرمين ومن الشام ومن مصر ومن المغرب ومن اليمن بعضهم يكفي، يقول له بعض علماء مصر بجانبه: من بيتكم خرجت الدعوة يا سيّد، فانتصب قائم، فلما انتصب قائم خشعت القلوب، قال رفع يديه فقرأ الدعاء: اللهم اهدنا فيمن هديت… دعاء القنوت، فضجّ المجلس بالبكاء وجلس، فقام هذا العالم المصري يقول: أفضنا في آلام المسلمين وآمالهم وما حصلت هذه الرقة ولا هذا الخشوع، ولما قام هذا السيد يأتي لنا بكلام كلنا نحفظه وكلنا نسمعه، كل يوم نقرأ به، فلما نطق به، حرّك قلوبنا ونزلت الخشية علينا!.. هكذا كلامهم، هذا علم الوراثة، هذا كلام العارفين، هذه الدلالة على الله تبارك وتعالى، لا إله إلا الله.
"وزيادة الأنوار عند الوعظ"، وقد سمعتم قول من يقول من أهل الحكمة: أليس المريض إذا مُنع الطعام والشراب و الدواء ثلاث أيام يموت؟ قالوا: بلى، قال: القلب إذا مُنع الحكمة ثلاث أيام يموت! تمر عليه ثلاث أيام ما له مجلس علم ولا ذكر ولا وعظ ولا تذكير بالله تعالى سيموت قلبه، فيحتاج المؤمن يرتب لنفسه في خلال الأسبوع، في خلال الأيام التي تمر عليه؛ مجلس من مجالس الذكر، من مجالس العلم. وهكذا كان الصلحاء في مختلف البلدان، كما عندكم في الوادي وفي مختلف الأقطار يرتبون أيام الأسبوع، في اليوم الواحد في عواصم العلم هذه من الخير في الشام وفي مصر وفي المغرب وغيرها، تجد في اليوم الواحد كذا كذا مجلس معقود للعامة و للخاصة، شيء في الصبح، شيء في الظهر، شيء في الليل، ودروس للناس أسبوعية وغير ذلك، وكما ترونه في مدن الوادي فيما مضى بل في القرى.. نشهد بعض القرى هنا، يوم السبت في المسجد الفلاني، يوم الأحد في المسجد الفلاني، يوم الاثنين في الزاوية الفلانية، يوم الأربعاء عند المقبرة الفلانية، يوم الخميس… كل يوم مرتب ترتيب، حتى لعوام القرى، يذكرون الله ويتَذاكرون ويسمعون التذكير بما قال الله وقال الرسول ﷺ وأخبار الغيب، فامتلأت القلوب إيمان واستقامت الأبدان على التقوى، ولكن لمّا قصروا في هذا ونسوا هذا…
يقول: "وزيادة الأنوار عند الوعظ، واستشعار التوكل عند الفاقة"؛ عند كل شدة عند كل كربة عند كل حاجة، يستشعر أنه متوكل على قويّ غني مليك قادر، يطمئن.. لا إله إلا الله. فما عنده تَعلِيقُ الآمال بالخلق، ولا يأس من كرم الخالق أبدًا، وعنده إقبَالهم وإدبَارهم سواء، وأن الذي ينقذ في الفاقات ويقضي الحاجات ويكشف الشدائد والكربات رب الأرض والسماوات، وجميع من في الأرض والسماء دونه -سبحانه وتعالى- لو أرادوا تحريك ذره ما قدروا على تحريكها إلا بأمره، ولو أرادوا تسكين ذره ما قدروا أن يسكّنوها إلا بأمره. (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَۚ) ولا أثبتوا، ولا قتلوا، ولا أخرجوا، وذهب مكرهم كله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال:30] جل جلاله وتعالى في علاه.
بل كانوا السبب في الإذن لك بالخروج إلى حيث تتم النصرة، هم باجتماعهم هذا وتخطيطهم تسببوا في أن تأخذ الإذن ووصولك إلى المكان الذي فيه تتم نصرتك وينتشر دينك فهم بخطتِهم خدموك، كيف؟! (وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ)[فاطر:10]. يقول: "استشعار التوكل عند الفاقة، وإخراج الصدقة من غير بخل مع الإمكان" مهما أمكنه أن يتصدّق ويُخرج الصدقة وهو فَرِح مستبشر مطمئن حامدًا لله الذي وفقه لها. ولذا وَجِل مرة سيدنا علي وخاف واهتمّ، قيل له: ما لك؟ قال: مضى عليّ أسبوع ما دخل عندي ضيف أخشى أن الله غَضِب عليّ.
وهكذا؛ صفات تمتد في الأخيار من الأمة، إلى هذا العهد القريب الذي توفي عندكم، كان أكثر أوقاته ما يطيب له الأكل إلا مع ضيف، -بعض الذين كانوا في عينات من المناصب- ما يأكل إلا مع ضيف لا غداء ولا عشاء ولا فطور، ما يقدر يأكل إلا مع ضيف وإلا ما أكل، لا يأكل إلا مع ضيف طول عمره. وفي الحديث: إن الله يستحي أن يحاسب عبده على ما أكله مع الضيف. الذين يأكلونه مع الضيوف يستحي أن يحاسبهم، ما يحاسبهم عليه، فهكذا كانوا.
يقول سيدنا سعد بن معاذ لحبيب الرحمن: "والذي تأخذ أحب إلينا من الذي تترك"؛ الذي تأخذه من أموالنا أحب إلينا؛ أحسن عندنا الذي تأخذه، تنفقه، لا الذي تتركه لنا. قال: يا معشر الأنصار هذا أول غنيمة جاءت إن شئتم قسمتها بينكم وبين المهاجرين، وإن شئتم خصّصت بها المهاجرين وردّوا إليكم ما أعطيْتموهم من أموالكم قالوا: يا رسول الله خصّصها للمهاجرين ولا يردّون علينا شيء ممّا أعطيناهم هو لهم وهذا لهم.
رأيت الأنصار كيف هم؟ الله أكبر! وأثنى الرب عليهم، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) قل: فما نزل مهاجريٌّ في بيت أنصاري إلا بقرعة، لا أن من يده يأخذه عنده، يتقارعون بينهم الذي تنزل عند القرعة يأخذه عنده، فما نزل مهاجري في بيت أنصاري إلا بقرعة، من تسابقهم عليهم. والآن الناس عندنا كلما حصلت نكبة في محل وجاءوا منكوبين زادوا عليهم الأسعار ويغلّون الإيجار! يا جماعة… إذا كانوا مساكين منكوبين وجاؤوا في شدة إذا ما نقّصتوا لا تزيدوا، وإذا ما شابهتوا الأنصار لا تكونوا عكسهم وضد، اقربوا قليل منهم، إذا الناس تعبوا نزحوا من مكان أو جاءوا مكان فالواجب تساعدونهم بما تستطيعون، تخفّفون عليهم ولا تأخذونها فرصة، صاحب المحل يغلّي محله، صاحب السكن يغلّي سكنه.. لماذا؟ أين فرص الآخرة؟ أين تجارة الآخرة؟ خذ من هذا وهذا، ورتب نفسك ترتيب حسن.
ويقول ﷺ: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطّى الصدقة" عندما تخرج الصدقة ما يصيبك البلاء في اليوم هذا. وكان بعض الأئمة في مسجد طه في سيؤون يخرج آخر الليل للمسجد، وقبله يضع مد من الطعام في الرف ويقول لهم أول ما تقومون عند صلاة الفجر باشروا بإخراج هذا أول النهار، استمر على ذلك مدة، يوم وهو في المسجد جاءوا له بعد الصلاة قالوا له: إن واحد من أولادك سقط عنده كُسر وكم شيء.. قال: ما أخرجتم الطعام؟ قالوا له: اليوم غفلنا عنه بنخرّجه الآن.. قال: هو هذا، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة؛ تنبيه لنا من الله، البلاء ما يتخطى الصدقة لكن أخّرتوا الصدقة وجاء البلاء، الآن انتبهوا ثاني يوم، أنا سأكمل أذكاري ومجلسي إلى بعد الإشراق وأجيء أشوف الولد.. لا إله إلا الله!
وكانوا حريصين على الصدقة، وكان بعضهم من الصحابة يسّر الله له مال، فأنفق ألف بالليل، وألف بالنهار، وألف في السر، وألف في العلانية؛ علم بذلك بعض الصحابة مثل سيدنا علي وغيره لا شيء عندهم، جمع أربع دراهم؛ درهم بالليل، درهم بالنهار، درهم في السر، درهم في العلانية، فأنزل الله آية واحدة لهم كلهم: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:274] الذي أنفق القليل، والذي أنفق الكثير، هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون.
وجاء بعض أهل العلم من أهل العمودي إلى عند الإمام أبو بكر العدني في عدن فقال لهم: انظروا الدرج الذي طلع عليها كم درج طلع عليها حتى يجلس عندنا؟ قالوا: خمسين درجة، قال: اذبحوا خمسين رأس غنم إكرامًا له ، ذبحوا قال: إيش يحب هذا من الغنم؟ قالوا: كانوا يحب القلب، قال: اجمعوا القلوب له في الطست بعد الطبخ، فلما قدّموه شاف هذا كثير فأخذ يقول هذا إسراف! إلتفت إليه قال: أكرمنا العلم قالوا إسراف! لا شيء من هذا يضيع ولا نرمي به، كل هذا يذهب إلى المحتاجين للفقراء ولا يبقى منه حبة، قال: أستغفر الله هذا خاطر سوء عندي.. لكن لو جئت إلى تريم تجد أخي حسين بن عبدالله العيدروس أكرم مني، قال: عاد هناك كرم فوق هذا؟ وصل هناك وقالوا له أين تنزل؟ قال: عند الشيخ حسين بن عبدالله قالوا هذا إنسان فقير… راح إلى عنده، جاء وقت الغداء، جاء له بقرص من الخبز قسمه قسمين، أعطاه نصف وأكل نصفه، وأعطاه عليه قهوة بس قال في نفسه: يمكن الآن لأننا وصلنا، يمكن في الليل.. وجاء في الليل وحصّل مثل هذا، فتعجّب؟ قال له: في إيش تتعجب؟! قال: أخوك أبو بكر في عدن عمل كذا وكذا قال: صدق، قال: كيف؟ قال: أخوي أبو بكر فتح الله عليه كل يوم يأتيه مئات من رؤوس الأغنام ذبيحة وأنا الذي في بيتي كله ما أملكه من الطعام هذا القرص، ما عندي غيره؛ أعطيتك نصف ملكي وهو ما أعطاك حتى ربع ملكه ولا عُشر ملكه وأنا أعطيتك نصف ملكي، فلهذا قال لك أكرم مني، قال: إذًا أحوالكم هكذا! لا إله إلا الله…
الله يكرمنا بحسن الآداب، عسى بحسن الأداب نرقى إلى أعلى الرتب، ويكرمنا الله وإياكم بقربه، ويكرمنا الله وإياكم بحبّه، ويكرمنا الله وإياكم بمصَافاته، يكرمنا الله وإياكم بشهوده بمرآة حبيبه ﷺ، يجعل لنا من كل ذلك سر الإحسان، أن نعبده كأننا نراه في كل شأن، وأن يفيض علينا فائضات الإمتنان، ويرزقنا استثمار بضاعة رمضان على مدى الأيام والليالي إن شاء الله في السر والإعلان، نزداد بها إيمانًا، ونزداد بها يقينًا ونزداد بها أدبًا مع ربنا في سِرّنا وعلانيتنا، ونزداد بها متابعة لحبيبه، ونزداد بها محبة، ونزداد بها قربة، ويكشف الله عنا وعن الأمة كل كربة، اللهم اقبلنا وإياهم، انظر إلى الحاضرين والسامعين، نظرة من عندك تربطنا وإياهم بها بعبدك الأمين، ربطًا لا ينفك ولا ينحل أبد الآبدين يا مكرم يا أكرم الأكرمين، بوجاهته وقربه عندك، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
04 شوّال 1439