شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -8- أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى (7)

الدرس الثامن من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، متابعة شرح أدب المؤمن بين يديّ الله تعالى، الجزء السابع.
فجر الإثنين 3 شوال 1439 هـ.
متابعة أدب المؤمِن بَين يَدي الله تعالى
"ودوام الهيبة، واستشعار الحياء، واستعمال الخوف، والسكون ثقة بالضمان، والتوكل معرفة بحسن الاختيار، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وارتعاش القلب خوف فوت الفرض، ودوام التوبة خوف الإصرار".
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا ببعثة من أدّبه فأحسن تأديبه، وأمره أن يؤدّبنا فأحسن التأديب، وأيّ تأديبٍ يفوق تأديبه؟ وأي تهذيبٍ يفوق تهذيبه؟.. فأدِم اللهم منك الصلوات الساميات الزاكيات العليّات الربّانيات الرحمانيات الأبديات على هذا العبد الذي حلّيته بجميل الصفات، ورفعته أعلى الدرجات، وجعلته عندك أكرم أهل الأرض والسماوات، وعلى آله الذين حازوا منهم شريف الطهارات، وأصحابه الذين اقتبسوا منه الأنوار الساطعات، وعلى من سار في دربهم فكان بينهم وبينه حميد الصلات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رفعتَ لهم الدرجات، وعلى آلهم وأصحابهم والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويذكّرنا الإمام -عليه رحمة الله- بآدابنا مع مولانا -تعالى في علاه- وكيف نكون ونحن بين يديه وتحت نظره حيثما كنّا وأينما كنّا. وكان من دعاء بعض أكابر أهل المعرفة في هذا الوادي، وهو الإمام علي الحبشي، قوله: اللهم إنّا في قبضتك حيثما كنّا، فلاحِظنا بعين عنايتك حيثما كنّا، اللهم إنّا في قبضتك أينما كنا فلاحِظنا بعين عنايتك أينما كنّا ،اللهم إنّا في قبضتك حيثما كنا وأينما كنا فاجعلنا في رحمتك حيثما كنّا وأينما كنّا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وذكّرنا فيما سبق بـ: "دوام الهيبة، واستشعار الحياء"، واستشعار الحياء هو الذي يُثمر الهيبة، واستشعار الحياء تعظيمٌ للرب -جلّ جلاله- وشعورٌ بالتقصير في جنب الله سبحانه وتعالى. وعلى قدر تمكّن الحياء يُكرَم قلب المؤمن بنور الهيبة من الملك الأعلى، وهو علامة السعادة، وعلامة القرب من هذا الإله أن يعيش العبد مهتابًا لمولاه -جلّ جلاله-؛ يشعر بعظمته وجلاله وكبريائه؛ وفي ذلك فتح معانٍ واسعات من القرب والعطاء الواسع. وبواسطة الحياء الذي ينتاب قلب العبد، فيستشعر تقصيره في جنب الله ويحصل الانكسار؛ وإذا حصل الانكسار كان الله عند ذلك العبد صاحب القلب المنكسر من أجله -جلّ جلاله- وأكرمه من تلك الهيبة بما يقتضي ارتفاع الرتبة، وعلى قدر قوة ذلك؛ يقوى الخوف ويقوى الرجاء.
يقول: "واستشعار الحياء"، قال نبينا لصحبه الأكرمين: استَحْيُوا من اللهِ ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كلنا يستحي، قال: ليس ذاكم؛ من استحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ، فليحفَظِ الرَّأسَ وما وعى، والبطنَ وما حوى، وليذكُرِ الموتَ والبِلَى. فهذه مظاهر وعلائم الحياء من الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وذكر مرة ﷺ من صفات الله ما يكون من مراعاته لبعض عباده، والمراعاة في بعض المواطن والمواقف قد يُعبَّر عنها بالحياء فقال: إن الله يستحي من عبده إذا كبرت سِنّه في الإسلام.. ثم بكى ﷺ قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي ممن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله! كبُر سنّه في الإسلام ولا يزال يلوي على المعاصي والترّهات -والعياذ بالله- وقد تعرّض لأن يستحيا الله منه وهو لا يستحي من الله جل جلاله وتعالى في علاه.
قال: "واستشعار الحياء، واستعمال الخوف" وهو من نتائج المعرفة أيضًا، وإذا قويَ الخوف على القلب أثمر الغَيبة عن ما حوالي الإنسان من هذا الوجود، واضطرب، تيهًا بعظمة الملك المعبود سبحانه.
ولذا قالوا: أن الخوف يثمر السُّكر، وأرادوا بالسُّكرِ: سقوط الشعور بالكائنات والالتفات إليها، كما قال تعالى فيما يغلب على القلب فيُنسيك الأشياء من هول القيامة، (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ) بسبب ما اعتادوه في الحياة الدنيا من تعاطي شيء من المسكرات، ولكن غيّبهم عن كل شيء هذا الهول؛ (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2]، أجرنا اللهم من عذابك. وكذلك شهود الفضل العظيم يجعل الإنسان سكرانًا وما هو بسكران ولكن فضل الله عظيم.
يقول: "واستعمال الخوف"، وعلمنا أن أخشانا من الله أعرفنا به، وهو محمّد ﷺ، فهو أشد الخلق خشية من الرحمن.
ويقول: "والسكون ثقةً بالضمان"، ضمِن لك ما دام لك لحظة من عمرٍ أن ييسر لك القوام من الرزق فيها، فما يمكن أن توجد لمخلوق لحظة من العمر من دون قوام من الرزق ما يتعدّاه، لا بد له قوام
قد ضمِن تعالى بالرزق القوام *** ……………………
الرزق القوام؛ الذي يقوم ببدنه وحياته.
قد ضمن تعالى بالرزق القوام *** في الكتاب المنزل نورًا للأنام
فالرضا فريضة والسخط حرام *** والقنوع راحة والطمع جنون
وفي الجنون وقع أكثر الناس، والجنون فنون.
وعامة الناس على ظهر الأرض أكثر منهم ما يقنعون بالرزق القوام، هم إنما عندهم أطماع كثيرة وتوسعات كبيرة، وبعد ذلك يقولون ما عندنا شيء!. وهذا الضمان بالرزق يوجب عند من صدّق فقوي التصديق؛ سكونًا في القلب، ما قُدّر لماضغيك أن يمضغه فلابد أن يمضغاه. وقال:
ما قُدّر لغيرك لا يصل إليك *** …………………….
وما قُدّر لك فلن يتناوله غيرك، ما يقدر عليه.
………………………. *** والذي قُسِم لك حاصلٌ لديك
والذي لغيرك لن يصل إليك، فأحسن يكون اشتغالك لا بما قسم لك، بل يكون شغلك:
فاشتغل بربك، والذي عليك *** في الفرض الحقيقة والشرع المصون
شرع المصطفى الهادي البشير *** ختم الأنبياء البدر المنير
صلى الله عليه الرب القدير *** ما ريح الصبا مالت بالغصون
لا يكثره همك ما قُدِّر يكون
ما قُدّر يكن وما تُرزق يأتك. وقال قائلهم في عجائب تقدير الله للأرزاق: مَثل الرزق الذي تطلبه مَثَل الظل الذي يمشي معك، أيفارقك ظلك؟! كيف يفارقك؟ ولكن إذا أنت سعيت نحوه تريد توقفه يمشي قدامك، كل ما مشيت يمشي، أنت لا تدركه مُتّبِعًا وإذا وليت عنه تبعك، إذا رحت قضيت يمشي وراك، فمهما مشيت في جهة الظل مشى وإذا رجعت إلى الجهة الأخرى هو مشى وراك، أنت لا تدركه متّبِعًا وإذا ولّيت عنه تبعك، ونظم هذا الإمام الحداد "لا تُكثر همّك ما قُدِّر يكن وما تُرزق يأتِك. وقال: لا يكثره همك ما قُدِّر يكون
إلزم باب ربك واترك كل دُون *** واسأله السلامة من دار الفتون
لا يضيق صدرك ، فالحادث يهون *** الله المقدّر، والعالم شؤون
العالم كل ما سوى الله شؤون للإله في فعله وتصويره وخلقه وتقديره وتدبيره وإبرازه وإيجاده سبحانه وتعالى، العالم شؤون،(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )[الرحمن:29]. من بداية تلك الشؤون ما ذكرت الآية الكريمة: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران:26]، من الشؤون ما نحن فيه: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)[الحديد:6]. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[الروم:19] (يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور:38]، كلها شؤون ربانية من عنده تعالى يدبرها ويقضيها.
……………………. *** الله المقدر والعالم شؤون
لا يكثره همّك ما قُدّر يكون
لا حرج على المؤمن أن يسعى في طلب الرزق بأي وسيلة مباحة في الشريعة، من دون أن يضطرب قلبه ولا فؤاده ولا يجزع ولا يضجر، لا حرج عليه. ولكن في الشك في الرزق؛ في عدم الثقة في عدم السكون يأثم ويبعد عن ربه، حصّل أو ما حصّل، جاء بقليل أو كثير، بعدم سكونه بعدم ثقته بعدم طمأنينة الى وعد ربه يبعد عن الرب، و يخسر ويبعد ويأثم. ولكن يجتهد ويقيم الأسباب معتمدًا على المسبّب. والناس بعد ذلك أقسام ودرجات في ما يُعطون من شؤون حقائق التوكل والاعتماد على الله في مراتب ودرجات، وهم مراتب ودرجات فيما يُسيّرون فيه من الكسب ومن التجرّد عن الأسباب. فمن أقيم في هذا المقام فعليه أن يؤدي حقه، فمن أقامه الله في مقام التسبّب والكسب، عليه:
-
أن يتورّع
-
ويترك الحرام
-
ويُصلح النية
-
ولا ينشغل عن أسبابه عن السنن فضلا عن الواجبات
-
ولا يقع بسبب قيامه بالأسباب في المكروهات فضلا عن المحرمات
هذا واجبه ومهمته.
ومن أُقيم في التجرّد فعليه أن:
-
يكون تام الثقة والطمأنينة
-
غير ملتفت ولا متشوف لما في أيدي الناس.
ولهذا قال صاحب الحكم: "إن طلبك للأسباب مع إقامة الله لك في التجرّد انحطاطٌ عن الهِمة العلية، وإن طلبك التجرّد مع إقامة الله لك في الأسباب شهوةٌ خفية"؛ من الشهوة الخفية، أنت كسلان وما تقوم بالأسباب، بالورع، والاحتياط والضبط صعب عليك، وتقول أنا متوكل انا متجرد! وانت متأكّل متبلد لا متوكل ولا متجرد، متأكل!! ولهذا لمّا زعم بعض الناس وتركوا الأسباب قالوا نحن المتوكلون، وبعدين رجعوا يسألون الناس قال لهم أنتم المُتأّكلون، لستم متوكلون انتم متأكّلون، تطلبون الأكل من خلق الله! ما أنتم متوكلون على الله، جلّ جلاله وتعالى في علاه.
يقول: "والسكون ثقة بالضمان"، وهذا الأمر الذي يسهل على الشيطان زعزعته في قلب المؤمن، أن لا يسكن إلى ضمان ربه، فيصيده من هناك، حتى قال العلماء في الأمة على مدى القرون كانوا يقولون: الشك في الرزق شكٌ في الرزاق، بعدما يقول لك: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6]، فماذا أثمرت في قلوب المؤمنين الصادقين؟ قال سيدنا الامام الحداد: لو نادت السماء أن لا تمطر بقطره والأرض أن لا تُنبت حبة وجميع أهل تريم عيالي لم أهتم بهم بعد قول ربي: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا). فوجود الطمأنينة هو المطلوب من المؤمن، أقمت أسباب أو ما أقمت، صغيرة أو كبيرة، قليلة أو كثيرة، اطمئن إلى وعد ربك، واسكن.
ولذا قال بعض أهل العلم لمن تاب من سرقة الأكفان، قعد يحفر القبور يسرق أكفان الموتى، ما قدر يسرق الأحياء راح للأموات! هذا مجنون… يأخذ الكفن يبيعه، ثم تداركه الله بالتوبة رجع، فجلس عند بعض الصالحين قال له: كم قد نبشت قبور؟ ذكر له عدد كثير، قال له: وجدتهم على القبلة أو حُوّلِوا؟ قال: أكثرهم حُوّلوا عنها، أكثرهم وجدتهم قلبوا واستدبروا القبلة، -إشارة الى انهم ما ماتوا على الملة - قال: ويحُ لهم أتدري بمَ ذا؟ قال: لشكهم في الرزق. يلقون الله وهم شاكين في وعده وفي ضمانه لهم بالرزق لهذا ارتدوا -والعياذ بالله تعالى- وتحوّلوا عن القبلة.
وجاء إلى عند الإمام محمد بن سيرين من يقول له: أن شخص رأى رؤيا أنه يفقس البيض ثم يأخذ الأبيض ويترك الأصفر، ما تأويل هذه الرؤيا؟ قال: هذه الرؤيا ما نأولها الا لصاحبها، قال له وكّلنا، قال: أبدًا، إذا جاء صاحبها بنفسه نأولها له، قال: أنا صاحبها، قال: أنت بنفسك؟ قال: أنا بنفسي، قال ادعوا الشرطة هذا ينبش قبور الموتى يأخذ أكفانهم، قال: أستغفر الله تبت إلى الله، قال: هذا تأويل رؤياك، يفقس البيض ويأخذ الأبيض ويدع الأصفر، قال: هذه هي تأويل الرؤيا حقه، قال: صحيح لكن أتوب، قال: هيا تُب إلى ربك جلّ جلاله وارجع إليه..
يقول: " والسكون ثقةً بالضمان"، عدم الانزعاج، عدم القلق، ما قُدّر يكن وما تُرزق يأتك. قال ﷺ لسيدنا عبدالله بن عباس وهو غلام يربيه على حقائق اليقين والايمان، يقول: "واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوكَ بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ، لم يضروكَ بشيءٍ إلا قد كتبه اللهُ عليكَ". وهكذا سبحان مقسم الأرزاق، قال تبارك وتعالى (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)[الذاريات:22-23]، أعرابي سمع الآية، قال: ويحهم ما صدقوا ربهم حتى حلف لهم! (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) قال: ما لهم هكذا؟ ويحهم ويلهم، أغضبوا ربهم حتى حلف ما صدّقوه؟ قال رزقكم في السماء قال ما رضوه؟ ما اطمأنت النفوس قال لهم: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) تشك في نطقك؟ وكيف ينبعث نطقك هذا من أين يجيء؟ وهكذا يرزقك كما ينطقك جل جلاله (مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ).
وتخاصم اثنان قالوا: الرزق ما يجيء إلا بحركة وسبب، قال الآخر: أنواع الحركات والأسباب من مقدرات الله ويرزق بحركة وبسبب ومن غير حركة وسبب، إن شاء يرزقك بالحركة وبسبب وإن شاء يرزقك بلا حركة وسبب، قال: أبداً ما يجيء رزق إلا بحركة وسبب ،قال: أبدًا، قال: إن كان تقول هكذا الآن أنا وإياك بنجرب، اجلس محلك ولا تتحرك وأنا سأخرج في طلب رزق وسنرى من يأتي بالرزق أول، وقال: لا بأس اذهب وإن شاء الله أن يرزقني قبلك سيرزقني. خرج الرجل ووجد فاكهة عند باب الدار حملها فرح، ورمى بها قال له: خذ، شوف، وذاك أخذها وأكلها، قال: شوف، قال: إيش أشوف؟ قال: أنا تحركت أجيب الرزق، قال: أين الرزق؟ قد أكله الرجال، قال: ذهبت تخدمنا الرزق لي وحقي وأنت استعملك الله خدم، ذهبت لعند الباب وجبت الفاكهة وأنا أكلتها ولا لك فيها شيء ولا لك منها ذرة، والرزق كل هذا حقي أنا! قال: لا إله إلا الله… خسرت التجربة التي قلت أنك سترى صدق قولي أو صدق قولك، خسرت أنت، قال: تبت إلى الله ما أنا الآن إلا خادم ذهبت أخدمك وارزقك والرزق لك أنت! قال: هو هكذا الله يجعله، لا إله إلا هو، (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور:38] .
"السكون ثقة بالضمان"، قالوا وجاء بعض الناس، وكان في مسجد يعبد الله، ثم رآه إمام المسجد هناك أيام قال: أراك دائما في المسجد أليس لك عمل؟ قال: لا، قال: كيف؟ من أين تأكل وكيف رزقك؟ قال: قال الله تعالى (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود:6]، قال وإن كان نعم هذا سهل، لكن لابد من سبب، قال: تعرف اليهودي التاجر جنب المسجد قال تكفل لي كل يوم يعطينا درهمين أو مدّين، قال: تمام، قال: لا إله إلا الله ذكرت لك ضمانة الله ما وثقت! وذكرت لك ضمانة يهودي يمكن ينقلب عليّ، يمكن يموت، يمكن يمرض، يمكن يفتقر وضمنت ووثقت بها! أنا بشوف كم أيام صليت خلفك بقضي الصلاة وبدور لي إمام غيرك، أنت ما أنت إمام مسجد!... ضمانة يهودي أوثق عندك من ضمانة الله؟! تثق بضمانة يهودي يمكن يموت اللحظة هذه، أو يمكن ينقلب عليّ في أي لحظة، وهذا ربي ما بيموت ولا بينقلب علي ولا وثقت بضمانه؟! يوم ذكرت لك ضمان يهودي قلت تمام، أنا بقضي الصلوات وأنت جدد إيمانك، وإلا ما بصلي خلفك بروح بدور لي إمام ثاني أصلي خلفه. كيف تكون ثقتك بضمانة اليهودي أضمن من ثقتك بضمان رب العالمين؟!
وهكذا خلخلوا قلوب الأمة، ثقتهم بالشركات بالتجارات بالهيئات بالأحزاب والبازارات، تفوق على ثقتهم بالله، إلا من رحم الله، الله يرحمنا برحمته الواسعة.
ويعمل الشيطان مع حزبه من الإنس والجن على هذا العمل لأنه طريق قريب يسقطون به العبد من حقيقة الإيمان، بسهولة يسقط من حقائق الإيمان، فيلعبون بهذا الوتر على كثير من خلق الله ويبعدوا عنهم الثقة والطمأنينة والرضا.
وجاء بعض النساء يزرن بعض الصالحات التي سافر زوجها، ويقلن: عسى ترك لكم شيء؟ عسى عندكم شيء؟ وكذلك الثانية وجاءت، الثالثة بنفس كلامها. فقالت: اسمعن، أنتن تردّدن عليّ وتتسائلن هل ترك لكم شيء؟ أنا أسألكم زوجي هذا الذي سافر وتركني وأولادي هل هو آكل رزق أو هو رزاق؟ قلن: لا، آكل رزق، قالت: ذهب آكل الرزق وبقي الرزاق، الرزاق باقي معنا وآكل الرزق روّح سافر، فلماذا هذا السؤال؟ ذهب آكل الرزق وبقي الرزاق (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) حتى إذا انتهى كل شيء.
لهذا قالوا: سقط بعض الناس في البئر وسَلِم، رفعوه جاءوا له بلبن يشربه شرب، قالوا له: الحمدلله على السلامة إيش حصل؟ قال لهم: لا كذا كنت أمشي،.. قام يمثل سقط ثاني مرة مات! وقت السقط الأولى باقي له دقائق من العمر ما يمكن تروح، باقي له شربة لبن في الدنيا من سيشربها؟ لن يشربها غيره هذه شربة لبن رزقه من قبل خلق السماء والأرض، من قبل يُخلق هذه شربة اللبن مقدرة له، اخرج من البئر اشرب لبنك، كمّل عمرك، ارجع ثاني مرة ادخل، ومات.
قال: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفث في رُوعِي- يعني بث في قلبي- أنَّ نَفْسًا لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها وأجلها"، أي نفس كانت، إنسان حيوان نبات. مرات يأتي في غرائب الحيوانات؛ من سمك القرش اعتدى على سمك قرش نفسه، وهو ليس من العادة، ولكن إذا الشيء مُقدّر.. تَم، أو واحد أكل حوت أكبر منه، هذا عجيب! وامرأة أكلها ثعبان كبير… أرزاق مؤجّلة، حيوان نبات جماد، كلها أرزاق مقدّرة ومكتوبة بحسب ما في الأزل لو اجتهدت مؤسسات العالم تقدّم تأخر ما يمكنها، إنما يخدمون الأقضية والأقدار كلهم، فاطمئن وثِق بضمان ربك جل جلاله وتعالى في علاه.
لا حرج عليك أن تقوم بالسبب، ولا أن تسعى ولا أن تزرع ولا أن تصنع ولا أن تحترف ولا أن تأخذ مهنة، لا حرج عليك بهذا، لكن بثقة بطمأنينة، ما تنسى الرب، وتؤمن بالمهنة وتنسى الرب؟ أنت ومهنتك ووظيفتك تحت أمره وتحت قدرته ويتصرف فيكم، جلّ جلاله وتعالى في علاه. ولكنها مراتب يعطيها الله من يشاء، فمن أدب المؤمن بين يدي ربه "السكون ثقةً بالضمان".
وهكذا، كان في بعض القرى عندنا في اليمن شايب مرض وعنده عدد من الأولاد ينقلونه يوم عند هذا ويوم عند ذاك، فقال واحد منهم: أنتم تتعبون الوالد خلوه عندي أنا، قالوا: حتى تأخذ الأرض حقه من بعده وتأخذ الإرث؟! قال: لا، وإن كنتم من أجل الأرض هذه التي معه والإرث حقه سأكتب لكم ورقة من الآن أنه ما لي شيء فيها كلها لكم. قالوا: اكتب ورقة وأبشر، كتب الورقة ومرّض والده عنده فتوفي عنده. لما مات والده، اقتسموا الأراضي حق والدهم كلها بينهم ولا أعطوه ذرة، ومرّت سنة واحدة، مرّت عليهم ظروف كلٍّ باع حقه وافتقر، وهذا توسّع رزقه، فصار ينفق عليهم، ببركة البر بوالده، صار هو يرسل النفقة لإخوانه كلهم إلى بيوتهم وهو الذي ينفق عليهم وهو ما أخذ من إرث أبوه شيء، ومن اقتسموا الإرث افتقروا كلهم في سنة واحدة، آيات من الآيات، وكم أمثال هذا يحصل في التاريخ؟ ليعلم الناس من الرزاق، وكيف يقسم الأرزاق، جل جلاله وتعالى في علاه.
يقول: "والتوكل معرفةً بحسن الاختيار"، التوكل على الله؛ الاعتماد على الحق تعالى ثقةً بحسن الاختيار؛ أنك تعلم أن اختياره خير من اختيارك. وفي الحديث القدسي: "عبدي أطعني ولا تخبرني بما يصلحك فأنا أعلم به"، أطِع فقط، أطع وانظر كيف يعاملك، وكيف يرتب لك ويدبر لك من عنده بالطاعة، استقم على طاعته وهو الذي يدبر لك دنياك وآخرتك وظاهرك وباطنك ونفسك وأهلك وأولادك، بيدبّر ولكن أطِعه.. لا تركن إلى معصيته، "أطعني ولا تخبرني بما يصلحك فأنا أعلم به"، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
"التوكل معرفةً بحسن الاختيار"؛ أن الله يختار لعبده المؤمن ما هو الخير عنده فيكون متوكل على الله، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)[آل عمران:173-174]. فالله يرزقنا صدق التوكل عليه، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3] قال ربنا أكفيه أنا.. صدقت إذا ما تكفيه أنت من يكفي! يا من يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء، اجعل اعتمادنا عليك واستنادنا إليك، وارزقنا صدق التوكل عليك يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين.
"والتوكل معرفةً بحسن الاختيار، وإسباغ الوضوء على المكارِه"؛ من الأدب مع الله تحسّن الوضوء في الوقت الذي يشق عليك الوضوء، إما كسل عندك أو مرض أو برد والماء بارد، كل ما تكرهه نفسك وأنت تحسن الوضوء.. غسل كفين تمام ومضمضة واستنشاق ثلاث ثلاث بمبالغة، وغسل وجه ثلاث مع إطالة الغرة وغسل اليدين ثلاث والتحجيل والتخليل ومسح رأس وأذنين، ومن قال بمسح الرقبة، ثم الرجلين ثلاث مع إطالة التحجيل، "إسباغ الوضوء على المكاره"، هذا أدب مع الله تُرفع به الدرجات، "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قال: إسباغ الوضوء على المكاره"؛ إحسانه وإتمامه، المكاره على ما تكره النفس. "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط"؛ أي: هذا هو الارتباط بالحق، وفاعل هذا كالمرابط في سبيل الله القائم على ثغر من الثغور يصدّ الكافر عن بلاد المسلمين وحارس في الثغر هذا مرابط في سبيل الله، "ذلكم الرباط، ذلكم الرباط".
ولو لم يكن في القيام بهذه المحاسن دفع للبلاء عن الأمة ما كان هذا مثل ذاك أبدًا سيكون هذاك أعظم، لكن هذا الرباط لأنه بهذه الأعمال يُدفع البلاء عن الأمة ويُصدّ عنها عدوّها إذا قامت على وجهها. "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة"، إذا أخلصنا لله في ذلك هذا دفع بلاء عن الأمة هذا دفع شر عن الأمة، فلهذا صاحبه يكون مثل المرابط الذي يصد العدو عنهم، على الثغر من ثغور المسلمين، فلو لم يكن في هذا دفع للبلاء لكان ذاك أفضل، ولو رابطوا الناس وهم ما يحسنون الوضوء ولا يحسنون الصلاة لكانوا بلاء على الأمة وسبب لهلاكها، وماتنفع مرابطة من دون هذا، وهؤلاء بهم يحفظ الله تعالى الأمة.
قال: "وإسباغ الوضوء على المكاره"؛ لأنك ممتثل لأمر الله. وكان سيدنا عمر بن خطاب وسيدنا علي كل فرض يتوضؤون وهم متوضئين، لكن يجددون الوضوء، ويقرؤون الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة:6]، ويتوضؤا مرة ثانية وهم على وضوء تجديدًا للوضوء وتعظيمًا للشعائر.
واعتنى النبي بالوضوء وتوضأ أمام الصحابة كثيرًا وعلّمهم، فصار الصحابة يتوضؤون أمام التابعين ويعلمونهم اعتناءً منه بهذه الفريضة ﷺ.
وامتد اهتمام الصحابة بشأن الوضوء الى تبرّكهم بآثار وضوئه ﷺ. قال قصدهم لأن يجمعوا الماء الذي يتوضأ به، سيدنا بلال كان يعد الإناء الذي فيه الماء، والطست -الإناء- الذي يتلقى الماء الذي يخرج من أعضائه، والنبي ما يقول لهم دعوا المبالغات لا توصلكم للشرك، لو لا فائدة في هذا لقال لهم النبي ﷺ. فكان يتوضأ وسط الإناء يغسل وجهه وينزل ماءه في الإناء الذي يعلم أنهم سيأخذونه للتمسّح، هل هذا فعل صوفية أم…؟ هذا فعل نبيّ، فعل سيد الأنبياء ﷺ.. يتوضأ وسط الإناء ويصب عليه بلال وهو يخرج ماء وجهه ومضمضته وكفّيه وجهه ويديه ورجليه في وسط الإناء، حتى ما يدعون قطرة منه تخرج على الأرض. إذا أكمل الوضوء أقبل الصحابة، حتى جاءنا تصوير هذا الوضع والحال في الصحيحين: "كادوا يقتتلون على وضوئه"، عندنا في صحيح البخاري: "فوجدت من لم يُصِب منهم شيئًا -من الماء- أخذ من بلل صاحبه" الثاني فتمسّح به. فالخلاصة هؤلاء صوفية كبار.. سمِّهم ما تسمِي، فهؤلاء أصحاب محمد وهذا هديهم وهذا منهجهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
بذلك لما قَدِم بعض أهل اليمن في حجة الوداع، سأل أحدهم عن النبي يريد أن يسأله، قالوا له: إنه هناك قريب من الحجون نازل بزرود، فذهب فسأل عن النبي قالوا: إنه في خيمته ولكن بعد قليل سينزل لأجل الصلاة فانتظِره. فانتظر قال: فرأيت بلال أخذ الطست أو الإناء ودخل إلى عند الرسول ﷺ، قال: ثم إنه أخرج ماء وضوءه، فرأيت أصحابه يقومون يتبادرون إليه ويأخذون، قال: ففعلت مثلهم. قال ثم إنه أذن بلال وصلى ﷺ النافلة في خيمته ثم خرج إلينا، فاصطفّوا خلفه واصطففنا وصلينا خلفه ثم كلمته بعد الصلاة ورحّب بأهل اليمن وسألني عن اليمن وأحوال أهل اليمن وكذا وكلمه عليه الصلاة والسلام هذا في حجة الوداع، آخر عمره ﷺ فتركهم على هذا الاعتقاد وعلى هذا الحال ﷺ. ولا أغيَر منه على دين الله وعلى توحيد الله، لا أغير منه، ولا أنصح منه للأمة ﷺ.
قال: "وانتظار الصلاة بعد الصلاة"، وهذا كان من عادات أكثر المسلمين خصوصًا في صلاتي المغرب والعشاء؛ إذا صلوا المغرب ينتظرون لأجل صلاة العشاء. "وأنتم في صلاة ما انتظرتم الصلاة". في عامة بقاع المسلمين كانوا بهذا الحال، ونادر من يُدخل أي عمل أو شغل بين صلاة المغرب وبين صلاة العشاء. ومنهم من ينتظر بالاعتكاف عدد من الصلوات، ومنهم من يأتي قبل دخول الوقت منتظرُا للصلاة، وهم على درجات.
"وانتظار الصلاة بعد الصلاة"؛ فمن كان منتظرًا للصلاة فيُعد كأنه في الصلاة، فاذا مرّ الوقت الذي يسع صلاة له صلاتين فاذا مرّ الوقت الذي يسع ثاني صلاة ثلاث صلوات، ثالث صلاة أربع صلوات، والوقت الذي يسع خمس صلوات له خمس مع الصلاة: ست صلوات، وهكذا بحسب الوقت الذي ينتظر فيه الصلاة.
"وانتظار الصلاة بعد الصلاة" هذا معنى. وفي معنى آخر: كل ما صلى فريضة يشتاق إلى الفريضة الأخرى، فيُترجم شوقه بماذا؟
-
بالنوافل مترقب مجيء الفريضة
-
وبفرحه عند سماع النداء الثاني
-
وقيامه بالسرور والأنس والفرح إلى الصلاة
"انتظار الصلاة بعد الصلاة"، كما قال في من إذا خرج من المسجد كان قلبه معلّقًا بالمسجد حتى يعود إليه، هذا من ينتظر الصلاة بعد الصلاة. ورجلٌ قلبه معلّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه فيظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، كما تعلق قلبه بالمسجد.
ويقول "انتظار الصلاة بعد الصلاة، وارتعاش القلب خوف فوت الفرض"؛ أي: واجب من الواجبات، يرتعش قلبه؛ يخاف أن لا يؤديه على وجهه، وأن لا يقوم به، قال: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون:60] يخاف أن يفوت عليه الفرض، يخاف أن يفوت عليه الواجب، يخاف أن يفوت عليه ما يلزمه نحو ربه سبحانه وتعالى. فهو يرتعش من ذلك، ويخاف من ذلك، قال الله لحبيبه: قل لأمتك (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام: 15] قل لهم إني أخاف وهو السيد المعصوم ﷺ.
"وارتعاش القلب خوف فوت الفرض"، قال بعضهم للحسن البصري وهو في يوم عرفة في الشمس زاد العرق عليه وقت حر حتى ملأ ثيابه، فجاءو يقولون: يا شيخ لو تحوّلت إلى الظل، قال: أفي الشمس أنا؟ أنا جالس في الشمس؟ قالوا ثيابك لو عصرناها لسال منها العرق، فأنت في الشمس منذ مدة! قال: ذكرت ذنبًا من ذنوبي فما شعرت بحر الشمس. قال سيدنا الإمام الحداد لعل ذلك الذنب الذي ذكره خطرة لو خطرت على بال أحدنا لم يعدّها شيء، وهذا يحاسب نفسه عليها وما عاد شعُر هو في شمس أو في ظل، رضي الله تعالى عنه.
كان وقف سيدنا بن مسعود على رأس تلميذه الربيع بن خيثمة -ويقال له ربيع بن خُثيم- وذلك أنه مر في السوق فرأى شعلة النار والحدادين تشتعل في الكير حقهم والنار، فتذكر النار وقرأ آية في النار فأغمي عليه. وحمله إلى بيته وصار يقف عند رأسه ينبهه من أجل يسمع لكن ما حس، يقول ابن مسعود: هذا هو الخوف والله! ثاني فرض ثالث فرض إلى مثل الساعة في اليوم الثاني أفاق، قال له: عليك قضاء خمس صلوات اقضها الآن فقام. فكان إذا رآه بن مسعود يقول: لو رآك رسول الله لأحبك! وفي بعض الألفاظ يقول: لو رآك رسول الله لفرح منك. هذا تلميذ خاص لابن مسعود رضي الله عنه. فكان إذا جاء يستأذن عليه البيت تقول له الجارية صاحبك الأعمى جاء؛ لم يكن أعمى لكنه صاحب خشوع مطرق رأسه فتظنه أعمى ما يرى من شدة خشوعه -عليه رضوان الله- فتقول له صاحبك الأعمى جاء فكان يبتسم ابن مسعود إذا قالت الجارية هكذا، يعرفه ما هو أعمى ولكن لغضّ بصره وخشوعه تظنّه أعمى ما توقعت أن هذا فيه بصر يشوف أبدًا، نظره إلى الأرض، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
يقول: "ودوام التوبة" خوف أن يصاب بداء الإصرار على صغيرة تتحول كبيرة. فهو يجدّد التوبة في الأنفاس واللحظات دائمًا دائمًا دائمًا يجدّد التوبة، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222]. ولهذا عندهم:
-
توبة من الكفر ومن الشرك هذا أعظم الذنوب
-
توبة من الكبائر
-
توبة من ترك الفرائض
-
توبة من فعل المحرّمات بأصنافها
-
توبة من صغائر الذنوب
-
توبة من ترك السُّنن
-
توبة من فعل المكروهات
توبة فوق توبة…
-
توبة من فعل خلاف الأولى
-
توبة من الفضول من الحلال الزائد
وعاد وراها توبات.. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) وكل ما ارتقى المقرّب عند الله في مقام أعلى تاب من الذي قبله. فإذا ارتقى في اليوم مرّتين احتاج توبتين، وإذا ارتقى في اليوم أربع مرات احتاج أربع توبات، وإذا ارتقى في اليوم عشر مرات احتاج عشر توبات، وسيّدهم قال: "توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة" ﷺ. السبعين مرة تستعملها العرب للمبالغة من دون تحديد عدد؛ فسبعين مرة يعني عدد كثير.
جلس واحد يستغفر الله ويتوب إليه مدة عشرين سنة، من إيش؟ من شيء يعدّه ذنب في حقه، إيش هو؟ قال الحمد لله في غير موضعها! قيل: جاءوا إليه قالوا إن النار اشتعلت في السوق تحرق الدكاكين كلما وصلت عند دكانك من جهة انطفأت، قال: الحمد لله. بعدها قال: أنا قلت الحمد لله على دكاني وما آلم قلبي ولا شقّ عليّ دكاكين المسلمين التي حُرقت! فقلتها في غير محلها، أنا استصغرت شأن المسلمين ولا باليت بهم وقلت هذا، فله عشرين سنة يستغفر ويتوب من هذا.. إيش فيها؟ ما فيها ظاهر لكن رأى أنها على حال قلبي لا يليق به، ولهذا يستغفر الله ويتوب إليه.
والثاني له ثلاثين سنة يبكي من خطيئة، قالوا: أي خطيئة هذه التي أبكتك السنين هذه كلها؟ قال: نزل عندي ضيف وقدمت له سمك وأراد أن يغسل يده وما عندي شيء يزيل به الأثر فأخذت له تراب من جدار جاري، نحتت له تراب من جدار الجار وأعطيته إياه يغسل به، فتذكرت كيف أخذ تراب من جدار الجار؟ كيف لو أخذه يوم القيامة؟ الرجل تعب وطلب المسامحة من الجيران والدار وأعطاهم مقابل لكن قال جراءتي على الله كيف هكذا؟! وقعد له السنين هذه كلها يبكي من هذا الذنب. سبحان الله كيف ما يؤمّنهم الحق هؤلاء في الآخرة؟ (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:38]. ونأتي نحن أرباب العيوب والذنوب الكثيرة وما أسهل وأسرع ما ننساها ونضحك.. (فأي الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام:81-82].
يتوب الله علينا وينظر الله إلينا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فكانوا يكثرون الاستغفار. وهؤلاء يبيتون لله ركّعًا وسجودًا (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان:64] وإذا جاء وقت السحر استغفروا؛ استغفر الله، استغفر الله.. تتوبوا من إيش؟! صليتم، وقرأتم القرآن، والآن تتوبون وتستغفرون! ما بِتّم على معصية ولا على غيبة ولا على حرام، قال الله عنهم: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات:17] يعني في الذكر والتلاوة (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات:18] فعلينا أن نستشعر التوبة.
وكان بعض المربّين يشترط على المريدين إذا جاءوا عنده توبة في كل نَفَس؛ يجدّد التوبة في كل نَفس، وفي زمن قصير يقطعون المسافات!... تُب علينا يا توّاب توبة نصوحة وزكّنا بها قلبًا وجسمًا وروحًا.
ولذا يقول الحبيب محمد الهدار:
نستغفر الله من جميع السيئات
تُبنا إلى الله من الذنوب ومن العيوب والتبعات
تبنا إلى الله من الكلام والحركات والسكنات
كلها نتوب منها إلى الله لأن كلها فيها نقص نتوب منها كلها.
نستغفر الله العظيم عدد جميع الخطرات
في كل خطرةٍ عدد الأشياء مع المضاعفات
لنا وللأحباب وأهل الدين ماضيهم وآت
لما علمنا أو جهلنا ولجميع الغفلات
ولحرامٍ أو ندبٍ أو مُباحٍ ومكروهٍ وواجبات
كيف نتوب من الواجبات؟! قصّرت في الواجبات ما قُمت بحقّها، أدّيتها على غير وجهها، كلها يتوب منها. وبعد هذا كله: "ولكل ما يعلمه الله"، باقي الذي ما علمته أنا من شؤوني وأحوالي،
ولكل ما يعلمه الله ماضيات أو مقبلات
نستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات
الله يتوب علينا وعليكم، ويحقّقنا بنصيب من الأدب بين يديه، الذي أدّب به أحبابه المقرّبين، يُعطينا نصيب من ذلك إن شاء الله في هذه الحياة، من أجل ننال نصيب من التنعّم بقربه وعفوه ومغفرته ورضوانه في دار الكرامة ومستقر الرحمة.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشر ما عندنا، نستغفرك لكل تقصير منا كان في رمضان وفي يومين من شوال هذه التي مرت علينا. نستغفرك لكل ما كان فيها من خطرات ومن نظرات ومن تقصيرات ومن إهمالات ومن كسلات ومن غفلات، نستغفرك لكل ما كان من تقصير في الصوم، وكل ما كان من تقصير في القيام، وكل ما كان من تقصير في قراءة القرآن، وكل ما كان من تقصير في الذكر الذي نذكرك، والدعاء الذي دعوناك به وفي خروجنا للمصلى وفي حضورنا فيه، وكل ما خاطبنا به أصحابنا وإخواننا، وكل ما ناله تقصير، نستغفرك لكل ذلك فاغفر لنا يا خير الغافرين. لما علمنا أو جهلنا ولجميع الغفلات.. الله يتوب علينا توبة نصوحًا، الله يكرمنا وإياكم بالأدب بين يديه أبدًا سرمدًا، يا ربِّ أكرمنا بنور الإحسان، وأدخلنا في دائرة أهل الرضوان، وعاملنا بمحض الامتنان، يا حيّ يا قيوم يا صمد يا منّان. لك ملائكة أحدهم منذ خلقته وهو قائم لك إلى أن تقوم الساعة، وبعضهم منذ خلقته وهو راكع لك إلى أن تقوم الساعة، وبعضهم منذ خلقته ساجد لك إلى أن تقوم الساعة، أخبرنا نبيّك أنه إذا جاءت الساعة حضروا في القيامة وقالوا سبحانك يا رب ما عبدناك حق عبادتك ولا عرفناك حق معرفتك، فماذا نقول نحن بعد ذلك؟.. سبحانك يا رب ما عرفناك حق معرفتك ولا عبدناك حق عبادتك فاقبلنا على ما فينا واجبر خللنا وكسرنا وتُب علينا، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأهلينا كلهم وأصحابنا كلهم والحاضرين ومن يسمعنا، اللهم أعنّا وإياهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. بسِرّ استغفارات زين الوجود وصحابته وأهل بيته والأنبياء والمرسلين والعباد الصالحين، أعِد عوائدها علينا واغفر لنا يا خير الغافرين، وارزقنا الأدب معك في حياتنا هذه ووقوفنا بين يديك برحمتك بسِر الفاتحة الى حضرة النبي محمد ﷺ.
يا من منحتنا الإسلام والإيمان والغدوة في سبيلك فاقبل منا كل ذلك، واسلك بنا أشرف المسالك، واغفر لنا تقصيرنا في ما نقول وفي ما نفعل وفي ما ننوي وفي ما نعتقد وفي ما نأتي وفي ما ندع ظاهرًا وباطناً يا خير الغافرين، يا خير التوّابين تُب علينا لنتوب، ورقِّنا أعلى المراتب، ونقِّنا من كل شوب يا أرحم الرحمين.
05 شوّال 1439