شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -14- آداب طالب الحديث

الدرس الرابع عشر من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، آداب طالب الحديث.
فجر الخميس 3 شوال 1440هـ.
آداب طالب الحديث
"يكتب المشهور ولا يكتب الغريب، ولا يكتب المناكير، ويكتب عن الثقات، ولا يغلبه شهرة الحديث على قرينه، ولا يشغله طلبه عن مروءته وصلاته؛ يجتنب الغيبة، وينصت للسماع، ويلزم الصمت بين يديّ محدّثه، ولا يكثر التلفّت عند إصلاح نسخته، ولا يقول: سمعت، وهو ما سمع، ولا ينشره لطلب العلو فيكتب من غير ثقة، ويلزم أهل المعرفة بالحديث من أهل الدين، ولا يكتب عمن لا يعرف الحديث من الصالحين."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بالسُّنة والكتاب وبيان سيد الأحباب، وبالهدى والحق والصواب وحسن الآداب، له الحمد فهو الكريم المنعم المنان الوهاب، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أرسل لنا عبده الهادي إليه والدالّ عليه محمد بن عبد الله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك ومصطفاك وخيرتك من خلقك سيدنا محمد وعلى آله أهل الطهارة وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ وسار مساره واقتفى آثاره، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من أعليت لهم في الشرف الأفخر رتبةً ومنارة، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وملائكتك المقربين، وعبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
و بعدُ،
فإننا في هذه الدروس في الأيام المعدودة في الست من شهر شوال، نستعرض بعض ما ذكر الإمام الغزالي في الآداب (الأدب في الدين) وسبق أن تكلمنا أمس على آداب المحدّث. وها هو يشير إلى آداب طالب الحديث وهي آداب طالب كل علمٍ شريفٍ منيف. يقول: "يكتب المشهور ولا يكتب الغريب، ولا يكتب المناكير"، أي:
-
يقصد الانتفاع والاستفادة ببلاغ رسول الله ﷺ وحفظ سنّته ورواية ما جاء عنه.
-
فلا يميل إلى المستغربات طلبًا للإغراب على الناس لنيل المكانة أو للظهور بالتفرد والتميز فيما يورده وما يقوله وما إلى ذلك.
-
ولا ينقل ويروي المناكير وهو ما يخالف فيه الضعيف أو غير الثقة الثقة، ما يخالف فيه غير الثقة الثقة من مناكير الحديث أو ما يستنكر روايته.
قال: "ويكتب عن الثقات"، فإن الله رتب في الشريعة وجود العدالة، ورتب على وجود العدالة أحكامًا كثيرة، حتى قال في كفّارة ما يُقتل من الصيد المحرّم قتله على المُحرِم بالحج أو العمرة: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة:95]، ورتب القضاء والحكم في كثير من فنون الشريعة المطهّرة على شهادة العَدل، وإذا وُجدت الشهادة من العدلين أو الشهادة واليمين إلى غير ذلك من التفصيل في كتب الفقه.
فالارتباط بالثقات ومن هو أوثق فيما يروي وفيما يحكي وفيما ينقل هو الأولى بطالب الحديث الشريف والأولى بطالب العلم المنيف، الأولى له ذلك حتى لا يضيّع عمرًا ووقتًا وجهدًا وفكرًا في الاتصال بغير الثقات والرواية عنهم، وهكذا يكون حرص الطالب للعلم: أن لا يصحب إلا من يدلّه على الله سبحانه وتعالى مقاله وينهضه في السير إلى الله حاله، ومن يتزيّن إذا حُشِر مصاحبًا له يوم القيامة، يتزين ويتشرف بصحبته في القيامة.
أما أن يصاحب من لا يتحرّز عن المعصية، ويصاحب من يقع في الخطايا، فهذا مجلبةٌ لأن يسري السوء إليه، وهو يُهان لو حُشِر بصحبته يوم القيامة، ولذا قالوا لا تصحب إلا من ينهضك حاله و يدلّك على الله مقاله.
ولذا قال: "ويكتب عن الثقات"، فالاتصال بمن هو أوثق وأتقى هو خيرٌ للإنسان وأحرى وأجمل وأبقى وأرقى! فمع وجوب حسن الظن يجب أن يقطع العلائق بمن لا يتبيّن عدالته وخيريّته، ويكون الصلة به زيادة في إيمانه وزيادة في طاعة لربه وهو في غِنَى عن ذلك.
والشيطان يدعو إلى مصاحبته ومصاحبة أصحابه، ولكنه لا يقوى على ذلك إلا بغفلة القلب عن ذكر الله؛ (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، أما لو تمسّك بحبل ذكر الله، يذكر الله بحضور قلب فينقمع عنه عدو الله ولا يتمكن من أن يأخذه صاحبًا له، (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا) [الزخرف:36-38]، بعدين مرّ العمر وانكشفت الستارة وظهرت الحقائق وجاءوا في القيامة (قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) [الزخرف:36-38] بئس القرين، (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) [النساء:38].
يدعونا لصحبته وصحبة أصحابه ولو بالصور ولو بالألفاظ، بأفكار أصحابه يريدك تصحبهم، أما مباشرة فهم وكلاؤه ليجرّوك إلى طريقه، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]. ولو عبر الوسائل فتصاحب صور أصحابه، أصوات أصحابه، أفكار أصحابه، يريدك تصحبها لأنك بمصاحبتها تُستَجَر إلى أنواع من الشر حتى تكون صاحبا للخبيث عدو الله، فلا تصاحبه ولا تصاحب أصحابه،
-
كل ذي ترك للمروءة
-
كل ذي صورة محرمة في الشرع ومكروهة
فهو من أصحابه، لا تصحبهم لا تصحبهم بفكرك ولا بعينك ولا بأذنك.. صاحِب أصحاب الحق أصحاب الخير أصحاب الهدى صاحبهم فكرًا ونظرًا ومعاشرةً وسلوكًا فهم يدلّونك على الله -تبارك وتعالى- ويتضاعف بسببهم ويقوى الإيمان، والمرء من جليسه. فكذلك الرواية في العلم والرواية في الحديث؛
-
إنما تكون عن أهل الثقة
-
عن أهل العدالة
-
عن أهل الورع
-
عن أهل الاحتياط فيما ينقلون
قال: "ويكتب عن الثقات" ويحذر من الدسائس، فقال: "ولا يغلبه شهرة الحديث على قرينه" حتى يشتهر في الحديث؛ فينظر من ينافسه فيريد يتغلب عليه ويشتهر هو بالحديث ويلمز الثاني ويتكلم عليه ويسيئ إليه أو يحجز عنه فوائد خشية أن يكون نِدًّا له ومنافسا له فيما يطلبه من شهره، فعبد الشهرة وعبد الشهوة من أبعد الخلق عن الحق، بل نطق لسان أهل المعرفة بالله في الأمّة وقالوا: ما صدق الله عبدٌ أحبّ الشهرة! ما صدق الله.. ما صدق الله عبد أحبّ أن يُعرف بين الناس، ما هو صادق مع الله، ما يكون صادق مع الله..
أوحى الله إلى النبي موسى: إن لم تطب نفسًا أن أجعلك عِلكًا في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين! قالوا كان سيدنا موسى من أعظم الأنبياء تواضعًا للرب، قلبه شديد التواضع، صلى الله على نبينا وعليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. ما صدق الله عبدٌ إلا أحبّ أن لا يُرى مكانه وألا يُعرف، وما صدق الله عبد أحب الشهرة، فالذي يحب الشهرة بالحديث أو بالتفسير أو بالفقه أو بأي شيء ثاني.. شؤون الدين من باب أولى وهي أعظم من أن يُراد بها الخلق، وحتى شؤون الدنيا يكون فيها سخافة، وإن كانت أبعد عن الإثم من أن يَقصُد بها الشهرة بين الناس، ولكنها دالة على سخافة عقل الإنسان؛ فلو كان عاقلًا لطلب المقصود من الصنعة ومن المهنة لا مجرد الشهرة بها، لطلب الإحسان والإتقان والنفع للناس، وجعل له نيات صالحة، لا مجرد أن يشتهر، حتى يشتهر أنه لاعب، أو يشتهر أنه مغني، أو يشتهر أنه ممثل، أو يشتهر بأي شهرة قَصَدَها إن لم تكن عبادة لم يقصد بها غير وجه الله سخافة منه! ولو عقل لقصد ما ينفع والفائدة والمقصود والنتيجة الحسنة، وجعل له نيات صالحة في كل عمل، حتى في حرفته حتى في أمور دنياه، ولكن من يقصد وجوه الخلق بالعبادة هذا هو المرائي؛ صاحب الشرك الأصغر و العياذ بالله تبارك وتعالى.
فشهرة الأنبياء، وشهرة أتباعهم، ما كانت بميل قلب أحدٍ منهم إلى ذلك ولا طلب أحد منهم -حاشاهم- ما يضر وجود شهرة ولا عدمها لكن يضرّ طلبها وُجدت أو لم توجد؛ فهي تضر من يطلبها حتى لو لم توجد له، أراد الشهرة بكيف ما أمكنه ويصلح ذا الأسلوب و ذا الأسلوب وما اشتهر مسكين.. ولكنه متضرر؛ متضرر بطلب الشهرة؛ لا يخلص ولا يصدق ولا يقيم الأمور على ما ينبغي، بغى الشهرة و هي ما وقعت له! فالضرر لا في نفس وجود الشهرة ولا في عدمها؛ وجودها وعدمها سواء؛ لكن الذي يضرّ الإنسان وينفعه قصده إياها؛ طلبه لها، هذا الذي يضرّه، وينفعه الإعراض عنها، أما هي قد جعلها الله للأصفياء وللأنبياء وللمقرّبين وللصالحين وللصحابة ولأهل البيت، شهرهم سبحانه وتعالى، لكن ما كان عندهم عمل يطلبون بها الشهرة، ولا قصد الشهرة في شيء من أحوالهم ولا أقوالهم ولا أفعالهم وهكذا..
يقول: "ولا يغلبه شهرة الحديث على قرينه، ولا يشغله طلبه"؛ طلبه لهذا العلم؛ أي علم كان "عن مرؤته" وهو:
-
فعل ما يليق به
-
والتزيّ بما يليق به
-
وقول ما يليق به وما يتناسب مع الأدب
-
وأداء الحقوق لأصحابها
قال لا يشغله ذلك، "ولا عن صلاته"، يقصر في الصلوات، يقصر في النوافل كلها ويدّعي شغله الحديث وغيره! وإن قرّر أهل العلم أن الطلب العلم إذا صحّت فيه النية أفضل من فعل النافلة -كما قال الشافعي- ولكن ما خلصت نية من يحبّ ترك السنن والآداب ادّعاءً لرغبته في طلب العلم، ما يحصل له صحة القصد أصلًا! ولذا نبّه المربّون والمزكّون أنه لا يمكن أن ينقطع عن حزبه القرآني -نصيبه من القرآن- ولا أن يترك المؤكدّات من النوافل.
وقد كان الإمام عبد الله بن عمر الشاطري يقول للطلاب في رباط تريم يقول: لا يسمى طالب علم من ليس له قيام في الليل، ومن لا يحافظ على صلاة الضحى ما يسمى طالب علم، ما يسمى طالب علم هذا، ما هو طالب علم، طالب علم ما يحافظ على قيام الليل؟! وهكذا إذًا "لا يشغله طلبه" للعلم "عن مروءته وصلاته". قال الإمام الحداد: ما أدركنا العلم بالقيل والقال ولا بمزاحمة الرجال، وإن كان زاحم وطلب و… قال ما أدركنا حقيقة العلم بهذا، لكن:
-
بخلوّ القلب عن الدنيا
-
والانكسار في جوف الليل
-
والاستغفار في السَّحر
قال أدركنا العلم بهذا، جاءت حقائق العلم بهذا.
نعم، فهكذا قال: "ويجتنب الغيبة"، وكيف يكون مؤمن متحقّق بالإيمان مغتاب؟ فضلًا عن أن يكون طالب علم، فضلًا عن أن يكون عالم، فضلًا عن أن يكون داعي إلى الله وهو شغله الغيبة! هذا تناقض قوي، ما يجتمع هذا مع هذا.. فالحق شبه الذي يغتاب الناس بمن يأكل لحم أخيه ميت، عادك بغيت صورة أشنع من هذا؟ الله ضربها مثل للذي يغتاب أخاه المسلم (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12]. فكيف تنزل إلى هذه الرتبة التي قبّحها الحق في كتابه؟! لا تغتب أحد.. وكلما غابَك أحد دوّرت المعايب التي فيه وما هي فيه ونسبتها إليه، تتقي الله ربك يسأل؟! قال ومن سبّك بما ليس فيك فلا تسبّه بما تعلم فيه؛ هو سبّك بما ليس فيك، كذب عليك، وأنت تعلم فيه عيوب قال: لا تسبّه بها لا تذكرها.. اسكت، خلِّ ربك سبحانه وتعالى يأخذ حقك، وإن عفوت من أجله أعطاك أكثر سبحانه من الفضل والإحسان (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) [الفرقان:20]. (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ) كل إبليس وجنده من الإنس والجن بيقهرهم الحق وبيخذلهم في لحظة واحدة، (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن) حكمته اقتضت غير هذا وإرادته غير هذا، (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) [محمد:4] يختبر بعضكم ببعض، لا إله إلا الله، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119] قال أنا خلقتهم بهذه الحكمة؛ فما يمكن تطلب في الوجود غير حكمة الموجد جل جلاله، (إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)، هؤلاء الذين رحمهم ربك متألفين متآخين متحابين، على طريق طيب… وهكذا يكاد يُقرأ فيهم الوصف لأهل الجنة وهم في الدنيا، ويستشهد عن حالهم بقول الله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين) [الحِجر:47] يكاد هذا الوصف يتحقّق فيهم وهم في الدنيا قبل الجنة، هؤلاء من رحم ربك، الله يلحقنا بهم.
"يجتنب الغيبة، وينصت للسماع، ويلزم الصمت بين يديّ محدّثه، ولا يكثر التلفت عند إصلاح نسخته، ولا يقول: سمعت، وهو ما سمع"؛ لأن العلم أمانة، العلم أمانة. ولذا كان يحَذّر بعض أكابر أهل القرن الثاني من التابعين شوائب النفس التي تدخل على الناس في صورة الطاعة والعبادة أو طلب العلم، ويقول سيدنا سفيان يقول إذا رأيت من يقول: حدثنا فاعلم أنه يقول عظّموني شرفوني أنا صاحب ميزة أنا صاحب… و لهذا قال بعضهم أن حدثنا باب من أبواب النفاق، يعني: لمن لم يخلص ولم يقصد وجه الله، لعامة الذين تغلبهم نفوسهم.
وأما أهل الحديث الذين أخذوا على وجهه خيار الأمة، "نضر الله وَجه امْرِئ سمع مني مقَالَة، فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فَرب مبلغ أوعى من سامع". كان بعض المحدثين الذين اشتغلوا بالحديث على التقوى والإخلاص والمتابعة والعمل بالسُّنة.. منضّرة وجوههم وهم في الدنيا، إلى حد بعضهم يكاد أن يضيء في الظلمة إذا ما يوجد سراج، هذا وهم في الدنيا، هؤلاء المحدّثون المخلصون الصادقون.
يقول: "وينصِت للسّماع، ويلزم الصمت بين يديّ محدثه، ولا يكثر التلفت عند إصلاح نسخته، ولا يقول: سمعت، وهو ما سمع"؛ يكون على ثقة. بل نرى خيار هؤلاء المحدثين الذين ألّفوا الكتب في الحديث، يذكر السند، ثم يفرّق في رجال السند، هذا قال أخبرنا، وهذا قال حدثنا، مع أنه مؤدّى واحد، ولكن يحفظ الفرق أن هذا قال هذه الكلمة وهذا هذه الكلمة، فيضبطها، مثل ما يذكر الإمام مسلم في صحيحه وغيره: يسرد السند عن جماعة في الطبقة، ثم يقول فلان قال أخبرنا وفلان قال حدثنا، ورواه فلان إلا الكلمة الفلانية ما قالها، ورواه فلان وزاد كذا وكذا، يفرّق بين هذا وهذا، دقّة وأمانة في النقل وفي الرواية. فبصدقهم وإخلاصهم وهمّتهم حفظ الله لنا السُّنة كما حفظ لنا القرآن، بل هي من حفظ القرآن كما أسلفنا في اليوم الماضي، تكفّل الحق بحفظ القرآن فحفظ لنا بيانه، وحفظ لنا أوعيته التي تحفظ سِرّه، وجعل فينا الطائفة التي على الحق لا يضرّهم من ناوأهم، وجعل فينا العدول في كل زمان، الله ينفعنا بهم ويسلك بنا في سبيلهم.
قال: "ولا ينشره لطلب العلو فيكتب من غير ثقة"، لا ينشر الحديث لطلب العلو.
-
طلب العلو في السند: قلة رجال السند.
فلا يفوّت الرواية عن الثقات من أجل أن يكون رجال السند أقل فيكون السند عالي؛ ويروي عن الأضعف، لا، خُذ الأوثق ولو طال السند.
وقد قال سيدنا الإمام أحمد بن حنبل من عقله لما وجد الإمام الشافعي ببغداد، لازم الإمام الشافعي وأخذ عنه، وكان سيدنا الشافعي سِنّه صغير بالنسبة لكثير من العلماء الموجودين في بغداد، فانتقد بعضهم الإمام أحمد قال له تترك العلو في السند والأخذ عن الكبار في السن، الشيوخ، وتقعد مع هذا الغلام! يقصدون سيدنا الشافعي؛ لأن سيدنا الشافعي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما جاوز الرابعة والخمسين من عمره وقت وفاته بمصر، وهذا قبل ما يجيء إلى مصر و هو في بغداد، سألوه تجلس مع هذا الغلام؟ فقال له سيدنا الإمام أحمد بن حنبل: أما الحديث فسآخذه عن أهله بعلو سند أو بنزول سند، لكن عقل هذا الفتى من أين آتي به؟ قال هذا الفتى يعقل معاني الكتاب والسنة ودلالاتها ومفاهيمها، من أين أجيب العقل هذا؟ ما أحصّله عنده كل راوي.
فآثر الأخذ عن الإمام الشافعي لثقته وعدالته وقوة ضبطه ولما خُصّ به من قوة فهم وعقل يستنبط به الأحكام ويقيم به الأسس والأصول للاستنباط، قوّم قواعدها في أصول الفقه -عليه الرضوان- فلما نظر إليه الإمام أحمد ورآه بهذه الصورة آثر الجلوس معه على الأخذ عن كبار السن. فلما عوتب في ذلك قال هذا الحديث سأدركه بعلو في السند أو نزول لكن عقل هذا الفتى من أين آتي به؟ أين نحصله؟ هكذا…
وسمعتم أيضا صاحب الإمام مالك الذي جالسه عشرين سنة فكان ثمانية عشر سنة في الأدب، يعني في التربية في التزكية في تطهير القلب، في التنقي عن الأخلاق الذميمة، ثمانية عشر سنة، وسنتين في العلم، قال فلما مات مالك ندمت ووددت أني جعلت العشرين كلها في الأدب لِما رأى من أثر الأدب في انكشاف الحجاب والقرب من ربه وإدراك المعاني على وجهها، قال فإن العلم أدركه عند مالك وعند غير مالك لكن قوته في التنوير والتأثير في التأديب نادرة ما تكون عند كل المعلمين ولا عند كل المربين! فقال ثمانية عشر سنة يؤدّبه، وبعد ذلك قال يا ليت السنتين أيضًا حطّيتها فوق الثمانية عشر وأنا أتأدّب على يد هذا الإمام المخلص الصادق المنيب، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا، جاءه أبو جعفر المنصور، أرسل له نحو تسعين ألف دينار وقيل أكثر، مسكها لإمام مالك و وضعها في مكان، بعد مدة جاء إليه وقال له إني عزمت على السفر وأريدك تشخص معي؛ تخرج معي، وإني أردت أن أحمل الناس على الموطأ؛ آمر الرعية كلهم أن يقرّروا ما في موطأك، كتاب الموطأ، ويتركوا غيره، يعني يكونوا فقط على مذهبك، قال: أما الخروج من المدينة فلا سبيل إليه وقد قال ﷺ: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"، وأما حملك الناس على الموطأ فلا يجوز لك ذلك ولا سبيل إليه، وقد تفرّق أصحاب رسول الله في الأقطار ومع كل قومٍ علم، فإن تفعلها تكون فتنة، فتضيع العلم على الناس لأنه ما وصل إليّ أنا؟ هذا وعي الإمام مالك وفقهه في الدين، وهو أخذ عن الكبار وسنده قريب إلى النبي ولا قال خلاص الشريعة كلها عندي والكتاب والسنة عندي!.. قال له تفرّقوا أصحاب النبي في الأقطار ومع كل قوم علم فإن تفعلها تكون فتنة، وأما ما أرسلت فهو موجود خذه معك، خذ الذي أرسلته، قال أنا ما قصدت.. قال: خذها لا حاجة لي بها.. يعني أنك بما أعطيتني وأرسلت لي من المال تريد مني أن أمشي معك على كيفك و أترك المدينة أو أتركك تبطل مذاهب صحيحة في الناس لأجل مذهبي! قال لا لا، ما عندي هذا.. هذا أدب الإمام مالك.
وقد تعجبوا فيه لما يذكر الحبيب ﷺ يتأثر ويبكي، وقالوا له: ما لك أنت يا مالك عند ذكر النبي يصيبك هذا الحال؟ قال: ما رأيتم من قبلنا، لو رأيتم من قبلنا ما رأيتم هذا شيء! وقال كنت أجالس فلان … وذكر من شيوخه فإذا ذكر ﷺ بكى بكى حتى نرثي له من البكاء، قال ولقد كنت أختلف إلى مولاي جعفر بن محمد؛ أي: جعفر الصادق، قال وقد كان يبتسم معنا يتكلم فإذا ذكر رسول الله امتلأ واحمرّ وجهه بذكر المصطفى ﷺ، قال لو رأيتم من قبلنا ما رأيتموني شيء.
وكان إذا أراد أن يحدث عن ﷺ اغتسل وتطيّب ولبس أحسن ثيابه وجلس على الهيئة والسكينة، وله منصة في الحرم في المسجد النبوي لا يجلس عليها إلا لأجل الحديث، وكان يسرد سنده حتى يصل إلى الصحابي ثم يشير إلى جانب الضريح الشريف يقول: عن صاحب هذا الضريح ﷺ: أنه قال كذا وكذا وأنه فعل كذا وكذا، والناس في مجلسه كأن على رؤسهم الطير هكذا الآداب، عليه الرضوان.
وتلوّن واحمرّ وجهه يومًا وهو يحدّث، حتى أكمل الأحاديث التي أملاها عليهم، وقال انظروا ماذا يلسعني في ظهري؟ قاموا وإذا بعقرب، عقرب أنت تعرف لسعة العقرب؟! عقرب لسعه ستة عشر لسعة في ظهره! قالوا ما تخبرنا من أول مرة؟! قال: كرهت أن أقطع حديث رسول الله ﷺ.. قال ما أقطع حديث النبي، وتركه يلسعه العقرب واحدة بعد ثانية وهو مصابر تعظيمًا للحديث ما تحرك وهو يحدث بكلام النبي ﷺ.
سمعت؟.. وصل به الأدب في نفسه وذاته؛ أنه كان لا يركب في المدينة المنورة ولا يحب لبس النعلين، فكان يمشي حافي ولا يركب على دابة، فسُئل، قال: إني أستحي أن أطأ بالنعل أو بحافر دابةً تربة تردّد فيها جبريل على النبي ﷺ ومشى فيها النبي وتردد عليه جبريل بالوحي، فوق تربة وأنا أمشي بالدابة أو بالنعال، سمعت؟… وخُذ من أدبه، كان إذا أراد قضاء حاجته خرج من حدود حرم المدينة، الحرم حق المدينة كله إلى خارج المدينة إلى الحل يقضي حاجته ويرجع، لكن كان أكلته في كل ثلاثة أيام، أكلة؛ له وقعة في كل ثلاثة أيام، لهذا ما يحتاج إلى الخروج كثير عليه الرضوان.
بهذه الآداب العجيبة عاملوا الله وعاملوا رسوله؛ فحفظ الله آثارهم في الأمة. وحمل الإمام الشافعي وغيره قول النبي ﷺ على الإمام مالك قوله: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالِم أعلم من عالم المدينة"؛ يعني: يكون من أعلم الناس في زمانه بالكتاب والسُّنة، فقالوا هذا الحديث ينطبق على الإمام مالك عليه الرضوان الله تبارك وتعالى، فإنه عالِم المدينة في وقته، ومهما ضرب الناس أكباد الإبل لم يجدوا أعلم منه. الله أكبر!..
يقول: "ويلزم أهل المعرفة بالحديث من أهل الدين"، وهكذا لزم الإمام الشافعي الإمام مالك في شأن الحديث، بل وحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، ثم بلغ رتبة الفتوى، والفتوى في القرن هذاك معناه: الاجتهاد؛ أهليته للاجتهاد واستنباط الأحكام الذي يسمونه الاجتهاد المطلق في اصطلاح الفقهاء بعد ذلك. بلغ هذا الرتبة وهو ابن خمسة عشر سنة فأذن له الإمام مالك في الفتوى وهو في هذا السن، تلقى عن مثل الإمام مالك. ولهذا لما سمع بالأكابر وأهل الرواية الوثيقة وأهل الصلابة في الدين وقوة الورع؛ يرحل إليهم.
هو ولد في غزة فلسطين، وأخذته أمه بعدما تعلم هناك، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين وحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، أخذته أمه إلى مكة ومن مكة إلى المدينة، ومن المدينة رجع إلى اليمن في طلب هذا العلم، وجاء من أجل أن يأخذ عن عبد الرزاق الصنعاني، ويقولوا له: أنك تعبت في الطريق، وأنت عندك أثر مرض والطريق طويلة، يقول: لابد من صنعاء وإن طال السفر! حتى أخذوها مثل من بعده، من أجل أن يأخذ عن إمام من الإمام الكبار، سافر وجاء، لا توجد طائرة ولا سيارة ولا حتى دراجات نارية ما توجد، إنما على الدواب يمشي وعنده أمراض، ولابد من أجل طلب العلم، من أجل لقاء الشيوخ.
وهكذا ومع ذلك، وحاول المفتنون أن يفتّنون عليه، بهذا الإخلاص وبهذا الصدق وبهذه الزهادة، ويغرون عند الحاكم يقولون له هذا بيجمع الشعب عليك بيتقدم عليك، يكذبون عليهم، وحتى أرسل إليه، ولما جلس معه أذهب الله ما في قلبه من غيظ، ورأى صورة غير ما يُنقل عنها… وقال له: أنت الذي تدعو الناس إلى الخروج عن إمارتنا وكذا؟ قال: معاذ الله، ما حصل مني ذلك فإنما أفعل كذا وأقول كذا، أطلق سراحه. يبتلون ويختبرون، وهم أصفياء أتقياء أخيار أهل زمانهم ومع ذلك ما سلموا من الوشاة والمغرّضين والكذابين.
وتلقى عنه هناك الإمام أحمد واتصل به من هناك من أهل العلم، ثم انتقل إلى مصر عليه الرحمة الله تبارك وتعالى وهو على أدبه وتواضعه وخشيته، يقول إذا كل ما جاء رمضان ختمة بالليل وختمه بالنهار، وكيف يجيء من يدّعي أنه من أجل طلب العلم هجر القرآن، كيف هذا؟ هؤلاء وهم علماء؟! مع ذلك ختمة بالليل وختمه بالنهار حق رمضان، هذه ستين ختمة في رمضان يقرأها عليه رحمة الله.
بأدب وبتواضع إذا جاءه المرض أرسل إلى السيدة نفيسة بنت الحسن من ذرية سيدنا الحسن، يقول قولوا لها تدعو لي، شفتوا الأداب؟ ما يقول أنا العالم وأنا كذا و… يطلب الدعاء من هذه المرأة الصالحة، عليه رحمة الله ورضوانه، وهكذا مضى أهل العلم.
يقول: "ولا يكتب عمّن لا يعرف الحديث من الصالحين"، قد يكون عنده صلاح وصفاء باطن ونية صالحة وزهادة في الدنيا ولكن ما عنده خبرة في الحديث قال ما تكتب عنه، أحسِن الظن به، استمدّ بركته، اطلب الدعاء منه، اقبل نصيحته، ما تكتب الحديث عنه؛ لأنه ما يضبط الحديث، أنزل الناس منازلهم؛ لأنه المسألة أمانة، أمانة وتقوى وكل شيء له مجاله، وكل شيء له أصحابه، ووظيفتك حسن الظن. وكثير من الصالحين على صلاح وتقوى بينهم وبين الله، لكن ليس شغلهم علم معين، ما تأخذه عنهم، خذه عن أهله، هذا ما هو شغله ما هو وظيفته ما هو مهمته.. هو صاحب سريرة، صاحب بصيرة صاحب علاقة حسنة بين الله، اطلب منه الدعاء، اخدمه، أحسن الظن به، خذ نصيحته ووصيته، لكن لا ما تقحم شؤون ليست من اختصاصه في شأنه وفي حاله! كن على بصيرة ويؤخذ كل شيء عن أهله وعن رجاله. وفيهم من يجمع الفن والفنّين، ومن يجمع الثلاثة، وفيهم من يجمع أكثر، وفيهم من يكون مخصص بجانب من الجوانب، وفيهم أهل صلاح عام، هؤلاء صلحاء الأمة.
فالله يُحيي ما مات ويرد ما فات، ويرزقنا وإياكم الإنابة والإخبات، ويرزقنا حسن النيات وصفاء الطويات في طلب العلوم النافعات والدعوة إليه عز وجل والعمل بما جاء به حبيبه الأكمل ﷺ، ونظر إلينا و إليكم نظرة يرفعنا بها إلى المراتب العلية، وينظمنا في سلك خير البرية، ويجعل رمضان الذي انصرم شاهدًا لنا عنده تعالى لا شاهدًا علينا، وحجةً لنا لا حجةً علينا، وتقبّل منا كل ما وُفقنا فيه، وأعادنا إلى أمثاله في صلاح وفلاح ونجاح إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين.
وتغشى بواسع الفضل والمغفرة والرحمة المنتقل إلى رحمة الله: سالم بن عمر بن سالم عمر أبا عبيد، يجعله الله في البررة والخيرة، ويجعله الله سبحانه وتعالى فيمن قبورهم رياض من رياض الجنة ويجعل له من عذابه وقاية وجُنّة، ويتقبل جميع حسناته ويضاعفها إلى ما لا نهاية، ويتجاوز عن جميع سيئاته ويبدّلها إلى حسنات تامّات، ويتحمل عنه وعنّا جميع التبعات، ويدخل عليه في قبره روحًا منه تعالى وسلامًا منّا ومن أهله وأولاده، وأن الله -سبحانه وتعالى- يبارك في أهله وأولاده وأحفاده وأسباطه بركة تامّة، ويسير بهم خير مسار في درب الأخيار، ويجنّبنا وإياهم الشرور والأشرار، ويحفظنا من جميع المضار، ويجعل مستقرّ روحه في فردوسه الاعلى، مع الذين أنعم عليهم من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ويجعل اليوم أبرك الأيام عليه وأسعدها لديه، ورافقه بالنبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وأصلح لنا ولكم وللأمة الشؤون كلها وعجّل بالفرج للأمة المحمدية، ودفع كل أذيّة بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
03 شوّال 1440