شرح كتاب الأدب في الدين للإمام الغزالي -13- آداب المُحدِّث

الدرس الثالث عشر من شرح العلامة الحبيب عمر بن حفيظ لكتاب الأدب في الدين لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالي، آداب المُحدِّث.
فجر الأربعاء 2 شوال 1440هـ.
آداب المُحدِّث
"يقصد الصدق، ويجتنب الكذب، ويحدِّث بالمشهور، ويروي عن الثقات، ويترك المناكير ولا يذكر ما جرى بين السلف، ويعرف الزمان، ويتحفّظ من الزلل والتصحيف واللحن والتحريف، ويدع المداعبة، ويقِل المشاغبة، ويشكر النعمة؛ إذ جُعِلَ في درجة البلاغ عن الرسول ﷺ، ويلزم التواضع، ويكون مُعظَم ما يحدث به ما ينتفع المسلمون به من فرائضهم وسنتهم وآدابهم في معاني كتاب ربهم عز وجل. ولا يحمل علمه إلى الوزراء، ولا يغشى أبواب الأمراء؛ فإن ذلك يزرى بالعلماء ويذهب بهاء علمهم إذا حملوه إلى ملوكهم ومياسيرهم، ولا يحدث بما لا يعلمه في أصله، ولا يقرأ عليه ما لا يراه في كتابه، ولا يتحدث إذا قُرئ عليه، ويحذر أن يدخل حديثًا في حديث."
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله على تمام رمضان، واستقبالنا لما بعده، ننظر فيه الثمار والآثار لما كان؛ من صيامٍ أو قيامٍ أو تلاوة للقرآن، أو وجهةٍ إلى الرحمن أو طهرٍ للجنان، أو صلةٍ للأرحام، أو صدقةٍ على محتاج أو نيةٍ صالحة أو انتهاجٍ في خير منهاج. فتظهر الآثار للمقبولين بعد رمضان الكريم في ثبات أقدامهم على الصراط المستقيم، في قوة إيمانهم ويقينهم بالإله العلي العظيم، في قوة رابطتهم وزيادة محبتهم لنبيه العظيم المصطفى الكريم الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
تُقرأ الآثار الرمضانية في الوجهات القلبية، وأعمال الجوارح وكلمات اللسان وما يصدر من هذا الإنسان بعد رمضان. فإن من كان صام لله في رمضان فقُبِل عند الله وقام لله فقُبِلَ عند الله، يُمدّ بأدب الإعظام والإجلال لمولاه، وقوة الرابطة بمصطفاه، فيتنقى عن الاستجابة لدواعي الغواة الذين من أكبرهم نفسه وهي وكيلةٌ عن بقية الغواة الذين يجاذبونه ويقصدونه ويريدون الفتك به، فتتوكل عنهم مهما دسّاها ولم يزكها. ومن قُبل في رمضان فمعه نصيب من التزكية يتهيأ بها للترقية، ويتحلى بأحسن التحلية، ويتخلى عن قبيح الأوصاف والنعوت خير التخلية.
فقَبِلنا الله وجعلنا من المُقبلين وأرانا الآثار واضحةً بيّنةً بنورٍ مبين، ولا جعله آخر العهد من شهر القرآن، و أعادنا إلى رمضانات في صلاحٍ للظواهر والخفيات، والمقاصد والنيات، والسرائر والطويّات، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في جميع الجهات، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين.
استقبلَنا بعد رمضان هذه الستة الأيام التي يمكن أن يكون لنا فيها هذا الدرس العام متصلًا بالنتائج ومنصوبةٌ به معارج، لمن أحسن استثمار ما كان في رمضان فأراد العروج إلى مراتب التدانِ بانتهاج خير المناهج، والعمل الذي تتم به للقلوب والأرواح المباهج.
ندرس بعض ما ذُكر من الآداب في الكتاب المنسوب إلى الإمام الغزالي (الأدب في الدين). وقد تقدّم معنا في سنتين ماضيتين مرور على جملة من تلك الآداب حتى انتهينا إلى قوله: "آداب المحدّث"؛ وهو الذي يروي حديث زين الوجود، ويذكر كلام حبيب الواحد المعبود ﷺ. وهو الذي يقول في بيان رواية حديثه: "إِنَّ كَذِبًا عليَّ ليس كَكَذِبٍ على أَحَد"؛ أي: من جميع الخلق؛ الكذب على أي مخلوق لا يساويه في الإثم واستحقاق الطرد والغضب من الله الكذب على النبي محمد ﷺ؛ فالكذب على النبي محمد أشد كذب على أي مخلوقٍ كان، فما بعد جريمة الكذب على الخالق إلا مصيبة وجريمة الكذب على خير الخلائق ﷺ.
وهكذا، خصّ الله هذه الأمة بقلوبٍ عظّمت الحق جل جلاله لمّا تعّرف إليها فعرفته. وكان خلاصة أولئك الرعيل الأول من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم من اتبعهم بإحسان. وهم قوم نُشِرَ منشور الرضوان عنهم في آيات القرآن: (وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والْأَنْصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) [التوبة:100]؛ منشور رضوان (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)، وبعد منشور الرضوان هذا من يتطاول على القوم؟ وما لهم من مكان.. منشور من الرحمن، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ)، وبعد هذا الكلام من الإله العلّام جلّ جلاله من يقدر وعنده ذرّة إيمان بالله أن يتطاول على دائرة قوم الحق في القرآن نشر عنهم (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ)؟ إن بقيت لله هيبة في قلبه ولو مقدار ذرة لم يستطع أن يحطّ من قدر القوم ولا أن يخوض في شيءٍ سيء عنهم أصلا، وهو لا يدري أرضي الله عنه أم هو غاضب عليه! فليشتغل بنفسه حتى ينال الرضا.
هذه القلوب التي عظّمت الله لما تعرف إليها فعرفته؛ ما عرفت كيمياء، ما عرفت أحياء، ما عرفت تكنولوجيا، عرفت الله، الله جل جلاله، الله… وكل شيء يضمحل ويذوب إذا ذكر الله جل جلاله وتعالى، فماذا يساوي؟ فلما عرفت الله عظّمته فعظمت بتعظيمه العظيم لديه ولم تجد في الكائنات والمخلوقات أعظم لدى المكوّن الخالق من محمّد ﷺ!.. فجلست بين يديه كأن على رؤوسها الطير، وما أحدّت النظر إليه تعظيمًا له، وإذا أمر أمرًا ابتدرو أمره، وكان أحبّ إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ومن الماء البارد على الظمأ -كما قال سيدنا علي رضي الله عنه وكرّم وجهه-. كذلك كانوا.
فكان القائل منهم يقول: إني سمعت عنه ﷺ أحاديث كثيرة ولكني أحدثكم بما فهمت من عندي، وأما إذا قلت قال رسول الله فلأن تخطفني الطير أهون علي من أن أزيد كلمة أو أنقص كلمة، إذا قلت قال رسول الله!.. فبذلك عظّموا هذا الشأن ونقلوا لنا ما عرفوه ورأوه؛ ما عرفوه عنه ورأوه منه وسمعوه منه بتثبّت ووعي وإحسان.
وهو الذي قال لهم "بلّغوا عني ولو آية" وقال لهم: "نضّر الله وجه امرءًا سمع منّا مقالةً فوعاها، فأدّاها كما سمعها، فرُبّ مبلَّغٍ أوعى من سامع"، وقال: "ألا فليُبلّغ الشاهد منكم الغائب" ﷺ. وقامت في هذه الأمة ميزة وخصوصية تتعلق بكرامة الله وإكرامه للأمة بتولّي حفظ كتابه بنفسه وذاته وجلاله وكبريائه وعظمته وعلمه سبحانه وتعالى، ولم يعطِ ذلك لأمم قبلنا في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم صلوات الله وسلامه عليهم. ولكن أخذ عليهم العهود والمواثيق واستحفظهم عليها، قال تعالى: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ الله) [المائدة:44]؛ أي: بما طلب منهم أن يحافظوا على كتاب الله ويؤدوه على وجهه، ولكن: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة:79]، بدّلوا وحرّفوا وغيّروا والعياذ بالله تبارك وتعالى. لكن القرآن لم يكتفي الله بأن يستحفظه الأمة ولكن قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحِجر:9]، وهو مجلى من مجالي رعايات رب الأرض والسماء لعبده الأسمى؛ لم يفعل ذلك بأمة من الأمم، وهو القادر.. فلما لم تعطَ إلا لهذا؟! لأنه هذا.. لأنه الأحب، لأنه الأقرب، لأنه الأطيب، لأنه محمد ﷺ. يا ربّ صلِّ على محمد حبيبك المحبوب ومحبّيه كما يرضيك ويرضيه وحبّبنا إليه وزدنا محبة فيه. أعطى هذه الأمة هذا الخير وتكفّل بحفظ الكتاب لهم إلى آخر الزمان، فله الحمد.
والكتاب لا يكون محفوظًا بدون بيان يبيّن معانيه ويدل على حقيقة ما فيه، وهذا البيان كله في سنة محمد ﷺ، (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44] فلو بقيت ألفاظ القرآن من دون السُّنة لكان الحفظ ناقصًا، والحق ما يتكفل بناقص وتكفله كامل جلّ جلاله. فلما كان تكفّل الحق -جل جلاله- بالحفظ لائق بجلاله وعظمته حفظ لنا السُّنة بما لم يكن أيضًا في الأمم السابقة، وما من أمة تنقل أحاديث نبيّها وأخباره إلا وفي أسانيدهم انقطاعات كثيرة، تصل إلى الثلاثين والأربعين انقطاعًا في السند، إلا هذه الأمة فلم تزل الأسانيد فيها متصلة. قال عنه الرعيل الثاني من التابعين: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". وقالوا عنه: "إن هذا العلم دينٌ، فانظروا عن من تأخذون دينكم".
فحَفِظ الله لنا السُّنة بيان القرآن، والقرآن وبيان القرآن من السُّنة، إن لم تكن قلوب مطهرة منوّرة نقية تعيه وتتلوه حق تلاوته وتحفظه حق حفظه موجودة فالحفظ ناقص، ولا يتكفّل الله بحفظ الناقص وهو المنزّه عن النقائص جل جلاله. فإذا تكفل بحفظ القرآن فـ "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ" ضروري، وإلا كيف يحفظوا القرآن؟ في أوراق؟ في كمبيوتر؟ في جوال؟ هل هذا حفظ القرآن؟! إن لم تكن قلوب تعرف حقائق القرآن ما حُفِظَ القرآن، وتتلقى فهمها في القرآن فبقيت تلك الطائفة وبقيت السُّنة حفظًا للقرآن. وجلّ العظيم الذي يقول للشيء كن فيكون: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). فأكرم الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة بهذا الحفظ البديع العجيب للسُّنة المطهّرة. وكل ما فات ولم يُنقل مهما كان كثيرًا فإن فيما حفظ بالأسانيد الصحيحة الثابتة كافٍ كفايةً تامةً لهذه الأمة في مختلف أزمانها ومختلف أوضاعها وظروفها، كافٍ لأن يدلّ ويبيّن ويرشد على التمام فضلًا من الله جل جلاله وتعالى في علاه.
وإن تعرضت كتب السنة والحديث الشريف خاصّة، وكتب المسلمين عامة لأن ترمى في البحار وأن تحرق وأن تمزّق، حتى مرّت أيام صار نهر دجلة والفرات أسود من مِداد كتب السنة الشريفة وكتب العلم المصون، ومهما عملوا ذلك كله فيبقى في الأمة محفوظ ما يكفيهم ويشفيهم ويرقّيهم على التمام.. سبحان القوي! ثم لا تجد البشرية بينها كتابًا حُفظ كهذا الكتاب كائنًا ما كان، ولا تجد إنسانا ضُبطت وحُفظت أقواله وأفعاله وأخلاقه وسيرته وصفاته مثل محمّد ﷺ ما توجد!.. الذين عظموا ملوكهم، والذين عظموا رهبانهم، والذين عظموا أحبارهم، والذين عظموا المبتكرين والمخترعين فيهم، هات لي نقل مثل النقل عن محمد، كيف يقوم كيف يقعد، كيف يلبس، كيف يدخل، كيف يخرج، كيف يتكلم، كيف يضحك، ما تجد! محمد معجزة ﷺ
معجز القول والفعال كريم *** الخَلْق والخُلق مقسِطٌ معطاء
ما سوى خلقه النسيم ولا *** غير محيّاه الروضة الغنّاء
رحمةٌ كله وحزمٌ وعزمٌ *** ووقارٌ وعصمة وحياء
نُـقل آثاره ولباسه وأكله وشربه وعرقه وريقه ووصف عينيه وشعره، ما نُقل عن أحد ولا حُفظ عن أحد، لا ملك ولا حتى الذين عُبدوا من دون الله -والعياذ بالله- من النمرود أو من فرعون ولا غيرهم، ما منهم من حُفظت آثاره كمثل هذا الحفظ إلا آثار الأحب الأطيب الأقرب إلى الرب محمّد، تعرف اسم محمد؟ ستعرفه بعد اليوم إن لم تعرفه! ولكن أعيذك أن تتأخر معرفتك، ومهما عرفت اليوم وبعد اليوم فإنما تعرف شيئًا وتغيب عنك أشياء، الذي يعرف محمد تمامًا بالإحاطة واحد هو الله! هو الذي يعرف محمد على الإحاطة. ولكن معرفة الأنبياء بأشدّ من معرفة غيرهم، أما معرفة صحابته وأهل بيته والعلماء الأكابر أعظم من معرفة غيرهم، وهي على قَدْر ما يعرفون من عظمة ربهم سبحانه وتعالى، يعرفون من محمد ومكانته وجاهه فإنه صفوته منتخبه، منتقاه، مختاره من البريّة، صلوات ربي وسلامه عليه. فهذا الذي اختار وهذا المختار، والإله الذي اصطفى وهذا المصطفى، والرحمن الذي انتقى وهذا المنتقى، فما أعجب الأمر.
حُفظت لنا سيرته وأخلاقه وصفاته وأعماله، حتى آثار من أثاثه ومتاعه، حتى نعليه الشريفتين -صلوات ربي وسلامه عليه- حفظًا بذاتها بصورتها بعددها. وما دخل في مُلكه من حيوانات حفظ عدده واسمه، إن كان من الإبل، وإن كان من الغنم، وإن كان من الحمير.. معروف، وأسماء نوقه التي استعملها ﷺ، من وراء هذا الإنسان؟ من هذا الإنسان ما كمثله إنسان، من وراءه؟ الله، الله عظّمه وخصصه وميّزه وجعله صاحب المكانة الكبيرة، صلوات ربي وسلامه عليه.
فكان في النَّقَلة في كل زمن أرباب صدق، وأرباب وعي وأرباب يقين، وأرباب فهم، وأرباب حفظٍ وتمكين. ويذكرون فيه شروط الحديث الصحيح: الضبط.
-
أن يكون الراوي ضابطاً:
-
ضابط صدر
-
أو ضابط كتابة
-
ضابط صدر يرسخ في ذهنه ما يسمعه حتى يؤديه من دون أن يختل حُسن حفظه في كلمة من الكلمات؛ هذا ضابط صدر. كسادتنا الصحابة -رضي الله عنهم- عامّتهم، وقليل منهم من كان يكتب. وكثير من خواص التابعين ومن بعدهم إلى أمثال الإمام البخاري، وهو آية من آيات الله في الحفظ القوي وحسن التنبّه للدقائق في المرويات والرواة.
وضابط كتاب؛ يكتب ويحافظ على الكتاب الذي كتبه حتى يؤدّي منه، ولا يقع في أيدي عبث ولا من يقدّم ولا من يؤخر ولا من… هذا الضبط.
من عجيب بعض الأحباب كان يقول نميّز الحديث الصحيح عن غيره بهذه الضوابط أو بهذه الشروط:
-
اتصال السند
-
بنقل العدول
-
الضابط
-
بشرط السلامة من الشذوذ
-
والسلامة من العلة.
قال فيمكننا أن نعرف ما هو العلم الصحيح للشريعة المطهرة ولمعاني الكتاب والسُّنة. مفاهيم الكتاب والسنة إن أخذتها بسند متصل غير منقطع، بنقل عدول فهموا هذه المفاهيم، ونقل ضابطين مع السلامة من الشذوذ والعلة، هذا العلم الصحيح للكتاب والسُّنة؛ هذا العلم الصحيح والفهم الصحيح للوحي والتنزيل ولبلاغ النبي ﷺ. وكل العلم لا يجمع هذه الأسس مثل الحديث الضعيف والموضوع وبعده كم… كيف نعلم أن هذا العلم صحيح والفهم صحيح؟ إذا كان منقول بسند متصل عن طريق عدول ضابطين مع سلامة من الشذوذ مع سلامة من العلة، هذا الفهم الصحيح للكتاب والسنة، أما كلما حرّك رأسه واحد جاء للناس بكلام وقال لهم كتاب وسنة! هذا لعب بالدين.. لعب بالشريعة الغَراء، أين سنده؟! وفي هذا كان يقولون:
أتانا من الأعراب قوم تفقّهوا *** وليس لهم في الفقه قبلٌ ولا بعدُ
لا سند عندهم…
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ *** ومن أنتم حتى يكون لكم عِندُ؟
أصل علمك كله لا له سند ولا له صحة بتقارع من؟ وبتطاول من؟ أرباب السند المتصل؟! روح العب أنت وإبليسك فإن شرع الله محفوظ، وسنة نبي الله ﷺ محفوظة بقلوب تعرف الله وتتأدب لله.
يقول: "آداب المحدث": "يقصد الصدق ويجتنب الكذب"، الذي هو شؤم الدين والذي، هو سبب من أقوى أسباب اسوداد الوجه في القيامة، الكذب والعياذ بالله تبارك وتعالى. وما كان الصحابة يتهمون به إلا منافقًا، ما يرون أن المؤمن يكذب، وكان نبيّنا يؤكد هذا المعنى. بل سُئل فأجاب صراحة عن بعض العيوب والسيئات هل تصدر من المؤمن؟ قال قد يكون ويتوب، فسُئل هل يكذب المؤمن؟ قال "لا"، وتلا قوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل:105]، فما أشد وأشنع الكذب.
وذكر رسول الله ﷺ أنه قد يُطبع المؤمن على بعض الخلال فيها نقص وفتور، "يُطبَع المؤمن على كل خَلّة غير الخيانة والكذب" أما يخون يخون يخون ويكذب يكذب ومعه إيمان، لا ما يكون! هو مؤمن ويظل يكذب يكذب كل يوم لا ما يكون إيمان.. يخون يخون يخون ويقول أنه مؤمن لا!.. قد يُطبع المؤمن على بخل على أنواع من التقتير، لكن يُطبع على الكذب والخيانة لا! ""يُطبَع المؤمن على كل خَلّة غير الخيانة والكذب"، يظل يكذب ويقول أنا مؤمن ما يتأتى! يخون يخون يخون ويقول مؤمن! لا تضحك على نفسك، فإن الرب ما يُضحك عليه، أنت تضحك على نفسك، صحّح إيمانك حتى تكون مؤمن لا يكذب ولا يخون.
يقول: "يُحدّث بالمشهور"؛ الذي عُرف بالنقل عن جماعة يقصد.
-
لا على اصطلاح المحدثين؛ ما رُويَ برواية ثلاثة فأكثر -فوق ثلاثة- في كل طبقة يسمى: (المشهور)؛ ليس المقصود هذا.
-
وقد يراد بـ(المشهور) الذي اشتهر على ألسنة الناس، ليس المراد هذا.
-
ولكن بما يعلم تعدّد رواته من ذوي العدالة، هذا الذي يحدث به؛ هذا المقصود هنا.
"ويروي عن الثقات" ويتجنب الرواية عمّن لا يوثق به، وإن لم يتهمه بالكذب، بمجرد ما يكثر منه النسيان أو الغفلة يتجنّب، فضلًا عن الكذب.
"يترك المناكير"؛ ما يخالف فيه غير الثقة الثقة،
-
أما ما يخالف فيه الثقة من هو أوثق منه؛ شاذ يخرج عن درجة الصحيح، هو ثقة لكن خالف من هو أوثق منه وأقوى درجة في الثقة، يكون شاذ. هو مروي عن ثقة؟ نعم ثقة، لكنه خالف من هو أوثق من هو أحفظ من هو أضبط منه، فهو حديث شاذ، فكيف في العلم بيخالف الكبار ويقول أنا؟ لو كنت ثقة وعالم بتكون شاذ فلا يؤخذ عنك.
يقول: "ولا يذكر ما جرى بين السلف"؛ أي ذكر متطاول، ذكر شاذ، ذكر ذي غرض، لا يذكر ما جرى بين السلف مما يوهم القدح فيهم والنيل من درجاتهم المرفوعة؛ هذا مسلك الأنبياء، مسلك الأصفياء، مسلك الأتقياء؛ يذكرون المحاسن والفضائل، فكيف إذا كان ذكر ما جرى مبني على تحريف ومبني على تأويلات باطلة، ومبني على أسانيد واهية وهو يتشبّث به؟! فكيف إذا كان غرضه من ذكره ما جرى بين أصحابه انتقاص أحد منهم؟ فكيف إذا كان غرضه من انتقاص أحد منهم يتوصّل إلى سلطة؟ ما تستحي من ربك الذي خلقك ولا من نبيّه الذي بلّغك؟! أيّ كريم في بني آدم إذا نيل من أصحابه غضب، لو قعدنا نسب أصحابك أنت سيتغير وجهك وتقوم علينا.. ورسول الله أقل منك؟ أدنى منك؟! أنت يا أشعث أغبر يا أبله يا جاهل.. إذا أحد جاء ومسك أصحابك وقالوا هذا أصحابه فلان صاحبه فلان كذا صاحبه فلان كذا، تغضب إذا تكلموا على أصحابك، من أنت؟ تغضب على أصحابك، محمد هو أقل منك يعني ولا إيش؟ تستبيح لنفسك تتكلم على أصحاب محمد وتتحامل على أي واحد من الناس يتكلم على أصحابك أنت! إذا عندك أدنى شهامة ما ترضى أحد يتكلم على أصحابك، وتقول ليش تطاول على أصحابي.. أصحابي خير منك يا قليل المروءة.. وذا الغضب لأجل أصحابك وأصحاب محمد ما أدري أين راحوا؟ يعني منزلة محمد نزلت هذا النزول كله عندك؟!
كل كريم في العالم يغار على أصحابه، يغضب من أجل أصحابه، وصرّح لنا الكتاب العزيز والسنة شريفة:
-
"الله الله فِي أَصْحَابِي لَا تتخذوهم غَرضا بعدِي"
-
"لا تؤذوني في أصحابي"
-
"لَا تسبوا أَصْحَابِي فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَن أحدكُم أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مدّ أحدهم وَلَا نصيفه"
ولكن صار الدين من الشذوذ والعلة والانقطاع بمكان، قنوات تلعب وتدّعي الدين تدعي الكتاب تدعي السنة هنا وهناك، وأنت سندك قناة الله اعلم من انشئها وبأي قصد؟! ما لك سند من رجال الحق الأخيار الموجودين في زمانك من أهل الخشية والإنابة والورع والخوف؟ ما أحد عندك؟! ما تعرف أحد منهم؟ وما تتصل بمفاهيمهم في كتاب الله؟ يا منقطع يا ممشيخ الأجهزة والأدوات، ولا هي شيوخ! يا ممشيخ أرباب الأغراض والسياسات وليسوا بشيوخ.. الشيوخ أهل الخشية، الشيوخ أهل الورع، الشيوخ أهل النور، هؤلاء الشيوخ الذين نأخذ عنهم ونفهم ونسند لهم ونروي عنهم وننقل مفاهيمهم. لا أرباب السياسة، ولا أرباب الأغراض، ولا أرباب البنوك الربوية ليسوا هؤلاء الشيوخ يا أبله! تأخذ دينك عن من؟ وما وجدت أحد في العالم من أهل طائفة الحق ولا من أهل الإرث النبوي الصادق؟ ما حصلت واحد؟!... فتّح عيونك، فتّح قلبك، ابحث لك عن سند فإنها لا تخلو الأرض منهم.
قال سيدنا علي: اللهم لا تخلو الأرض عن قائمٍ لك بحجة. ما تخلو إلى آخر الزمان، موجودين.. لكن انت قاعد تلعب على نفسك بنفسك، وتلعب بخيالاتك وأهوائك وميولك. بعضهم هو ينصّب نفسه حاكم على جميع علماء العالم، يسمع هذا ويقول هذا تمام، هذا مو تمام… يعني صرت فوق العلماء؟ أو صرت نبي؟ أو صرت قدك إله؟ ولا إيش ترجع أنت يا أخي؟! ما هكذا يؤخذ العلم… العلم ما هو وراء رأيك ولا وراء عقلك! سيدنا علي كان يقول: "لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" والشريعة جاءت بوجوب مسح الأعلى، الأسفل سُنّة، مع أن الأسفل هو اللي يطأ الأرض ويقع فيه الوسخ وأولى نمسحه! لكن الشريعة تقول لا امسح فوق واجب وهذا سُنّة، قال لو كان الدين بالرأي لقلته لكن ما هو رأي، إذا هو رأي يقع منزلتي بمنزلة الوحي من ربي؟! يعني عقلي ورأيي مثل وحي ربي؟! ما عاد أحد إله إذًا خلاص كلنا سواء! أستغفر الله!. دع رأيك وعقلك والإله فوقك، والمعصوم فوقك، أنت ما أنت بمعصوم، ولا بعقلك ولا برأيك، والدين أكبر من أن يكون برأي أحد وعقل أحد.
جماعات من عوام المسلمين يقولون بنشوف؟ بنسمع؟ كذا صح؟ ما هو صح؟ يعني أنت الحاكم من فوقهم؟! هو هذا الذي بتسمعه، هو أصلًا مضلل بعشرين ضلالة من هنا ومن هناك، وأنت أخبط منه وترى نفسك الحاكم؟!
-
هل تعرف العلامات التي تعرف بها أهل الحق وأهل الصدق؟
-
هل عندك قلب منير؟
-
هل عندك وجهة صادقة؟
-
ما تعرف أحد من رجال الهدى في زمانك تتصل به وتأخذ عنه؟!
من لا صَحِب في زمانه شيخ عارف مكين *** مرّت حياته وهو معدود في المفلسين
وكان يقول كبار الأئمة من أخيار الأمة: من ليس له شيخ، شيخه الشيطان؛ إبليس شيخه، ما له ارتباط بالمربّين والمزكّين من الأخيار في زمانه، فالشيخ موجود؛ إبليس موجود بيلعب به لأنه قاعد يمسك أزّمة الناس (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ) [الأعراف:17]، (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:62]، وإذا ما لك زمام مسَلّم لكبار من أهل النور، يا ما أسهلك في الانقياد له، يلعب بك لعب ويضحك عليك، إلا أن تتحصّن بحصن الالتجاء بالله والزمام تسلمه لأهل الله المقرّبين عند الله، تُحفظ به من إبليس. ومشار إليه في الحديث: "الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"، وعن الثلاثة ابعد، و "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"؛ من خرج عن الجماعة وشذ هذا من يلعب به الشيطان، أما من ارتبط بالجماعة وأهل النور وأهل الهدى.. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحِجر:42].
يقول: "ولا يذكر ما جرى بين السلف"؛ أي: الرعيل الأول من الأمة. عُرض على نبي الأمة، قال: "عُرض عليّ أعمال أمتي" -أي أمة محمد ﷺ- فما رأيناه سب أحد ولا انتقص أحد ولا تكلم على أحد منهم ﷺ، وأمرنا بالأدب والاحترام؛ هذا منهجه وهو المنهج الذي سار عليه خيار أمته من بعده من عهد الصحابة والتابعين والتابعين بإحسان. ما يتشبث بلقلقة اللسان ببعض المواقف والحاجات والخروج بها إلا أرباب الأغراض، أرباب الأمراض، أرباب الرغبة في السلطات والسياسات وما إلى ذلك.
حتى مرّ عليها ألف وأربع مئة سنة ومن جديد بيلعبون بها أيضًا من جديد ويفرّقون بين الأمة، وذا يريد يمسك الكرسي بالكلام على ما جرى بين الصحابة والسلف! طيب أنا وإياك ما حضرنا وقتهم والآن مشكلة قبل ألف وأربع مئة سنة بتجيبها من جديد بغيت نتقاتل أنا وإياك ذا الحين؟! هل شفت أني خرجت مع أحد منهم على أحد…، أنا أصلًا قبل ما أُخلَق وأنت قبل ما تخلق، ليه ذا الحين بتصلح لنا مشكلة؟! يعني عندك خبر من القرآن ولا من السُّنة؟ ولا من القوم اللي أنت تدّعي الانتماء إليهم. ذا يدعي الانتماء للصحابة، ذا يدعي الانتماء لأهل البيت، هل عندكم خبر من الصحابة والبيت قال تعالوا من بعدنا تقاتلوا على الأشياء التي جرت بيننا وتضاربوا بينكم؟! والله ما واحد منهم قال كذا، من أين تجيب هذا؟ إيش الذي أوقعك في هذا المسلك؟ من أين جئت بهذا المسلك؟ ما عرفناه في القرآن، ما عرفناها في السنة، ما عرفناها في أهل البيت، ما عرفناها في الصحابة، لا مع صحابة ولا مع آل بيت ولا مع كتاب ولا مع سُنّة وبعدين؟! فتنة؟!
اتقِّ الله، اتقِّ الله فيما تقول، اتقِّ الله فيما تعتقد، اتقِّ الله فيما تفعل، اتقِّ الله في الأمانة، أمانة الدلالة، أمانة الإرشاد، أمانة الكلام عن أصحابنا نحن فكيف أصحاب النبي محمد ﷺ! ما نرضى حتى عن أصحابنا وكما لا ترضى نتكلم عن أصحابك وننسب إليهم ما ليس فيهم، وأصحابك في وقتنا وفي زماننا نقدر نبحث عليهم من هنا ومن هنا، هؤلاء بيننا وبينهم ألف وأربع مئة سنة.. عيب عليك! والذين بينك وبينهم الألف والأربع مئة سنة، الله تولى الكلام عنهم، فما تبيعه بأي كلام واحد ثاني!..
-
قال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ) [التوبة:100].
-
وقال (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح:18].
-
(لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ) [الحديد:10].
ذا كلام الله عنهم بغيتنا نبيعه يا أخي من أجل إيش؟! ارمي به واذهب ابحث له عن تأويل أبعد مما بين المشرق والمغرب، لماذا؟ من أجل تطلع في كرسي؟ من أجل تسر خاطرك يا من أدرى بنفسك؟ لا، لا، لا.. (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة:62] ما أبيع كلام ربي من أجل كلمتين جاءت من عندك، وساعة تصلحها رواية، وساعة تصلحها تاريخ، وساعة تطلعها وساعة تنزلها… وذا يدعي الصحابة وبينه وبينهم بُعد المشرقين، الصحابة حقدوا على أحد؟ أحد علمهم الحقد؟ شيخهم علمهم الحقد؟ الصحابة علّمهم النبي السب؟ الصحابة علّمهم النبي ساعة مجون وساعة تشدّد على أتفه الأشياء؟ الصحابة هكذا؟! لا الصحابة ولا آل البيت، حرمتهم من حرمة الله ورسوله، وندين الله بحياتنا وموتنا على مودتهم ومحبتهم وتعظيمهم؛ أهل البيت والصحابة، من أراد ضرب بعضهم ببعض فقد أراد أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض، وأراد أن يضرب سُنّة محمد بعضها ببعض، دفع الله الشرّ عن الأمة.
حرمة أهل البيت، حرمة الصحابة من عمق الدين من عمق الإيمان بالله ورسوله، ما تقبل المزايدات ولا الأغراض الفاسدة الساقطة.
أنا متقرّب إلى الله -تبارك وتعالى- وأدينه بأن أذبّ عن عِرض مسلم من أصحابي أنا ما هو عاد أصحاب محمد، ولا أرضى أحد يتكلم عليه من غير حق ولا يغتابه حتى وإن كان فيه العيب أقول له اسكت! أنا أدين الله بذلك وأتقرّب إلى الله في ذلك، وأجي عند أصحاب حبيبي محمد أضعهم على بساط قل الحياء وقل الأدب والتطاول؟! أو آتي لآل البيت الطاهر المكرمين أو خيار الأمة وأئمتهم وعلماؤهم الماضين في القرون الماضية وأضعهم على التطاول والاعتداء؟! أنا أرى أن الله سبحانه وتعالى ما يعذرني في أصحابي الذين هم في الدنيا أن أسكت عنهم وأن أتكلم عليهم أو أسمح بغيبتهم، فكيف بالرعيل الأول؟! الأحياء الذين بيننا ليس من الدين أن نذكر معايبهم، الأحياء الذين بيننا، والمعايب موجودة، فكيف بمن لا تُعلم له معايب إلا بالتسويلات والكلام؟! هذا والله ما هو دين، هذا والله ما هو صدق مع الله تبارك وتعالى!
لكن سند الأمة صار كل من فتح له قناة، وكل من كتب له كتاب، وكل من صلّح له زي أو مظهر وقام يتكلم بلا سند بلا مرجعية، يفتح النت وشيخه قوقل Google، قوقل عن من؟ّ بغينا نعرف من فوقه ومن قدامه من هو يروي عن من؟ عن نفسه.. بسم الله الرحمن الرحيم!… يروي عن نفسه، وبعدين؟ هو نبي ولا ايش يرجع هو؟ اقتد بالأخيار، إذا اتخذت وسيلة مثل وسيلة الكتب لا بأس، لكن تمشيخها؟ لا! قيل: من كان شيخه كتابه -وعاده هذا الكلام قبل النت هذا حقهم- كان خطأه أكثر من صوابه! ما معه شيخه يبيّن له ما في الكتاب، فكيف الآن؟
الطب محترم، ما تجد أحد يأخذ الطب من مجرد النت أو يفتي في الطب إلا باتصال بالأطباء الأخصائيين المعترف بهم، الهندسة محترمة، الزراعة محترمة، والطيران محترم ما أحد يدّعي يعرف الطيران إلا يدخل في كلية الطيران ويتدرب ويشهدون له من فوقه، والدين؟ مبتذل، لعبة صار، كلهم مُفتُون، كلهم علماء كلهم يقول… ليش بهذه الصورة صار دين الله عندكم؟ ما له متخصصين، ما له سند، ما له رجال، لعبة لكل واحد؟! السياسي والخساسي والتاجر وصاحب الحزب و… كلهم يتكلم في الدين ويتحدث في الدين ويفتي في الدين، الدين هكذا لماذا؟ هو أضعف شيء؟ يعني أقل شيء؟ سبحان الله! والحق يحذر: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) [النحل:116] هذا افتراء على الله، أعاذنا الله من ذلك. والله ينظر إلينا.
يقول: "ويعرف الزمان، ويتحفّظ من الزلل والتصحيف واللحن والتحريف، ويدع المداعبة، ويقِل المشاغبة، ويشكر النعمة إذ جُعل في درجة البلاغ عن الرسول ﷺ، ويلزم التواضع"؛ هكذا المحدّثون الذين كانوا يُعرفون هكذا، ويكون معظم ما يحدث به ما ينتفع به المسلمون من فرائضهم وسننهم وآدابهم. وهذا يدع الفرائض والسنن والآداب يتمسك بوحدة قضية تتعلق بشيء من الشئون في الحياة أو في اللباس أو غيره وخلاص عليها، وما عاد يعرف في الدين إلا هي، وإن تكلم.. يتكلّم بها، وإن خطب.. يخطب فيها، وإن كتب.. يكتب فيها، وأين الفرائض؟ أين السنن؟ أين الآداب؟ أين صلاح القلوب؟ أين عظمة الشريعة؟ مسألتين اثنتين ثلاثة أربعة هي التي في ذهنه وفقط! ويريد نفسه مُجدّد ويريد نفسه عالم و… يا هذا، أين الأمانة؟ أين الصدق؟ أين الأدب؟ ما عرفنا المحدّثين إلا متواضعين خاشعين وخاضعين، منيرة وجوههم من نور قلوبهم، يبكون لربهم في الخلوات؛ عرفنا المحدثين بهذه الصورة. لا أن يركز صنم النفس والهوى ويجعله هو ذا الدين.
يقول "يلزم التواضع ، ويكون معظم ما يحدث به ما ينتفع المسلمون به من فرائضهم وسنتهم وآدابهم في معاني كتاب ربهم عز وجل. ولا يحمل علمه إلى الوزراء، ولا يغشى أبواب الأمراء ؛ فإن ذلك يزرى بالعلماء". كتب الأمير الحاكم لسيدنا البخاري: تجيء تُسمع أولادي الحديث؟ فقال: إن حديث رسول الله يؤتى ولا يأتي. فكتب له قاله: تخصّص لهم وقت وحدهم تُقرئهم، قال: إنه أمانة عندي، تركة رسول الله في أمته ما أستطيع أخص بها أحد دون واحد، من تأهل وتهيأ يجيء. ضايقه الأمير وأخرجه إلى خرتنك، ما بالى، صبر؛ لأنه صاحب أمانة، لا يريد مكانة عند الحاكم ولا يريد شيء من ماله ولا يريد… وحفظ الأمانة وحُفظ علمه في الأمة إلى يومنا.
ثم يأتي من يبيع نفسه بأتفه الأشياء ويقول ملاحظات على البخاري! لأنك مثلك ممن له يجاري، يا راوي أحاديث بخار الطعام، تعرف حديث بخار الطعام؟ من معدتك تروي أحاديث.. هو ذا الظاهر إنه عندك، لا إله إلا الله! يوهم الناس أنه كالبخاري، فاح من بطنه ريح طعام؛ بخار طعام فأمسى يروي حديث ذاك البخارِ، فاح من بطنه بخار طعامٍ فهو يروي حديث ذاك البخارِ، البخار حق الطعام حقه، لا نسبة بينك وبينه؛ لا في حفظ لا في ورع لا في تقوى لا في سند!... والألوف الذين في زمانهم أخذوا هذه الأسانيد وعظّموها، تريدنا كلهم أتركهم من أجلك يا من ما تصلي الصبح في جماعة؟! من أجل خاطرك أنت يا من تأكل من الربا كل يوم؟! عيب عليك، اتق الله! ألوف، مئات ألوف من خيار الأمة ورعين زُهاد أتركهم كلهم من أجل خاطرك أنت يا عبد الكرسي يا عبد الشهوة؟! لا لا لا لا، تضحك علينا بهذه الصورة.
"يُذهب بهاء علمهم إذا حملوه إلى ملوكهم ومياسيرهم، ولا يحدّث بما لا يعلمه في أصله، ولا يقرأ عليه ما لا يراه في كتابه، ولا يتحدّث إذا قرئ عليه، ويحذر أن يدخل حديثًا في حديث"، فكذا كانت صناعة الحديث وأخذ رجاله بمثل هذه الطرق وكان هناك الآداب أيضًا للطلاب إلى غير ذلك وطال بنا الوقت..
نظر الله إلينا نظرة يُصلح بها أحوالنا وأحوال المسلمين، يحفظ علينا الفهم للكتاب والسُنّة بالأسس والضوابط التي مضى عليها الأكرمون من الصالحين من الصحابة وأهل البيت الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا، ورضيَ الحق عنهم وعمّن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وجعلنا وإياكم مِن مَن اتبعهم بإحسان، دفع عنا كيد النفس والهوى والشيطان وأعادنا إلى رمضان وأمثاله ورمضانات في صلاح لأحوالنا وأحوال المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ودفع للبلايا والآفات وتحويل الأحوال إلى أحسنها بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
02 شوّال 1440