(229)
(536)
(574)
(311)
إن أكثر الناس في الأوهام والظنون، يغترّون في مظاهر الحياة وزخارفها، ويذهلون عن خالقها ومكوّنها ومقصود خلقهم فيها، والمقصود مما أوتوا خلال أعمارهم القصيرة على ظهر هذه الأرض، ولهم حياة قبلها في عالم الأرواح، ولهم قبل تلك الحياة عدم محض لم يكونوا شيئاً، وكوِّنت الأجساد قريباً لتكون محبساً لهذه الأرواح مدة الحياة الدنيا.
هذه الحقائق تجعل المؤمن يتخلّى عن الشوائب التي تطرأ على فكره وعلى قلبه وعقله من الالتفاتات إلى الفانيات والتعلق بما فيها والاغترار، وما هي إلا علامات ودلالات على عظمة مُنشئها وباريها وخالقها، الذي جعلها عُرضة للتغير وللفناء، وجعلها مُتقلبة في الأطوار بدلالات تدلّ على عظمة الكريم الغفار.
إن عرفة والاجتماع فيها والوقوف بها، داع عظيم إلى التخلُّص من هذه الأوهام والتبعِيّات التي تقوم عليها، في مخالفة أمر الله لأجل فكر فلان أو فلتان، ولأجل أي نظرية تأتي من هذا أو ذاك، ولأجل أي أطروحة تطرح من صغير أو كبير.
إن التلبية للعلي الكبير جاءت مثناة (لبيك اللهم لبيك) مفيدة في اللغة إلى دوام واستمرار الطاعة والانقياد.
(لبيك) أي أنا دائم على الإجابة لأمرك والامتثال والطاعة لك في جميع ما أمرت وفي جميع ما نهيت.
(لبيك لا شريك لك) لا حق لعقلي ولا لنفسي - فضلاً عن عقول غيري وأنفسهم - ولا لأحد من الإنس والجن، ولا لأحد في الأرض ولا في السماء، أن يأخذ مرتبة الألوهية لِيكون المُسيِّر لي والمُدبِّر لي في الأمر والنهي ووضع المنهاج، إنما أنا عبدك وأنت وحدك لا شريك لك، لا نقبل إلا ما اتّفق مع وحيك وتنزيلك وما بعثت به نبيك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
إن موقف عرفة وجميع شعائر الحج.. دعوة إلى إدراك هذا المدرك؛ ليقوم عليه سواء المسلك، وما سواء المسلك وسوي المسلك إلا خروج من دوائر نصب الأصنام التي تُعبد من دون الله، من أهواء ومن شهوات ومن أطروحات لذا ولذاك.
أيها المؤمنون بالله: إن الإحرام وما فيه من لباس، وما يتبع ذلك من جميع الشعائر.. مُنَميات لحقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، التي هي أفضل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفضل ما قاله النبيون، وهي أفضل الدعاء في يوم عرفة، إنها المُخلِّصة لنا من هذه الأوهام والضلالات، إنها أصنام القرن الحادي والعشرين الميلادي على ظهر هذه الأرض، كما هي الأصنام التي كانت مُعلّقة حوالي الكعبة قبل فتح مكة وكانوا يسجدون لها، وإن الآن لتسجد كثير من قلوب الناس لأصنام تشريع ما خالف شرع الله وتشريع ما خرج عن منهج الله جل جلاله، واستحسان ما خالف مسلك خير الخلق محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يجب أن تُكسر هذه الأصنام بحقائق شواهد {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
هذه معاني تلبيتنا، ومعاني حجنا وعمرتنا، ومعاني زيارتنا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومعاني اجتماعاتنا على الذكر وعلى العلم، ومعاني صلواتنا وزكواتنا وصومنا، إنها تتصل بالفكر وبالمسلك وبالمرجعية وبالتبعية.
ليست الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم.. مجرد أعمال مقطوعة عن المشاعر، ولا عن الأذواق والأحاسيس، ولا عن المبدأ والمسلك في الحياة، ولا عن النظرة للحياة، إنّ نظرتنا للحياة مُهذّبة ومُنوّرة بنور الصلاة وبنور الزكاة وبنور الصوم وبنور الحج، إنها الأسس الخمس التي قام عليها الإسلام، ليست مُجرّد عمل جسمي عضوي مُبتعد عن الذوق وعن المشعر وعن العقيدة وعن النظرة للحياة، إنها أسسنا للنظر في الحياة وفي قبولنا كل ما وافق الشرع المَصون، وفي رفضنا كل ما خالف مسلك الأمين المأمون.
فأما الواقفون في عرفة: فهنيئاً لتوفيق الله لهم، اغنموا حقيقة هذا الوقوف بحسن النظر في علاقتكم بعالم السر وأخفى جل جلاله، وأدبكم مع هذا الإله، ونياتكم أن تكونوا بعد الحج أصفى في المعاملة مع هذا الرب جل جلاله، وأوفى في القيام بِحقِّهِ الذي عاهدكم عليه.
ويا معشر من لم يحج ويحضر بجسده إلى ذلك المكان: إن هذه الفريضة وما تحمل من شعور إن بقي عندك من الإيمان شعور، ومن ذوق إن بقي عندك من الإيمان ذوق، إنها تحدوك وتدعوك إلى أن تتحسّر على فوات وقوفك بالحج وتمنّي أن تكون مِمن وقف بعرفة، ومع ذلك كله فهي تحدوك إلى سرّ اتصال بهؤلاء الواقفين النائبين عن بقية الأمة في شرق الأرض وغربها، وهي تدعوك وتحدوك إلى أن تتأمل أمرك بينك وبين ربك، من حكّمت في نفسك، من حكّمت في فكرك، من حكّمت فيما ترتضي وما تسخط، فيما تُحِب وما تكره، من حكّمت في مشاعرك وأذواقك، من حكّمت في مسلكك في الحياة، بمن اهتديت وبمن اقتديت، أينصب الله لك قدوة ثم تأخذ من يُخالفه في لباس أو قول أو فعل أو حركة أو سكون، من أنت وكيف إيمانك إن كان الحال هكذا!
#فوائد #الحبيب_عمر_بن_حفيظ #مقتطفات #الإرث_النبوي #عرفة #الحج #عمر_بن_حفيظ #الحبيب_عمر
09 ذو الحِجّة 1444