(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة الحبيب عمر بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بدار المصطفى ليلة الجمعة 10 ربيع الثاني 1436هـ بعنوان : حقائق الفوز والنصر والسعادة بميزان القرآن الكريم .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الحي القيوم، مكوِّن الأكوان والقيّوم على كل ذراتها في كل شان، في السر والإعلان، الواحد الأحد الحيّ الديان، الذي استوى عنده الإسرار والإعلان، وصرَّف الامور وطوَّر الاطوارَ بحِكَم عظيمة، فيها تسبح عقولُ أرباب الفهوم الواسعة الكريمة، وأهل الحظوظ العظيمة، ليستدلوا على عظمةِ العظيم فيزدادون له خضوعا، وإنابة وخشوعا، ويزدادون أدباً معه ومعرفةً به، وإنابةً إليه، وتذللاً بين يديه، فيُخلع عليهم مِن خلع السعادة، في الغيب والشهادة ما لا تبلغ العقول مَداه، ولا يتخيل الخيالُ غايتَه ومرماه، وكل عاقل قصُر عن الإحاطةِ بهذا الفضل الإلهي نُهاه، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء).
وعُشّاق الفضل العظيم، يخفُّ عليهم كلُّ شيء ليس بعظيم، وكل شيء لا يوصل إلى هذا المقام العظيم، ويتحلَّون حينئذٍ بحُلل عبودية، ويتصلون بسيد أهل تلك المزية، نبينا القائل ( إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبدُ وأجلس كما يجلس العبد)، هذا الذي يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، هو المصطفى لربِّ العباد، هو أمجد الأمجاد وأجود الأجواد، هو المقرب، الأقرب، والمطهّر الأطهر، هوالأعرف هو الأنظف، هو الأشرف، هو الأرفع، هو الأعزّ، وأمام ذكر شيءٍ من حقيقةِ معناه، يجب أن تتلاشى جميعُ أوهام العزّ مع مظاهرَ قضى اللهُ عليها بأن تنتهي، وتفنى وتزول وتصبح هباءً منثورا، تلكم المظاهر التي يضرب الشيطان وترَه ليُغري الناس بها، مظاهر صورة رفعة في حقائق انخفاض، وصورة عزة في حقائق ذلَّة أبدية، مظاهر الشرّ، مظاهر الاغترار بالسوء، مظاهر الاغترار بالدنيا وسلطتها وما إلى ذلك، مظاهر الاغترار بتلك الإمارات التي لا تقوم على حقائق الخلافة عن الله تبارك وتعالى، الإمارات التي تقوم على حقائق الخلافة لله جل جلاله، أصحابها كثيروا البكاء من خشية الله، كثيروا اللذة بالخلوة مع الله، لياليهم معروفة، وشؤونهم في الصدق موصوفة، أرباب زهادة، طلاب شهادة، أهل عبادة، أهل حقائق الإرادة، وكلٌّ منهم مريد وهكذا كانت سِيرُهم. بدءاً بالأنبياء والمرسلين إلى سيدهم وإمامهم وتثنيةً بأتباعهم الصادقين وخلفائهم الراشدين، من الأنبياء السابقين إلى خلفاء نبينا الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أرباب التواضع، أرباب الزهادة، أرباب الإنابة، أرباب البكاء في الليل، أرباب الخشية من الرب، أرباب الرحمة بالعباد، أرباب العبودية، أرباب الصدق، أرباب القرآن وتلاوته وتأمّل معانيه والغوص على أسراره، والاتصاف بأوصافه، فلهم مِن خُلق القرآن نصيب، أرباب تبعية ( يعفو عن الذنب إذا كان في حقه وسببه، فإذا أُضيع حق الله لم يقم أحدٌ لغضبه ) لا يغضب لنفسه ولكن لله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
وهذا يبين لنا حقيقةً في السيرة والمسار، يا أيها الأحباب، يا أيها الإخوان، يا أيها الواعون يا أيها المدركون، يا أيها السامعون، يبين لنا حقيقةً في السيرةِ والمسار، أن مسلك الأخيار وحقائق الأنوار، تجلو عن القلب الغبار، وتُذهب عنه الأكدار، فلا يكون هناك اغترار بسائر ما يُملي عدوُّ الله تبارك وتعالى في سرٍ ولا إجهار، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)، هكذا كان منهجُه في هذه الحياة، لسابق الإرادة أن يكونَ محل اختبار الخلق، ومحل ظهور صدق الصادق، وكذب الكاذب، وعزم صاحب العزم القوي، وتذبذب وتردد السفيه والغوي، إبليس، بدعوة أراده الله كذلك، كان الإيحاء إليه بشان هذا المنهج، (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ) بسابق إرادة منه تعالى، (فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا *وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) صوتك في الآلات، صوتك في الأشرطة، صوتك في الشاشات، (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) وهذه المواعيد، مواعيد لكل عاصي، أنه يرتاح لكل مخالف للشرع أنه يحصل فائدة ويحصل راحة أو سعادة بأي معنى، كلها مواعيد الكذب، مواعيد الغرور، ولا يقوم منها شيء، لا هنا ولا هناك، (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)، قال له اسمع، صنفٌ من عبادي سوف يقومون على أرضي بأمري وسابق إرادتي (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ)، هذه مناهجُه وهذه خططُه التي يلعب بها في هذا العالم، (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) قال كفى بي وكيلا وحافظا، أنا وكيل هؤلاء وأنا حافظهم يا أيها العدو، فأنتَ وغرورك وزورك وما عندك محدود وله أصحاب النار وحدهم، لا تستطيع تزيد فيهم واحداً، فقط هم هؤلاء يمشون معك ويصدّقون خيالاتك وأوهامك وإيحاءاتك، ولكن قوماً مصدر وجهتهم في الحياة وحيي أنا، على أنبيائي ورسلي، فيأخذون هذا الوحي وبلاغاتِ الرسل بوعي، فأُفيض على قلوبهم أنوارا، تدلُّ عليّ، وتهدي إليّ، وتبيّن طريقي، وينتفع بها مَن سبقت له منّي سابقة السعادة (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
فهم في خضمّ ما أمامهم مِن شان مَن استفزز منهم الشيطان، ومن استطاع الشيطان أن يستفزهم، بصوته وأجلبَ عليهم بخيله ورجله، وشاركَهم في الأموال وشاركَهم في الأولاد، فالأموال بينهم وبين الشيطان، والأولاد بينهم وبين الشيطان، يحصل مرادُه فيها ومنها، فيهم فيحوّلهم إلى أهل النار بواسطتها، فهم يأخذونها مِن غير حلِّها، ويحبون فيها الربا، ويظلمون بها الناس، إما ظلماً صريحاً وإما التواءً على القوانين وإلا لعباً بالشرع المطهر أيضاً وتخييلاً وإفساداً للرأي، والقول أنه حينئذ يجوز لك أن تأخذ هذا المال إلى غير ذلك مما يزيِّن لهم، فهو مشاركُهم في الأموال، وهو مشاركُهم في الأولاد، أولادٌ تحضر الشياطين عند بداية نطفهم، عند مجامعة آبائهم لأمهاتهم، فيجامع القرينُ مع قرينه زوجته، فينعقد الولد مِن منيّ هذا الإنسان وإبليسه معه والشيطان معه، لأنه لا يسمِّي اللهَ جل جلاله، ثم يعدُّ عُدة لمشاريع السوء والشر، فيكون ولده وولد الشيطان معاً. (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ) عِدهُم، وأنا معي وعد أعطيك ويعرف الناس مَن الذي ينجز وعده، ومن الذي يخلف وعده، وسبحان الذي لا يخلف الميعاد، جل جلاله.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) ما معنى كما استخلف الذين من قبلهم؟ يعني أن الصنف المقابل لهذه الأصناف التي يلعب عليها إبليس واقعٌ وقائمٌ في الدنيا من أولها إلى آخرها، فإن كادوا أن يضمحلوا، وأشد ما كادوا أن يضمحلوا أيام بعثته صلى الله عليه وسلم، لكن جاء الكبير، لما كان الأمر أشد جاء الأمجد، جاء الأرشد، فهو الأهل ذاك الظرف، ما تشهد الأرض في الظلمة والتفرق والحيرة مثل ما كان في ذاك الوقت، فجاء لها الكبير صلى الله عليه وسلم، السراج المنير بنفسه، وفي سنوات معدودة أتمّ إقامة الأمر على وجهٍ معجز، فيه تأييدُ الله، فيه تسديدُ الله، يرجعونه من تحت مكة وما يسمحون له يدخل أبدا ولا يقول الناس هذه الاعتبارات والمقاييس، إنك دخلت عنوة علينا ارجع هذا العام، لابد ترجع، والعام القابل إذا رجعت لا تزيد في مكة على ثلاثة أيام، ويقبل صلى الله عليه وسلم، ويخرج، ويُنزل الله عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا).
والمعنى، خاطِب العقول في هذا الوجود، وقل لها لا تغتروا بالمظاهر، لا تغتروا بالصور، لا تظنوا أن النصرة بالقوة ادخل مكة وأقتل وأعمل، أنا اليوم رجعت من تحت مكة، كنت محرماً ومنعوني من أن أطوف، ولكن شرف كبير أيضاً لمن تمكّن أن يطوف فأبى أن يطوف، حتى يطوف من جاءه بالمعروف، عثمان بن عفان، وصل إلى عند الكعبة، قالوا أنت تفضل طُف، قال: رسول الله خارج مكة وأنا أطوف!؟ ما رضي، أنت محرم، واجبك أن تكمل عمرتك، لا أكمل عمرتي.. فأعطي جزاءً على هذا الموقف، ليعلم الناس أن الأمور ليست صورا حتى في العبادات، ما هي صورة عبادات تجي عند الكعبة وتطوف، رعايتك لجناب محمد أرفعُ لك عند الله، وأشرف لك في تحصيل المنزلة لدى رب السماء تعالى في علاه، فإنه أعظم من الكعبة عند الرب.. وتأمل: هل خاصمه النبي؟ وقال: أنت وجب عليك الآن الطواف وتمكَّنت فلم تطُف وعليك الفدية!!؟ ولا كلمه بشيء من هذا، بماذا جازاه؟ بايعوه في بيعة شريفة تبيِّن هذا الصنف (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)..
معهم واحد كان من الذين للشيطان عليهم سلطان، راح يتخبأ وراء جمل، فما بايع، ما رغب، ما أحب، قُطع، بُعد، مُنع، طُرد، جاء الرضوان لهؤلاء الذين بايعوه في موقف عظيم مهيب، ثم حمل الحبيب يده، وقال: هذه عن عثمان، هل رأيتم الجزاء للصادق هذاك، مع أنه أُشيع أنه قُتل، وعقلاء الصحابة قالوا: عثمان ما قُتِل، كيف يبايع رسول الله عن واحد مقتول!؟ لا زال عثمان في الحياة، وأنزل الله في البيعة (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)، وهذه التزكية من الله لهذا الصّنف من الصحب الأكرمين، ما أعجبه، (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) ما هذه التزكية؟ أي شهادة هذه؟ (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) قال أهل العلم: فكانت أشرف يد بايعت ذاك اليوم التي بايعت عن عثمان، كلٌّ بايع بيده لكن عثمان مد عنه الحبيب يده، عثمان الصادق المخلص، عثمان المعظِّم لأمرِ الله وأمرِ رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولا رضي يطوف بالكعبة، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ورجع إلى عند النبي، مثلهم، بلا عمرة ، معهم حقيقة العمرة، معهم حقيقة العمارة، معهم مَن يعمر اللهُ به القلوب والأرواح، معهم محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
ولما حلقُوا وقاموا، والصحابة في شدة من هذا الإرجاع وهذا التعنّت وهذا الطغيان، وجاءت الريح تأخذ شعورهم إلى داخل الحرم، وكان يتبسم، يقول مرجعكم إلى الحرم حتى شعورهم دخلها الله إلى داخل حدود الحرم، ونزل فهو في الطريق هذه الآيات، قل لهم: عدِّلوا منظاركم، لا تحسبوا أن وقوع مثل هذه الحوادث في الوجود، ضعف ولا نقص ولا عار ولا جبانة ولا مهانة، أبعِدوا هذه الموازين كلها، مسلكي منصور معزز، من دخل دائرتي، مشرف مكرم يكون من الحوادث ما يكون، في هذا الوجود، ولا عبرة بغير ذلك، وكما تكلم عن دائرته قال له (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا )
جاء سيدنا عمر بن الخطاب، يتدارك استقراء الأمور والحوادث، ويعود إلى الميزان الذي رسخ عنده في النهاية، واستُدعي، قالوا له: رسول الله يدعوك، قال: نزل في شيء؟ يخاف لأنه وقف في شدة مع النبي، يقول له يا رسول الله ألستَ رسول الله؟ قال ويحك نعم، قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فلِم نعطي الدنيّة في ديننا؟ لماذا نرضى بهذه الشروط وهذا الرجوع وهذه المشاكل وهذا الاستبداد منهم!! قال إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري. أنا منصور الآن وبعد الآن، الأمر مقطوع، ألست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيتَ ونطوف به؟ قال: بلى، أحدَّثتُك أنك تأتيه عامَك هذا؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّفٌ به، وما قلته لك قولي هو الحق وكلامي هو الصدق، بقيت غلواء في نفسه من أثر البشرية، فذهب إلى أبي بكر الصديق، وقال له: أليس رسول الله؟ قال ويحك يا هذا الزم غرزَ ركابِه واقعد عند رجله، هو رسول الله، قال: ألسنا على الحق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، فلِم نعطي الدنيّة في ديننا!؟ قال: إنه رسول الله وليس يعصيه وهو ناصره. فوفقه الله أن يأتي بنفس الجواب النبويّ، يلقيه الله على قلب الصدّيق ويتكلم بها، نفس الكلمات النبوية التي ردَّ بها النبي هناك، أليس كان يحدثنا أننا نأتي البيت ونطوف به، قال: بلى أفحدثَكَ أنك تأتيه عامك هذا؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوَّف به. نفس الألفاظ التي خرجت من فم النبي، خرَّجها الله من فم أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، ورجع فلما دعوه قال هو لما استحضر الأمر وخاف على نفسه وخاف أن ينزل فيه قرآن يتلى، استدعوه، قال أنزل في قرآن يُتلى؟ قال رسول الله يدعوك ما ندري في آيات نزلت عليه، فزع أكثر، فلما جاء إلى عنده تلا عليه النبي، بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)، قال: أوفتح هو!؟ يا رسول الله الحال الذي نحن فيه، والرجوع من الطريق .. هل هذا فتح؟ قال نعم، إنه فتح، وما ترتب فتح مكة إلا على هذا، وعلى هذا الموقف حِكم من حكم الله تبارك وتعالى.
يجب على المؤمنين أن يستقوا هذه المعاني عن إلههم وعن نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهذا كلام الزيان، وهذه أوصاف الزيان التي تنوِّر الجنان، والتي تُخرج القلبَ من ضيق الزمان وأخبار الزمان الفاسدة التي ما ترتب عليها شيء، هذه الأخبار عن الإله الغفار، عن النبي المختار، عن القوم الأخيار، نِعم الزاد ونِعم الوسيلة ونِعم العلامة ونعم الدليل لنسلك مسلكاً واضحاً بيناً، يرفعنا اللهُ به في الدنيا والآخرة.
وجاء الموقف، في المتأخرين رحمة الله على سيدي الوالد، عليه رحمة الله تبارك وتعالى، في موقفه الصادق الصلب الذي فيه ما كان يسبّ، وما كان يظهر العِناد ولكنه كان ثابتاً، كان مبيّناً، موضّحاً لما جاء في القرآن، ولِما قال النبي عن ذي المسألة وعن ذي المسألة، فإذا جاء إليه بعضُ أرباب الحُكم والسلطة، قالوا: لا تقل كذا، يقول: طيب مرحبا، ما كان يعبّس في وجوههم، ولا يضرب أحداً منهم ولا يشتم ولا يعاند أحداً منهم، ولكنه ثابت على منهجه، ويقول ما كلفنا الله تعالى بالتبليغ بلغناه، فما كان اختطافه ذل، ولا كان مهانة، ولا كان ضعفلً، ولا كان جبناً، وإن بِتنا أياما لا تتهيأ شيءٌ من النفوس أن تدخل البيت، خيفةً من الوضع القائم، بِتنا أياما لا يدخل إلا أقل الأفراد من أرباب المحبة والولاء.. فما كانت إلا فتح، وما كانت إلا نصر، قرأناه ورأيناه وشهدناه..
وكذلك ما كان قبل وما كان بعد، وما كان مقتل سيدنا الحسين عليه رضوان الله، لو لم يكن فيه أسرارٌ أطلعَ اللهُ ما أطلع عبده المختار منها عليها لكان عند عرضِ الأمر يقول يا رب لِمَ؟ أخِّر هذا، وقدِّم هذا، وهو المحبوب، الذي لا يُرد له كلام، لكن بنفسه حدث فقال لأم سلمة: خذي هذه التربة، هذه حيث يقتل هذا الولد، وهو لا يزال طفلا، حيث يُقتل ابني هذا، الحسين التربة التي سيُقتل فيها من كربلاء، جاء بها له جبريل وأعطاه إياها، حملتها ووضعتها في القارورة عندها، وأبقتها، فلما كان يوم عاشوراء يوم مقتله هناك، نظرت إلى القارورة فإذا التراب دم، تحوّل دم، فكانت تقول لمن حواليها اليوم قُتل الحسين، قالوا كيف عرفتِ الخبر؟ قالت من قديم، أيام الحسين طفل، ويجلس على رجل الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورفع رأسه الكريم وعينه تدمعان، فسألته: ماذا بك يا رسول الله؟ قال أخبرني جبريل أن مِن أمتي من يقتل ولدي هذا، وما الذي حصل؟
وبالحسين الذي غدروا به أهل الفجور ** شهيد بالطف فائز بالرضى والحبور
وراح قاتله يدعو في لظى بالثبور
وما كان إلا نصراً، وما كان إلا مكانة، وما كان إلا رفعة، كم أجرى الله من منافع من أثرِ صُلب هذا الحسين، لهذا الدين ولانتشاره في الوجود، ما بقي من أولاده في ذاك اليوم إلا واحد، علي زين العابدين، هو الذي سلِم من جملة أولاده، وامتدت بعض النفوس، قالوا وهذا الولد اقتلوه، فتقدمت أخته زينب بنت الحسين، قالت: قبله اقتلوني، أتقتلون هذا الطفل!؟ قبله اقتلوني، فرقّوا وتركوه، خرج من زين العابدين محمد الباقر، خرج من محمد الباقر جعفر الصادق، حمل الراية، لا إمارة ولا سلطة، ولا جري خلفَ هذه المظاهر والاعتبارات لكن عرف الاعتبار فين، في حضرته جلس أبو حنيفة، عنه تلقى مالك، عنه تلقى سفيان الثوري، عنه تلقى سفيان بن عيينة، عنه تفرّعت مذاهب الهدى والحق في الأمة، هذا الذي جاء من صلب الحسين هذا، هل كان الحسين في وقت قتلِه مهانا؟ هل كان الحسين مغلوبا؟ كان هو المنصور، بقيت النّصرة، وهات لي ذرية الذي قتله؟ وماذا عملوا في الأمة؟ وأي ذكر لهم اليوم؟ وقريبا ستنكشف الستارة وستعرف مَن المنصور، مَن المؤيَّد، من المسعود، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) والعياذ بالله تبارك وتعالى
فإذا أنعم اللهُ عليك بقلب يقبل عليه بصدقٍ وأدب، واتباعٍ للحبيب الأطيب، فقد أعزَّك وقد نصرك، وقد وفّقك، فاسأله الثبات.
فيارب ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويارب اقبضنا على خير ملةِ
بحرمةِ هادينا ومحيي قلوبنا ** ومرشدنا نهج الطريق القويمةِ
دعانا إلى حق بحق منزّل ** عليه من الرحمن أفضل دعوةِ
أجبنا قبِلنا مذعنين لأمرِه ** سمعنا أطعنا عن هدىً وبصيرةِ
فياربّ ثبتنا على الحق والهدى ** ويارب اقبضنا على خير ملةِ
وعُمَّ أصولاً والفروعَ برحمةٍ ** وأهلاً وأصحاباً وكلَّ قرابةِ
وسائرَ أهلِ الدين مِن كل مسلمٍ** أقام لك التوحيدَ مِن غير ريبةِ
يا الله.. أنعمتَ علينا وعليهم بالاجتماع في طلبِ مرضاتك، على ما خلّف فينا نبيك، مِن سرِّ الذكر والدعاء والصلاة عليه والقرآن والعبادة والتذكير والتعلم والتعليم، فيا منعِماً بهذه النعم أتمِم علينا النعمةَ يارب الكرم، يا مَن جودُه أعظم، وعطاؤه أفخم، يا حي يا قيوم يا الله، نوِّر هذه القلوب، وقلوب من يسمعنا وقلوب أهل الولاء في الله، ونقِّها عن الشوائب، وعن المعائب، وعن المثالب، وعن قصدِ سواك، وعن إرادةِ غيرك يا الله، اجعل لنا قلوباً لا تقصدُ إلا وجهَك الكريم، يا الله، يا الله، نحن المسعودون بذكرِ اسمك، فبِبركة اسمك حقِّقنا بحقائق الصدقِ معك، وانظر إلينا بعين رحمتِك، يا الله، بتوفيقك قلنا يا الله، وبمنِّك علينا قلنا يا الله.
اجعل اللهم لنا مدداً واسعاً من حضرتك العليّة تلحقنا به بأهل المزيّة والمراتب العلية، وتدفع به عنا وعن وادينا ونادينا والأمة كلَّ أذية وبلية يا الله، يا الله، يا الله، بيدك الأمر كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه، السماواتُ سماواتُك والأرضُ أرضُك وما بينهما لك وملكُك وما فيهما ومَن فيهما خلقُك وعبيدك، وتحت قهرك وأمرك فاجعل لنا قلوباً تقصدكَ وحدك، ومكِّن فيها شهودَك بمرآةِ حبيبك المصطفى يا الله، حتى تنعِّمنا في الدنيا بنعيم الشهود، وفي الآخرة بلُقيا صاحبِ المقام المحمود، والسكنِ في جنةِ الخلود، والنظرِ إلى وجهك الكريم يا بر يا ودود.. يا الله.
ونعم الإلهُ أنت، ونعم الربُّ أنت، ونعم الكريمُ أنت، فيا محسناً أتمِم علينا الإحسان، وواصِل لنا الامتنان، واجمعنا في أعلى الجنان، مِن غير سابقةِ عذابٍ ولا عتابٍ ولا فتنة ولا حساب، هيّئ منهم عزائم تقوم بأمرك، وتبذل كل شيء في سبيلك، وتصدق معك، على قدم الاتباع لنبيك يا الله، وثبتهم على ذلك حتى تتوفى كلَّ واحدٍ منهم على أتمّ لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأكمل الإيمان وأحسن الإحسان وأعظم الرضوان يا كريم يا منان يا الله، هب لنا ذلك بمحض الفضل يا كريم، يا إلهنا الرحيم، لا تخيِّب رجاءنا هذا، ولا ترد دعاءنا هذا، ولا تؤخِّر مسألتَنا هذه، يا خير مجيب، يا أكرم مستجيب، يا علي يا قريب، يا الله.
ولمن سُقي قلبُه، بعد اليوم ما بعده، وله في مراقي القوم خيرُ مرقى وعُدَّة، وله بعد ذلك ما خبأه الله وأعدّه، وذلك ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وليس في مشاريع أهل الأرض شيءٌ يشبه هذه البضاعة، ولا يقرب منها، لا والله، ما هي إلا بضائع محمد، وسوقه، وتركته وإرثه وخلافته، ونظر الله له في أمته، وعُدمت في غير ذلك.
الله ينظر إلينا والأمة نظرة يصلح به الشان كله، ويدفع به عنا الشرَّ وأهلَه، ويثبِّتنا على ما يحب منا ظاهراً وباطنا برحمتك يا أرحم الراحمين، يا الله، ولعلك تسعد بقولها مرة مِن داخلِ قلبِك يقبلها منك الرب فيُسعدك بها، وأنت تقول له يا الله، يا الله، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، صلِّ وسلِّم على من هديتنا به وأرشدتنا به وأسعدتنا به، حبيبك الطيب الأطيب المطهر المقرب الأقرب، سيدنا المصطفى محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، اجزه عنا خير الجزاء، اجزه عنا أفضل الجزاء، اجزه عنا أكمل الجزاء، اجزه عنا أشرف الجزاء، اجزِه عنا بما أنت أهله، وبما هو أهله، يا أكرم الأكرمين، صلِّ عليه في الأولين، صلِّ عليه في الآخرين، صلِّ عليه في النبيين، صلِّ عليه في المرسلين، صلِّ عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، صلِّ عليه في كل وقت وحين، صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وأهل حضرة قُربِه، وعلينا ومعهم وفيهم يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
10 ربيع الثاني 1436