(229)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع قسم، بمديرية تريم، وادي حضرموت، 11 شوال 1440هـ، بعنوان: علامات قبول المؤمن في رمضان وتحقُّقه بالإيمان.
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ لله ربِّ العالمين، مالِكِ الـمُلْكِ، بيدهِ الأمرُ كلُّه، وإليهِ يرجعُ الأمرُ كلُّه، وبِتَدبيرهِ يدورُ الفُلْك، وأشهدُ أنْ لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، كلُّ شيءٍ إليهِ راجِع، ولِعظَمَتهِ خاضِع، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرَّة أعْيُنِنا ونُورَ قلوبِنا محمَّداً عبدهُ ورسولُه، أجَلُّ مُشفَّعٍ وأكرَمُ شافِع، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المُجتبى المصطفى سيِّدنا محمَّدٍ النُّورِ البدرِ السَّاطِع، وعلى آلهِ وأصحابهِ وكلُّ مُقتدٍ بهِ وله مُتابِع، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنبياءِ والمرسلين ذَوِي القَدْر الرَّافع، وعلى آلهم وأصحابهم والملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِكَ الصَّالحينَ مِن كُلِّ مُنيبٍ خاشِع، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، يا كريمُ يا قريبُ يا مجيبُ يا سامِع،
أمَّا بعد:
عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله؛ تقوى اللهِ التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها. واعلموا أنَّ مَن اتَّقى الله عاشَ قويّاً، وسَارَ في بلادِ الله آمناً
ومَن ضيَّع التقوى وأهملَ أمرَها ** تغشَّتْهُ في العُقبى فنونُ النَّدامَةِ
أيُّها المؤمن بالله تعالى في عُلاه: أدْرَكْتَ رمضانَ وصِيامَه، ونِلْتَ ما نِلْتَ مِن قيامهِ وعَملِ البِرِّ فيه وانقضَى، ووقفَ بين يدي ربِّك يشهدُ لهذا وعلى هذا، أتدري بِمَ يخرجُ المؤمِنُ مِن مواسمِ الخير؟ وكيف يكونُ حالُه بعد رمضان؟؛ إنَّ مَن قُبِلَ في الشهرِ الكريمِ الأنْوَر، ظَهَرَ عليهِ أثرُ قبولِه؛ فيما يقول، وفيما يفعل، وفيما يسمع، وفيما يُبْصِر.
أيها المؤمن بربِّك: إنَّ الله شَرَع الصيامَ لتَتقوَّى في قلبِكَ حقائقُ تقواه تعالى في عُلاه؛ كما قال لكَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }، تَتَوَقُّون سَخَط الجبَّارِ الذي لا يُطِيقُ سخَطَهُ أحَد، وغضَبَهُ الذي لا يَقْوَى عليه أحَد، بِحُسْنِ امتثالِكم لأوامرِهِ واجتنابِكم لِنَواهيه.
إنَّ الفرْقَ بينكَ وبين مَن لم يؤمِن بالله واليومِ الآخر؛ أنه لا يبالي ما قالَ وما فعلَ إذا صادفَ ذلك غَرَضَ نفسِه وهواه، وشهوتَهُ ومُرادَه؛ لا يَحسِبُ حِساباً لِقوَّةِ الجبَّارِ الأعلى، ولا يحسب حساباً للرجوعِ إليه جلَّ وعلا، ألا إنَّ مَن يؤمنُ باليومِ الآخِر حِفِظَه إيمانُه ووقَاه كثيراً مما يُريد أنْ يقولَ فلا يقول، وتريدُ النَّفسُ أنْ يفعلَ فلا يفعل؛ بل يستقيمُ على مُراقبَةِ الحقِّ عزَّ وجلَّ؛ مراقبةَ مَن يُوقِنُ أنَّه مُطَّلِعٌ عليه، وأنه راجعٌ إليه جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
أيها المؤمنُ بالله: إنْ خرجتَ مِن رمضانَ والإيمانُ أقْوَى في قلبِك، وصِرتَ في شَوالٍ تَتجنَّبُ النَّظرَ الحرام، وتتجنَّبُ قطيعةَ الأرحام، وتتجنَّبُ عُقوقَ أبٍ أو أم، وتتجنبُ أذِيَّةَ جار، وترعى الحقوقَ لأهلِها فقد قامَتِ العلامَةُ على قَبُولِك، وحُسنِ وُصولِك، وبُلوغِك رِضا ربِّك جلَّ جلاله، وصِحَّةِ صيامِك، وصحةِ قيامِك. وإنْ خرجتَ مِن رمضانَ والنَّفسُ تشتهِي المنظوراتِ السيِّئةَ، وتميلُ إلى الخبائثِ، ولا تُبالي بقطيعةِ رَحِم، ولا تُبالي أنْ يؤخِّرَ ابنٌ لكَ أو ابنةٌ الصلاةَ عن وقتِها، ولا تُبالي مِن أيَّ بابٍ دَخَل عليكَ الرزقُ، مِن حلالٍ أو حرامٍ أو شُبهةٍ ولم تُفَرِّق، فالعلامَةُ قائمةٌ أنكَ لم تُقبَلْ ولم يصحَّ لكَ الصومُ على وجهِه، ولم تكُن مِن أهلِ رمضان، ولم تكُن مِن أهلِ الإحسان، ولم تكُن مِن أهلِ الصِّدقِ مع الرحمنِ.
أيها المؤمن: ليس مرورُ الأيامٍِ عَبَثاً، وليس انقضاءُ الحياةِ عليكَ خيالٌ ولا لَعِب؛ ولكنها مراحِلُ تُدنيكَ إلى عالِم ظاهِركَ وخافيك؛ لِيُجازيك على ما كنتَ تَنوِي وعلى ما كنتَ تقصِد، وعلى ما كنتَ تَتحرَّك، وعلى ما كنتَ تَسْكُن، وعلى ما كنتَ تقول، وعلى ما كنتُ تفعل {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ }، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }.
ألا فاسْتَجْلِ معنَى إيمانِك وقَبولِك في رمضان؛ مِن وُجهاتِك، ومِن نياتِك، مِن أعمالِك بعدَ رمضان، مِن تَقْواك لعالِم السِّرِّ والإعلان، مِن ضبطِك لعينَيك؛ أما تدري أنَّ نظرةَ حرامٍ قد تَحْجُب صاحبَها الموتَ على الإسلام؟! أما تدري أنَّ نظرةً باحتقارٍ إلى مُسلِم قد تُوصِلُ صاحبَها إلى غضبِ الجبارِ الأعلى؟!، أما تدري أنَّ نظرةً بالاستحسانِ إلى زهرةِ الدنيا قد تُخَلِّفُ صاحبَها عن حوضِ محمدٍ يومَ القيامة؟!.
اتَّقِ اللهَ في عينَيك لا تلعَب بهما؛ لا تنظر العَوْرات، ولا تَتفرَّجٍ إلى المناظِرِ السِّيئة، ولا تنظرْ إلى الدنيا بعينِ التَّعظيم، ولا تنظرْ إلى مسلم بعين احتقار ((بِحَسْبٍ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ المسْلِم))، اضْبُط عينيك إنْ كنتَ مؤمناً؛ {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} يعني: أزواجهن، {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ ..}.
ذَكَرَ المحارِمَ، وذَكَر النِّساءَ بينهنُّ البَيْن، تظهرُ الزِّينةُ بالمقاييسِ الشَّرعيِّة، مِن غيرِ تَشَبُّهٍ بالكافِرات ولا الفاجِرات، هذه توجيهاتُ ربِّ الأرضِ والسماء، وعندَنا في الأرض توجيهاتٌ مِن أربابِ الشهوات، وتوجيهاتٌ مِن الكافرين على ظَهْرِ الأرض، معروضاتٌ في التلفزيونات وفي الإنترنت، يتأثَّرُ بها كثير مِن المسلمين والمسلمات، يَنْسَونَ ربَّهم وإلههم!، ويجعلونَ التَّبَعِيَّة: لفاجِر.. لكافِر.. لفاسِق.. لخبيث!؛ يدعُوهم إلى التَّبَرُّج، يدعُوهم إلى استعمالِ ثيابِ الكاسياتِ العاريات، يدعُوهم إلى الخروجِ عن الأدبِ في الشريعة، ويستجيبون لهم!.
بئسَ تلكَ التوجيهات، وويلٌ لمن استجابَ لها، أَتُعادِلُ بها توجيهاتٍ جاءت مِن ربِّ الأرض والسماء؟!، حملها جبريلُ إلى حبيبِ الله خاتمِ الأنبياء؟!، أيُّ شيء في عقلِك؟!، في عقيدتِك؟!، في قلبِك؟!، في فهمِك؟! إنْ كنتَ مؤمناً أعظمُ مِن توجيهاتِ الإله، وتوجيهاتِ رسوله.
{..وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، لا تُظْهِر للأجانبِ صوتَ الزِّينةِ وهي مخفِيَّةٌ تحت الحِجاب تحتَ الثياب، لا تضربْ بأرْجُلِها فيَظْهَر صوتُ الخَلْخال { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}؛ فإذا كان صوتُ الخلخالِ حرامٌ إظهاره، نهَى اللهُ عنه في القرآن؛ أتَكْشِفُ وجهَها للأجانب؟!، أتُخْضِع قولَها بالجوَّالاتِ للأجانب؟!.
مَن نَسِيَ توجهياتِ ربِّ الأرض والسماء ورَضِيَ بتوجيهاتِ الفُسَّاق الفُجَّار على ظهرِ الأرض فذاكَ الذي غَشَّ نَفْسَه، وعما قريبٍ لن يُدرِكَه مُتَطوِّرٌ ولا مُتَحَضِّرٌ ولا مُفَكِّرٌ ولا بريطانيٌّ ولا أمريكيٌّ ولا روسيٌّ ولا صينيٌّ، ولا صغيرٌ ولا كبيرٌ عند الغرغرةِ، وعند الوضعِ في القبر، ويومَ البعثِ والنشورِ، لن يُدركَه منهم أحَد، لن ينفعَه منهم أحَد، لن يُنْقِذَه منهم أحَد، وسَيَقِفُ بين يَدَيِ الواحِد الأحد.
انظر سيرتَك بعد رمضان؛ لِتَعْلَمَ أنتَ مِن أهلِ رمضانَ أم لا، أنتَ ممَّن صامَ فصَحَّ صومُه وقُبِل أم لا، أنت ممَّن قامَ فصَحَّ قيامُه وقُبِل أم لا، اقرأ هذا في وُجْهَتِك، في نِيَّتِك، في مَسارِك في الحياة، في نظرِ عينَيك، في سَمْعِ أُذُنيك، فيما ينطقُ به لسانُك مِن الأقوال؛ دَعِ السَّبَّ، دَعِ الغِيبَة، دَعِ الشَّتمَ، دَعِ النَّميمَة، تكلَّمْ بما يُرضِي ربَّك جل جلاله، {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ } مُخاطبتُهم لبعضِهم البعض، ومُكالماتُهم بينَهم البَيْن {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }، هكذا يقولُ الحقُّ في الأجرِ العظيمِ لمَن يأمرُ بالصدقةِ والمَعروفِ والإصلاحِ بينَ الناس، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخِر فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أوْ لِيَصْمُتْ)).
اللهم اجعلنا مِن المقبولين، وأعِدنا إلى رمضانَ ورمضاناتٍ في صلاحٍ للقلوبِ والقوَالِب، والأحوالِ والأقوالِ والأفعالِ، وصلاحٍ لِبُلدانِنا والمسلمين، ودفعٍ للسوءِ عنا وعن المؤمنين، يا أكرمَ الأكرمين وأرحمَ الراحمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
وقال تباركَ وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً * لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً * وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }.
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكِيم، وثبَّتَنا على الصِّراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيِهِ وعذابهِ الأليم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله؛ حمداً يُنَوِّر اللهُ به القلوبَ ويَغْفِرُ الذنوب، ويَدْفَعُ البلايا ويكشِفُ الكُروب، ونشهدُ أنْ لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له علَّامُ الغيوب، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقُرَّة أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، الصفيُّ الطَّاهِرُ الْـمُطَهَّرُ عن جميعِ الدَّنَسِ والعُيوب.
اللهم صَلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على حبيبِك المحبوبِ سيِّدنا محمَّد، وعلى آلهِ وصحبِه ومَن إليهِ مَنْسُوب، وعلى آبائهِ وإخوانِه مِن أنبيائِكَ ورُسلِكَ وآلهِم وصَحبهِم، والملائكةِ المقرَّبين، وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، يا مُقلِّبَ القُلوب، ويا مُقَلِّبَ القلوبِ والأبصارِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك.
أما بعد: فأوصيكم عبادَ ونفسِيَ بتقوى الله، فاتَّقوا اللهَ وأحْسِنوا يرحمْكُمُ الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }.
أيها المؤمنُ بالله، الموقِنُ بالرُّجوع إلى الله، الخارِجُ عن دائرةِ قومٍ كفروا فَهُم في الآخرة يُخاطَبُون، وهُم في النَّار يُعذَّبون، ويقولُ لهم جبَّارُ السمواتِ والأرض: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }.
أيُّها المؤمن بالله: لقد أنزلَ اللهُ في كتابِه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }، أقِمْ مسئولِيَّتَك على السمعِ والبصرِ والفؤادِ، ورَبِّ الأهْلَ والأولادَ، واسْتَعِدَّ لدَارِ المعَاد، وتزوَّدْ مِنَ الحياةِ القصيرةِ بأشرفِ الزَّاد، ولا يُعجبكَ الخبيثُ وإنْ كَثُر، ولا يُعجبكَ الخبيثُ وإنْ زُخْرِف، ولا يعجبكَ الخبيثُ وإنْ مالَت إليه نفسُك؛ فإنَّ الحرامَ أصلُ الشَّرِّ والفسادِ والضُّرِّ والعذابِ والبلاءِ في الدنيا والآخرة.
ألا إنَّ جوعاً خيرٌ مِن شبعٍ مِن حرام، ألا إنَّ فَقْراً خيرٌ مِن غِنىً مِن شُبهة، ألا إنَّ رَدَّ دِرْهمٍ مِن شُبهةٍ خيرٌ مِن أنْ يتصدَّقَ بمائة ألف ومِائة ألف ومائة ألف، ألا إنَّ الحلالَ بيِّن والحرامَ بيِّن وبينهما أمورٌ مُشتبهاتٌ لا يَعْلَمَهُنَّ كثيرٌ مِن الناس، فَمَن اتَّقى الشُّبهاتِ فقد اسْتَبرأ لدينِه وعِرْضِه، ومَن وقَع في الشُّبهاتِ وقَع في الحرام؛ كالرَّاعي يرعَى حولَ الحِمَى يوشِكُ أنْ يَرْتَع فيه، ألا وإنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإنَّ حِمَى الله محارِمُه))، لا تستطيع أنْ تَدْخُلَ حِمَى الملوك إذا تمكَّنُوا في المُلْكِ في الأرض، ومَلِكُ الملوك حِماهُ المحارم، لا تَدخُل إلى ما حرَّمَ عليك مِن نظرٍ أو سمعٍ أو نيَّةِ سوءٍ في القلب {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }.
خُذ نصيبكَ مِن دُنْياكَ ما تَكسَبُ مِن رضوان ربِّك، والإحسانِ إلى العِباد وأداءِ الحقوقِ لهم، وخُذ مُلْكاً كبيراً، وخيراً وَفِيراً، ونَعيماً دائماً، ومُرافقةً للنَّبيِّين والصِّدِّيقين، إنها الحقيقةُ أيُّها المؤمن {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ }.
أحَضَرْتَ الجُمُعة؟ ثاني جمعةٍ في شهرِ شوال بعد أنْ خرجتَ مِن رمضان، أحضرتَها؟، إنْ كنتَ حضرتَها فاخرُج مِن الجمعةِ بقَلبٍ مجموعٍ على الله، يُحبُّ رضاه ويتوقَّى سخَطَه؛ فذلك حضورُ الجمعة، لا حضورَ الجسد والخروجُ من المسجدِ كما دخلتَ، لا.. لا.. لا.. لا.
ما حضورُ الجمعة إلا هيبةٌ للذي دعانا إلى هذه الفريضة، وتعَرُّضٌ لمغفرتِه ورضوانِه، وخروجٌ بالغُفرانِ مِن الجمعة، وقلبٌ يَتوجَّه ويتَنَبَّه؛ هذا معنى حضورِ الجمعة، {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ .. }؛ اتركُوا أشغالَكم وأحوالَكم كلَّها لساعةٍ مُهِمَّةٍ تجتمعون فيها في الجمعة؛ ليغفرَ لكم.. لينظرَ إليكم.. لِيُصْلِحَ قلوبَكم، لِيَصْلُحَ حالَكم معه.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} وحَسُنَت صِلتُكم بالله، وعلمتُم ما ينبغي لكم {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } ابتغُوا مِن جُودِه ومِن كَرمِه ومِن رزقِه الظاهر والباطن، على بصيرة، على بينِّة، على نظامٍ مِن عند الله جل جلاله؛ أحلَّ لكَ فيه الحلال، وحرَّم عليكَ الحرامَ جلَّ جلاله وتعالى في علاه {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} ولا تنسَوا؛ اجعلُوا القلوبَ ذاكِرة: {وَاذْكُرُوا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
اللهم اجعَلنا مِن المفلحِين، واغفِر للمتقدِّمِين في مساجِدنا هذه وديارِنا هذه، واجمَعنا بهم في دارِ الكرامةِ وأنتَ راضٍ عنا، ثبِّتنا على ما تحبُّه منا، وحقِّقنا بحقائقِ القبولِ في رمضان، وحقائقِ حُضورِ الجمعة، واجمَع قلوبَنا على الوِجهةِ إليك، ونقِّها عن كلِّ ما لا يُرضِيك، وألهِمنَا رُشدَنا في القَولِ والفعل، وارزقنا حِفظَ الأسماعِ والأبصارِ والأفئدةِ عن مُوجباتِ الخِزيِ والنَّدامةِ في يومِ القيامة، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، أكْرِمنا بأعلى الكرامة، وعامِلنا بما أنتَ أهلُه، واجمَعنا في دارِ المُقامَة.
وأكثِرُوا الصلاةَ والسلامَ على مُنْقِذِكم مِن الظلام، والشركِ والآثام، وداعيكم إلى الملِك العلام، خاتمِ الأنبياءِ الكرام، عبدِ الله ورسولِه محمدٍ عليهِ وآلِه وصحبِه أفضلُ الصلاةِ والسلام؛ فإنَّه قال: ((إنَّ أوْلى الناسِ بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاة))، وقال: ((مَن صلَّى علي واحدةً صلى اللهُ عليهِ بها عشرَ صلوات))، وقال اللهُ في حقِّه، بعد أنْ بدأَ بنفسِه، وثنَّى بالملائكة، وأيَّهَ بالمؤمنين تعظيماً وتكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك الحبيبِ المحبوبِ سيدِنا محمدٍ، نورِ الأنوارِ، وسِرِّ الأسرار، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنِيسِهِ في الغار، مُؤازِرِ رسولِ الله في حالَيِ السِّعَةِ والضِّيق، خليفةِ رسول الله سيدِنا أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعلى النَّاطقِ بالصوابِ، شهيدِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيدِنا عمرَ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوة القرآن، مَن اسْتَحْيَت منه ملائكةُ الرحمن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدنا عثمان بن عفَّان، وعلى أخِ النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغاربِ، أمير المؤمنين سيدِنا عليِّ بن أبي طالب، وعلى الحسنِ والحسَينِ سيدَي شبابِ أهلِ الجنَّةِ في الجنة، وريحانَتَيْ نبيِّكَ بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهما الحَوْراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكبرى، وعائشةَ الرضا، وأمهاتِ المؤمنين، وعلى الحمزة والعباس؛ عمَّي نبيِّكَ، وعلى آل بيتِه المطهَّرين عنِ الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بدرٍ وأهل بيعةِ العَقبة، وأهل أُحُدٍ وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصَّحب الأكرمين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعْلِ كلمةَ المؤمنين، اللهمَّ دَمِّر أعداء الدين، اللهم اخْذُل جموعَ مَن اجتمعُوا على تفريقِ المسلمين وأذاهُم، وبَعْثَ الفِتنةِ بينهم، اللهم لا تُبَلِّغ أعداءَك مراداً فينا ولا في أحدٍ مِن أهلِ الإسلام، اللهم اجمع قلوبَ المسلمين على ما تُحب، واجعلنا فيمن تُحب، وأعِذْنا مِن كل سوءٍ في الدنيا وفي المنقلب.
يا ربنا ثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول، وثبِّتنا على الحقِّ فيما نفعل، وثبِّتنا على الحقِّ فيما نعتقد، ولا تُعرِّضنا للخِزيِ ولا للنَّدامة، اللهمَّ بارِكْ في أعمارِنا، واختِمْها لنا بالحُسنى، وارزُقنا العُثورَ على المطلبِ الأسنَى والمشربِ الأهنى، اللهمَّ اصرِفنا مِن جُمْعَتِنا بقُلوبٍ عليك مجموعَة، ودعواتٍ مقبولةٍ مسموعة، ووجهاتٍ صادقة، وإناباتٍ إليكَ خالصَة.
اللهم نَقِّ قلوبَنا عن الشَّوائب، واسقِنا مِن أحْلى المشارب، ورَقِّنا إلى رفيعِ المراتب، اللهمَّ ادفَع المصائبَ عنا وعن أمَّةِ نبيِّكَ أجمعِين، وأدِم لنا الأمْنَ والطُّمأنينةَ والاستقرارَ في حُسْنِ الائتمارِ بأمرِك، والانتهاءِ عن زجْرِك، واتباعِ حبيبِك وصفوتِك وخِيرتِك مِن خلقِك، اللهم اختِم لنا بـ(لا إلهَ إلا الله)، واجعل آخرَ كلامِ كلِّ واحدٍ منا مِن حياتِه هذه (لا إلهَ إلا الله)، وبارِك لنا في أحوالِنا وأهالينا، ومُناسَباتِنا، وشئونِنا الظاهرةِ والباطنةِ، برَكةً واسِعةً يا أرحمَ الراحمين.
واغفِر لنا ووالدِينا، وذَوِي الحقوقِ علينا، واغفِر للمؤمنينَ والمؤمنات، والمسلمينَ والمسلمات، أحياهُم وموتَاهم إلى يومِ الميقات، يا مجيبَ الدعواتِ، يا قاضيَ الحاجات، فرِّجْ كروبَ المؤمنينَ والمؤمنات، وعامِلْنا بالفضلِ وما أنتَ أهلُه في الظَّوَاهِرِ والخَفِيَّات، برحمتِك يا مجيبَ الدعوات، يا قاضيَ الحاجات، يا ربَّ الأرضينَ والسمواتِ، يا غافرَ الخطيئاتِ، يا الله.
نسألكَ لنا وللأمة مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بكَ مما استَعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك محمد، وأنتَ المستعان، وعليكَ البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ.
عباد الله: إن الله أمر بثلاثٍ ونهى عن ثلاث: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
فاذكرُوا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكرُوه على نِعَمِه يَزِدْكم، ولَذِكرُ اللهِ أكبر.
11 شوّال 1440