(229)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة، بعيديد، تريم، 27 ذي الحجة 1439هـ بعنوان: كيف تودع الأمة عاماً هجريّاً وما أحوال المؤمن في مرور الزمن.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ للهِ (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)، وأشهدُ أن لَا إِلَهَ إِلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ له ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا). وأشهدُ أن سيَّدَنا ونبيَّنا وقُرَّة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُهُ ورسوله، أرسله اللهُ بشيراً ونذيرا (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)، وجعله المَثلَ الأعلى، والقدوة الأحسَن العُظمى لِكُلِّ مَن عَقَلَ عن اللهِ سِرَّ خلقِهِ وإيجادِهِ وعظيمَ إنعامِهِ وإمدادِهِ، وموجباتِ إفضالِهِ وإسعادِهِ.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المجتبى المصطفى سيِّدِنا محمدٍ هادِينا إلى سبيلِ الرَّشاد، وعلى آله الأطهارِ وأصحابِهِ الأمجاد، ومَن سارَ على سبيلِهِم صادِقَاً مُخلِصَاً إلى يومِ التَّناد، وعلى آبائه وإخوانِهِ مِن الأنبياءِ والمرسلينَ سادَةِ أهلِ المحبَّةِ والوِدَادِ، وعلى آلهم وصحبِهم والملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصالحين، يا حيُّ يا قيُّوم يا كريمُ يا مانِحُ يا مُتَفَضِّلُ يا هَاد، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا بَرُّ يا جَوَاد.
أما بعد .. عباد الله: فإني أوصيكُم ونفسيَ بتقوى الله.
تقوى اللهِ التي لا يَقْبَلُ غيرَها، ولا يَرْحَمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا علَيها.
أيها المؤمنونَ بالله، المُودِّعون لعامٍ مِن أعوامِ هجرةِ نبيِّ اللهِ وخاتم رُسُلِ الله سيِّدِنَا محمد بن عبد الله : مُنطَوِياً عنكم ذلك العام؛ وقد انطوى فيه منكم ما يَرجِعُ إليكم، ويُعرَضُ عليكم في يومِ مآبِكم ومعادِكم ورُجْعَاكُم إلى الذي إليه يرجِعُ كُلُّ شيء.
وهكذا تفعلُ بكمُ الليالي والأيام، والأسابيعُ والشهور والأعوام؛ هي مَحَطُّ الزَّادِ لذوي الاستِعدادِ مِن المُوقِنينَ بدَارِ المَعَادِ. وهي محطَّاتُ الغفلةِ والفسادِ لأهل الزَّيغِ والعِناد، ومَن لم يستعدَّ للقاءِ ربِّهِ والرجوعِ إليه. هي الأيامُ والليالي تَطْوِي عنكم أعمارَكُم، وتنطوي فيها مساعيكُم ومكاسِبكُم، هي الأيامُ والليالي مَظْهَرٌ مِن مظاهرِ إحاطةِ اللهِ بكم، وخَلْقِهِ وإيجادِهِ إيَّاكُم. لم يُرَتِّبْ وضعَ الليلِ والنهارِ إنسِيٌّ ولا جنِّيّ ولا مَلَكٌ ولا مَن سِواهم (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) يَخْلُفُ هذا هذا، وهذا هذا. وقد نبَّأ الحكيمُ العليمُ الذي رتَّب ذلك.
وكُلُّ مَن على ظهر الأرضِ مقهورون بقَهرِ مَلِكِ المَمالك؛ لا يستطيع أحدٌ منهم أن يَقْلِبَ الزمنَ ولا أن يُغَيَّرَهُ، ولا أن يجعلَ في حياتهِ مهما اغترَّ وتكبَّرَ واجترأَ وافترَى وضْعَاً غير وضعِ الليلِ والنهارِ، ومشيِ هذه الكواكبِ والنجومِ بهذا المَسارِ، وترتيبِ مقَدِّرِ الأقدار. فالكلُّ بذلك ساجدٌ للإلهِ الواحدِ، وإن كان فيهم المُكابِرُ والمُعاند. إنه جهولٌ ظلُومٌ لا يَمْلِكُ لنفسِهِ ولا لغيرِهِ نَفْعَاً ولا ضُرَّا، ومع ذلك يتجرَّأُ في مكاسبِهِ وأعمالِهِ فيقصِدُ مخالفةَ إلهِه الذي خَلَقَهُ، ويعصيه فيما جاءه على لسانِ رسولِهِ نهياً وأمرا. وهو محكومٌ بعظمةِ هذا الإله؛ لا يستطيعُ أن يُغَيِّرَ سُنَّةَ اللهِ في الوجودِ.
فيا مَن لا يقدِرُ على تغيير الليلِ والنهار: وعزِّةِ مُكَوِّر النهارِ في الليلِ والليلِ في النهار، لا تستطيعُ تغييرَ سُنَّتِهِ في مؤاخَذَتِهِ لأهلِ المعاصي والفسادِ والزَّيغِ والعِناد، وما يحِلُّ بهم مِن المَثُلات، وينزلُ بساحتِهم من العقوبات، كما لا تستطيعُ أن تُغَيَّرَ مسارَ الأوقات ومُضيَّ الليل والنهار بقُدْرَةِ بارىءِ الأرضِ والسماوات تماما، ولكنَّك المُجْتَرِيءُ المُفتري.
(إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) مُكَابِرٌ جاحدٌ (وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ) عندما يرجعُ إلى الإنصافِ والتأمل اختياراً وإقراراً بالحقِّ؛ أو عندما تنكشفُ الستارةُ قهراً وإذعاناً لِكُلِّ متكبِّرٍ جبَّارٍ. (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ) لو يُمسَخُونَ وتنتهي حياتُهم ويصيرونَ كالأرض سواءًا، لا وجودَ لهم (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ) يودَّون ذلك ولا يقدرون على ذلك (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ ..) مِن أربابِ الأفكارِ المختلفةِ ممن جمعَهم جامِعُ الكُفرِ وعصيان المصطفى البدرِ محمد. (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ) شرقِيُّهم وغربيُّهم، رأسماليُّهم واشتراكيُّهم، أميرُهم ومأمورُهم، فردُهم وجماعتُهم (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا).
إنها نتائجُ ما طَوَوْهُ في ضمنِ الليالي والأيام ومرور الشهور والأعوام؛ الفُسْحَةِ التي وهَبَهَا الملكُ الأعلى لِكُلِّ مُكَلفٍّ على ظهرِ الأرض، من كُلِّ عاقلٍ مِن الإنسِ والجِنِّ بلغَته دعوةُ الله التي بعثَ به رسلَه وأنبياه المختومِين بمحمدٍ بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسلم ومَن والاه.
يوَدُّون (لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ) بجميعِ ما عندهم بفقرِ الفقيرِ منهم، وغِنَى الغنيِّ منهم، ووزارةِ الوزيرِ منهم، وصناعةِ الصَّانِعِ منهم، وحضارةِ المُتَحَضِّرِ منهم، ودولةِ صاحبِ الدولةِ منهم ؛ يوَدُّونَ (لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ) ؛ لِمَا طوَوه في خلالِ هذه الأيام والليالي مِن جَرَاءةٍ على خالقِهِم وخالقِ الأيام والليالي لهم؛ ربُّ الوقتِ الذي جعلَهُ حَاكِمَاً على هذه الأصنافِ من المخلوقات، وهو الحاكمُ عليهم وعلى الأوقات، على الظُّرُوفِ الزَّمَانِيَّة والظروف المكانية التي خلَقها لهم، وجعلهم على حاجةٍ إلى مكانٍ وإلى زمان. وقد تقدَّسَ ربُّ الأكوان وخالِقُ كُلِّ شيءٍ عن الزمانِ وعنِ المكان، كانَ قبلَ أن يَخْلُقَ زماناً ومكاناً، وهو الآن على ما عليهِ كان، لا يتغيَّرُ ولا يتبدَّل، ولا يعتَرِيه حادث، وهو الذي يُحْدِثُ الحوادثَ جل جلاله. فيا فوزَ مَن كَسَبَ الطيِّباتِ، وانزَجَرَ عن الخبائث.
ولقد أُحِلَّت لنا في شريعةِ الرحمنِ الطيِّباتُ مِن المقاصِدِ والنيَّاتِ، ومِن العَزَماتِ والإراداتِ، ومِن الأفعالِ والحركاتِ والسَّكَنَاتِ، ومِن الأقوالِ والكلماتِ؛ أُحِلَّ لنا الطيِّباتُ في كُلِّ ذلك، وحُرِّمَت علينا الخبائث؛ منظوراتٍ ومسموعاتٍ، ومقُولاتٍ وملفُوظاتٍ، ووُجْهَاتٍ ونيِّاتٍ، وحركات وسكنات. فيَا فوزَ مَن أبْطَنَ تلك الأيام وطوَى في فرصتِهِ وفُسْحَتِهِ في العُمْرِ طاعاتٍ وحسناتٍ مُتَجنِّبَاً للمعاصي والسيئاتِ، مُقَدِّراً لِفُرَصِ الآناءِ والسَّاعاتِ واللحظاتِ، مُوقِناً أنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِن نفساتِ العُمْرِ جوهرَةٌ لا قيمةَ لها مِن بينِ جميع المجوهرات والجواهِرِ الثَّمِينات. باغتنامِه ترتفعُ له الدرجات، وبإهمالهِ وإضاعتِه يتَعَرَّضُ للحسراتِ الشديدات (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).
فانظروا كيف تمضي بكم الليالي والأيام. وما تطوُونَ فيها مما يُقَابِلكم عند الحِمَام، وفي البرازِخِ ويومَ القِيَام، وعند العَرضِ على الملِكِ العلَّام، وعند تطايُرِ الصُّحُفِ بالأيمانِ أو بالشمائلِ تُسْتَلَم، ما أهيَبَهَا مِن ساعةِ استلام. وعند وضعِ الميزان لتوضَعُ الحسنات في كَفَّة والسيئاتُ في أخرى (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) مَصِيرُهُ الهاوية: النارُ المُوقدةُ التي لا قَعْرَ لها (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ). أجِرنا اللهمَّ مِن نارِك وأدخِلنا بفضلِكَ جَنَّتَك.
بمَ ثَقُلَت موازين هذا؟ بما طَوَاهُ في خلالِ هذا الوقت، وهذه الفُسحة، وهذه الفرصة، وهذه الأيام والليالي. ليلاً ونهاراً كيف يُمَضِّي وقته؟ وماذا يَطْوِي في ذلك الوقت مِن الكلمات؟ والنظراتِ والمسموعاتِ؟ والمَمْشَى والبطْشِ والأخذِ، والقبولِ والرفضِ، والمحبَّةِ والبُغْضِ ؟ وما يجري في داره وبيته؟ وما يفيضُ مِن قلبه على جوارحِهِ ؟ وما يتخاطَبُ به وما يستقبِلُ بهِ الأحداث.
وشؤون الحياة وما يدورُ فيها. كُلُّ ذلكم بحسب ما فيه تَثقُلُ الموازين، وبحَسَبِ ما فيه تَخِفُّ الموازين – والعياذ بالله تعالى-.
فانظروا في آخرِ العام الذي جعلَ الله في خاتمتِهِ لأهلِ الإسلام فريضةَ الحجِّ والإحرام، والوفَادَة على البيتِ الحرَامِ ؛ والاقتداءَ في كُلِّ ذلك بخيرِ الأنام؛ عبدِهِ خيرِ هادٍ وإمام، صلوات ربِّي وسلامُهُ عليه. فيكونُ في الشهرِ الأخير الثاني عشر ذلكم المَوسم ويوم الحجِّ الأكبر، لتَتَّصِلَ قلوبُ مَن آمنَ وصَدَّقَ بالإلهِ الذي فَطَر، ممن وفَدَ عليه إلى البيتِ العتيقِ وزيارة النبيِّ الأطهر. ومَن لم يَفِد مِن كُلِّ مَن آمنَ باللهِ ورسوله وما جاء بهِ عن اللهِ فيما نهَى وفيما أمَر تتصلُ قلوبُهم في خاتمةِ العام بالوِجْهَةِ إلى ذي الجلالِ والإكرام، ويُرَاجِعُونَ حِسَابَاتِهِم فيما مضَى عليهم خلال هذا العام.
يا صاحِبَ عينٍ تكرَّرَ عصيانُها بطْنَ العام المُنْصَرِم : ويحك ثم ويلٌ لك إن انختمَ العام ونظرَاتُ العينِ المحرمةِ مرقومةٌ في الصُّحُفِ بأيدي سفَرَةٍ كِرَام، تُقَابَلُ بها يومَ القيام، ولو أدرككَ شؤمُها في ساعةِ الغَرغرة والحِمَام لزاغَ قلبُكَ عن دينِ الحقِّ والإسلام.
ويلٌ لكَ يا صاحِبَ الأُذُنِ العاصية المُتَسَمِّعَة إلى ما حرَّمَ الحقُّ عليها مِن حديثِ قومٍ يكرهونَ استماعَ حديثِهم، أو آلاتٍ مُحَرَّمة، أو غيبةٍ أو نميمةٍ.. انقَلِع عن ذلك قبلَ أن ينتهي ويرتفِعَ العام؛ فإنما الأعمالُ بالخِتَام.
ويلٌ لك يا صاحِبَ البطنِ العاصي إن لم تتدارك ما فرَّطتَ خِلال المُدَّة والليالي والأيام.
ويلٌ لكَ يا صاحِبَ الفَرج العاصي، ويلٌ يا صاحِبَ الرِّجلِ المُمْتَدَّةِ في المشيِ في الحرام، وإيقاع الأذى بالناسِ أو الفتنةِ بين الأنام..
ألا أنقِذ نفسَك ما دامت معك الفرصة، وأَحْسِنِ الخِتَامَ لهذا العام. وانظر كيف تَمضِي، وبأيِّ نورٍ تستضيء.
اللهم نَوِّر قلوبنا بأنوارِ الصِّدقِ معك، واجعلنا في خواصِّ مَن أنابَ واستجابَ ولبَّى دعاءَك ونداءَك، واتَّبَعَ حبيبَك خاتمَ أنبيائك برحمتِك يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقولُه الحقُّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا).
شَكَرَ اللَّهُ سعيَنا وقطَرنَا بأهلِ السَّعيِ المشكور، والعَمَلِ المبرُور، وتقَبَّل منَّا ما وَفَّقَنا له مِن الحسناتِ والخُيُور، وعفَا عنَّا وغفَرَ لنا جميعَ السيئات والوُزُور، وحقَّقَنا بحقائقِ التوبة إليه إنه التَّوَّابُ الرَّحيمُ الغفورُ.
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيِه وعذابِه الأليم.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغَفورُ الرَّحيم.
الحمدُ للهِ بيدِهِ المُلْكُ والملكوت، وأشهدُ أن لا إِلَهَ إلَّا الله وحده لا شريك له الحيُّ الذي لا يموت، وأشهدُ أنَّ سيَّدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعيُنَنَا مُحَمَّداً عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك الهادي إليكَ والدالِّ عليك سيدِنا محمد، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن سارَ في دربِهِ إلى يومِ الوقوفِ بين يديك، وعلى آبائه وإخوانِهِ مِن الأنبياءِ والمرسلين أَكْرَمِ الخَلْقِ عليك، وعلى آلهم وصحبهم والملائكة المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد .. عباد الله : إني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله.
وفي آخر جُمُعَةٍ لهذا العام المُنصرمِ عنَّا : اُنظروا ما طوينا فيه، وما جعلناه حامِلَاً له؛ فرَاجِعٌ إلينا ما يَحْمِلَهُ في يومٍ تعنُو فيه الوجوه للحَيِّ القيوم (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا). فحَقِّقُوا التوبةَ والإنابة، والعَزَمَاتِ الصادقةِ على إقامةِ أمرِ الله في أيامِكُم وليالِيكُم، في مختَلَفِ مُناسباتِكم، في دياركم، وبينَ أُسَرِكُم، وفي مواطنِ أعمالِكم، وفي الشوارع والأسواق، وميادينِ مجتمعاتِكم ؛ فإنَّه الشأنُ الذي يترتَّبُ عليه فوزُكُم وخسرانُكُم، وسعادتُكُم وشقاؤكُم.
عظِّمُوا أمر الله، واحذروا ما لا يحبُّه الله، وما لا يرضاه، من النظراتِ والكلماتِ، واستعمالاتِ الأجهزةِ، وتربيةِ الأسرة، والانتباه من الأبناء والبناتِ الذين أنتم في مستقبلِ عامٍ دِراسيٍّ جديد لهم، ونيَّاتُكم في تدرسيهم، وتعليمُهم النِّيات، والخشيةُ عليهم في أخلاقِهِم وأفكارِهِم، والانتباه منهم والملاحظة لهم ؛ وبمثلِ ذلك اختمُوا عامُكم واستقبلُوا عاماً هِجْرِيَّا جديدًا مِن أيام الأعمار سيُغَيِّبُ فيكم كثيراً كما غَيَّبَ هذا العامُ منا كثيرا، صغيرا وكبيرا، إناثا وذكورا أخيارا وأشرار ؛ انطوت صفحاتهم في طَيِّ العام وفي أثناءِ العام ؛ وهكذا تفعل بِنا الأعوام. فأحسِنُوا الخِتَام لهذا العام، وأقبِلوا بالصِّدقِ على ذي الجلالِ والإكرام.
واعلموا أنَّ مِن أعظَمِ ما يُورثكُم حُسْنَ الانتهاج، والاستضاءةِ بنورِ الله والسِّراج، ويُقَوِّم لكم كُلَّ اعْوِجَاج، ويُكَفِّرُ عنكم الذنوب المعاصي، وبه تَنْجُونَ يوم الأخذِ بالنواصي: كثرةُ صلاتِكم وسلامِكم على رسولِ الله محمدٍ ليلاً ونهاراً، سِرَّاً وإجهارا ، فإنه القائل : { إنَّ أولى الناسِ بي يوم القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاة}.
وإنَّ اللهَ أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثَنَّى بملائكتِهِ المُسَبِّحَةِ بقُدْسِهِ، وأَيَّهَ بالمؤمنينَ مِن عباده تَعمِيما ؛ فقالَ مُخْبِرَاً وآمِرَاً لهم تكريماً: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِكَ المُجْتَبَى المُصْطَفَى سيِّدِنا محمدٍ نورِ الأنوار وسِرِّ الأسرارِ، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازِرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق؛ خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكرٍ الصديق.
وعلى حليفِ المحراب، النَّاطِقِ بالصواب، ناشرِ العدلِ في الآفاقِ؛ أمير المؤمنين سيدِنا عمرِ بن الخطاب.
وعلى مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن؛ أمير المؤمنين ذي النُّورَينِ سيِّدِنا عثمان بن عفَّان.
وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ عِلمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب؛ أمير المؤمنين سيِّدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسِينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنةِ، ورَيْحَانَتَيِّ نبيِّك بنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهما الحَوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرِّضى وأمهاتِ المؤمنين، وبَنَاتِ سيِّدِ المرسلين، وعلى عَمَّيهِ الحمزة والعباس، وأهل بيتِه المُطَهّرينَ عنِ الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة وأهلِ غزوةِ بدرٍ وأهلِ أُحُدٍ وأهلِ بيعةِ الرضوان، وعلى سائرِ الصَّحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أحيِي قلوبنا بحبهم، وثبِّتنا في الاستقامةِ على دربهم، واسقِنا مِن شربهم، واحشُرنا يوم القيامةِ في حزبِهم.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشِّركَ والمشركين. اللهم اختِم عامَنا بخيرٍ يا ربَّ العالمين. اللهم اجعَل العامَ المقبلَ مقبلاً علينا وقادماً على الأمة بخيرِك العظيم، ومَنِّكَ الجسيم، وفَرجِك القريبِ العاجل، ونصرِك المؤزَّر الشامل. يا حيُّ يا قيومُ يا قادرِ أصلِح لنا كُلَّ باطنٍ وظاهر، وادفع عنَّا شَرَّ أهلِ الكفرِ والزَّيغ، ومكرَ كلِّ ماكر، وأذى كُلِّ مؤذي، وسحرَ كُلِّ ساحر، وعينَ كُلَّ عائنٍ، ومكابرةَ كُلَّ مكابر، يا قويُّ يا قادر يا أول يا آخر، يا باطن يا ظاهر.
نستودعك ما آتيتنا مِن الخيرٍ في عامِنَا المُنْصَرِمِ عنَّا وما كان قبلَه، ونستغفرُك لما كان فيه مِن تقصيراتِنا وتخبيطاتِنا وسيئاتنا، وسُوءِ أَدَبِنَا ومخالفتِنا لأمرِكَ، ووقوعِنا في زَجرِك، وخُروجنا عن سنَّةِ نبيِّك، فاغفِر لنا يا خيرَ الغافرِين، وارحمنا يا أرحمَ الراحمين، وتُب علينا توبةً نصوحاً يا مَن يُحِبُّ التَّوابينَ ويُحِبُّ المتطهَّرين.
اللهم وما بقيَ لنا من عُمرٍ فاجعَله في الذِّكْرِ والشُّكرِ وحُسْنِ العِبَادة، وأَسْعِدنَا بأعظَمِ السَّعَادةِ، وأصلِح لنا الغَيبَ والشهادة. اللهم فرِّج كروبَ الأمَّة، واكشفِ الغُمَّة، واجلِ الغُمَّة، وادفعِ النِّقمَة، وعامِل بمحضِ الجُودِ والرحمة.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
واغفر لنا ولوالدينا، ومشائخنا وذوي الحقوق علينا، وقراباتِنا وأهل وِدَادِنَا ومَن والانا فيك، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، أحيائهم والأموات إلى يومِ الميقات، يا مُجيبَ الدعواتِ، يا قاضي الحاجاتِ، يا ربَّ الأرضينَ والسماوات.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث: ( إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكم، واشكرُوه على نعمهِ يزِدْكم.. ولذكرُ الله أكبر.
27 ذو الحِجّة 1439