(229)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جامع الروضة بمدينة تريم، وادي حضرموت، 28 جمادى الثاني 1439هـ بعنوان: ميزان مغانم ومكاسب الأعمار.
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد للهِ ربِّ العالمين الملكِ الحقِّ المبين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك لهُ، جامعُ الأوَّلينَ والآخِرينَ ليومِ الدِّين؛ يومَ يقومُ الناسُ لِربِّ العالمين (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ).
وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعينِنا ونورَ قُلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، سيِّدُ المرسلين وخاتِمُ النبيين، إمامُ المستغفرينَ والتائبينَ والذاكرينَ والشاكرينَ والراكعينَ والساجدين.
اللهم أَدِم صلواتِك على عبدِك المصطفى محمدٍ المجتبى، وعلى آله وأصحابه أهلِ الصدقِ والوفاء، ومَن أحبَّهم ووالاهُم واقتفى، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين الأئمةِ الحنفاء، وعلى آلهم وصحبِهم مَن حازُوا الشَّرَفَا ، وعلى ملائكتِك المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعدُ عباد الله .. فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله؛ تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: وإنَّ مِن مجال تقوى اللهِ جلَّ في عُلاه: أن يستقيمَ النَّظَرُ فيما يُغتنَمُ في الحياة، وفيما يُحَصَّلُ مِن مرورِ الليالي والأيام والأسابيع والأشهرِ والسنوات، في الآجالِ المحدوداتِ المعدوداتِ، والأنفاسِ المحصوراتِ إلى أجلٍ قالَ عنه ربُّ الأرضينَ والسماوات: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ) وقال: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) وقال: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
ولقد قال تعالى في تكوين هذه السَّنَةِ والعامِ من الأشهرِ والأسابيع والليالي والأيام : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ * ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ * فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) لا تظلمُوا في الأشهر الاثني عشرَ عامةً، والأربعةُ الحُرُم خاصةً لا تظلموا أنفسكم.
إن مَن لم يسْتَقِم عندَهُ ميزانُ ما هو الأشرفُ في الاغتنامِ، والأولى بالتحصيلِ، والأهمِّ في الكسبِ، من خلالِ الأشهرِ والسنواتِ قد ظلَمَ نفسَه، ظلمَ نفسَهُ من لم يستَقِمْ عندَهُ أنَّ المقصودَ الأعلى والمكسبَ الأغلى من خلالِ الأيامِ والأشهرِ والسنواتِ التي يعيشُها الإنسان على ظهر الأرض أن يُحَقِّقَ الوفاءَ بربِّ الأرضِ والسماءِ، وأن يستقيمَ على منهاجِه، وأن يحوزَ المنزلةَ لديهِ، بطاعتِه واتِّقاءِ محارمِه؛ هذا أصلٌ مِن الأصول عندَ كلِّ مؤمنٍ بَاشَرَ الإيمانُ قَلْبَه، وسَكَنَ الإيمانُ سُوَيْدَاء فؤاده، وخالطت بشاشةُ الإيمانِ قلبَه.
أيها المؤمنون بالله: إن كان هذا هو المكسبُ الأعظمُ في اعتقادِنا والمغنَمُ الأجلُّ الأوفرُ في ما تنطوي عليه ضمائرُنا وعقولُنا .. فإننا بذلك ننتهجُ في الحياة نَهْجَ مَن آمنَ بهذه الحقيقة.
ويكونُ الاعتناءُ بما يُرضي هذا الإلهَ، بالعملِ بمنهاجِه الذي إلى عبدِه محمدٍ أوحاه، واتباعِ المصطفى صلى الله عليه وسلمَ فيما سَنَّه وشرَعَه واقتفاه، يكون هو الأهَمَّ في عَقْلِ المؤمنِ الصادق، والأمر الأعظمُ في قلبِ المؤمنِ المتحقِّق؛ وحينئذٍ يتشكَّلُ الانطلاقُ في الكسبِ في الحياةِ على هذا الأصلِ وعلى هذا الأساس، فَيُعَظِّم ما عظَّمَ الله، ويحوي ما استطاعَ مِن طاعةِ الله، ويَصْدُقُ في التخلِّي والابتعادِ والتوبةِ مِن كُلِّ ما لا يُحِبُّه ويرضاهُ؛ نيةً واعتقاداً وقصداً وفعلاً وحركةً وسَعْيَاً، وقولاً وكلاماً ونُطقاً، تحتَ دائرةٍ تكونُ ركيزةَ المراقبةِ فيها للمؤمن يقينٌ بـ: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) ويقين بقولِ الحقِّ ربِّ العالمين : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) ويقينٌ بقولهِ تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم * بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
أيها المؤمنون بالله : في هذا الجهازِ الصافي النقيِّ القويِّ يتصرَّفُ المؤمنُ في كسبِه ويتعاملُ في كلِّ الأحوالِ مع ربِّه؛ ولو كان أكلاً وشُرْباً وَنَوْماً ويقظةً، ومعاشرةً لزوجة، ومعاملةً لأولادٍ وأقاربَ وأرحامٍ وجيران، أو بيعٍ أو شراء، أو حِرْفَةٍ أو مهنةٍ أو وظيفة، أو أخذٍ أو عطاء، أو حضورِ مجلس أو مَدَّةِ عينٍ أو التفاتِ وجهٍ أو لبس ثوبٍ .. على قدرِ الإيمانِ كلُّ ذلك ينصبِغُ بصبغة حُسنِ المراقبة، وكريمِ التقرُّب إلى المولى الحق الخالق جل جلاله .
هذا شأن المؤمنِ في حركتهِ في الحياة؛ وحينئذٍ يستقيمُ الميزان بأن لا يندفعَ نحو ما حُسِّنَ لهُ مِن قِبَلِ من خلَاقَ له، ومِن قِبَلِ مَن لا اعتبار له عند الخالق سبحانه، بل حذَّرَ من ذلك وقال في كلِّ ما يُتَقَوَّل باسم الدين أو في شؤون الدنيا وهو يخالِف ما نزَلَ مِن عند الله: (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ * كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ * كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)
فتحوَّلَ كل ما خُوِّلُوا ولو مِن مُتَعِ الحياة الدنيا إلى أسلحةٍ لعدوِّهم يؤذون بها الخلْقَ ويصدُّون عن الحقِّ فيخسرون، (اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ) اتبعوا الباطل في مختلَفِ شؤونِهم وأحوالِهم؛ في كُلِّ ما نتجَ عن التكذيب بالحقِّ تعالى واليوم الآخر وبرسولِه محمد.
فإنَّ حقائقَ الإيمان لا تجتمعُ إلا بالإيمان بجميعِ الرُّسُل، ولقد خُتِموا بمحمدٍ أفضلِهم؛ فالإيمانُ به هو العنوانُ على صحةِ الإيمان، ولو وُجِدَ على ظهر الأرضِ من يدَّعي الإيمانَ بالله وآياتِه وصفاتِه وأسمائِه وعظمتِه وكبريائِه، وأنَّ إليه المرجعَ والمحشرَ يومَ القيامةِ، ثم يُكذِّب ببعثةِ النبيِّ محمدٍ ورسالتِه فهو عندَنا وعندَ اللهِ كافرٌ مُخلَّدٌ في النار، إن مات على هذا الحال؛ فإنَّ التكذيبَ بمحمدٍ تكذيبٌ بالله تعالى في علاه. صلى اللهُ على النبيِّ محمدٍ وزادَنا اللهُ إيماناً ويقيناً.
أيها المؤمنون بالله: وعلى ضوءِ ما ذكرَنا يستقبلُ الناس مثلَ شهر رجب فردٌ من بين الأشهر الحُرُم؛ تميَّزت الأشهرُ الحرمُ في العام، وتميَّز رجبٌ مِن بين الأشهرِ الحرم أنه الفرد، وتلك السَّردُ: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وهذا ما سمَّاه النبي رجب مضر بين جُمَادى وشعبان؛ حتى تذهبَ المُغالَطاتُ في الحساب الذي كان في أيام الجاهلية. هذا الشهرُ الذي جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها في تعظيمِه أنه من أيام الجاهلية كانوا يرفعون فيه أسلحتَهم ويأمنُون وتأمَن السفنُ والطُّرُق.
ثم رأينا من غرائبِ ما ترى العين أن يأتي مؤمنون ولا يعرفون لرجبٍ حُرْمَتَهُ ولا لغيرِه، ولا يعلمون ما كان يُعظَّم (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) فسقطَ ذلك مِن أعينِهم! وصاروا يبتدئون بالحربِ والظُّلم في رجب، أو في شيءٍ من الأشهر الحُرُم، أو في رمضان ولا يبالون، ولو على بعضهم البعض ! لِلْخَللِ الذي وقع في القلوب والعقول. تأثُّراً بتهيِيج نارِ الشهوات؛ وأشدُّها شهوةِ المُلْكِ والسُّلطان، ثم ما يَتْبعُ ذلك من الشهواتِ التي إذا هاجت تجنَّدَ الجنودُ لتحصيل شيءٍ من الشهوات إلى صفِّ من يشتهي السلطانَ وغير ذلك، حتى إنهم ليَبيعُون دينَهم لحسابِ غيرِهم أو لوصولِ غيرهم إلى غرضهِ، ويظنون أنهم يصلُون إلى غرضٍ لهم جُزْئيٍ ومحدود، ولا يبالونَ في ذلكَ بِقِيَمٍ ولا شِيَمٍ ولا حدودٍ ! ، أصلحَ الله قلوبَ المسلمين وأيقظَها من نومتِها وغفلتِها وسُباتِها.
فترى ورجبٌ مُقبل عددٌ كبيرٌ من المسلمين لا يستشعرون أصلاً بوجود الشهرِ ولا بحضورِه ولا بأيامه ولا بلياليه!، فإن كان جماعةٌ من كُبار الصحابة يُفرِّغون أنفسَهم للعبادةِ والدعاءِ في أولِ ليلة مِن رجب .. فلا دِرَايةَ له متى تكونُ أولَ ليلة ومتى الثانية ومتى الأخيرة مِن شهرِ رجب !، مشغول!.. بماذا؟ بماذا؟ بماذا ؟ شهواتِه تُرَّهاتِه، بطالاتِه، ألعابه، أصدقائه اللاعبين .. وما إلى ذلك ! وعدد كبير من المسلمين على هذه الكيفية !
وعدٌد آخر يُدرِكُ مجيءَ الشهر فلا يُقابله بتعظيمٍ ولا فرحٍ ولا محبة! وربما لم يخطر على بالِه إلا قرب أيام الصوم وهي شاقَّة عليه!، اختلَّ في مشاعرِهِ وأحاسيسه، ولقد جاءنا في الحديث أنَّ رسولَ الله مِن أول ليلةٍ مِن ليالي رجَب يبدو عليه البِشْرُ والفرحُ، ويتوجَّه بالدعاء إلى الإلهِ الربِّ بالبركةِ في رجب وشعبان وبلوغ رمضان؛ فرحةً بالشهرِ الكريم.
وفي المسلمين من يكونُ في مثلِ الشهر الحرامِ أكثرَ إعراضاً عن ربِّه وإضاعةً لأوامرِه وارتكاباً لما ينهاه عنه والعياذ بالله، وآخرون يَهُمُّهُم أن يُحذِّروا الناسَ مِن أن يستغفِرُوا في رجب ! أو أن يصوموا في رجب! أو أن يُكْثِروا عبادة في رجب!، أتحبون أن يُكثروا غيبة ؟! أم تحبون أن يكثروا التفرُّج على الأفلام الخليعة ؟!.
عجباً للنهي عن محبوباتٍ محموداتٍ من خَيْرِ ما يُكتَبُ في صحائف المؤمنين، من خيرِ ما يُعرض على ربِّ العالمين، مِن خيرِ ما يكون به الفوزُ به في يومِ الدين (( طوبى لمن وَجَدَ في صحيفتِهِ استغفاراً كثيراً ))، ((كل عمل ابن آدم يُضَاعَفُ له؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم قال الله فإنه لي وأنا أجزِي به))، فهل مِن مجالٍ للتحذيرِ من استغفارٍ أو مِنْ صوم؟! حيثُ حثَّ عليه صاحبُ الرسِّالة ورَغِبَهُ مِن أمته ؟!
أيها المؤمنون بالله: وكم كَثُرَ دعوى أنَّ التخصيصَ للأوقاتِ بشيءٍ مِنَ العباداتِ بدعة !، وما هو التخصيصُ الذي يمكن ويَصِح أن يكون بدعة ؟؛ اعتقادُ أنَّ عملاً لا يجوزُ إلا في الوقت الفلاني ، أو لا يكونُ له ثوابٌ إلا في الوقتِ الفُلاني أو الحالِ الفلاني من غير نصٍّ ولا دليل ؛ هذا هو التخصيصُ المبتدَع. ومَن يقدر لو اجتهد أن يُحضر لنا مسلماً يعتقد أنَّ الاستغفارَ بأي صيغة كان الذي يأتي به هو في رجب أو غيرُ رجب حرام الليالي الأُخَر أو في الأشهر الأُخر ؟ . ما يقدر غير موجود هذا التخصيص المزعوم.
أما أن يُرَتَّب الوقت والعمر لِأن أن تجعلَ لك ساعة للعمل الفلاني وساعة للعمل الفلاني؛ فهذه السُنَّة (وكان عمله ديمة ..) إذا عمل عملا أثبته، وكان يُرتِبُ وقتَهُ ويجعلُ لكل وقت عمل يقوم به فيه صلى الله عليه وسلم.
وكلُّ الناس مِن كل العقلاء في العالم يجعلون للدروس أوقاتاً، ولقراءة القرآن أوقاتاً، أفإذا جاء أحد يقرأ القرآن بعد المغرب يقال له: خصَّصت القراءة بعد المغرب للقرآن حرامٌ عليك أن تقرأ بعد المغرب! . أعوذ بالله من هذه المفاهيم، أعوذ بالله من هذا التجرِّي على الدين القويم!، أو مَن رتَّب بعد العشاء، قال فسحنا بعد المغرب بعد العشاء، يقول: تُخَصِّص بعد العشاء قرآن كل يوم كل يوم، هذا بدعة!. إنا لله وإنا إليه راجعون!. فسحنا بعد العشاء نصف الليل .. تُخصِّص نصف الليل؟ هذا بدعة. إنا لله وإنا إليه راجعون! . ألعب؟ إيش أعمل؟ يوم قراءة كذا ويوم .. ألعب يعني أعبث ما أصلِّح لي نظام ؟ أهذه السنة؟!
أي سنَّة هذه ؟ سنَّة مَن هذه ؟ لا قراءة القرآن، ولا صيام أيام ولا ذكر للرحمن إلا بتخصيص وقتٍ له تُواظب عليه فيه، نَهْجٌ حسَنٌ وطريقة حميدة تُرَتِّبُ بها عمرك ووقتَك، فإذا صادف هذا التخصيصُ فضلَ الوقتِ وفضلَ الحال الذي أنت فيه كان ذلك أشرَفَ وأبهجَ وأنوَر.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله : وهكذا تستقبلُ الأمةُ الشهرَ الكريمَ المباركَ على اختلافٍ في أنحائهم ومقاصدِهم، والمستغفرون على مراتبٍ في حقائقِ استغفارِهِم وتحقُّقِهم بمعاني الاستغفارِ الذي هو طلبُ المغفرة.
أيها المؤمنون بالله : إقامةُ ميزانِ ما هو المكسَبُ من الليالي والأيام أساسٌ في تقوى إلهنا المَلِكِ العلَّام.
اللهم املأ قلوبَنا بتقواك، وأكرِمنا يا ربَّنا بغفرانِك ورِضاك، وأجْزِل لنا في الدارين مِن واسعِ فضلِكَ وعَطَاك.
والله يقول وقوله الحق المبين : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ * إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ * وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا * حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ * فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا).
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خزيِه وعذابِه الأليم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغَفورُ الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله منه المبتَدأ وإليه المآب، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الكريمُ الغفورُ التواب، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسوله، بيَّنَ وهو المُقتدى الأعظم لأمتِه نموذجَ توبتِه فقال : ((إني أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة))، اللهم أدِمِ الصلاةَ على سيدِ التوابينَ وإمام الخاشعينَ الخاضعين عبدِك الأمين سيدِنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربِه، وآبائه وإخوانِه مِن أنبيائك ورُسلِك وآلهم وصحبِهم والملائكةِ المقربين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله .. فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله، وتأملوا ما قال رسوله : ((خمس ليالٍ يستجاب فيهن الدعاء أو لا تردُّ فيهن دعوة: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الجمعة، وليلة الفطرِ، وليلة الأضحى)) .
أيها المؤمنون بالله: إنَّ مِن خيرِ أشهُرِكم رجب، أكثِرُوا الاستغفارَ فيه، وأحسِنوا استقبالَه؛ إقامةً منكم لميزانِ ما الذي يجبُ أن يُغْتنَم وما أفضلُ ما يُكتَسَب مِن الليالي والأيام، وافرحُوا بطاعةِ الله وأكثِرُوا منها، واحذَروا أن يدخُلَ رجب وأحدٌ مُصِرُّ على قطيعةِ رحمٍ فيتعرَّض للَّعنةِ، ثم لا يوَفَّق في شعبان ثم لا يوفَّق في رمضان، وويلٌ لمن أدرك رمضان ولم يُغفر له.
واحذَروا أن تمضي ليالي رجبٍ وأحدٌ مُكَدِّر خاطر أبٍ أو أم بعدَ أن وصَّى خالِقُ الكونِ بهما (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ).
واحذروا أن يدخلَ شهر رجب وقطيعةٌ لأحدٍ من الأرحام قائمةٌ عندَ ذكرٍ أو أنثى منَّا، واحذروا أن يدخلَ شهرُ رجب وقلبُ أحدِنا منكوسٌ يرى الفخرَ والشَّرفَ واغتنامَ الحياة في أن يتزيَّ بأزياءِ أهل الفِسْقِ هو أو بنته أو زوجته أو أخته، ثم لا حِسَّ بوجوب التواصي بالحقِّ والصبر والإنقاذِ من هذا الخللِ القلبي الفكريّ العقليّ الإيمانيّ.
أيها المؤمنون بالله : ليس شرفُ الحياةِ أن تُقضى باستعمال النساء للميكروفونات في الزواجاتِ والسماعاتِ التي تُسمع بها الأصوات مِن خارج البيوت، وربما سُمِعَ ذلك في رجب فالعَجَب العجب!. بدل استماعِ الاستغفار يُسمعُ الطرب الذي فيه ما فيه من الشغب! عجباً للاستحسانات التي لا أساسَ لها في الإيمانِ ولا المُنْزَلِ من الرحمن ولا في بلاغِ سيد الأكوان !
أيها المؤمنون : ليشتغل رجالُنا ونساؤنا بكثرةِ الاستغفارِ والذكرِ، وصومِ ما قدروا والصدقة، والتفقُّد والإحسان. واعلمُوا معنى البركة في رجب كيف تكون، واسألوها مِن الرحمن الذي يقول للشيء كن فيكون.
اللهم بارِك لنا في رجب وشعبَان، وبلِّغنَا رمضان، وأعنَّا على الصيامِ والقيام، ورضِّنا باليسير من المنام، وجنِّبنا المعاصي والآثام يا ذا الجلالِ والإكرام.
ألا وفي كُلِّ حالٍ وفي كلِّ شهرٍ وفي كلِّ وقتٍ وفي ليلة الجمعة ويوم الجمعة خصوصاً أكثِرُوا الصلاةَ والسلامَ على النبيِّ محمد، فإنَّ مَن صلى عليه بعد عصرِ الجمعة ثمانينَ مرة غفرَ الله له ذنوبَ ثمانين سنة، وهو القائل : ((إنَّ من خيرِ أيامكم الجمعة فأكثرُوا فيه من الصلاة علي ، فإنَّ صلاتَكم تُعرَضُ عليَ حيثما كنتم)) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
واسمعوا خطاباً من الرحمن تضمَّن أمراً ابتدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكتِه، وأيَّه بالمؤمنين فقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) صلِّ وسلِّم وبارك وكرم على عبدك القائل: (( إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة))
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى سيدنا محمدٍ نورِ الأنوارِ وسرِّ الأسرار، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبه وأنيسِه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعةِ والضيق؛ خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكرٍ الصديق.
وعلى الناطقِ بالصواب، حليفِ المحراب؛ أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى النَّاصحِ لله في السرِّ والإعلانِ مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن؛ أمير المؤمنين ذي النُّورين سيدنا عثمان بن عفَّان.
وعلى أخِ النبيِّ المصطفى وابن عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب؛ أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسنِ والحسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنة في الجنة وريحانتي نبيِّك بنصِّ السُّنة، وعلى أمهما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضى، وعلى الحمزةِ والعباس وسائر أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بدرٍ وأهلِ أحدٍ وأهل بيعةِ الرضوان، وسائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين.
اللهمَّ بارِك لنا في رجب وشعبان، وبلِّغنا رمضان، وأعنَّا على الصيامِ والقيامِ، واجعل مِن البركةِ في رجبٍ رجوعَ القلوبِ إليك، وتعظيمَها لِما عظَّمتَ، وانقيادَها لأمرِ حبيبِك محمد، وتخلُّصها مِن كيدِ النفسِ والهوى وشياطين الإنس والجن. وافتح أبوابَ الفرجِ للمسلمين في هذه الأشهر المباركة، والغياثِ للمؤمنين يا مغيثَ المستغيثين يا مَن ليس لنا غيرُه، ولا إلهَ لنا سِواه، يا مَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيءٍ يا حيُّ يا قيومُ.
يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحمَ الراحمين تدارَك أمةَ نبيِّك محمد، اشفِ مَرضاهُم، عافِ مبتلاهم، تُبْ على عاصيهم، اقبل التوبةَ مِن تائبهم، علِّم جاهلَهم، انفع بالعلم عالِمَهُم .
اللهم اجمع شملَهم بعد الشتات، وجنِّبهم جميعَ الآفات. اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمناتِ في جميعِ الجهات، اللهم اجعل لهم في هذه الأشهرِ إنابةً إليك وإقبالاً صادقاً عليك، ورَدَّا لكيدِ أعدائك اللاعبين بهم، والمؤذِين لبعضِهم ببعضِهم. اللهم فاكشفِ الغُمَّة عن جميعِ الأمة، اللهم فأجلِ الظلمة، وادفعِ النِّقمة، وعامِل بمحضِ الجودِ والرحمة، يا مجيبَ الدعوات، ولا تجعل فينا مؤذياً ولا سبباً للسوءِ ولا للشرِّ في الأمة. واجعلنا مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشرِّ يا رحمن.
اللهم وادفَع عنا كيدَ النَّفسِ والهوى والشيطان، وأصلِح شؤونَ أهلِ الإسلامِ والإيمانِ، واختِم لنا بأكملِ لا إله إلا الله تحقُّقاً بحقائقها، وأنت راضٍ عنا أتمَّ الرضوان، يا كريمُ يا منانُ يا الله.
واصرِفنا مِن جُمعتِنا بقلوبٍ مُنوَّرةٍ مطهَّرةٍ مُقبِلة عليك، فيما عندَك طالبة، وفي المصيرِ إليك مفكِّرة. اللهم وارزُقنا حسنَ الاغتنامِ لأيامِنا وليالِينا، وارزُقنا حسنَ الأدبِ معك والوفاءَ بعهدِك في ظواهرِنا وخوافِينا، ورقِّ بتقواك مَراقِينا، وانظِمنا في سلكِ مَن أحببتَ واصطفيتَ يا إلهنا يا بارينا يا حي يا قيوم يا الله
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
(إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكم، واشكرُوه على نعمهِ يزِدْكم، ولذكرُ الله أكبر.
29 جمادى الآخر 1439