أمانة الإيمان والشريعة وآثار حفظها أو إضاعتها

أمانة الإيمان والشريعة وآثار حفظها أو إضاعتها
للاستماع إلى الخطبة

خطبة مكتوبة بعنوان: أمانة الإيمان والشريعة وآثار حفظها أو إضاعتها.

 في جامع الروضة، بعيديد، تريم، 27 ربيع الأول 1439هـ .

الخطبة الأولى

       السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

       الحمد لله مبيِّن السبيلِ للمقبلين بالصدق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، جامعُ الأولين والآخرينَ فهو الفاصلُ بين عبادِه الخَلق، والحاكمُ بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.

      وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وصفوتُه وحبيبهُ الأمين المأمون.

      اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك الأمين سيدنا محمدٍ، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومَن على منهاجهِم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادنِ الأنوار، وعلى آلهم وأصحابهم والملائكة المقربين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

     أما بعد.. عباد الله: فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله

      تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها.

     واعلموا أن من اتقى اللهَ عاش قويا وسار في بلاد الله آمنا

ومن ضيع التقوى وأهمل أمرها *** تغشَّتْهُ في العقبى فنونُ الندامة

       أيها المؤمنون بالله جل جلاله وتعالى في علاه: إنَّ الرحمنَ قد عرض الأمانةَ على السماوات والأرض والجبال ( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) إذا خان في أدائها والقيام بحقِّها. وإنه الرفيعُ القدر الذي لا يصلُ إلى ما أُعطي سماواتٌ ولا أرضون ولا جبالٌ إذا قام بحقِّها ورعى حرمتَها.

       أيها المؤمنون بالإله جل جلاله وتعالى: ائتمنَكم خالقُكم على التوحيد والإيمان، وائتمنكم على الشريعة التي شرعَها على يدِ الأمين المأمون.

       إن كانت الأمة تودعُ شهرَ ذكرى ميلادِ المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ فهو الذي اشتَهر مِن قبلِ النبوةِ ومِن قبل إنزال الوحي بالأمين، وهو الذي أؤتمن من قِبَلِ رب العالمين على الأمانة الكبرى، وهو أعظم الأُمناء، وأحسنهم أداءًا للأمانة، وأعظمهم قياماً بحقِّها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أيها المؤمنون بالله ورسوله محمد الأمين، ما عملتم فيما اؤتمنتم عليه؟

      وإنَّ مِن الأمانة على الإيمان أن لا يخالطَ قلوبَكم خوفُ شيء مِن مخلوقات الله وكائنات الله جل جلاله فوقَ مخافةِ الله، موقنين بحقِّ {وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف} فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

 (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

        ومما اؤتُمنتم عليه في هذه الأمانة: أن تتعاملوا مع الأسباب تعاملَ المؤمنين بالمسبِّب، الذين يقيمون الأسبابَ عبوديةً وطاعةً له، غير معتمدِين على الأسباب، ولا على إقامتها ولا على أنفسهم، ولا على شيءٍ غير الله وحده جل جلاله. فما مِن شيء يجيرُ مِن الله، وما مِن شيء يكفي عن الله، وما من شيء يغني مِن دون الله.

        أيها المؤمنون بالله: تزعزعت هذه الأمانة في قلوب الكثير مِن ناشئتنا ذكوراً وإناثا؛ فالتجأوا إلى غير الإله، وتوكلوا على غير الله، وتعاملوا مع الأسباب تعاملَ المفتونين بها؛ ومن فُتن بالأسباب سُلَّطت عليه، وتأخَّر عنه عونُ المسبب الذي يقول للشيء كن فيكون.

       أيها المؤمنون: قال المتعامل مع الأسباب واثقاً بالمسبب: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)

      (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تنسبوني إلى الجنون وإلى الولع والهيام الزائد الذي أخرجني عن حدِّ الإدراك والاعتدال (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) شوقُك والهيام إلى يوسف هو الذي يحملك على ما تقول (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)

       وسرت سرايةُ الإيمان بالمسبِّب بقوةٍ ويقينٍ في قلوب أبنائه ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ).

       أيها المؤمنون بالله: يقول مسبِّب الأسباب عن حالةٍ كانت أيامَ موسى بن عمران وأخيه هارون؛ يقول تعالى في تلك الحالة: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) هذا وضعُ الأسباب والقوى المادية على ظهر الأرض والسلطة والهيمنة.

      قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) فما كان في عالم الأسباب إلا أمرٌ لا يُؤبه له ولا يُلتفت إليه.

     (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وكان ما كان. وبُعث النبيُّ موسى بعد مرورِ المراحل من الحياة وجاء إلى فرعون في مُلكِه وسلطانِه وهيمنتِه وادِّعائه الربوبية (هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ *  وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ * فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ )

       أأنتم يا معشر بني آدم بشعُوبكم ودُولكم وما أوتيتم من قوىً وقدراتٍ وأسلحةٍ وأجهزةٍ (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚبَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا)

وأنتم تحت هذه السماء وتحت قانونِ واضعِ الأرضِ وداحِيها ورافعِ السماء وبانيها (أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا *أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)

أنتم في ضمنِ هذه المنظومة مِن الكون تحت أمرِ المكوِّن لا تملكون تغييراً لشيء مِن هذه الأساسيات ولا مِن هذه الكونيات العظيمات والآيات البديعات في كل ما تُحدِثون مِن قوى ومن أجهزة؛ أنتم تحت ظل هذا التدبير والتقدير من العلي الكبير.

(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)

لا يتحكم أحد منهم في دَحوِ الأرض ولا في سيرِها ولا في دورانِها، ولا في إغطاشِ ليلِها ولا في إخراجِ ضحاها، ولا في إرساء جبالِها، ولا في إخراجِ مرعاها متاعاً للناس ولأنعامِهم؛ إنهم مقهورون لسنَّة المكوِّن القاهر الجبار جل جلاله. فما عندهم فيما يتبجَّحُون ويقولون إلا غرورا وإلا زورًا وإلا إفكاً مبينا (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى).

        أيها المؤمنون بالله: وكلُّ ما ذُكر من رسالة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، والتأييد والنصرة التي انتهت إلى هذه الحقيقة، لمَّا نكثوا عهدَهم أخذهم الله بالعذاب البئيس، وأغرقهم في اليم بما كانوا يتكبرون ويسيئون ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)

        وأمثالُ ذلك مما جرى للأنبياء من قبل وللمرسلين ومِن بعد. حتى اجتمع كيدُ الكائدين لعيسى بن مريم ليقتلوه ورُفِع، وسيرجع إلى الأرض بأمر الله ويحمل رايةَ شريعةِ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. ويُكْمِلُ أداءَ الأمانة في خلافةٍ عن محمدٍ وعن إلهِه في الأرض، يُقيم فيها الشرعَ المصونَ في أيامٍ هي مِن خيرِ أيام بعد أيامِ نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

        كلُّ ما ذكر مما كان في الأمم من قبل جاء صاحبُ ختم النبوة سيدُ أهل الرسالة الأمين المأمون محمد، والعالم يعجُّ بالفتن والظلم والتعالي والتكبر والفساد والإضرار، واعتداء القويِّ على الضعيف وأكله له، وانتهاك الحرمات بأشد ما كان على وجه الأرض، فجاء سيدُ أهل الأرض وسيد أهل السماء، وفي ثلاثٍ وعشرين سنةً بلغ الرسالةَ وأدى الأمانةَ على الكمال والتمام والذِّرْوَة في حُسْنِ أداء الأمانة، وترك الأمةَ على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها؛ فأصبح في الأمة يتكرر هذا المظهر كلما ظهر الفساد والشر، وكلما بسط اليدَ مَن اغترَّ وفجر وظلم وفسق وكفر؛ جاءت عنايةُ العلي الأكبر، ليُعْلَم معنى النصر لمحمدٍ المنصور بالنصر العزيز المؤزر، المخاطَب بقولِ العليِّ الأكبر :

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)

      أيها المؤمنون بالله جل جلاله وتعالى في علاه: راعوا الأمانة في ثقتكم بالإله واعتمادكم عليه، وتوكُّلكم عليه، ورجوعكم إليه. وقوموا بالأسباب على الوجه الذي يرتضيه سبحانه وتعالى؛ وجه العبودية، وجه الخضوع والخشوع، وجه الاعتماد على الإله وحده. معتنين بأقوى الأسباب، وهي أحوالُنا مع الملك الوهاب، في أمانة الشريعة، في أمانة التكليف، في أمانة الأوامر والنواهي. فإن أقوى الأسبابِ لفسادِ الأرض ومَن عليها معصيةُ الله ومخالفة شريعته، قطيعة الأرحام وعقوق الوالدين، والظلم والبغي والعدوان، وعدم التواصي بالحق والصبر، وأكل الربا.. إلى غير ذلك مِن الموبقات التي توقع الناسَ في الشدائد والبليات والآفات.

       وأقوى الأسباب لصلاح المدن والقرى والبلاد: الإيمان والتقوى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

       اللهم صلِّ على الأمينِ المأمون ونجِّنا مِن كل هُون، ومِن موجبات الخزيِ والهُون، في الدنيا ويوم يبعثون، وارزقنا الإيمانَ والتقوى في الظهور والبُطون، يا مَن يقول للشيء كُن فيكون يا رب العالمين.

والله يقول وقوله الحق المبين : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

     أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ * أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)

        بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا مِن خزيِه وعذابِه الأليم.

      أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله القويِّ القادر، العزيزِ القاهر، المبدىء المنشىء الجليل الفاطر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، عالم الباطنِ والظاهر، والمطَّلع على الضمائرِ والسرائر، وجامع الأولين والآخرين لليوم الآخِر، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وحبيبنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله، وحبيبه المنيب الذاكر الشاكر، الصادق الصابر، المُنَقَّى المصطفى الطاهر.

      اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ السراجِ المنير الزاهر، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأكابر، وعلى مَن والاهم واتبعهم بإحسانٍ إلى اليوم الآخر، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الأكابر، وعلى آلهم وصحبِهم والملائكة المقربين، وجميعِ عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

      أما بعد، عباد الله: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

      تقوى الله في الإيمان، وتقوى الله تبارك وتعالى في المسلك والخلق والتصرف والمعاملة.

يا مضيِّعي الأماناتِ في أنفسهم التاركين قلوبَهم موبوءةً بأمراض الكبر والعجب والغرور والرياء: أدُّوا حق الأمانة فقد ائتمنكم الله جل جلاله على أن تطهِّروا هذه الأفئدة بحسنِ المجاهدة منكم واللجوء إليه، والفضل منه جل جلاله وتعالى في علاه، وأخبركم أن النجاة مِن الخزيِ الأكبر مرتبةٌ على سلامةِ هذا القلب وطهارته (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

      أيها المضيعين للأمانة في أعينهم: أيخرجُ شهرُ ربيعِ الأول وأنتم على نفس الحال؟! سببٌ لنزول الغضب من ذي الجلال! وسببٌ شدة الوطأة على المؤمنين وتسلُّط اليهود المعاندين والكفار والفجار على أهل الإسلام والإيمان؟! بعيونكم التي لم ترعَ حقَّ الله ولم تراقب مَن الذي وهبكم البصرَ فيها جل جلاله ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )

       أيها المضيعون للأمانات في الألسن: أما تُقِلُّوا من الغيبة؟ أما تتركوا النميمة؟ أما تنتقلوا مِن الكذب إلى قول الصدق؟

 أيها الذين ظنُّوا أن الألسن ملكٌ لهم يتصرفون فيها كيفما شاءوا: إن مالكَكم الذي أعطاكم إياها جعل أكثرَ ما يكبُّ الناسَ في النار على مناخرهم حصائد ألسنتهم. فاتقوا الله في ألسنتكم وأمانة النطق وأمانة القول، فـ  ( إن الرجل ليتكلم الكلمة من سخطِ الله لا يُلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين عاما) .

       أيها المضيعون للأمانة في الأسر والأولاد: يتفرجون على الخبائث وينظرون إلى المناكر، ويُجالسون الفساق، ويتصلون بمَن ضاعت منهم الأخلاق. سيسألكم الخلاقُ عن الأمانة في أهلِكم وفي أبنائكم وبناتكم. فكيف إذا كنتَ أنت الذي تشتري الجهازَ الذي فيه الضُرُّ الكثير على الابن وعلى البنت مِن مالك وتسلِّمهم إياه بلا وازع، بلا تربية، بلا مُكْنَةٍ مِن خوفِ الخلاق وكيفية استعمال الأجهزة؟!

فكيف إذا كنت أنت الذي تشتري العطورَ لزوجتك التي تخرج بها إلى الشوارع ويشمُّها الأجانب من مِالك؟! وكيف إذا كنت أنت الذي تشتري لها الثيابَ المُنحطَّة المُبْدِيَة لعَورتِها بعد تجاوُزِ المروءة وصولاً إلى حدِّ المنكر والحرام؟! بمالِك تخون الأمانة؟! بمالِك، بقوامتك، بسمعِك، ببصرِك، تخون أمانةَ ربك!؟ الذي قال لك: ( قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). كيف تقِيهم النارَ؟ بشراءِ هذه الأزياء المنحطة؟! بشراء تلك الأدوات للزينة التي يتبرَّجن بها ويخرُجن إلى الرجال الأجانب؟!

 أنت الذي لا تعرف واجبَك وبنتُك في السوق مرة بعد الثانية، كلما جاءت مرة استحلت أن ترجعَ ثاني مرة، وفي ثالث مرة حلاوة أكثر حتى تتخذ المرور على الرجال في الدكاكين وِرْدًا من أورادها لا تستطيع مفارقته!

     أيها الغافل، أيها المتجاهل: أتظن أنك تُعفى عن سؤال الخلَّاق عن حالك في أمانة هذه البنت؟! والله لتسئلنَّ، ثم والله لتُنبَّئن، ثم والله لتُحاسبن، لا تهمل الأمانة.

يا مرتبطا بالتصديق بالأمين المأمون: قم بحق الأمانة في شريعة الحق جل جلاله، واصدق معه في القيام بها؛ تكن سبباً لدفع الشدة عن الأمة للفرج عن الأمة، لصلاح حال الأمة. ألا إنها أقوى الأسباب التي غفل عنها العباد.

      وفي تاريخهم مع المعاندين المُعتدين المتسلِّطين مِن يهود عجائب من ذلك الأمر، وربما كان شيء من المظاهرات أو التنديدات أو الشجب، وهو أحسن مِن السكوت ولكنه غير كاف ولا هو حق أداء الأمانة. ثم يتكرر كلما حدث شيء من تطورات الاعتداء والهَتك للحرمات، تكرر نفسُ الأمر! وربما تضاءل حتى هذا الظاهر وقلَّ في الأمة!

 ويمضون في الانتهاك للحرمات، والاعتداء على المقدسات، والتخطيط لمضادة الحق وأهله، والشريعة وحاملها ومُبيِّنها صلى الله عليه وسلم.

ولو قام مَن لا يقدر على مقاومةٍ بسلاح ومواجهةٍ بأداءِ أمانةِ سلاحِ التقوى في نفسِه وبيته لكان مساهماً في ردِّ كيدِهم، وفي دحرِهم.. ولكن لا ذا ولا ذاك!

      وربما تظاهر بالشَّجبِ والتنديد والخطبِ الرنَّانة والمظاهرات، ثم يأخذ أخلاقَهم الخبيثةَ فيُحلَّها قلبه وبيته وأسرته !! ويأخذ مخططاتهم في برامجهم الساقطة فيملأ بها دارَه وعيونَ أهله وولده!

فما أكذبه فيما يتظاهر! وما أكذبه فيما يشجب! وما أكذبه فيما يُنَدِّد !

وهو الذي يساعد ويهدم ويُنفِّذ مخططاتِهم وسط قلبه وبيته وأسرته !

       أيها المؤمنون بالله: يجب رعايةُ حق الأمانة والقيام بشأنها؛ وبمثل ذلك تُغتنم الليالي والأيام، وتُوَدَّعُ الشهور والأسابيع والليالي والأعوام، بل الأعمار؛ فتلقى الملكَ الغفار وأنت على حُسْنِ أداء الأمانة.

       اللهم ارزقنا حسن أداء الأمانات، واحفظ علينا أمانةَ الأسماع والأبصار والقلوب والألسن والأعضاء، وارزقنا حسنَ القيام بأداء الأمانة فيها، وإعطاء الحقوق لذويها، كما تحب وترضى يا ذا الجلال والإكرام.

       ألا وإنَّ مِن أعظم الأمانات: علائق القلوب بالله وحبيبه المصطفى، حتى يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إلينا مما سواهما، وكثرة الشوق إلى القرب من الله، ونيلِ رضوان الله، وإلى رؤيةِ محمد ومرافقتِه؛ ألا إنها أمانةٌ رزقنا الله حسنَ القيام بحقِّها إنه أكرم الأكرمين.

      فأكثروا الصلاةَ والسلام على خيرِ الأنام، فإن أولاكم به يوم القيامة أكثركم عليه صلاة وسلاما.

       اللهم أدم صلواتك على حبيبك المحبوب مَن قلت في حقِّه مبتدئا بنفسك ومُثنِّيا بملائكتك وموجهاً الخطاب للمؤمنين تعظيما وتكريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

         اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ نور الأنوار وسر الأسرار، وعلى الخليفة مِن بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حالَيِ السعةِ والضيق؛ خليفةِ رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق.

         وعلى الناطق بالصواب، حليفِ المحراب، الخاشع المتذكر بآيِّ الكتاب؛ أمير المؤمنين أبي حفص سيدنا عمر بن الخطاب.

         وعلى مَن استحيت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، صاحبِ الحياء من الرحمنِ في السرِّ والإعلان؛ أمير المؤمنين ذي النُّورين سيدنا عثمان بن عفان.

         وعلى أخي النبيِّ المصطفى وابن عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمامِ أهل المشارق والمغارب، ليثِ بَنِي غَالِب؛ أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.

         وعلى الحسن والحسين سيدي أهل شباب الجنة في الجنة، وريحانتي نبيِّك بنصِّ السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمةَ البتول الزهراء، وعلى أولاد المصطفى، وأزواجه خديجة الكبرى وعائشة الرضى وأمهات المؤمنين، وعلى عمَّيه الحمزة والعباس، وسائر أهل بيتِه الذين طهَّرتهم مِن الدنس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان القائمين بحق الأمانة، ومَن اتبعهم بإحسان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريم يا رحيم يا رحمن.

      اللهم أعزَّ الإسلام وانصرِ المسلمين، اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمَّر أعداء الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذاتَ بين المسلمين، اللهم ارفع البلاء عن جميعِ المؤمنين، اللهم اكشف الشدائد عن أهل لا إله إلا الله أجمعين، واجمع قلوبَهم على مقتضى لا إله إلا الله، وحق لا إله إلا الله، وحقائق لا إله إلا الله برحمتك يا أرحم الراحمين.

     اللهم اخذل أعداءك أعداء الدين، ولا تبلِّغهم مراداً فينا، ولا في أسرنا ولا في أهلينا، ولا في بنينا ولا بناتنا، ولا في ذوينا، ولا في أخلاقنا ولا في أفكارنا، ولا في وجهاتنا، ولا في ديننا ولا في دنيانا يا حي يا قيوم يا الله.

     أصلح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا. واجعل الحياة زيادةً لنا في كلِّ خير، واجعل الموتَ راحةً لنا مِن كل شر.

       اللهم نسألك وللأمة مِن خير ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

     عبادَ الله: إن الله أمر بثلاث، ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُركم واشكروه على نعمكم يزِدكم، ولذكر الله أكبر..

 

 للاستماع إلى الخطبة 

 

تاريخ النشر الهجري

28 ربيع الأول 1439

تاريخ النشر الميلادي

15 ديسمبر 2017

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام