(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 17 شوال 1437هـ ضمن دروس إرشادات السلوك بعنوان: موائد الرحمن على ظهر الأرض لأهل الإيقان وخيبة أهل الطغيان.
الحمد لله مُنوِّرِ القلوب، وغافرِ الذنوب وكاشفِ الكروب، ودافعِ الخطوب، وجامعِ الخلائق أجمعين ليومٍ تُقلَّب فيه القلوب والأبصار، فلا ينجو إلا مَن اتصلَ بالحقِّ مِن المكلفين واتبع المختار، جعلنا الله وإياكم منهم، فهم السالمُون مِن غضبِ الجبار ومِن عذاب النار، وهم الذين مقرُّهم واستقرارُهم في جنة الله، فأكرِم به مِن مُستقَر، وأعظِم به مِن استقرار،
فيارب واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارِك الفردوس أطيبِ موضعِ
فضلاً واحساناً ومنًّا منك يا ** ذا الفضلِ والجودِ الأتمِّ الأوسعِ
برحمتك يا أرحم الراحمين. ولقد جمعكم الحقُّ تعالى على موائده، وموائده التي شاء أن يبسطَها في عالم الدنيا، وعلى ظهر الأرض، لمن اتصلَ بأسرارِ الخلافة عنه، ومهدُها هذه الأرض، وموطنُها هذه الأرض ( وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فكان ذِكرُ أصلِ هذه المائدة مِن قَبلِ تكوينِ آدم عليه السلام بجسدِه الشريف، وأُنبئ خبر الموائد التي تُبسط في الأرض، كرسي الخلافة الذي يُقام لهذا الصنف مِن الكائنات والمخلوقات، أُنبئ عنه الملأ الأعلى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فما أعظمَ منَّةَ الله على الإنسان، (قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)، جاء تكوينُ هذه الأجساد من غير استثناء للموجودين في شرقِ الأرض وغربِها مِن نطفة، (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ).
بهذه العظَمة الإلهية يتكوَّن هذا الإنسان مِن هذه النطفة، ونجد بعد تكوُّنه مِن هذه النطفة يخرجُ ضعيفاً لا يعلم شيئا، فيُقوَّى ويُعلَّم، وإذا به يكابِر على ظهر الأرض، يجحد على ظهر الأرض، يخالف على ظهر الأرض، يعصي على ظهر الأرض، يرفض أوامرَ ربه، يرتكب ما نهى عنه، يكذِّب بأنبيائه ورسلِه، يخالف الشريعةَ الغراء، يغترُّ بشيء حدث عما قريبٍ في ذهنِه أو فكرِه، أو في ما حواليه من الماديات، التي ليس منها شيءٌ خلقَ ولا شاركَ في خلقِه، ولا مرجعُه إلى شيء منها، ولا مشاركةَ لها في المرجع، يرجع إلى مَن بدأه، يرجع إلى مَن صوَّره، يرجع إلى مَن فطرَه، يرجع إلى مَن كوَّنه، يرجع إلى مَن خلقه سبحانه وتعالى.
(قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) بُسطت له الموائد مِن قبل خلقه، وأُشهِر شأنُها، ثم جاء إلى الأرض فكابَر وفجَر، وخالفَ مَن خلقَ وفطر، جل جلاله وتعالى في علاه، وبقيَ مَن سبقت لهم سوابقُ السعادة على ظهر هذه الأرض، يُطيعونه، يتَّقونه، يحذرُون سخطَه، يرجون رحمتَه، فلهم العُلو في ما يرجُون وفي ما يخافون، لهم العلو في ما يحبون، لهم العلو في ما يرغبون، وأكابرهم مرَّت حياتُهم على ظهر الأرض بمثلِ هذه الأعمالِ والأشغال والأحوال، قال عنهم الكبير المتعال، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، فما كان منهاجهم في الحياة؟ (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)، ويقول جل جلاله وتعالى في علاه (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ). كانوا على قدم العبادة، كانوا على قدم الخشوع والمنهج هو المنهج، فلا والله.. في أي قرن من القرون ولا أي حال من الأحوال، يكون دربُ النجاة والفلاح للناس غير هذا المنهج الذي مَضى عليه الأنبياء والمرسلون، ومَن هدى اللهُ مِن أممهم، إلى أن خُتموا بخاتمِ الأنبياء سيدنا ونبينا الذي به شرَّفنا اللهُ تبارك وتعالى.
وكانت بعثةُ الأنبياء امتداداً للموائد التي يبسطها اللهُ على ظهر الأرض، وبلاغاتُهم وإرشاداتُهم وتوجيهُهم موائد الله تبارك وتعالى في أرضِه، حتى نزل القرآن الكريم، وجاء الخبر عنه، (القرآن الكريم مأدبةُ الله في أرضه)، الإله خالقُ السماء والأرض جعل لك أيُّها الإنسان على ظهر هذه الأرض كرسيَّ خلافة وموائد عطاء ومأدبة كبيرة، تجلس عليها فتُفضي بك بعد ذلك إلى موائد ومآدب وكراسي حقائقُها تحت ستارٍ عظيم ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
فما أدرك مَن اختار المعصية، مَن اختار المخالفة، مَن بعُد عن إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويمرُّ عمرُه لا يدعو اللهَ رغباً ولا رهبا، إن عنده رغب ففي شهوة البطن، وشهوة الفرج، والماديات ومظاهر الدنيا، وسلطاتها، واعتباراتها الزائفة الزائلة عما قريب، أهذا رغب يصلحُ لإنسانٍ آتاه الله سمعاً وبصراً، وأخبره أنه في دار مَمَر، إلى مقرٍّ يستقرُّ فيه، إما في أعلى مُستقر، وإلا في نار وسقَر والعياذ بالله تبارك وتعالى، ما هذا برغَب.
وإن عنده رهب، إما مِن وجع في بدنِه، وإما مِن تسلُّط صاحبه عليه أو مَن يعاديه ويؤذيه، وإما مِن فقرِ مال، وإما مِن شيء مِن هذه الأحوالِ السريعة الانقضاء، هذا رهبك؟ ما تدري ما وراءك؟ ما تدري مهمتك الكبرى؟ ما تدري ما الخطر الأعظم؟ ما تدري أنَّ الآلامَ والأوجاعَ والضَّعةَ بين الناس في الدنيا والجوعَ وقلةَ ذات اليد والبعدَ عن السلطات وما إلى ذلك في الدنيا كل ذلك ما يساوي ألم لحظة من لحظات عذاب الآخرة (فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)، يعني ما يجري لكم على ظهر الأرض مِن وَثاق، مِن عذاب، لا يساوي شيء هناك، كما أن ما تُعطَونه مِن نعيم، يصغرُ أمام ذاك الأكبر (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا).
فما تقابلون به باسطَ هذه الموائد لكم، إن لم ترعَوا حقَّها وتُحسِنوا الجلوسَ عليها، موائد التآخي في الله، موائد التعاون على مرضاة الله، موائد طلب العلم الشريف والوفادة له من تلك الجهات، ومن تلك الجهات، موائد التلاقي على ذكر الله، موائد صلوات الجماعة، موائد حِلق الذكر التي يُباهي الله بها الملائكة في العالم الأعلى، كل هذا موجود بين أيدينا على ظهر هذه الأرض، موجود بين أيدينا في ضمنِ هذه الحياة بعظمتِه الغيرِ المتناهية..
هل تعرف معنى الغير متناهية!؟ التسبيحة الواحدة المقبولة ثوابُها غير منتهي، نورُها غير متناهي، نعيمُها غير متناهي، بركتُها غير متناهية، لا نهاية لها، التسبيحة الواحدة، التكبيرة الواحدة، الركعة الواحدة إذا قُبلت، وإنما يقبل الله تعالى من المتقين (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، ونسألُ الرحمنَ أن ينظر إلى هذه القلوب، فيُلحقها بقلوب المتقين، قال سيد الأتقياء (التقوى ها هنا)، وأشار إلى صدره الشريف، وكل التقوى تحلُّ مِن الناس في قلوبهم وحقائقُ التقوى مجموعة في محمد صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم، يقول (أما أني أتقاكم لله وأخشاكم لله ) صلوات ربي وسلامه عليه، تجمَّعت حقائق التقوى في قلبِ الحبيب عليه الصلاة والسلام، وتفرَّعت في قلوبِ المتقين، جعلنا الله وإياكم من المتقين، هم أهل هذا المنهاج، يعيشون في هذه الحياة الدنيا، فأنزِلوا منزلةَ منهاج إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ودعوة الله رغباً ورهباً منزلته مِن قلوبكم ومشاعرِكم وأحاسيسكم، لا يقولون لكم إنَّ ما لديهم مِن خِطط ومن وظائف ومن ترتيبات في الحياة أحسن ولا أجمل ولا أفضل ولا أصلح ولا أنجح.. لا وعزة ربي وربكم ورب كل شيء، ليس عندهم أصلح، بل لا صلاح ولا نجاح عندهم، ومَن سبقت له سابقة السعادة، فسيتصل بهذا الصلاح، وسيتصل بهذا النجاح، ومَن فُصِل عنها هنا فهو المفصول يومئذ، والعياذ بالله.
إذا انقسم الناس إلى حقائقهم.. وما حقائقهم؟ حقائقهم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، اللهم اجعلنا منهم وألحقنا بهم، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ*تَظُنُّ) تتيقن (تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) من الشدة والعذاب وسوء المآب أمر فظيع شنيع، (تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)، وقال عن النار (فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، هذه وجوه مَن؟ وجوه الذين يعيشون بين أظهرنا يحتقرون هذا الميراث، يحتقرون هذا المنهاج، الذين يظنون أنهم بعقلياتهم وأفكارهم عندهم للبشرية أحسن مِن هذا المسلك، هذه الوجوه الباسرة.. من مات منهم على ذلك، صار من الوجوه الباسرة.
وتبدأ حقائقُ الإدراك لهذا الأمر من عند الغرغرة، (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ)، لكل واحد منهم، لكل واحد منا ومنهم، لأرباب الخير وأرباب الشر، لأرباب الإيمان وأرباب الكفر، (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ) وصلت الروح إلى الحلقوم، (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ)، من يرقي؟ من يداوي؟ من يعالج؟ ما في علاج ولا دواء من الموت، (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) فلا مرجعَ إلى هيئة ولا إلى حزب ولا إلى جمعية ولا إلى حكومة ولا إلى دول صغرى ولا دول كبرى، ولا إلى تكنولوجيا، (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ). فالخيبة والسوء على مَن؟ على مَن يُرثى حاله اليوم، وإن كان يُدعى ما يُدعى، (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى* وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى* ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى)، هذه حالات الغافلين، هذه حالات الذين ما عرفوا قدرَ هذه المسالك، ولا قدرَ هذه البضائع، لا نصيب لهم من إقام الصلاة ولا من إيتاء الزكاة، مقطوعة صلتُهم بالحي القيوم، بالخالق الذي خلق، والمُنعم الذي أنعم علينا وعليهم، فجحدوا نعم الله سبحانه وتعالى، (وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى* ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) انظر ما تقول قدرة الجبار عليهم (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، هلاكٌ لك فهلاكٌ فهلاك، فمن لهم بعد ذلك؟ مَن يصونُهم؟ مَن يحرسُهم؟ من ينقذُهم؟ من يستنقذُهم؟ من يخلِّصهم؟ (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، يقول الله.. سماوات وأراضين وحكمة وآيات ورسل وكتب نزلت ثم أتركك تلعب؟ تمشي ما شئت؟ تظلم كما شئت؟ تخالف كما شئت، تعمل من المعاصي ما شئت؟ (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، وأنت نسيت نفسك وبدايتك؟ (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) من هذه العلقة، جات الزمجرة كلُّها بعد هذا التكوين من النطفة، ونسي بدايته كما نسي نهايته والعياذ بالله تبارك وتعالى. في دائرة الطغيان (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)، أي ظن أنه استغنى، رأى نفسه أنه استغنى، ولا أحد منهم مستغني، أسماعُهم جاريةٌ بأمره، وأبصارُهم جاريةٌ بأمره، وأغذيتُهم قائمةٌ بأمره، ومشيُها في أجسادهم بأمره، والهواء ملكُه وهم يتنفسون به، لا أحد منهم مستغني، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن رأى نفسه مستغنيا فبغى، (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) وَهْم، مجرد خيال لا حقيقة، نعم والله الحقيقة عند الله، أواعيها في الأرض أنبياءُ الله، أصفياءُ الله، عندهم الحقيقة، وأكثر الناس في وهمِهم يقول الله (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)، وهل أحد يحلل لك واقع الناس غير الرب؟ يكون أعلم أو أضبط أو أحكم؟ هذا تحليل ربي، لمَن يعيش معنا على ظهر الأرض، (إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)، فمن يتبع الحقيقة؟ أهل لا إله إلا الله، ولا يُنطَق من أسرار الحقيقة، بأعظم من لا إله إلا الله، حقِّقنا بحقائقها يا الله، نوِّر بها قلوبَنا يا الله، اجعلنا مِن خواص أهلها عندك يا الله، يا الله.
وبارِك لنا في ما وفقتنا له من إقام الصلاة، واجعلها على الحقيقة، ومن إيتاء الزكاة، واجعلها على الحقيقة، سِر بنا في مسارِ قومٍ قلتَ في بلاغك العظيم الدائم الباقي، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)، عليهم صلوات الله وتسليماته، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، ثبَّتنا الله على دربهم وحشرنا في زمرتِهم، مع إمامِهم الذي به بُسطت هذه الموائد وقامت بهذا المقام، وأنتم اليوم في مثلِ هذه الأحوال والكثيرُ منكم، عندما يسمع ما يُشاع من هنا وهناك في العالم في كل محل مصائب، في كل محل مشاكل هنا وهنا وهنا، وما تركت عالَم عربي ولا عجمي، ولا هنا ولا هناك، ويرى ما يرى، ويرى هذه الموائد بطيبِها، بصفائها، بنورانيتها، بعلُّوها مبسوطة يجلس مَن يجلس عليها، سبحان الله، وأنتم اليوم في ذا المجمع في هذه الساعة ومن ورائكم من هذه الأمور التي بسطها ربُّكم ومدها، مِن عالم القالب والحس إلى عالم القلوب والأرواح مَن يسمع ومن يشاهد الصورة حقهم هنا وهناك في كثير بلدان في العالم.. هذا أمر، من الجان طوائف أكثر، من الملائكة أكثر، ومن الأرواح الطاهرة .. كلهم في المجمع على اتصال بذي الجلال، متلقِّين للنوال وفائضات الإفضال، في أي عصر هذا؟ في أي مكان هذا؟ وأي معاني هذه؟ دع الغبش ذا الذي يأخذ بعقلك مما ينشره ذا وذاك..
خُذ ما صفا ودعِ الكدر ** وكِلِ الأمورَ إلى القدر
واغنم زمانَك راحةً وتروُّحاً** ودعِ الهموم فإنها محضُ الضرر
وإن تهتم بشي ينفعك، اهتم بربك، كيف حالك معه؟ هذا هم ينفي الهموم، هذا هم يوجب النعيمَ الدائم؛ والهَم بغير الله، هم يورث هم، هم يورث مصائب مِن بعده، لكن اجعل همك بالله، قال بعض العارفين بالله: كانت عندي هموم كثيرة، فجعلت الهم هما واحدا فكفاني كلَّ هم، ما هو في الدنيا وحدها، وعند الموت يكفيك الهم، ولما يوصلونك إلى حفرتك يكفيك الهم، وفي يوم ينفخ في الصور يكفيك الهم، وعند نصب الصراط على النيران يكفيك الهم، نِعم الحق، فالله يجعل همَّنا به، ويكون همُّنا هو جل جلاله وتعالى في علاه.
وهذا سر من أسرار لا إله إلا الله، فإذا تحققتَ بلا إله إلا الله، فهمُّك الله، بل لا همَّ لك إلا بالله، فهي تحوي معنى لا معبود إلا الله، ولا مقصود إلا الله، ولا مشهود إلا الله، ولا همَّ إلا بالله، ولا مرجع إلا إلى الله، وكلها في لا إله إلا الله، ثبِّتنا عليها يا مثبِّت الثابتين، ويا أكرم الأكرمين، موائد بسطها لنا، ونقتطف منها ما نقتطف، ثم تعقبها لكلِّ مَن قُبِل وثبت ومات على ذاك الثبات موائد في البرازخ، موائد حتى في القيامة، حتى في يوم القيامة، والناس في ما هم فيه يموجون، عامتُهم وأكثرهم، كحالنا في الدنيا.
اليوم عندنا على ظهر الأرض كم الكفار، كم الفجار؟ كثير، فهم في حالهم هذا، وأهل السوابق في مثل هذا الحال، والقيامة كذلك، أهوال وشدائد هنا وهناك، وذا جالس في ظلِّ العرش، والمائدة مبسوطة قدامهم والمنادي يقول (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ). حتى مدة الزمن، خمسين ألف سنة، تمر على هؤلاء بمقدار كم؟ تنقضي بسرعة، قال: كما بين الظهر والعصر.
وآخر: قال صلى الله عليه وسلم: كمقدار أخفِّ صلاة صلاها أحدكم، وعدَّت الأيام كلها، كذلك الناس في مواقف القيامة، هذا في العَناء، وهذا في التعب، وهم الذين في المعاصي في الدنيا، وهم الذين في مخالفةِ صاحب المحكمة، صاحب الحكم على الكل جل جلاله وتعالى في علاه. وما بين مَن يكون في ظلِّ عرش الرحمن، ومَن يكون في مواطن الشفاعة يشفع، ويتفقَّد مَن أذن اللهُ له أن يشفع فيهم، من أهل، من جيران، من أقارب، من أصحاب، من أهل وداد من أهل محبة، عليه تاج قبول الشفاعة عند الله تبارك وتعالى، وآخرين حتى الشفاعة ما تقبل فيهم، وإذا ذكروا بأنفسهم حالَهم الذي عاينوه يقولون (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)، ويقولون في ما يقولون (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، لو أن لنا كرة ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)، يقول الله كان عندكم تحديات في غُروركم، (أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ).
سمعناهم بآذاننا هذا يقول إلى الأبد، وهذا يمجِّد ثورته، أو حزبه .. وانتهوا.. سمعناهم بآذاننا، ورأيناهم بأعيننا، (أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ)، ويشيرون هذه القوة الفلانية لا تُغلب أبدا، كذب، القوة التي لا تغلب قوة الله، جاء بعضهم إلى عند الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويقول أنا الذي مدحي زين، وهجائي شين، قال كذبت ذاك الله، النبي قال له كذبت، ما هو أنت بشعرك، الخبر خبر ربي، (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ)، ولا توجد قوة لا تغلب، ما حد يضحك عليك لا صغيرة ولا كبيرة إلا قوة الله، هي التي لا تُغلب، وإلا كل القوى ما أهشَّها وما أخفَّها، مهما كانت ومهما ظهرت بأي مظهر ولن تمتدَّ مقدار شعرة إلا بأمره، وبالحد الذي حدَّده، وفي الوقت الذي حدده، فأمرُها له، ظاهرها وباطنها (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)، أنت مؤمن ذا كلام ربك، الأنبياء يقولون آخذ بناصيتها، هل تنساه؟ (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
دعاكم إلى ذي الموائد وجلستم فيها، له الحمد له المنة، الله يهيئكم للارتقاء، ويثبتنا وإياكم في أهل التُّقى، الذين جمع لهم خيرَ الدنيا وخيرَ الآخرة جل جلاله وتعالى في علاه، (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا)، ألحقَنا الله وإياكم بالمتقين، وغفر لنا ما كان منا، يا جامعَنا على هذه الخيرات، عُمَّ بنفحاتك مَن حضر ومَن يسمع ومن اتصل بهم ومن والاهم، ومن في ديارهم وأهاليهم، وانظر إلى الأمة، يا كاشف الغمة، يا جالي الظلمة، يا ولي الرحمة، يا حي يا قيوم يا الله، فارفع الظلمات عن قلوبِ الأمة والانخداعات التي خدعهم بها عدوُّك وجندُه، ردَّ كيدَ عدوَّك في نحورهم، واكف المسلمين جميعَ شرورهم
ولا تبلغهم مراد ** ونارهم تصبح رماد
بكهيعص ** في الحال ولّوا خائبين
وأظهِر رايات الحبيب الأمين، يا مَن أكرمتَنا بهذه المكارم والخيرات العظائم، نسألك بوجهك الكريم أن تتمَّ علينا النعمة، فلا نتخلف عن نبي الأمة، حبيبك محمد مفتاح باب الرحمة، في الدنيا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، يا الله، تُمتِّع عيونًا بالنظر إليه في البرازخ وفي القيامة فاجعل أعيننا هذه يا إلهنا من أوسع الأعين متعةً بنظر جمالِه، بل بمشاهدةِ جمالك في ذاك الجمال، والمجلى المتعال، في أحسن الأحوال، إلى أن توفِّر حظَّنا في دار الكرامة مِن نظرِك ونظرِه، ومن القُرب والدنو والمجاورة الكريمة يا أرحم الراحمين.
ساقهم توفيقُك ووقفوا بين يديك، والحالُ لا يخفى عليك، فأصلِح شأنَهم، أثرُ القبول لرمضان أظهرها فيهم وفي نياتهم ومقاصدهم وباقي حياتهم، وأعِد العوائد مِن فيضِ فضلِك الواسع يا أحد يا واحد، بعائدةِ فضلٍ تعمُّ منا القائمَ والقاعد، تعود على كل راكع وساجد، بعودِ أسرار الركوع والسجود، لك يا مشهود يا برُّ يا ودود يا بارئ الوجود، يا حي يا قيوم يا الله.
وأنت أيها الحاضر والسامع، سعيد بطرقِ أبوابِ الكرم من العلي الاكرم لي ولك ولمن في أصلابنا ولمن وراءنا، فيا حي يا قيومُ أكرِم بكرمِك الواسع في الدنيا والبرزخ والآخرة، واجعلنا في زمرةِ الحبيبِ الشافع، مع الوجوه الناضرة التي هي إليك ناظرة، مع الوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة، يارب الدنيا والآخرة آمنا بك فادفع عنا شرَّ الدنيا والآخرة، وهب لنا خيرَ الدنيا والآخرة، أصلح شؤونَنا الباطنةَ والظاهرة، يا الله، وأنت سعيدٌ بقولِك يا الله، إذا حضر قلبُك مع الله، وإذا تذلَّلتَ لعظمةِ الله، وإذا أيقنتَ بجلاله تعالى في علاه، وأنك راجعٌ إليه، وموقوفٌ بين يديه، نسأله وندعوه الآن أن يرحمَك في ذاك الوقت، وفي تلك الساعة، .. يا رب المتكلم والسامعين يُرحمون ساعة الوقوف بين يديك أوسع الرحمات، حتى يكون موقفُ كل منا موقف أهل السعادة، موقف خواص أهل السعادة، موقف خواص الملطوف بهم، موقف خواص الذين لاطفتَهم بكريمِ الملاطفة، يا حي يا قيوم، حتى لا يُنادى على أحدٍ منا بعد الوقوف بين يديك، إلا بقد سعد فلان بن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدا، يا الله، ونعوذ بجلالِ وجهِك مِن نداءِ آخر، ومن غير ذلك في اليوم الآخِر، فارحمنا يا خير راحم، وأكرِمنا بما أنت أهله يا حي يا قيوم يا الله، يا الله، واقبَلِ الوافدين والحاضرين، واقبَل مَن يقوم بالخدمة لهم، ومَن يفرح بوجهتِهم إليك، ومَن يساعد على ذلك بأي شيء، بدعوة أو بنظرة، او بأي خدمة، اجعل الكل في دائرةِ أهل القبول عندك يا متقبِّل، أنت لا تتقبل إلا من المتقين، ونحن نحبُّ المتقين ونسألك بالمتقين، أن تدخل أعمالنا في أعمال متقين وتقبلَنا وإياهم أجمعين يا الله، ومَن يقوم بالخيراتِ مِن كل ذي قلبٍ مخلص يخدم شريعتك في شرق الأرض، أو غربها اقبلهم يارب، وانظر إليهم يارب، ووفقهم يارب واجعل لأعمالهم ثمراتٍ مباركة متنامية، في أنفسهم وأهليهم وبلدانهم وقُراهم يا أرحم الراحمين.
وما تتنزل به من الفيض في ساعتنا، فعمَّ بخيراته العالمَ ومن فيه، وأصلِح لكلٍّ منا ظاهرَ الأمر وخافِيه، يا من أحاط علما ووسع ربنا كل شيء رحمة وعلما، فاغفر لنا واجعلنا من الذين تابوا واتبعوا سبيلَك وأدخلنا في دوائر من تستغفر لهم حملة عرشك والملائكة المقربين، اللهم بارك في مجمعِنا بركةً تجمع بها قلوب الحاضرين والسامعين عليك خيرَ جمع، يفوزون بها الفوزَ الأكبر يومَ الجمع، يوم التغابن فلا يُغبَن منهم أحد، ولا يُخذل منهم أحد، ولا يشقى منهم أحد، يا واحد يا أحد يا الله، مطلب كبير وما لَه إلا الكبير جل جلاله، ولوا ما أنبأنا مِن كِبر فضله ما قدرنا نسأله، وإذ قد سألناه ووفقنا وإياكم لذلك فألحُّوا عليه وارجوه جل جلاله، وقولوا أكرِمنا بذلك وحقِّق لنا ذلك يا الله، وأرجو أن يسمعَها مِن قلبِ أحدِكم قبلَ نطقِ لسانه، ملتجئ لائذ به خاضع له متذلِّل بين يديه متصاغر في عبوديته لعظيم الربوبية، قائلا يا الله.
ثم إنا وجدنا في ربوبيَّته وألوهيَّته في سنتِه أنه لا يُشقِي مَن استسعدَ به، ولا يُخيِّب راجياً له جل جلاله وتعالى في علاه، وقد مدَدنا أيديَ رجائنا إليه.
وقد مددتُ يدي بالذل مفتقراً إليك ** إليك يا خيرَ من مُدَّت إليه يدُ
فلا تردنَّها يارب خائبة ** فبحرُ فضلك يروي كلَّ مَن يردُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ ** فالمذنبُ العاصي إلى مَن يرجع
حاشا لجودك أن تقنِّط عاصيا ** الفضل أجزل والمواهب أوسع
يا من يرى ما في الضمير ويسمع..
بأسمائك الحسنى لا تجعل في ضميرِ أحدٍ ممن يجلس معنا أو يسمعنا شيئا لا يرضيك، طهِّر هذه الضمائر عما لا ترضاه..
يا من يرى ما في الضمير ويسمع.. صفِّ هذه الضمائر حتى لا يبقى فيها إلا ما تحب يا الله.
يا من يرى ما في الضمير ويسمع، لا ينفضُّ مجلسنا وأحدنا شقيٌّ بما في ضميره، يخرج عن الدائرة أو يُحرم خيراتُك المتكاثرة، يا سامع الدعاء انظر إلى هذه الضمائر وصفِّ هذه السرائر ونوِّر هذه البصائر.
يا مَن يرى ما في الضمير ويسمع ** أنت المُعدُّ لكل ما يُتوقَّعُ
أنت المرجّى للشدائد كلها ** يا مَن إليه المشتكى والمفزَع
مالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ** فلئن رُددتُ فأيَّ باب أقرع؟
حاشا لجودك أن تقنِّط عاصيا ** الفضل أجزلُ والمواهب أوسع
يارب صل على النبي محمد ** خيرِ الأنام به إليك نتشفع
شفِّعه اللهم فينا، وجاهة الأمين الواسعة قدَّمناها إليك، وقُمنا بها بين يديك، فبحقِّه عليك قرِّبنا زُلفى إليك، يا الله، لا ينفضُّ المجمعُ وفي ضميرِ أحد ما لا تحب، يا الله، حتى نبيتَ ليلتَنا في مَن تحب، ونحيا في مَن تحب، ويموت كلُّ مَن مات منا ساعةَ أجله وأنت له تحب، يا الله.. هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجُهد وعليك التكلان، أتمِم علينا النعمة، وأصلح شؤون الأمة، وابسط بساط الرحمة، وارفعنا إلى الذرى والقمة، في كل خير في كل مهمة، يا الله.
وأن تسجَّل في صحيفتك خارجة مِن قلبِك ومن لسانك، يا الله، يعلمُ الملَك الذي يسجل ما يعلم ومستكنٌّ في الضمير منها ما الله به أعلم، اللهم وفِّر حظنا مِن سرِّ ندائك يا الله، قلت (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)، يا نعم المجيب، يا ربنا يا قريب، كما ناداك نوحٌ والأنبياء وناداك سيدُهم وأهلُ حضرته مِن صحابته وأهل بيته وصلحاء أمته، نناديك فأنت منادى واحد لنا ولهم أجمعين، (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)، لنا ولهم، يا أكرمَ مجيب، يا أجودَ مستجيب، يا أقربَ قريب، يا ذا العطاءِ الرحيب، شرِّف هذه العيونَ برؤيةِ تلك الوجوه التي نادَتك فأجبتَها، مِن أنبيائك ورسلك وصالحِي عبادك. واحشرنا مع الوجوهِ الناضرة التي هي إلى ربِّها ناظرة، يا الله، يا الله، يا الله، آمين آمين آمين في خير ولطف وعافية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
17 شوّال 1437