(231)
(536)
(574)
(311)
كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مجلس صحيح البخاري، في جامعة مركز الثقافة السنية الإسلامية، بولاية كيرلا، الهند
صباح الإثنين 2 ذو القعدة 1444 هجري
ضمن فعاليات الرحلة الدعوية إلى الهند:
ألقى العلامة الحبيب عمر بن حفيظ كلمة مباركة في درس صحيح البخاري في جامع مركز الثقافة السنية، والذي يعقده الشيخ أبو بكر بن أحمد مؤسس الجامعة ومفتي الديار الهندية منذ 60 عاماً وتخرج على يده أكثر من 11 ألف ممن حضروا الدرس.
وتحدث الحبيب عمر في الكلمة عن الإمام البخاري ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وما تميز به صحيحه الذي نفع الله به العباد، وذكّر طلاب الجامعة بنعمة الله عليهم في اهتمامهم بنصرة شريعته صلى الله عليه وسلم، وما يحملونه من المودة والمحبة له، ووضّح حفظه الله أن جميع النعم تتضاءل أمام النعمة العظمى ببعثته ﷺ، وأن من تمام البرهان على محبة رسول الله: حُسن الاقتداء في اتباع سننه الكريمة ونية نشر شريعته في الأمة.
ثم ختم الكلمة بتوصيات مهمة لطلاب الجامعة في مواصلة الاجتهاد في طلب العلم الشريف مع الإخلاص والنية الصادقة، ودعى لهم بدعوات مباركة لينتشر على أيديهم الخير ويكونون من خيار الأمة من أحباب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم.
الحمد لله على هذه النِّعمة العظيمة والمِنَّة الجسيمة، وحضوركم في محاضر التلقِّي والترقِّي والتَنقِّي، العلم المشتمل على أسرار التزكية، المُتّصل بسرِّ الآيات المُنزلة، المُرتبط بجامع صفات الكمال في العالم الخلقي، مَنْ فضَّلهُ الله وكمَّله، وختم به رسله، عبدهُ المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بسرِّ الاتّصال بهذا الجناب الأشرف رقى مَن رقى، من الصحب الأكرمين وخصوصاً السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كان حظّهم كبير من الارتباط بالله عبر رسوله، ومن الاتّصال بسيدنا محمد ﷺ والتعظيم له، والاجلال والانطواء فيه ، وكان أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ومن الماء البارد على الظمأ ﷺ، وبذلك بذلوا أرواحهم وأنفسهم في مرضاته واتِّباعه، وقد قال جل جلاله: (واللهُ وَرَسُوله أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62].
وما عَظُم شأن المحبة لأهل بيته ولا لأصحابه إلا لكون ذلك يُرضيه وليَكُن ذلك أرضى له عليه الصلاة والسلام، وبذلك عظُمَ الأمر، وسمِعتم خيار هذه الأمة وكلهم تعمّقوا في سرِّ المحبة لآل البيت الطاهر إرضاءً لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام وأداءً لثمن الدين، ثمن الدين (قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلا المَوَدَّةَ في القُرْبى) [الشورى: 23]، فجعل ثمن هذا الدين، فمن أراد أن يعرف قدر الدين فيُسَّلِمْ ثمنه، والثمن مودَّة قربى رسول الله ﷺ، فلم يُسأل شيء غير ذلك، وهذا الذي سُئِل لا يستفيد منه ﷺ، وليس أمر يعود عليه بأي شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن يستفيد منه صاحبه.
(قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) [سبأ: 47] يستفيد منه ذلك المُحِب، ومنهم صاحب هذا الصحيح سيدنا الإمام البخاري عليه رحمة الله تبارك وتعالى، الذي تشرّفتم بقراءة صحيحه على يد الشيخ أبي بكر بن أحمد الذي تلقّاه عن شيوخه وعن رجاله، وبأسانيدهم المُتّصلة إلى الإمام البخاري إلى سيد المرسلين سيدنا محمد ﷺ، أنتم مغبوطون بهذه النعمة الكبيرة أتمها الله عليكم، وأطال عمر الشيخ أبي بكر في عافية تامة وأمدّه بالصحة التامة، وبعناية الحبيب العظيم ﷺ، وبلّغكم سرّ الاتّصال به وسرّ المحبة.
كان سيدنا الإمام البخاري شديد المحبة لأهل البيت وكبير التعظيم لهم، وتجدون في عامّة النُّسخ في صحيح البخاري المخطوطة والتي طُبِعت، عامّتها كلما ذكر أحداً من الصحابة ذكره بالترضّي عنه، لكن إذا انتهى إلى ذكر السيدة فاطمة بنت النبي محمد يقول: عليها السلام، تجدونه في نُسَخ صحيح الإمام البخاري، كلما ذكرها ذكرها بما يُذكَر به الأنبياء والملائكة ويقول: عليها السلام، لما في قلبه من مودّة السيدة فاطمة وتعظيم السيدة فاطمة، وهو الذي يروي أنها بضعة أي قطعة من النبي ﷺ يُرضيهِ ما يرضيها.
بذلك كله جاء النفع بِصحيحهِ هذا، وقد كان أكرمه الله بحفظ قوي، وأكرمه الله بِحُسن تلقّي، ولكن السر ليس في مُجرّد الحفظ، السر في ولاء القلب وهو الصدق في محبته، نال الرضا فنفع الله سبحانه وتعالى ونشر كتابه، وجعله أعظم كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى يُقرأ على الناس ويتلى على الناس، حتى رأى بعض الصالحين رسول الله ﷺ يقول له: تقرأ في كتاب فلان وفلان فمتى تقرأ مؤلّفي؟ قال يا رسول الله: ما مؤلفك؟ قال: صحيح البخاري هذا مؤلفي، لأنه كلامه ﷺ.
واعتُنِي بتصحيحه من ستمائة ألف حديث انتخب هذه الأربعة الآلاف والسب الآلاف باعتبار المُكرّر، والمُكرّر من حيث إما لفظ في السند أو لفظ في المتن، وإلا لم يجتمع في حديثين سند واحد ومتن واحد في صحيح البخاري، لم يجتمع، لا يوجد سند واحد ومتن واحد في الصحيح من أوله إلى آخره، فلهذا قال ليس في كتابي مكرر، وهذه الثلاثة الآلاف التي ذكروا أنها مكررة ، إنما مع فارق إما في السند وإما في لفظ المتن، وأما اتفاق السند والمتن ما جاء مكرّرا أبدا، في صحيح الإمام البخاري عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
بهذا السرِّ جعل الله سبحانه وتعالى لهذا الصحيح النفع والقبول والأثر الكبير وانتشارهُ في الأقطاب، والذين سمعوه مباشرة وتلقّوه عن سيدنا الإمام محمد بن اسماعيل البخاري رضي الله تعالى عنه تسعون ألفاً هم الذين تلقَّوه عنه مباشرة، ثم كل واحد من التسعين الألف بعد ذلك سمعه عنهم مَن بعدهم، فتواترَ صحيح الإمام البخاري من عهده إلى عصرنا، وانتشر كتابه هنا وهناك، فالحمد لله على ذلك والحمد لله على توفيق الله إياكم لهذا السر.
نحن في هذا المجلس الكريم المبارك معكم اليوم دُرنا حول حقائق من سرِّ النعيم والتكريم من المُنعم الكريم ربنا سبحانه وتعالى، وأنّ سر الإنعام والإكرام مُجتمع لنا في خير الأنام محمد ﷺ، وأنهُ جعله الرب الخالق البارئ المُنشئ السبب لوجودنا ووجود الكائنات كلها، ثم سبب في إمدادنا مِن حضرته سبحانه وتعالى بأنواع النعم كلها (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل: 18]، ثم جعل أكبر النِّعم علينا كما سمعتم في كلام الشيخ أبي بكر بعثة هذا المصطفى ﷺ.
قال سيدنا الإمام الحدّاد:
لَهُ المِنّة العُظمى عَلينا بِبَعثِهِ ** إلينا وَمِنّا عالي الذكر وَالكَعبِ
وهذا بيتٌ من قصيدة قد نُقِشت وسط الحجرة المُشرّفة في المدينة المنورة وسط حجرة النبي ﷺ، نُقِشت هذه القصيدة للإمام الحداد مطلعها:
سَلَكنا الفَيافي وَالقِفار عَلى النجب ** تَجدُّ بِنا الأَشواق لا حادي الرَّكبِ
فليس الحادي للركب الذي يُنشِد هو الذي يُحرِّك شوقنا ويجِدُّ بنا، ولكن الأشواق التي في قلوبنا هي التي تجِدُّ بنا وتحدونا، تجِدُّ بِنا الأَشواق لا حادي الرَكبِ
فسِرنا عَلَيها بِالعشية وَالَّذي ** يَليها مِن اللَيل البَهيم عَلى القَتب
يَلذ لَنا أَن لا يَلذ لَنا الكَرى ** لَما خالَطَ الأَرواح مِن خالص الحُبِّ
وَما زالَ هَذا دَأبنا وَصَنيعنا ** إِلى أَن أَنَخنا العَيسَ بِالمَنزل الرَحبِ
نَزَلنا بِخَيرِ العالمين مُحَمدٍ ** نَبي الهُدى بَحر النَدى سَيد العُربِ
قال في هذه القصيدة له المنة - على الحق تعالى -: له المنة العُظمى علينا ببعثه ** إلينا ومِنا عالي الذكر والكعبِ ﷺ.
فالنِّعم التي هي الإسلام والقرآن الكريم أعظم النعم، وكلها من مُندرجة في ذات المصطفى، فما عرفنا الإسلام إلا منه وإلا به وإلا على يده، ولا يكون أحد مسلماـ حتى يؤمن به ويُصدِّق بما أُنزِل عليه، فهو أصل الإسلام وحقيقته، والقرآن على من نزل؟ وكيف عرفناه؟ وكيف توصّلنا إلى تلاوته أو تفهُّم أحكامه؟ (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) [مريم: 97] يقول الله تبارك وتعالى، ( نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمين * عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ * بِلِسَانٍ عَرَبِیّ مُّبِین) [الشعراء: 193-195]، فنِعمة القرآن مُندرجة في ذاته ﷺ، نِعمة الإسلام مُندرجة في ذاته ﷺ وهذه أعظم النعم، ولِذا عجبنا لما أورد لنا من تفسير الإمام الماوردي فيما جاء عن سيدنا جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أنّ النعيم الذي نُسأل عنه يوم القيامة هو النبي المصطفى محمد ﷺ، ومن أقرب ما تفرّع منه آل بيته كما سمعنا، فهم نعيم بيننا.
والحمد لله رب العالمين هذه مِنّة كبيرة ما احتفلنا به في الأمس مِن تسليم مفاتيح مائة وإحدى عشر بيت لأُسَر من ذريته ﷺ، تحمِل معنى المودّة التي هي ثمن الدين، وتحمل معنى طلب الرضا، وشُكر هذه النعمة وجود هؤلاء بيننا وحضورهم في بلداننا سبب لِدفع كثير من الآفات والعاهات ونيل القُربات، فضلاً من الله تعالى هذا الاهتمام من الشيخ أبي بكر ومن معه ببناء هذه البيوت نعمة كبيرة عليهم من نعم الله تبارك وتعالى، تُبنى لهم بها بيوت في مراتب القُرب، وبيوت في مراتب المعرفة، وبيوت في مراتب المحبة، وبيوت في مراتب الرِّضا (واللهُ وَرَسُوله أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62] بِواسطة هذه البيوت، الحمد لله على هذا التوفيق.
وسبقتُم غيركم في مثل هذا المظهر الكثير، لأنه في كثير حتى من الأماكن التي يدّعون فيها محبة أهل البيت ورُبّما شذوا وخرجوا عن سواء السبيل ما يوجد بهذه الصورة عندهم أو بهذا الانتباه والاهتمام والعطاء الطيِّب عن طيب نفس، طلباً لُرضوان الله ورضوان رسوله ﷺ، وكان هذه نعمة كبيرة من الله تعالى عليكم منَّ بها، وبسببها يتواصل الخير ويتِمّ الفرج لكم ان شاء الله وللمسلمين، وترون نُصرة هذا الدين ونُصرة هذا الحق، وسرور قلب الشيخ أبي بكر وأهل العلم وأهل الولاية عندكم بما يُحدِث الله سبحانه وتعالى من الخيرات في البلاد وفي العباد، فضلاً من الحق تعالى فإنه إذا رَضي نبيه محمد ﷺ نِيل رضوان الله تعالى، وإذا رضي الله تعالى كان اللُّطف في الأقدار واللطف في القضاء وفيما يجري على الناس، وكان العون وكان المنّ والإفضال من حضرته جل جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا جاء عن سيدنا جعفر الصادق نفسهُ أنه قال: نحن الناس في قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [النساء: 54]، ولكن الله اذا تفضَّل على نبي أو ولي أو على أهل بيت أوعلى الصحابة أوعلى ملك أو على أي أحد، إذا تفضّل بِنعمة كلّ من رضي بهذا الفضل وأعطاه حقه وشكر عليه يناله نصيب من نور هذا الفضل، ويناله نصيب من نور هذا التخصيص الرباني لهذا المُخصّص، وكل من كره ذلك وكل من اشمئزّ من ذلك يُقطَع ويُحرَم عن ذلك الفضل ولا يصيبه شيء منه.
وهكذا انظروا المشهد الواضح في هذا المعنى والحقيقة في مشهد أبينا آدم وفي جبهتهِ نور النبي محمد ﷺ، وما خاطبَ الله الملائكة وكان معهم إبليس أن يسجدوا له، فأما الملائكة فرضوا بتخصيص آدم وتفضيل آدم وتعيين الخير الكبير له، وأمرهم بالسجود له فسجدوا، فنالهم الفضل ونالوا من هذا الفضل زيادة قُرب من الحق تعالى ورضوان من الحق جل جلاله، وإبليس حسد آدم وقال لم أكن لِأسجد لبشر خلقته من سلالة من طين (قَالَ لَمۡ اَكُنۡ لِّاَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهٗ مِنۡ صَلۡصَالٍ مِّنۡ حَمَاٍ مَّسۡنُوۡنٍ) [الحجر: 33] ( أَنَاخَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين) [الأعراف: 12] فطُرِد ولُعِن والعياذ بالله، وحُرِم فضل آدم وبركة آدم وصار مقطوعاً محجوباً، وهكذا كلّ من تفضل الله عليه، فمن رضي بهذا الفضل واستقبله بتسليم ورضوان وشكر الله عليه، نالهُ نصيب من هذا النور ومن هذا الفضل وارتفع قدره، ومن لم يرضَ بهذا الفضل والإحسان قُطِع وحُجِب ومُنِع، وسقطت منزلته عند الله تبارك وتعالى.
وهكذا من هنا وجب علينا الإيمان بالملائكة وبالنبيين والمرسلين أجمعين، لأنهم مظاهر فضل الله تبارك وتعالى، ومن آمن بهم انساق إليه ووصل نور هذا الفضل من الله تبارك وتعالى وتفضّل هو، وصار فضيلاً بالايمان بهم ومُرتقياً لهذه الدرجات بواسطة الإيمان بهم صلوات الله وسلامه عليه، فلِذا لا يقبل الحقّ إيماناً به من دون إيماناً بملائكته ومن دون إيماناً برسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا يُعَدّ مؤمناً بالله من كذب رسولاً واحداً، ولا من كذَّب بالملائكة ما يُعدُّ مؤمناِ بالله تعالى، وفسّرَ النبي ﷺ كما تقرأونَ أيضاً في صحيحه الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، هذه مظاهر فضل الله تعالى وجلاله، وحِكمة خلقه ووجوده، وحُكمهِ ومنهاجه مجموع في الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء خيره وشره، كلها مظاهر قدرته، ومظاهر انفرادهِ سبحانه وتعالى بالقهر على العباد، وبالتصرُّف في شؤونهم وأحوالهم، ومعادهم إليه ومرجعهم إليه سبحانه وتعالى، ومظاهر فضله من الملائكة والنبيين والكتب المُنزَلَة، وفي أحكامه وأحكام شريعته سبحانه وتعالى، فبالإيمان بها يصِحُّ الإيمان به جل جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا نجد جميع النعم بعد ذلك تتضاءلَ أمام النعمة العُظمى بِبعثة المصطفى محمد ﷺ، فخلقهُ الله تبارك وتعالى مِن نوره، ثم خلق الوجود والعالم كُله، فنورُ هذا الحبيب أول مخلوق برز في العالم، ومنهُ تفرّع الوجودُ خلقاً بعد خلقٍ فيما حدث وما تقادم، فصلى الله عليه ورزقنا وإياكم حُسنَ متابعته.
نُسأل عن هذا النعيم وهذا جاءنا في النص أيضاً: "إنكم ستُسألون عني فماذا أنتم قائلون؟" إنكم ستسألون عني، قإذا قيلَ النعيم الذي نُسأل عنه رسول الله فالحديث يُؤَيِّد هذا، الحديث يؤيد هذا المعنى ويؤيد هذا التفسير، وإذا سُئًلنا عن صلاتنا فإنما هو الذي بُعِث بها وفُرِضت على يده وجاءنا بها ﷺ، وإذا سُئِلنا عن زكاتنا فإنما فُرِضت على يده وهو الذي جاءنا بها ﷺ، وإن سئلنا عن صوم فإنما جاءنا على يده وهو الذي شرعه لنا ﷺ، وكذلك كلّ شيء نُسأل عنه بعد ذلك فهي فروعٌ من نور ذات سيدنا محمد ﷺ.
نُسأل عنه في محبتنا له وتقديم محبتنا على كل شيء من الخلق، فما أذن الله لنا أن نُحِب في الكائنات شيئاً كما نُحِب محمداً ﷺ، ولا يجوز لِمؤمن أن يُقدِّم في المحبة أي شيء في الكائنات، لا عرش ولا كرسي ولا جنة ولا نار ولا أرض ولا سماء، ولا إنس ولا جني ولا مَلَك ولا مال ولا أهل ولا ولد ولا نفس ولا أيّ شيء من الكائنات، لا يجوز لِمؤمن أن يُقدِّمها في المحبة على محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله طلبكم للعلم من آثار محبته ومن البراهين على محبّتهِ لِكُلِّ مُخلص منكم وصادق، وإذا اقترنَ بهذا الطلب حُسن اقتداء واهتداء وعمل بالسنن الكريمة، ونية نشر هذا في الخلائق ونشره في الأمة فهذا تمام البرهنة على المحبة، بُرهان المحبة لهذا المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما يُحِب أحد إلا وقد أذن الله له أن يُحِب، فيكون محبوباً عند الحقِّ جل جلاله، لأنه لو لم يأذن له أن يُحِب لما أحب وسلّط الله على قلبه ما سلّط على قلوب الكفار والفُجار من محبة الدنيا ومتاعها وزُخرفها وانحصارهم في ذلك، ومحبة الأهوِيَة والشهوات وانحِصارهم في ذلك، وحرمهم محبتهُ ومحبة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وقد قال لنا الحق في تبيين هذه الحقيقة: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة: 24]، تهديد (فتربصوا) إذا كان شيء مِن هذا أحب إليكم من الله ورسوله وجهاداً في سبيله، فأنتم بمحبة الله ومحبة رسوله والجهاد في سبيله بإخلاصكم في هذا العلم وقيامكم بتعظيمه وحضوركم.
كانت مجالس الحديث هذه يُضرَب بها المثل في الأمة المحمدية، يحضر الحاضرون كأنهم يسمعون من النبي ﷺ، ويجلسون كأنّ على رؤوسهم الطير، وهكذا كان للإمام مالك منصّة لا يجلس عليها إلا للحديث عن رسول الله ﷺ، وإذا جلس وحدّث فكأن على رؤوس الناس الطير من تعظيم هذا الرجل، وكان يسردُ سنده عن فلان حتى يصل إلى الصحابي ثم يقول عن صاحب هذا الضريح ﷺ أنه قال كذا أو فعل كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا عليه الصلاة والسلام، وكان لا يُحدِّث حتى يتطيّب ويلبس أحسن ثيابه تعظيماً لحديث سيدنا رسول الله ﷺ.
بل ذُكِر عن بعض العلماء في أراضيكم الهند أنه كان فيه حديثه يُحدِّث عن رسول الله ﷺ وفي جانبه نهر فيه بعض الضفادع، فكان وهو يُحدِّث ظهر صوت الضفادع المسمى النقنقة، فوقف عن الحديث والتفت إلى الماء الذي فيه الضفادع، وقال أيتها الضفادع نحن نتلو حديث رسول الله وأنتنّ تُنقنقنَ! فإما أن تسكتنَ أنتنّ وإلا سكتنا نحن، فتقافزت الضفادع من الماء هربت! خرجت واحدة بعد الثانية، ولم يبق ضفدع، فأكمل درس الحديث. قالوا فمن العجيب أنه إذا أحد أخذ من هذا الماء شيء فوضعه في ماء فيه ضفادع تفرّ الضفادع منه، تنفر منه! إلى أي بقعة يأخذون من هذا الماء يضعونه في الماء الذي فيه ضفادع، فالضفادع تفرّ من أثر هذا الماء الذي خاطبه الشيخ بقوله أيتها الضفادع نحن نقرأ حديث رسول الله ﷺ وأنتن تنقنقنَ فإما أن تسكتن وإما أن نسكت، فهِبنَ حديث رسول الله ﷺ.
وكان الرعيل الأول من الصحابة عليهم رضوان الله يجلسون بين يديه لا يحِدّون النظر إليه تعظيماً له وكأن على رؤوسهم الطير، وإذا أمر ابتدروا أمره كما تقرؤون في الحديث الكريم، كلّ هذا يُوقِفكم على سر من أسرار هذا النعيم في وجوب وِجهتكم إلى العلي العظيم، وحملكم لهذه الأمانة في أنفسكم وأهليكم وأولادكم؛ لِتحيا سُنته في ذواتكم وفي دياركم ومنازلكم وفي أسركم وأقاربكم، ولتحملوا راية البلاغ عنه عليه الصلاة والسلام ونفع العباد والبلاد، فينتشر على أيديكم الخير وتكونوا من خير الأمة، وإنّ من علم علماً فنشرهُ يُبعث يوم القيامة أمةً وحده قال ﷺ: "أجود الأجواد رب العالمين وأنا أجود الخلق، وأجودكم بعدي رجل علم علماً فنشره يُبعث يوم القيامة أمة وحده"، فأهل نشر العلم من أمته هُم أجود هذه الأمة وأعظم هذه الأمة، فالحمد لله على ما هيّأ لكم من هذا السبيل.
أنتم مغبوطونَ بحمد الله في هذه البلدة وفي هذا الاتصال بهؤلاء الشيوخ والرجال نعمة كبيرة عليكم من الله، تتّسع لكم مجالاتها باتّساع أدبكم واتساع صدقكم وإخلاصكم، وهِمتكم في العمل وهمتكم في التعليم، ونشر الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونفع العباد والبلاد.
الله يُجري على أيديكم المنافع الكثير الكبيرة، ويُبارك في هذه المؤسسة النَويرة، وفي مركز الثقافة السني وينشر الله خيره بمشرب هنيء للقاصي والداني، وكلٌّ من طيِّب هذا الشراب يشرب، وبالمحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يرقى ويتطيّب ويصفو ويطرب، اللهم ارزقنا محبتك ومحبة نبيك واجعلنا نحيا ونموت وأنت ورسولك أحب إلينا مِما سِواكما.
اللهم وبِهذا الصحيح ورجاله والبخاري ومن اتّصل به، وبالمُتقدّمين في هذه الديار من آل بيت نبيّك الأطهر ومن الصالحين الأخيار، وشيخ الشيخ أبي بكر وجميع مشايخهم والمُتعلّقين بهم انظر إلينا في مجمعنا، أصلح جميع شؤوننا، اجعل اللهم قلوبهم مُنوّرة بنور العلم والعمل به، والدعوة إليك والدلالة عليك، اللهم اجعلها ساعات قَبول وإجابة ودخول في دوائر أهل الإنابة، أثبتنا في أحباب حبيبك محمد ﷺ وورثتهِ وأهل الاقتداء به، خلِّقنا بأخلاقهِ وأدِّبنا بآدابه، وأمِدّ الشيخ أبابكر بن أحمد بِتمام العافية ودوام العافية وشكر على العافية، وارفعه للمراتب العالية وبلِّغه ما يأمل، واجعل اللهم له مُدة مديدة فيما يبقى من عمره على ظهر هذه الأرض، يسرّ قلبه بواسع الفضل والإحسان والعافية والصحة، والقيام بالأمر على ما هو أحب وأطيب وأرغب، في لطف وعافية يا رب، في لطف وعافية، يا رب في لطف وعافية يا رب، في صلاح للحال وللمنقلب، كشف لجميع الآفات والكرب، وقُرة عين حبيبك محمد ﷺ وسرور قلبه الأطيب.
اللهم اجعلنا من أهل حسن متابعته، وأثبتنا في ديوان أهل حضرته، وارزقنا شهودك بمرآته، وارزقنا الفناء فيه والفناء به فيك، والبقاء بك فيه في خير ولطف وعافية، ويقين وتمكين مكين يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
اجعل المجمع مجمعاً معروضاً عليه بِخير ما تعرض مجامع المحبوبين والمقربين، حنِّن روحه علينا، عطِّف قلبه علينا، اجعلنا من أسعد الناس به وبقربه وبمحبته، وباتباعه وبخدمته وبنصرته ونصرة شريعته، ونصرة دينه ونصرة سنته ونصرة ما جاء به عنك يا الله، اجعلنا مذكورين في حضرته، اجعلنا مذكورين في حضرته، اجعلنا مذكورين في حضرته، بأسنى ما يُذكر به محبوبوكَ ومحبوبوه، والمرضي عنه منك ومنه، والراضين عنك وعنه، والقريبين منك ومنه، بمحض الفضل والجود يا بر يا ودود، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
03 ذو القِعدة 1444