(231)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج في دار المصطفى بتريم، ليلة السبت 27 رجب الأصب 1444هـ بعنوان:
حقيقة العقل الواعي للخصائص التي تحق وتجب وتحسن الرعية فيها
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على حبيبك سيدنا محمد أول متلقٍّ لفيضك الأول، وأكرم حبيبٍ تفضّلتَ عليه فتفضّل، وعلى آله وصحبه وتابعيه وحزبه ما دام تلقّيه منك وترقّيه إليك، وإقبالك عليه وإقباله عليك، صلاة نشهدك بها من مِرآته، ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته، قائمين لك وله بالأدب الوافر، مغمورين مِنك ومنه بالمدد الباطن والظاهر.
يا أوّل يا آخر، يا باطن يا ظاهر، يا حيُّ يا قيوم يا فاطر، يا من بيده الأمر كلّه وإليه يرجع الأمر كله، صل على أكرم خلقك عليك وأعظمهم منزلة لديك، سيدنا الهادي إليك والدالّ عليك، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأهل ولاءهِ ومتابعته، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وهؤلاء الذين ذكرنا من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وأتباعهم والملائكة المُقرّبين؛ همُ المخصوصون من الحق الخالق - جل جلاله - بالخصوصيّات الكبيرة العُظمى، ولهم فيها مراتب، وكلّ ما لم يكن في محيطهم وفي دوائرهم، وكلّ ما لم يكن لهم عند الحق؛ فهو من جملة الأمور التي في ذاتها ليس لها شرف ولا كرامة، وليس لها منزلة، كلُّ الأمور التي لم تكن في محيطهم ودوائرهم، أو شاركهم فيها سِواهم من خارج هذه الدائرة؛ فهي من جُملة الأشياء التي مرتبتها وميزانها عند الخالق؛ أنّها ليست ذات شرف في ذاتها، وليست ذات كرامة في ذاتها، وليست ذات منزلة ولا رِفعة في ذاتها.
ولا يوجد شيءٌ موهوب من حضرة الألوهية؛ فيه حقيقة رِفعة، وحقيقة كرامة، وحقيقة سعادة، وحقيقة شرف، إلا وهو مبثوث لهؤلاء من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين، هم وحدهم الذين أنعم الله عليهم بالنِّعم الكبيرة الدائمة العظيمة، وما من حقيقة خير، ولا كرامة ولا شرف؛ إلا وهو في صفوف هؤلاء، وكل ما وجد في صفوفهم وصفوف غيرهم؛ فهو بذاته ليس ذا شرف، بِذاته ليس ذا كرامة، وإنما قد يتشرّف بشيء مِما ءاتى الله أهل الشرف بنياتهم أو مقاصدهم، فيتحوّل في محيطهم إلى شيء آخر، وأما ما لم يوجد أصلاً في محيطهم، ووُجِد عند الغير؛ فما هو إلا مظاهر البُعد، مظاهر الطرد، مظاهر الحجاب، مظاهر الانقطاع، مظاهر الذِّلّة والمهانة والسقوط والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فهؤلاء الذين أنعم ربكّم عليهم جل جلاله -أدخلنا الله وإياكم فيهم ورقّانا في مراقيهم- ومن أنعم عليه بِنعمة لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فهو أهلٌ لِأن يدخل في تلك الدائرة، وأن يكون فيها من أهل القلوب الحاضرة، وأن تتلقّى ساحات قلبه من غُيوثها الماطرة، وأن يرقى فيها مرقىً حسب ما كُتِب له في الأزل، وظهر تأهّلُهُ وتهيُّئهُ له في اللاحقِ من النية والوصف والقول والعمل، هكذا قِسمةُ الحقِّ عز وجل، مُكوِّن الأكوان.
ثم إنه جل جلاله، وتعالى في عُلاه، جاعِلاً لهذه الأكوان أنواع من التبديل والتغيير، بل من الانشقاق والانفطار، والحركة والاضطراب والزلزلة، ومنه زلزلة الأرض عند القيامة و ( يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلْأَرْضُ غَيْرَ ٱلْأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ ) ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ) و ( إِذَا اَ۬لسَّمَآءُ اُ۪نفَطَرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡكَوَاكِبُ اُ۪نتَثَرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡبِحَارُ فُجِّرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ) و (إِذَا اَ۬لشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لنُّجُومُ اُ۪نكَدَرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡجِبَالُ سُيِّرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡبِحَارُ سُجِرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ * بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ * وَإِذَا اَ۬لصُّحُفُ نُشِّرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لسَّمَآءُ كُشِطَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡجَحِيمُ سُعِرَتۡ * وَإِذَا اَ۬لۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ ).
ثم لا يبقى ممدوداً من الله بالإبقاء؛ إلا أرواحَ المُكلّفين، والملائكة المُقرّبين، وجنس المُكلَّفين هؤلاء من الإنس والجن، ثم يأتي تعالى لِبقيَّةِ الروح الحيوانية المُجرّدة، التي وهبها الحيوانات؛ فـيُـفْـنِـيـهَا، ويُفْني أجسادها ولا يبقى منها شيء، وتبقى هذه الروح المُدرِكة، المُهَيَّأه للعلم بالله والمعرفة به، من استجابت وعرفت في مواطن تشريفٍ وتكريم، ومن أدبرت وأعرضت في مواطن إهانة وتعذيب، ومكان هذا التكريم والتعذيب هو الذي يبقى بإبقاءِ الله سبحانه وتعالى له، ولا يبقى بعد ذلك إلا ما كان سَقفاً لمكان التكريم من العرش والكُرسي، وما عدا ذلك السماوات قد انشقّت، والأرض قد تبدلّت والجبال.
وأين تسرح أفكار من يعيش على ظهر الأرض؟ في كُلِّ ما يفتخرون به؟ وفي كُلِّ ما يتعالَون به؟ وفي كُلّ ما يَعدُّونَه رُقيَّاً؟ إنه أمام شيء من هذه البحار أو الجبال، أو هذا الفضاء، وكلها علِمنا مصيرها وتشقّقها وانتهاءها وزوالها، فلا والله من لم يُتاجر في هذه الحياة بمعارف أحكام الله، وصفات الله، وآيات الله، وما جاء عن الله؛ فواللهِ ما عِندَهُ من العلم ذرّة وإنْ سَمَّوه أعلم العلماء، وما عنده من الشرف والحقيقة ذرّة، هم الجُهّال، هم الذين لا يسمعون ولا يعقلون، ويقولون غداً: ( ... لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ اِ۬لسَّعِيرِ ).
فالشّرفُ الموجودُ في المعلومات والمعرفة على ظهر الأرض ما تعلّقَ بما يتأبّد ويتخلّد من المعرفة بالله جل جلاله وتعالى في علاه، وهذه الآلات من الكائنات التي يستفيد منها المؤمنون والصالحون زيادةً في المعرفة، وزيادةً في الرُّقي، تذهب وتتلاشى ويبقى مآ أوتوا من قِبَل الحق من معرفةٍ، ومن نورِ يقين، به يتنعّمون في دار الخلد والكرامة.
أيها العِباد: علمنا الخصوصية لهذا الصنف الذين أراد الله تبارك وتعالى إمدادهم بالإبقاء منه - جل جلاله -، وإبقاء منازلهم في الجنة وفي النار، ما يُكَرَّم به من استجاب، وإلى الله أناب، واستقام على منهج الهدى والصواب، ولم ينخدع بالسراب، ولا بتغشيشِ إبليس، وزُخرف القول الغرور الذي يحمله جُند إبليس على ظهر الأرض، هؤلاء هم الذين يُنعَّمُونَ في دار الكرامة، وفي محلّ الرحمة والتَنَزُّل، وعندهم فيها ما هو باقٍ بإبقاء الله من أنواع النعيم، وهناك من الجحيم والعذاب ما هو باقٍ بإبقاء الله تعالى للذين يُخلَّدون في دار العذاب والطرد، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وعند هؤلاء في دار الكرامة نعيمٌ أكبر أعظم مِن كُل ما ذُكِر؛ وهو النعيم الباقي ببقاء الله؛ وهو رضوانه - جل جلاله -، أنواع النعيم في الجنة تبقى بإبقاء الله؛ لكن الرضوان باقٍ ببقاء الله لأنه من صِفاته سبحانه وتعالى، فهو باقٍ ببقاء الله ( رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) -اللهم اجعلنا منهم وأدخلنا في دوائرهم.
وإذا أدركت هذه الحقيقة التي قرّرناها؛ بدأت تعقل، وإذا بدأت تعقِل؛ فـأمامكَ الخطاب من رب الأرباب أنْ ترتقي وتعرج في مراقي هذا الفهم عنه - جل جلاله -، درجات تتّصل بها بصاحب الإسراء والمعراج وسرّه، وتنال منزلة في القرب منه، هي والله منزلتك عند الله في البرزخ والقيامة ودار الكرامة، أيَّ رُتبةٍ وصلتَها، وأيَّ مكانة بلاغتها، في الصِّلَة بهذا الجناب -جناب صاحب الإسراء والمعراج- فهي منزلتك عند الله، في البرزخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة.
والمُنْقَطِعونَ عنْه، والمُكَذِبونَ به، والمُخَالفونَ لسبيله، ليس لهم أن يَشمُّوا رائحة الجنة، "وإنَّ ريحَها ليُوجَدُ من مسيرةِ خمسِمائةِ عام"، ( فَلۡيَحۡذَرِ اِ۬لَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، ( يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ اُ۬لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ اُ۬لرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمِ اِ۬لۡأَرۡضُ ) ، أن يُمسخوا فيكونوا كالأرض سَواء، لو تُسوّى بهم الأرض، هذا الذي قد كانوا يقولون له عبقري؟ هو! هذا الذي قد يقولوا له الرئيس الكبير؟ هو! هذا الذي قد كانوا يُصفِّقون له؟ هو! يتمنى أن تُسوّى به الأرض، ( وَلَا يَكۡتُمُونَ اَ۬للَّهَ حَدِيثٗا ) ، هذا جزء من عصى هذا الرسول، وهكذا يقولون ويعضّون على أيديهم، ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ).
ما أغنت العلاقة بغيرهِ مع الانقطاع عنه صلى الله عليه وسلم! كائنةً ما كانت؛ إن كانت دولة، وإن كانت حزب، وإن كانت تحالفات، وإن كانت تكتُّلات، وإن كانت مواثيق.. مع الانقطاع عنه، كلّها في دائرة يا (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي.. ﴾ ، وإنما الصِّلة المحمودة: ما كان في منهج هذا الرسول، وفي طريقة اتّباعه، هي الصِّلات التي نرجوا أن تكون حبالها هي التي جمعتنا في هذه المواطن، وأحضرتنا هذه المحاضر، وبسرِّ حبالها تُنصت قلوبنا، وتُنصت أرواحنا، إلى معاني الوحي والتنزيل، وشرح ما نُزِّل على النبي الجليل - صلى الله عليه وعلى صحبه وسلم ـ.
وإذا بدأتَ هذا العقل؛ ودخلتَ ميدانه -ميدان العُقلاء-، عرفت أنْ كان هناك خصائص، أو مزايا، يُفاخَر بها ويحرص العاقل عليها؛ فمراتب القرب من الله - جل جلاله -، ثم تُوقِنُ أن لا خصائص، ومِنح، ومواهب، برزت من حضرة الجودِ، وحضرة الألوهية، والربوبية، أعلى ولا أجل ولا أشرف مِما خصّ به عبده المصطفى، ونبيّه المُجتبى، وشفيعه المُبتغى، من جعله سيد أهل الأرض، وسيد أهل السماء، ذاكم صاحب الإسراء والمعراج محمد - صلى الله عليه وآله وسلم-.
فإن كان من شأوٍ ورفعةٍ، وسموٍ، وعلو وسعادة، فـاتصالي بهذا الجناب، وحيازتي من سرِّ أوصافه، ومن سر أخلاقه، ومن سر علمه، ومن سر معارفه، ومن سر لطائفه، ومن سر هَدْيهِ ما أحوزُه؛ هذا هو شرفي والله، وهذه عزَّتي وكرامتي والله، عند الله جل جلاله، وهي التي تبقى وتدوم.
فلنعرِف كيف نرغب في الخصائص، وانظروا عقول المسلمين امتلأت خصائص شهادات، خصائص وظائف، خصائص لعب، خصائص شُهرة! هذه خصائص تُذكر؟ هذه خصائص يرغب فيها من عقل؟ يرغب فيها من أدرَك حقيقة؟ ما هذه الخصائص؟ موهوبة لفَجَرة، ولكَفَرة ولِبُعدَاء، ولِمن لا يشمّ رائحة الجنة، ايش من خصائص هذه؟ إن كان لنا رغبة في الخصائص فخصائص المعرفة به، والمحبة منه والمحبة له، والرضا منه والرضا له، ولن نجدَ قليلها ولا كثيرها إلا بالاتصال بعبدهُ وحبيبه، وعبر الإيمان به، وعبر اتباعه، قليلها وكثيرها، وإنّما أكبرها وأعظمها وأبهرها ما كان به ألصق، وما كان صاحبه وصاحبها بحقائقِ الانطواء فيه تحقّق، وتلك مواهب يهٍبُهَا الواهب جلّت عن حساب كل حاسب ﴿ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ).
وأشار لنا أنَّ مِنْ أحبِّنا إليه وأقربنا منه مجلس يوم القيامة أحاسِنُنَا أخلاقَا، وأشار لنا أنَّ أقرب الناس من الرُّسل في ذاك اليوم العلماء والشُّهداء، وليس كل العلماء ولا كل الشُّهداء؛ ولكن مَنْ وَصَفَهُم بقوله: "أمَّا العُلَمَاء؛ فدلَّوُا النَّاسَ على بُعث به الرُّسلُ"، فالعلماء الذين دلُّوا على ما بُعِث به الرسل؛ هم القريبون، هم المُقرّبون من ذاك الجناب، يُغبطون في أحوالهم، ما أقربهم من لِواء الحمد! ما أقربهم من موضع السجدة حيث يسجد في مقام الحمد! ما أعجب حالهم! ما أشرف شأنهم! ما أجلَّ مواهبهم! -عليهم الرضوان-.
أمَّا العلماء الذين دلّوا الناس على ما تُمليه الأهواء، وعلى ما تُمليه حكام الأرض، وعلى ما تُمليه المصالح؛ فليسوا بقريبين من الأنبياء، بل من أبعد الناس عن أنبياء الله والشهداء، وأي شهداء؟ لا كل شهداء؛ ولكن الذين وصفهم بقوله: "وأمَّا الشُهَدَاء فَمَاتَوا على ما بُعث بِه الرسل"، وأما الذين ماتوا لأجل المُرتّبات، وأما الذين ماتوا لأجل الوظائف، وأما الذين ماتوا لأجل الهوى، وأما الذين ماتوا لأجل التحزُّب لفلان وفلتان؛ فما هُم من الشهداء عند الله، ولا لهم قربٌ من الأنبياء في ذاك اليوم.
فأدْرِكُوا هذه الحقيقة، واْتًّصِلوا بِالعُرْوَةِ الوثيقة، وخذوا شرفكم؛ فقد جُعِلتم خير أمة؛ لأجل هذه العين، لأجل هذه الذات، لأجل هذه الحضرة، والأمَم قبلكم آمنوا، والأمم من قبلكم جاهدوا، والأمم من قبلكم صاموا، والأمم من قبلكم صلّوا، ولا شُرِّفتم بِمُجرّد صلاة ولا صيام؛ ولكن كنتم أعلى منهم للعين هذه، ومن أجل عينٍ تُكرَم مدينة، -صلى الله على سيدنا محمد-.
ولما ذكر البوصيري حفل الإسراء والمعراج:
وَقَدَّمَتْكَ جَمِيــــــعُ الأَنْبِيَاءِ بِهَا ** وَالرُّسُلِ تَقْدِيمَ مَخْدُومٍ عَلَى خَدَمِ
وَأَنْتَ تَخْتَرِقُ السَّبْعَ الطِّبَاقَ بِهِمْ ** في مَوْكَبٍ كُنْتَ فِيهِ صَاحِبَ الْعَلَمِ
حَتَّى إِذَا لَمْ تَدَعْ شَأْوًا لِّمُسْتَبِقٍ ** مِّنَ الدُّنُوِّ وَلاَ مَرْقىٰ لِمُسْتَنِمِ
الكبار الكبار آل الخصائص الكبرى كانوا تحت! وطلعت فوق الكل! وطلعت فـوق الكــل! خصّصك ربُّ الكــل! - جل جلاله -
خَفَضْتَ كـلَّ مَقَامٍ بِالإِضَافَةِ إِذْ ** نُودِيتَ بِالرَّفْعِ مِثْلَ الْمُفْرَدِ الْعَلَمِ
مِنْ حَضْرَةٍ عُلْويَّةٍ قُدْسِيَّة ** قـدْ واجَهَتْكَ تَحِـيـَّةٌ وسَـلامُ
ودَنَوتَ مِنْهُ دُنُوَ حَـقٍ، أمـْ ** ـرُهُ فِيْنَا على أفْكَارِنَا الإبهَامُ
ما للعُقُولِ تَصَوّرٌ لِحَقِـيـْقَةٍ ** يأتِيْكَ مِنْهَا الوَحْيُ والإلهَامُ
فَسَمِعْتَ مَالا يُسْتَطَاعُ سَمَاعُه ** وعَقَلْتَ مَا عَنْهُ الوَرَى قد نَامُوا
-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
لمَّا ذَكر هذه المنزلة عقبهُ قال:
بُشْرٰى لَنَا مَعْشَرَ الإِسْلاَمِ إِنَّ لَنَا..
-إنَّ هذا نبينا، أنَّ هذا رسولنا، أنَّ هذا مُعَلِّمنا، أن هذا هَادِينا، أن هذا داعِينا، أن هذا مُخَلِّفْ بيننا من سِرّه؛ ما كأنه حاضر بنفسهِ بيننا-.
إِنَّ لَنَا ** مِنَ الْعِنَايَةِ رُكْنًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ
لَمَّا دَعَى اللهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ ** بِأَكْرَمِ الرُّسُلِ كُنَّا أَكْرَمَ الأُمَمِ
لَمَّا دَعَى اللهُ.. - يعني سمّى الله، سمّاهُ وناداهُ سمّى الله داعينا -،
دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ ** بِأَكْرَمِ الرُّسُلِ
سمّاه بأكرم الرسل -، كُنَّا أَكْرَمَ الأُمَمِ
لأننا أمته، مِن أجل رتبته، من أجل درجته، من أجل خصوصيّته، من أجل منزلته، من أجل مكانته، من أجل محبة ربهِ لَه، التي خصّصهُ بها. -صلى الله عليه وسلم-
نظر الله إلى قلوبنا وقلوب الأمة، تفيق يا رب من نومها، تفيق من سُباتها، تتوجّه إليك بالصدق، تقتفي أثر خير الخلق.
يا رب ضَعُفَ الصدق في الرَغبَةُ في متابعته في ديارنا، وفي أُسَرِنا، وفي مناسباتنا، وفي ثيابنا، وفي حركاتنا، وسكناتنا؛ فرُدّنا رداً جميلاً إليك يا ذا الجميل، يا ذا العطاء الجزيل.
ارفع لنا رايات الاقتداء بهذا الحبيب، حتى نظفر من محبتك ما تدفع به عنا كل بلاء في الدنيا والآخرة، وتأذن بِظُهورِ رَايَتِه، وتُشهدنا ظُهور دينه في كل بيت من بيوت الأرض،
نَصْرَ رَايَاتِ حَبيبكْ ** فِي جَميع الأرض نَشْهدْ
يا حي يا قيوم، يا منان يا كريم، اجعلها ساعة ربطٍ، ساعة وَ٠صلٍ، ساعة قُربٍ، ساعةُ نظرٍ، ساعةُ ودادٍ، ساعةُ محبةٍ، ساعةُ لُطفٍ، ساعةُ مُلاطفةٍ، ساعةُ إحسانٍ، ساعةُ امتنانٍ، ساعةْ جود يا جواد، يا برُّ يا ودود، يا واسعَ الإمداد، يا واهبَ الإسعاد، يا حي يا قيوم. يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله
عِباد فُقراء، مَدُّوا أيْدِي فَقْرِهِمْ؛ أنت الغني، أنت المليء، أنت السخي، أنت الجواد، أنت المُحسن، أنت المُنعم، ربطاً بحبيبك المحبوب؛ ربطاً بحبيبك المحبوب؛ لا ينفكُّ أبداً، ولا ينحلُّ سرمداً، يا الله ثبِّتنا على طريقه، واحشرنا في فريقه.
30 رَجب 1444