محاضرة للداعيات ضمن فعاليات ملتقى الدعاة التاسع عشر

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ، للداعيات، ضمن فعاليات ملتقى الدعاة (التاسع عشر)

 تحت عنوان: (حقيقة العقل وحُسن استعماله ومهمته في العدل بين الشهوات والغضب والحُكم في المحسوسات الماديّة والغيبيّات المعنوية وأثر كل ذلك على اتجاه ووجهة الافراد والجماعات والشعوب والدول) 

ظهر الخميس 1 محرم 1447هـ

  • 0:00 شرف الخلافة الإلهية وحكمة الخلق
  • 2:31 منطلق الدعوة من الأمر الإلهي
  • 3:41 منطلق الرحمة في الدعوة
  • 6:43 الصفات الواجب توفرها في الداعية
  • 8:32 خطر النفس الأمارة بالسوء ودسائس الشيطان
  • 11:04 الصبر على الأذى وتحمل المشاق في سبيل الدعوة
  • 14:08 احترام المدعوين وحسن الظن بهم
  • 16:41 كراهية التنفير في الدعوة - قصة معاذ بن جبل
  • 18:37 الإتقان والإحسان في العمل الدعوي
  • 27:14 أهمية الذِّكر للداعيات
  • 29:09 وظيفة من رب الأرض والسماوات
  • 30:00 الدعاء للعام الجديد
  • 30:50 مهمات البيوت والدورات
  • 32:02 التعامل مع المستجدات العصرية
  • 33:36 الدعاء

نص المحاضرة مكتوب:

 

شرف الخلافة الإلهية وحكمة الخلق

الحمد لله الذي جمعكن على أمرٍ عظيم، وعلى مقصدٍ هو مِن أعلى مقاصد الخلق والإيجاد، خَلق الوجود كله، وخلق هذا الإنسان على وجه التخصيص والتعيين، وهو شرف وكرامة الخلافة بأمر رب الأرض والسماء عن رب الأرض والسماء، في فهم أحكامه والعمل بها والقيام بنشرها وتعليمها لعباده المُكلّفين، هذا مظهر الخلافة الإلهية الربّانية للإنسان على ظهر هذه الأرض، وهو المُتَّصِل بالحكمة الكبرى للخلق والإيجاد (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).

  • وعلمُنا أن الله على كل شيء قدير يقتضي الاعتماد عليه والاستناد إليه، والثِّقة به والتعويل عليه جلّ جلاله
  • وعلمُنا أنه بكل شيء عليم يقتضي ذلك والخوف منه والهيبة وحُسن المراقبة لإحاطته بنا حيثما كنا

وهذا العلم يقتضي عملاً صالحاً في انتظامٍ في القيام بمنهج الله تعالى على ظهر الأرض، ورأسُ القيام بأمر الله على ظهر هذه الأرض، رأسُ القيام بمنهج الله تعالى، حملُ أمانة الدعوة والتبليغ رحمةً بعباد الله ووفاءً بعهد الله، واتباعاً للنبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه، وعلى آبائه وإخوانه من رسُل الله وأنبيائه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكة الله وعباد الله الصالحين أجمعين.

منطلق الدعوة من الأمر الإلهي

أيتها المجتمعات على هذه الخيرات، أحضِرن قلوبكن، لانطلاق الواحدة منكن في القيام بأمر الدعوة والاهتمام بشأن الإصلاح والتبليغ والإرشاد والتوجيه والتنبيه، والتحذير من مخالفة أمر الله ومن اتباع أمر الأنفس والأهواء وشياطين الإنس والجن، فراراً إلى الله تبارك وتعالى، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

فهذا المنطلق الذي تنطلق منه المؤمنة وينطلق منه المؤمن في حمل أمانة الدعوة إلى الله تعالى والتعليم والإرشاد والتوجيه والتنبيه، والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر، ينطلق من منطلق الأمر الإلهي: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).

منطلق الرحمة في الدعوة

أيتها المؤمنات، من هذا الانطلاق في امتثال أمر الله والوفاء بعهده رحمةً لعباد الله تبارك وتعالى، قال الله لخاتم الرسالة وسيد أهل النبوة: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ". 

فمِن منطلق الرحمة لأسرنا ومجتمعاتنا ولبلداننا ولأهل زماننا نتحرك وننشط للقيام بالتبليغ والإرشاد والدعوة والتعليم والتوجيه والتنبيه، والتحذير من المعاصي والمؤديات إلى المعاصي، بل التحذير من المكروهات ومن الشبهات، قال صاحب الرسالة: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه".

فإذا انطلق المؤمن وانطلقت المؤمنة من أجل الوفاء بعهد الله ورحمةً لعباد الله تبارك وتعالى، اقتضى ذلك؛

  • تواضعاً وإخلاصاً لوجه الله
  • وتفقُّهاً في الدين وتعلماً لأحكام الله تعالى. "ومن يرد الله به خيراً يُفقِّهه في الدين". 

فيحتاج المؤمنون عامةً، والذين تشرّفوا بالقيام بأمانة الدعوة إلى الله وحمل همّها خاصةً، يتعيّن عليهم أن يتفقّهوا في دين الله وأن يأخذوا نصيبهم من؛ 

  • فقه الإسلام والإيمان والإحسان
  • فقه الأحكام المُتعلقة بالجوارح
  • وفقه الأحكام المُتعلقة بالقلوب
  • وفقه الأذواق التي تترتب على ذلك مِن شهود للرحمن ومراقبة له: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". 

فيكون المؤمنون عامة، والداعي إلى الله والداعية إلى الله من المؤمنين والمؤمنات خاصة، يُصلُّون كأنهم يرونه، وإن لم يبلغوا هذا الذوق والشهود، توصَّلوا إليه بأنه يراهم واستشعار أنه يراهم، "فإن لم تكن تراه" أي إن لم تكن من أهل هذا الشهود الأعلى، "فإنه يراك"، فاستشعِر رؤيته إياك وإحاطته بك واطّلاعه عليك؛ "فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

الصفات الواجب توفرها في الداعية

هذه الصفات التي يجب أن تتوفر وأن تحصل في كل داعية من بداية قيامها بأمر الدعوة: 

  • وعي للانطلاق للوفاء بعهد الله ورحمة بخلق الله تعالى
  • وقيام بالتواضع والإخلاص والتفقُّه في دين الله جل جلاله وتعالى في علاه
  • واستعمال الحكمة التي دعانا الله إليها، وهي وضع الشيء في محله
  • واختيار الأسلوب المناسب للمعالجات، لبيان المسألة، لتفهيم الواجب والمفروض للقيام به، وتحفيز النفوس على أن تؤدّيه وأن تقوم به، وتفقَهه وتعلم عظمته وحرمته وعظيم أثره.
  • وكذلك في زجر النفوس عما نُهِيَت عنه؛ مُحرَّماً معصية إثماً، أو مكروهاً وشبهة؛ زجرها عن ذلك بِحُسن البيان وباختيار الأسلوب فيما يقع موقعاً في النفس للإبعاد عن ذلك المُحرّم والمكروه والشبهة، والتجنب لذلك. 
  • اختيار الأسلوب من حيث؛
    •  الوقت والمكان
    • ومن حيث الألفاظ،
    • وما يحمله القلب من رحمة وحرص وتواضع.

خطر النفس الأمارة بالسوء ودسائس الشيطان

ذلكم ما يُتعامل به في القيام بأمر الله تعالى طلباً لنيل رِضاه سبحانه وتعالى، ودحراً لأمر النفس الأمارة بالسوء، والتي هي وكيلة ووزيرة عدو الله إبليس، لا يصل إلينا إلا عبرها، فهي الوكيلة والوزيرة له، تُوقِعُنا فيما يُسخِط الرب جلّ جلاله من الأقوال والأفعال والأحوال، وتُقَوِّي عندنا نفرة النفوس، وتشبّثها بمراداتها وشهواتها وأغراضها وميلها إلى ظهور أو شهرة أو تقدم على الغير، أو أن تكون في مكان أو حال أو على قول مرموق للآخرين. 

فهي دسائس وتلبيس مِن عدو الله تعالى بواسطة النفس، يُخرِج بها الصالح التقي والداعي والداعية عن تقواهم وصلاحهم ودعوتهم، إلى الدعاوي وإلى خدمة النفوس في مظهر أنهم يخدمون المَلك القدوس، وقد انحرفوا في المقصد، إنما يخدمون نفوسهم وإنما يخدمون شهواتها وأهواءها والعياذ بالله تبارك وتعالى.

فيترتّب على هذا الانحطاط الغضبُ من أجل النفس، والفرح من أجل النفس، ويغيب الغضب من أجل الله، والفرح برحمة الله تبارك وتعالى، والفرح من أجل الله بنفع عباد الله وبظهور الحق بينهم على يدي أو على يد ذاك، أو على يد رجل أو يد امرأة، أو صغير أو كبير. 

فإن الصادق مع الله يفرح بانتشار الخير والهدى وظهور الحق على يد من كان، ويفرح للمؤمنين بصلاح أحوالهم وشؤونهم في أي مجال من المجالات وأي حالة من الحالات.

الصبر على الأذى وتحمل المشاق في سبيل الدعوة

في ذلك كله وجب علينا أن نُحسِن التعامل مع ما يطرأ علينا مِن دواعِي هذه النفوس، ومع ما نسمع أو نشاهد أو نُعاني مُن أحوال معترضين ومنتقدين أو مانعين، سواء من أهلين وأقارب أو من جيران أو من غيرهم من الناس، ولا نتأثر بتخذيلهم ولا بتكسيلهم، ولا نتأثر بسبّهم ولا بشتمهم لنا، فإننا بذلنا أنفسنا لأجل الرب جلّ جلاله وتعالى في علاه.

ولا أقلّ في الدلالة على الصدق مع الله مِن تحمل المشاق والأذايا وكلام الناس وعدم المبالاة بسبهم ولا بشتمهم ولا باغتيابهم إيّانا، فإن هذا مما جعله الله تعالى حتى أمام الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).

ولما قالوا لبعض الدعاة الصالحين العارفين: "إن الناس يقولون إنك ساحر"، قال: ابعدوه حتى أسجد شكراً لله، فسجد شكرًا لله، قالوا له: "ما لك؟" قال: "تشبهّتُ بالأنبياء، هكذا يقول الناس للأنبياء، والله تعالى أعطاني هذه المنزلة ولست بأهل لها، وأن يقول الناس عني ما يقولونه عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم".

فهكذا يا أيتها المؤمنة، هذا المجال لا مكان فيه للنفس ولا للهوى ولا لمظاهر الدنيا، هذا المجال مجال عبودية للرحمن، ومجال خضوع للديّان، ومجال اتباع لسيد الأكوان الذي رُمي بالحجارة وشُجّ جبينه وشُقّت شفته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وجُرحت وجنتاه ووُضِع السَّلا على ظهره، وهو من هو؟ وهو من هو؟ وهو من هو؟! حبيب الرحمن وصفيه وأكرم الخلق على الله، تحمَّل كل ذلك، فما مقدار ما نتحمل نحن من بعده؟ وما مقدار ما نعاني من بعده؟ فما أعظم تواضعه وصبره! وقال له ملك الجبال: "إن شئت أطبقتُ عليهم الأخشبين" (أي الجبلين العظيمين)، قال: "لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يتولى هذا الأمر"، فقال الملك: "صدق الذي سمّاك الرؤوف الرحيم".

احترام المدعوين وحسن الظن بهم

أيتها المؤمنات، يجب أن نختار الأسلوب الحَسن والألفاظ الطيّبة مع الرحمة القلبية، ومع اعتقاد الخير فيمن ندعوهم إلى الله، وتوقّع أن يكون من هو بعيد اليوم أو مُرتكب لشيء من المحرمات أن يكون له سابقة من الله؛ يتوب ويصدق فيكون من خير الخلق، وربما شفع فينا في القيامة، كل هذا ممكن، فلا يجوز أن نتجاهله ولا أن نجعله مستحيلاً، فنتأدب مع الله تبارك وتعالى الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وننطوي على محبة الخير للجميع وعلى احترامهم وعلى إكرامهم لكونهم خلقاً من خلق الله، ولكونهم من الآدميين، ولكونهم من أمة محمد.

فكيف إذا كان مع هذا أنه خلق من خلق ربي، ومن بني آدم المكرمين ومن أمة محمد، ثم هو مسلم، ثم هو مؤمن مصدق بمحمد! كيف لا أحترمه؟ كيف لا أعرف حقه؟ ولو كُشِف نور العبد المؤمن العاصي لَطَبَّقَ ما بين السماء والأرض، مِن نور "لا إله إلا الله"، وما دام ربي أعطاه "لا إله إلا الله" بعد أن خلقه آدمياً فأكرمه بهذه الكرامات، كيف يجوز لي أن أُهينه؟ كيف يجوز لي أن أحتقره؟ 

فيجب أن ننطوي على إكرام جميع المسلمين خاصة، على أننا نحترم الخلق عامة من حيث شرعَ الخالق جلّ جلاله وتعالى في علاه، مِن دون موالاة العصاة ولا الكفار ولا الرِّضا بكفرهم ولا بعصيانهم، بل على الأساس الذي قال الله عن رعيلنا الأول: (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً).

كراهية التنفير في الدعوة - قصة معاذ بن جبل

فيقول عليه الصلاة والسلام لسيدنا معاذ بن جبل، وهو من أعلم الأمة بالحلال والحرام: "أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟"، يقول: "إن منكم مُنفّرين"، إذا صليت بهم فاقرأ بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و{هل أتاك حديث الغاشية} ، {والشمس وضحاها} ، {والليل إذا يغشى} وأمثال هذه السور.. لما أطال بهم الصلاة في ليلة، حتى إن بعض الصحابة، لجهده من العمل نوى المفارقة فخرج من الصلاة وذهب.

وخاف سيدنا معاذ أن يكون فيه وصف من وصف النفاق، فلما سمع الكلمة ذهب إلى النبي يشتكيه، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، وأمسك سيدنا معاذ وقال: "أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟ أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟" وأرشده إلى هذا التوسُّط في الصلاة.

فإذا كَرِه التنفير حتى بإطالة الصلاة، فكيف بإغلاظ القول في غير محله؟ أو كيف بالتنفير بأي أسلوب يُنفِّر النفوس؟ بل يجب مراعاة هذه النفوس ومداواتها، وهل يُداوى المريض بالضرب؟ هل يداوى المريض بالرمي؟ ما يداوى إلا بما يتناسب معه ورعايته فيما يقوم به من مرضه ويخرج به عن هذا العجز الذي هو فيه، وعن هذا الحال الذي نازله، فكذلك مرض الذنوب والمعاصي وأمراض القلوب، تُعالَج ببصيرة الأطباء وهم الدعاة الصادقون المخلصون.

الإتقان والإحسان في العمل الدعوي

ومهما توفرت النية الصالحة والتواضع وإرادة الخير للغير، وشُغِل العقل لاختيار الكلام المناسب والألفاظ الأليَق والحال المناسب؛ فإن الله تعالى يُمِدُّ صاحب هذه الدعوة بالتوفيق والإلهام والحكمة حتى يقرب من ربه جل جلاله وتعالى في علاه.

وحينئذٍ بأدبه مع الله وحُسن ظنه في عباد الله، يشعر من حواليه -حتى مَن تأبّى أو عارض في البداية- يشعرون أنه يحمل لهم خير، ويثقون بأنه يريد لهم الكرامة والشرف -طال الزمن أو قصر- يشعرون بذلك ما دام صادقاً مع الله وثابتاً على حاله هذا من أجل الله جلّ جلاله، فإن نفوسهم وقلوبهم تشعر بأنه ناصح، ويرون أن هذه الداعية لا غرض لها لا في إهانتهم ولا في النيل منهم، وليست مُتحاملة عليهم ولا باغضة لهم، ولكنها شفيقة ورحيمة بهم، فتبدأ بذلك الثقة.

وتكون ترجمة ذلك بما ذكرنا من الأُسُس، وبما يتفرّع عنها من الخدمة والإحسان والزيارة وطلاقة الوجه والبشاشة والبداية بالتحية والسلام، وما إلى ذلك من أصناف المعروف.

فهذا يؤكِّد ويقيم صرح الثقة بين الداعيات وبين عموم النساء من الكبيرات والصغيرات والناشئات المُتعرضات لكثير من الفتن والعياذ بالله تبارك وتعالى، وذلك يؤدي أيضاً إلى أمر كبير وهو التقريب بين فئات المجتمع وإصلاح ذات البين، فإن ذلك من أهم ما ينتجه الداعي إلى الله تعالى، وما يجري على يده من لمِّ الشمل وجمع الشتات وبث الألفة والأخوة والمحبة وإصلاح ذات البين، "فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة"، والعياذ بالله تعالى، "ما أقول إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" والعياذ بالله تبارك وتعالى، فساد ذات البين هي الحالقة، تحلق الدين والعياذ بالله جل جلاله وتعالى في علاه.

وهكذا إذا توفرت هذه المعاني عند المؤمنة والداعية، أحبَّت أن تكون؛

  • على وجه الإتقان والإحسان
  • وأن تبذل الوسع في إتقان دروسها وفي مراجعة مسائلها 
  • وفي اختيار العبارات والألفاظ لطرحها،

إلى غير ذلك من الفوائد الكبيرة الكثيرة في الإتقان والإحسان، "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه" يقول عليه الصلاة والسلام، "وإن الله كتب الإحسان على كل شيء".

ومثّل لنا أن الشريعة تحملنا على الإحسان حتى في القِتْلَة عندما نحتاج إلى القِتلة، وفي الذِّبْحَة عندما نحتاج إلى ذبح الأنعام التي أباحها الله لنا: "فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، - أي هيئة القتل - وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة".

وتغير وجهه صلى الله عليه وسلم لما رأى ذباحاً وجزاراً وضع رجله على الغنمة وقد أبطحها في الأرض ثم أخذ يسُنُّ السكين، فقال: هلّا قبل هذا؟ أتريد أن تميتها موتتين؟ تُرِيها سَنَّ السكين ثم الذبح؟ لا، تسن السكين أمامها، ولا تضعها على الأرض حتى تكون قد أكملتَ الاستعداد بشحذ السكين وسَنِّه، فتباشر بعد ذلك، قال: "وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".

فهكذا شأن الإحسان، فكيف في التعليم والإرشاد والدعوة إلى الله؟ يجب أن نكون على قدم الإحسان، يجب أن نكون على قدم الإتقان؛ لقيام الأمر على ما هو أتم وأنجح وأربح.

وهكذا كلما جاء الضعف من الكسل والتهاون، أبعدناهُ بتذكُّر المآب والثواب ومُقاساة ومعاناة الأنبياء والمرسلين والعباد الصالحين في خدمتهم لهذا الدين ولهذه الشريعة ولهذا المنهاج.

الحمد لله الذي جمعكنّ على هذه الخيرات، فاصدُقن مع عالم الظواهر والخفيات، واقتدين بخير البريات. واتخذن المُثل والأنموذج الأعلى لكنَّ: فاطمة بنت محمد وأخواتها زينب ورقية وأم كلثوم، وأمهنّ خديجة الكبرى، وأم المؤمنين عائشة وبقية أمهات المؤمنين، ومريم وآسية اللتين ضربهما الله مثلاً للمؤمنين في القرآن الكريم.

فنِعمَ المثلُ هُم ونِعمَ النموذج هم، وما يتسرّب إلى نفوس بناتنا من الاقتداء بالفاجرات والكافرات والغافلات؛ أسلوب من أساليب إبليس في الصَّد عن سبيل الله وفي الطرد عن منهج الله وفي الوقوع في البعد عن الله تعالى. 

فلنحافظ على بناتنا ومن حين نشأتهن أن لا يُعظِّمْنَ إلا من هو عظيم عند الله، وأن لا يَرَيْنَ القدوة من النساء إلا النساء الكريمات على الله، المحمودات عند الله وعند رسوله، اللاتي هُن في ذُرى السعادة في الغيب والشهادة في الدنيا والآخرة، فنعم النساء هن ونعم الاقتداء بهن، عليهن رضوان الله تبارك وتعالى.

وهكذا أنتنَّ في نعمة من الله كبيرة في ارتباطكن بهذا المسلك واجتماعكن على هذا المنهج، وإرادتكن للقيام بحراسة شريعة الله ودينه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تبلور عن ذلك ونتج من مسلك قويم وصراط مستقيم، في الطريقة التي كانت أُسُسها خمس:

  1. العلم
  2. والعمل
  3. والإخلاص
  4. والورع
  5. والخوف من الله عز وجل. 

فيا أيتها المؤمنات، احمدن الله الذي جعل لكنَّ خير الأسانيد إلى حضرة النبوة والرسالة، وجعلكنَّ في هذه البلدة وفي هذا الوادي الميمون، وعلَّمَكُنَّ أن المهمة متصلة بالعالم وبالأرض من أقصاها إلى أقصاها، إذ بُعِث نبينا إلى الجميع صلوات ربي وسلامه عليه.

فلنحرِص على الاستقامة والانتهاج في المنهج القويم والثبات على الصراط المستقيم. (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ؛ رأسهم محمد بن عبد الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وحسن أولئك رفيقاً. 

وكل من خالفهم، بئس رفيقا وساء قرينا كل من خالفهم، وهؤلاء (حَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)، وعظُم أولئك رفيقاً، وطاب أولئك رفيقاً، ونعم الرفيق هم.

أهمية الذِّكر للداعيات

 فتوجهن بالصدق، واستعِنَّ على التحقُّق بكل هذه المعاني؛ 

  • بتلاوة القرآن بالتدبُّر
  • والحرص على حضور القلب في الصلوات المفروضات والنوافل
  • مع الحرص على تكبيرة الإحرام مع الجماعة في كل فريضة من الفرائض الخمس.
  • ثم نصيبكنّ مِن ذكر الله جل جلاله، فما "عَمِلَ ابنُ آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" جل جلاله وتعالى في علاه.

قال نبينا: "ألا أدلكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق -أي الفضة-، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟"، قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: "ذكر الله".

فلا تنسين أنفسكن من ذكر الله، واجعلن الراتب والورد ثابت في الدار لجميع آل الدار ومن في الدار من الصغار والكبار، يذكرن الله في الصباح ويذكرن الله في المساء.

فبذلك تُستنزَل رحمة الله ويُبعَد السوء، وإن الصواعق تصيب المؤمن وغيره ولا تصيب الذاكر لله جل جلاله، وإنّ أعظم المُصلين أجراً أكثرهم ذكراً، وأعظم الصائمين أجراً أكثرهم ذكراً، وأعظم المُتصدقين أجراً أكثرهم ذكراً، وأعظم المجاهدين أجراً أكثرهم ذكراً.

وإن أكمل الناس إيماناً أحاسنهم أخلاقاً؛ فالذكر والخُلق الكريم، بهما ترتقي الواحدة منكن إلى المقام العظيم.

وظيفة من رب الأرض والسماوات

الحمد لله الذي جمعكن على هذه المُهمات، وهي وظيفة وظّفنا فيها رب الأرض والسماوات، ما جاءت بتفكير صيني ولا روسي ولا أمريكي ولا أوروبي ولا غيرهم ممن على ظهر الأرض، لكن جاءت من فوق، من عند الله على واسطة رسله، قال هذه وظيفتكم وهذا عملكم في الحياة، أنترك هذه الوظيفة لأجل ما يوظِّفنا فيه أولئك السفلة والسقطة؟ 

ألا فاصدُقن مع الله، وأقبِلن بالكلية على الله، شرح الله لكنَّ الصدور، ويسَّر لكنَّ الأمور، وأجرى على أيديكنَّ الخيور، ودفع عنكنَّ وأهليكنَّ والبلد وأهلها والأمة كلها جميع الشرور والآفات وكل محذور. 

الدعاء للعام الجديد

وجعل العام الذي أقبَل علينا عاماً مباركاً صالحاً، عام خير وهدى وبركة، عام توفيق وصلاح وفلاح ونجاة، عام نصر للمؤمنين، عام نصر للحق والهدى والدين، عام نشر للخير، عام سلامة من الشر والضير.

اللهم بارك لنا في عامنا واجعل لنا في كل يوم من أيامه خير لنا من اليوم الذي قبله، وكل ليلة من لياليه خيراً لنا من الليلة التي قبلها، وكل شهر من أشهره خيراً لنا من الشهر الذي قبله، وكل ساعة من ساعاته خيراً لنا من الساعة التي قبلها، برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

مهمات البيوت والدورات

وما يتعلق أيضاً بالقيام بمهمات البيوت وما يتسبب ذلك من بعض إرهاق وتعب؛ كل ذلك من القربات إلى الله تعالى، فينبغي أن لا تغفل عن مهمتها في البيت وقيامها بالخدمة في أوقاتها.

وكذلك في المناسبات التي تأتي ويحصل فيها جهد؛ من مناسبات الدورة وغيرها والاجتماعات، البذل فيها قُربة إلى الرحمن، فلنبذل الوسع والمستطاع من دون خروج إلى حدّ ما لا يُطاق وما لا يُقدر عليه، ولكن في حدود مقدوراتنا ينبغي أن نجهد ونجتهد، ولنتذكّر في ذلك أحوال الصادقين والمجاهدين والمجتهدين من الصحابة والتابعين رجالاً ونساءً، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

التعامل مع المستجدات العصرية

وأما ما يُذكَر مِن أن الأمور تتطوّر، والأجيال أيضاً تصادف ما لم يكن في الجيل السابق، هذا لا يغير شيئاً من الثوابت والأسس، ولكن يوسِّع الآفاق في كيفية التعامل مع المستجدات ومع ما يتيسّر من الأسباب والإمكانيات والطاقات وتسخيرها جميعاً فيما ينفع، حتى لا ينقاد الناس وراءها غافلين عن الله تبارك وتعالى وعن منهج الله.

فيجب أن يُنَبَّهوا كيف يقابلون ما يستجدُّ وما يحدث وما يتطور في واقع الوسائل والأسباب والمقدورات للإنسان في مثل هذا المعنى، وأن بكون الناشئة على نباهة بحيث لا يُستغفلون ولا يُستجهلون ولا يُلبَّس الأمر عليهم ولا يُضحَك على عقولهم، ويكونون على نباهة واستعمال للمستجدات والطاقات فيما ينفع بمنهج الله العظيم والأساس الذي بُعِث به الحبيب الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

الدعاء

نتوجه للرحمن أن يبارك في وِجهاتِكُنَّ ونياتِكُنَّ وأعمالِكُنَّ وحركاتِكُنَّ وسكناتِكُنَّ، وأن يُبارك لنا ولكنَّ وللأمة في هذا العام وجميع أيامه ولياليه وساعاته ولحظاته، وأن يفرج كروب المسلمين، وأن يدفع البلاء عن المؤمنين، وأن يسقينا الغيث والرحمة ظاهراً وباطناً، وأن يقينا الأسواء والأدواء سراً وعلناً، وأن يرعانا بعين عنايته حيثما كنا وأينما كنا، وأن يلطف بنا وبالأمة في جميع ما تجري به المقادير، وأن يحوِّل الأحوال إلى أحسنها، ويختم لنا بأكمل الحسنى، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد.

 

تاريخ النشر الهجري

01 مُحرَّم 1447

تاريخ النشر الميلادي

26 يونيو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية