(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بدار المصطفى، ليلة الجمعة 7 ربيع الثاني 1440هـ بعنوان: نور الله وإدراك الحقيقة به وشئون الحياتين.
الحمدُ للهِ نورِ السماواتِ والأرض، لا إله إلا هو وحده لا شريكَ له ملك يوم الدين، يحكمُ بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون في يومِ ذلكم العَرض ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)، ولقد جعل الشفيعَ الأعظمَ في ذلك اليومِ وتلكم المواقف مَن به تحتفلون، وبِهَديه تهتدون، وبسُنَّتِهِ تَسْتَنُّون، حبيبَه الأمينَ المأمون، الذي أرسله رحمةً للعالمين وختمَ به النبيين، ولم يزَل نورُه يتلألأ في قلوبِ المؤمنين المُصَدِّقين بالله وملائكتِهِ وكتبه ورُسُلِهِ واليومِ الآخر وبالقدرِ خيرهِ وشَرِّه مِن الله تبارك وتعالى تلألأً وتَشَعْشُعَاً يتطلَّبُ مَن سبقَت لهم سوابقُ السعادةِ، مِن عند عالم الغيب والشهادة، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ). يا ربَّنا يا نورَ السماواتِ والأرضِ وفِّر حظَّنا من النور، نَوِّر قلوبَنا، ونَوِّر بصائرنا، ونَوِّر أرواحَنا، ونوِّر أسرارَنا، وصَفِّ سرائرَنا، وزِدنا منك نوراً يا نور، واجعلنا نوراً بِحَقِّ النور، وصَلِّ على نورِك الأعلى عبدِك المصطفى محمد، وعلى آلِه الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومَن على مِنهَاجِهِم سار، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين مَن أعليت لهم المنزلةَ والمقدار، وآلهِم وصحبِهم أجمعين، وعلى ملائكتِك المقرَّبين، وجميع عبادك الصالحين وعلينا وعلى أهل مجمَعِنا ومَن يسمعُنا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحمَ الراحمينَ.
وهل يَنتظرُ جميعُ المُكَلَّفين على ظهرِ الأرض ممن يعيشُ معنا في هذه الحياة إلا ما انتَظَرَ مَن قبلهم ؟ وهل ينتظر مَن يأتي بعده مِن المكلفين إلا ما ينتظرُنا وينتظرُ هؤلاء أجمعين، وهل ينتظرُنا وينتظرهم وقتٌ أو حالٌ أو ظرفٌ أو شأنٌ أعظمُ مِن شأنِ الوقوفِ بين يديِ المَلِكِ الخالقِ المُوجدِ المُنشِىء البارىء الرحمنِ الجبارِ جل جلاله ( وما منكم من أحدٍ إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان )، ينتظرُنا وينتظرُهم حكمُ الحاكمِ الذي لا معقِّب لِحُكمِه. وعند ذلك الحُكمِ يُعرَفُ ما قيمة أحكامِ الأفرادِ والهيئاتِ والدولِ والجماعاتِ والقوانين الدَّوْلِيَّة والمؤسَّسية والشَّعبية والعُرفية والقَبَلية؟ وأي حكمٍ مِن الأحكام كان لأيِّ عقلٍ أو لأيِّ حسابٍ أو لأيِّ عُرفٍ؟ من حين خَلَق الله الأرض إلى أن يَرث الأرضَ ومَن عليها يُدرى ويُعلَم أنه لا اعتبارَ لتلك الأحكامِ وإنما يفوزُ مَن كان حُكمُه في نفسِه أو في أسرتِه أو في جماعتِه أو في قبيلتِه أو كان حاكِمَاً في بلدةٍ من البلدان أو دولةٍ من الدول: مَن كان حكمه بمقتضى أمرِ الله ومنهاجِه ومرضاتِه وحدَهم يفوزُون ولا يفوزُ غيرهم. ويُوقَن مِن قِبَل الكلِّ أن لا قيمةَ لهذه الأحكام ولا اعتبارَ لها ولا حقيقةَ ولا أصلَ لها وأنها داخلةٌ في دائرةِ الظنِّ والوهمِ والخيالِ الذي يُصَدِّقُهُ أصحابُهُ ثم يَندمون ندامةً كبرى، والعياذ بالله تبارك وتعالى (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ) يعني يا ليت الموتةَ الأولى التي أصابَتني دامَت ولم أرجع ( مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ) فليُظهِر رؤوسَهم أهل التنميات فليظهروا رؤوسهم أهل الثروات (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ) .. أيها المأسورون المُسْتَعبدونَ للسُّلُطَات وإرادةِ الحكم على البريات (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) والحكم ما هو عليه؟ يمضي عليه قهراً حكمُ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) يكفُر بإلهِهِ العظيم .. يُصَدِّق بِبَطنه، ويُصَدِّق بفرجِه، ويُصَدِّق بمالِه، ويُصَدِّق بحكومتِه، ويصدِّق بحزبِه، ويصدق بِشُلَّتِهِ التافهين، ويُصَدِّق بشيءٍ من هذه الأمورِ الحقيرة ويُكَذِّب بربِّه العظيم ! (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ * فَلَا أُقْسِمُ ..) قسم ويمين مِن ربِّنا (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ ..) أي هذه الأخبار وهذا الوحي والتنزيل (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ) ليس مصدر هذا الكلام شاعريَّةُ شاعر ولا عبقريةُ عبقري ولا تفكيرُ مفكِّر ولا كهَانَةُ كاهن ولا شيء مِن مصادرِ أقوالِكم في الأرض ولا عقلية عاقل؛ الأمر أكبر (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) فما هو؟ ( تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) جل جلاله وتعالى في علاه.
يقول جل جلاله هذا البلاغُ مِن عبدِي محمد وبيان هذه الحقيقة لكم لتسلكُوا المنهجَ الأرشَد وتُنقِذُوا أنفسَكم من الظلمات والضلالات لتسعدُوا مع مَن يسعَد، قام به وبلَّغه عني، لو كان مجترئاً عليَّ أو كاذبا عليَّ ما أبقيته فيكم (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) ليس في قُدرةِ أحدٍ منكم أن يَحجُزَ عنَّا أحداً ؛ هو ومَن يريد أن يحجزه في قبضتنا وتحت قُدرتِنا وفي تَصُرُّفِنا (فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) ولكن الحقيقة : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) .
وكم تذكَّرَ المتَّقون مِن أسرارِ وحي ربِّ العالمين جل جلاله وبلاغ حبيبه الأمين صلى الله عليه وسلم. (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) اللهم اجعلنا مِن المتقين، وارزقنا حُسنَ التذكرة والتبصرة (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) .
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ) معاندين ينكرون الحقيقة، يكذِّبون بالحق، يتطاولون ويقول قائلهم (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) ويقول قائلُهم (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ويقول قائلُهم (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) ويقول قائلُهم لأصفيائنا ورُسلِنا وأنبيائنا وأحبابِنا الذين أعلينا لهم القدرَ والمكانة (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ) ويقولون لرُسلنا (سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) هذه أقاويلُهم، هذا مُلَخَّص ما يَنشرون، وما يَعرضون، وما يَطرحون بمختلف الوسائل التي عندهم .. ماذا يقولون ؟ هذا الذي يقولونه (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ) سوف يَتَحَسَّرون ويندمون (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .. سَمُّوا نفسهم صناعَ القرار، فمَن منهم يَملِك أن يُقَرِّر أن يُغَيِّر هيكَله ؟ أن يغيِّرَ شأنَ الترتيب الربَّاني في الهواء ؟ مَن يملك منهم أن يُحدِثَ في العالم ذُبَابةً ؟ .. لا اريد منك كمبيوتر ولا جوال ..ذبابة هات ذبابة خل الكمبيوتر هات لي ذبابة من فضلك، بقوتك بحضارتك بالتكنولوجيا اللي عندك هات ذبابة ؟ أخلق ذبابة ؟ هذه أصغر ما خلق ربي .. هات شي أصغر مما خلق ؟ هات لي ذبابة ؟ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). تجمَّعوا كلكم بكل دولكم واخلقوا ؟ ما يقدرون، تجمعون ليش؟ ينشرون ايش ؟
ساعة يقولون الدولة الفلانية حفرت حفرت حفرت .. وبعدين ؟ كيلومترات ثلاثين كيلو متر تحت الأرض .. وبعد ؟ يرجعون مذعورين .. ما هذا ؟ أصوات أزعجتهم وسجَّلت أجهزتهم ما سجَّلت مِن ذلك، لا يعرفون ما في الأرض ولا ما في بطنها ولا في طيّها، ولا عارفين بما في السماء (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) خلُّوا الحفريات وخلُّوا وكالة ناسا ودعوى طلوع للقمر وهاتوا لنا ذُبَابا .. إن عجزتم عن ذلك آمنوا أولا، اعرفوا مَن أنتم ومَن خلقكم؟ ولماذا خلقكم؟ واستعدوا للقائه، هذا أهمُّ من عبثِكم هذا، هذا أهم مِن لعبِكم هذا، هذا أهم مِن دعاويكم التي تَكذِبون بها على خلق الله والتي يتطاول بعضُكم على بعضٍ فيها ليدَّعي كلُّ واحد أنه الأعرف. إن الذي خاطبَنا بالمنهج الذي نمضي عليه في حياتِنا خالقُ الأرض والسماوات ومَن فيهن، ومالك الأرض والسماوات ومَن فيهن. أنتركُ منهاجَهه لدعواكم أنكم وصلتم لكذا واكتشفتم واكتشفتم! أنتم وما اكتشفتم ما تساوون عند علم العليم الذي أحاط بكلِّ شيء عِلمَا، نحن على منهاج جاء مِن عند خالقِ كل شيء مُكَوِّنِ كل شيء مُوجِد كل شيء، ولا خالق غيره جل جلاله وتعالى. نتركه مِن شان خاطر أحد مِن أسيادكم ؟! أحد مِن مفكِّريكم ! وهم عُرضَةٌ لشدَّة السوءِ في المستقبل الأكبر، وهم عُرضة لـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أنتبعُهم ونترك محمداً، وما جاء به عن عالمِ ما خَفِيَ وما بدا ! (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا )، (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ). سبحان ربِّنا العظيم وبحمدِه جل وعلا أن يَطرُقَ نقصٌ منهاجَه أو شريعتَه أو دينَه أو وحيَه أو اِنبَاءَه أو إرسالَه جلَّ الله، سبحانه وتعالى عن أن يُطَاوِلَه مخلوق فيأتي بأحسنَ مما عنده أو أن يعلمَ ما يعلمُ هذا الإله سبحان ربنا ربِّ العزة العظيم. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) نُسَبِّح ربَّنا العظيم، ونقول باسمِ ربِّنا العظيم ونفعل باسم ربِّنا العظيم ونقتدي ونهتدي باسمِ ربِّنا العظيم، ونؤمن بربنا العظيم (فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) آمنا بالله وبرسُلِ الله وملائكته.
وإنَّ المكلفين على ظهر الأرض كما سمعتم عاشُوا في الصِّلَةِ بالمَلِكِ الأعلى والإلهِ الحقِّ ما عاشوه مِن اِبتهاجِهم وفرحِهم بمحبوبِهِ وصفوتِهِ وخيرتِهِ عبدِه محمد، أصفَى الأصفياء أزكى الأزكياء، أتقى الأتقياء، خاتم الأنبياء، سيد المرسلين، حبيب ربِّ العالمين، الطاهر الأمين، مُنوِّركم ومطهِّركم ومنقذكم ومعلِّمكم ومُرشدكم وهاديكم وداعيكم وحاديكم ومُشَرِّفكم، الرحيم بكم، الحريص عليكم، كما وصفه ربُّه. رزقكم الله وإيانا حُسْنَ الاقتداءِ به والسَّير على دربه حتى يسقيَنا في الدنيا قبل الآخرة مِن شُرْبِه. يا ساقي أرواحَ المقربين والصِّدِّيقين والصالحين مِن رَاحِ حبيبِك محمدٍ حقِّ اليقين وعين اليقين وعلم اليقين انظر إلينا واسقنا مِن ذلك الرَّاح، وافتح علينا يا فتَّاح، يا كريمُ يا منَّاح، يا حيُّ يا قيُّومُ يا الله.
وبفضلك لأجل الطلبِ منك اجتمعنا ووقفنا على بابِك، ولُذْنَا بأعتابك، لك الحمدُ لم ترمِ بنا إلى شرقٍ ولا غربٍ ولا أحدٍ أهل المشارق والمغارب، وشرَّفتنا وأعززتنا وكرَّمتنا بالوجهةِ إليك والتذلُّلِ بين يديك وطلبِ ما عندك، اللهم فاقبَل مِن جميعِ أمةِ النبي محمد ما عبَّروا به عن محبتِهم لك ولهذا الحبيبِ مِن أجلك، وما قاموا به مِن أعمالٍ شرَعها لهم ودعاهم إليها، أعمال تعليمٍ أو إطعامٍ أو ذكرٍ أو ثناءٍ ومدحٍ وكُلُّهُ شرعُه لهم، وكلُّه دعاهم إليه، وكلُّ هذه الأعمال هو الذي دلَّهم عليها ونَدَبَهُم إليها. أَحَفِظَ أحدٌ مِن خلقِ الله سبحانه وتعالى نَهْيَاً منه عن الاجتماعِ للذكر؟! أَحِفَظَ أحدٌ مِن خلق الله نَهيَاً منه صلى الله عليه وسلم عن مدحه والثناء عليه ؟! أعلم أحدٌ مِن خلق الله على ظهرِ الأرض نهيَه عن الإطعام ؟! أعلم أحدٌ مِن خلقِ الله على ظهر الأرض نهيَهُ عن عقدِ المحاضرات والتذكيراتِ به وبما جاء به ؟! الكلُّ يعلم حَثَّه على ذلك، فمن يحارب ذلك ؟! الكل يعلم دعوتَه لذلك فمن يُنكر ذلك ؟!
هو الذي علَّمنا الدعاء، هو الذي علَّمنا الرجاء، هو الذي علَّمنا الذكر، هو الذي دعانا إلى الاجتماع على الذكر، هو الذي أوحى إليه ربُّه أن يبلِّغنا أن مهمَّتَنا أن نُعَظِّمَ هذا الإنسان، وأن نُجِلَّ هذا الإنسان، وأن نُحِبَّ هذا الإنسان حتى لا يكون لنا محبوبٌ في الأكوان ولا أنفسنا مثل محبَّته فلا نقدم في المحبة عليه أحد. وهدَّد الرحمنُ مَن قدَّمَ شيئاً في المحبة عليه (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا..) ما ذا بقي في العالم مما يتنافس الناس عليه ؟ كله وسط هذه الآية ..إن كان شيء من هذا (..أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا..) أنتم مهدَّدُون مِن قِبَلِ القوة لقوة التي لا تُغلَب (..فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ..) وهذا التقديم لمحبةِ شيءٍ من هذه الأشياء على الله ورسوله والجهاد في سبيله فِسقٌ منكم (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) خروجٌ منكم عن سواء السبيل. فيا رب اجعلك وحبيبَك أحبَّ إلينا مِن أنفُسِنا ومِن أهلينا ومِن أموالِنا ومِن كلِّ شيء، يا رب كُنْ وحبيبَك أحبَّ إلينا مما سواكما يا الله.. يا الله.
وأعِد عوائد ما قدَّمه المسلمون في شرقِ الأرض وغربِها استرضاءًا لك في التعبيرِ عن محبَّتهم لحبيبِك مِن أجلك وما قاموا به مِن كلِّ الخيرات التي دعاهم إليها، اقبلها يا رب، واجعل مِن آثارها تعجيلَ الفرج، وفتحَ الباب المُرتَج، وتقويمَ المعوَج، ورفعَ الحرب عن اليمن، والنظر إلى أهل الشام، والنظر إلى أهل الشرق والغرب من أهل الإسلام، يا محوِّل الأحوال حوِّل أحوالَنا والمسلمين إلى أحسنِ حال، إلى أحسن حال إلى أحسن حال، وعافِنا مِن أحوال أهل الضلال وفِعلِ الجُهَّال يا الله.
أيها الطارقون لبابِ الكريم، أيها الواقفون على بابِ الرحمنِ الرحيم، أيها المتوسِّلون بحبيبِه العظيم: اصدُقوا في وِجهتِكم إليه، وأحسِنوا تَذلُّلَكم بين يديه، فإنكم في تلبيةٍ لندائه على لسانِ خاتم أنبيائه، فأنتم متعرِّضون لجودِه وعطائه ورحمتِه وإسدائه.
يا ربِّ نظرةً منك ولمَجمَعنا ومَن يسمعُنا تغفر بها جميعَ الذنوب، فتُمحى مِن جميعِ الصحائف ومن ذواكِرِ الأعضاءِ والملائكةِ والأرضِ يا خيرَ الغافرين. ولنا منك طلبٌ أعلمتَنا مِن عظيم منِّك لمَن شئتَ مِن عبادك ممَّن وهبتَهم الصِّدق في الندمِ على ذنوبهم والصدقَ في الرجوع إليك أن تأتيَ إلى سيِّئاتهم فتبُدِّلُها إلى حسنات، فسبحانَك يا جزيلَ الهِبَات يا عظيمَ العَطِيَّات هذه أيدي الفقرِ والعجزِ والذُلِّ تسألك أن تبدِّلَ سيئاتها حسنات فاجعلنا مِن خواص الذين تابوا وآمنوا وعملُوا عملا صالحا، وأنت القائل فيما أنزلتَه على هذا النبي (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) يا غفورُ يا رحيم يا غفور يا رحيم.
يا مَن يطرق بابَ الغفور، يا مَن يطرق باب الرحيم: ألحِّوا عليه والتجئوا إليه وتذلَّلوا بين يديه، واعلمُوا أنه لا ملجأ ولا منجأ لأحدٍ منا ومنكم منه إلا إليه، وأنه ملكُ الدنيا وملكُ الآخرة وربُّ الدنيا وربُّ الآخرة، وله الحكمُ في الدنيا والحكمُ في الآخرة، وأنه لا معقِّب لحُكمِه ولا رادَّ لقضائه، فاخضعُوا لجلاله واستلمُوا صَيِّبَ إفضالِه وخذُوا الحظَّ الوافي مِن نواله، إنه ربكم وإلهكم وخالقُكم وموجدُكم الأرحم بكم مِن أنفسكم وآبائكم وأمهاتِكم إنه الله.
يا قلب اسمع : إنه الله، يا روح فاسمعي : إنه الله، يا سِرُّ فاسمع : إنه الله .. إنه الله (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، هو الله فنادُوه وادعوه واسألوه وناجُوه واطلبوه مُتَذَلِّلينَ خاشعينَ خاضعينَ منكسرينَ موقنينَ أن لولا رحمتُه ما سألناه ولا اجتمعنا في مجامعِ فضلِه وندَاه.
يا متفضِّلا على أهلِ الجمعِ ومَن يسمعهم انظر إليهم انظر إليهم نظرةً بها تجمعهم في ركب حبيبك (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وإلى الأمةِ نظرة تزيلُ عنا البلايا تدفع عنا الرزايا تُصلحُ الظواهرَ والخفايا، تجمع القلوبَ عليك، وترزقنا اللهم الاهتداءَ بهديِ حبيبِك أحبِّ الخلقِ إليك، اللهم خلِّقنا بأخلاقِه، اللهم أدِّبنا بآدابه، اللهم سِر بِنَا في سبيله واسقِنا جميعا من سَلسلبيلِه يا الله. وأرِنا وجهَه في الحياةِ وعند الوفاةِ وفي البرازخ ويومَ الموافاة، بجاهِه عليك يا الله، أسعِد هذه العيونَ برؤياه، وشرِّفها بالنظرِ إلى غرَّتِه ومُحيَّاه. يا الله على حوضِه أورِدنا، وبظلِّ لواءِ الحمدِ أسعِدنا، وجمالَك الأسنَى بمرآتِه أشهِدنا، يا الله معه فاجعَلنا، وبه فتولَّنا يا الله.
يا الله.. صحائفُ فيها ذنوبٌ مُسَجَّلَاتٌ ما لَها غيرُك فَنُلِحُّ عليك ونكرِّر عليك الطلبَ ونطرقُ بابَك ونتوجه بأوسَعِ الجَاهات لديكَ أن تمحوَ تلك المعاصي والذنوبَ والسيئات وأن تبدِّلها إلى حسنات، ونكرِّر عليك الطلبَ مرةً بعد مرة، ونسألك يا رب، ما لَنا إلى غيرِك مهرب، ولا يغفر سواك يا ربِّ، لا تجعل فينا محروماً، يا رب ما بقي مِن السيئات مُسَطَّراً في صحيفةِ أحدٍ من أهلِ محضَرِنا أو مَن يسمعُنا تكرَّم يا كريمُ بمحوِ تلك السيئات فإنَّ شؤمَها لا يُطَاق، لو قابل شؤمُ الذنب الواحد عبدَك عند الوفاة زاغَ وزَل، ولو قابل شؤمُ ذنبٍ واحدٍ عبدا واحد عند القيامة اِسْوَدَّ وجهه واختذل، فيا غفَّار الذنوب أنت الذي حذَّرتَنا مِن شرِّها وقلت (بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) اغفِر لنا يا خيرَ الغافرين، وأدخِلنا الجنة مع السابقين يا الله .. يا الله وافعل كذلك بوالدينا وأهلينا وأولادِنا وقراباتِنا وجيرانِنا وطُلَّابِنا وأصحابِنا وأحبابِنا ومَن والانا فيك يا أرحمَ الراحمين، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يا مجيبَ الدعوات يا قاضيَ الحاجات يا غافرَ الخطيئات يا ربَّ الأرضينَ والسماوات أسعِدنا يومَ الميقاتِ بمرافقةِ خيرِ البريات.. آمين
فَيَا رَبِّ واجمَعْنَا وأحبَابَاً لَنَا ** في دَارِكَ الفِردَوسِ أطيَبِ مَوْضِعِ
فَضْلَاً وإِحْسَانَاً وَمَنَّاً مِنكَ يَا ** ذَا الجُودِ والفَضْلِ الأتَمِّ الأَوْسَعِ
والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين.
06 ربيع الثاني 1440