(230)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 17 ذي الحجة 1441هـ بعنوان:
نعمة الإيمان وعجائب تفكير ومسار الإنسان والمصير الأكبر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ على إفضالِه الجَمِّ ونوالِه الأكرم، وفَضلِه الأعظم، لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، الأولُ الآخرُ الظاهرُ الباطنُ بيدِه ملكوتُ كُلِّ شيءٍ. يُسعِدُ مَن شاءَ مِن بني الإنسانِ والجَانِّ ممَّن آتاهم العقولَ بوعيِ الوَحيِ والتنزيلِ والعملِ بمُقتضاه، فيَستنيرونَ استِنَارَةً تَكشِفُ لهم سِرَّ عَظَمَةِ الوحيِ والتَّنزيل، وتكشفُ لهم ظلمةَ وأوهامِ الأطروحاتِ الكثيرةِ المُدَّعى لها العلمُ، والمُدَّعى لها التقدم، والمُدَّعى لها البحثُ والفحصُ والحرصُ وما إلى ذلك.. أطروحاتُ آلِ الشرقِ والغرب إِنْسَاً وجِنَّا مِن كلِّ ما ضَادَّ منهجَ الله تبارك وتعالى، أباطيلُ وألاعيبُ وأضاليلُ ووهمٌ وخيالٌ مجرَّدٌ محض..
العقلُ إذا استنارَ أدركَ هذه الحقيقةَ، وأبى أن يكونَ في شِرَارِ الخليقة أو إمَّعةً لشرارِ الخليقة، واستمسكَ بعُروةٍ وثيقة، يَعرِفُ بها شأن خَلْقِهِ وعَظَمَة خَالِقِه وشأن صَنْعَتِهِ وجلالة صَانِعِهِ، ويتهيأ للقاءِ الصانعِ الخالقِ الفاطرِ في خلالِ ما يَمُرُّ بهِ مِن هذا العُمرِ القصيرِ المتفانِي المتواليةِ أيامُه ولياليه المعدودةُ المحدودةُ التي لا تزيد.
وهو يرى مَن حكَمَ بهذا الانتقال؛ مَن حَكَمَ بانتقالِ بني آدمَ مِن على ظهرِ الأرض إلى بطنِها.. راجعٌ إلى أيِّ حضارة؟ هذا الحكم راجعٌ إلى أيِّ دولة؟ هذا الحكم راجعٌ إلى أيِّ مَلِك؟ هذا الحكمُ راجعٌ إلى أيِّ هيئةٍ في العالمِ حَكَمت بفناءِ هؤلاءِ الخلق؟
وكلهم -خصوصا كافروهم وفاسقوهم- لو استطاعوا لمَنعوا ذلك، لو استطاعوا لكن أقوى همِّهم أن يُوقفِوا هذا الانتقالَ مِن هذه الدنيا، وأن يَظَلَّوا أحياء.. لكن مَن الذي حكمَ عليهم وهم تحتَ الحُكمِ مقهورون ثم يُكابِرون؟!
هم الذين لم يعرفُوا عظمةَ الخالقِ بتَصامُمِهم عن دعوةِ خيرِ الخلائقِ الذي اصطفاهُ الإلهُ الخالقُ، وأبرزه في البشرِ بَشَراً لا كالبَشر، وإنساناً لا كعُمومِ الناس، ومخلوقا تميَّزَ عن جميعِ المخلوقين باصطفاءِ الخلَّاقِ الذي جعلَه عظيمَ الأخلاق، وسيِّدَ أهلِ الوفاءِ بالميثاق، وإمامَ أهلِ الاتباعِ والوِفَاقِ لأمرِ الخَلَّاق، صلوات ربي وسلامه عليه..
هؤلاء الذين لم يسمعوا لنداءِ النبي محمد عليه الصلاة والسلام؛ النداء الذي بُلِّغ بأحسَنِ البلاغِ، وأُدِّيَ بأحسن الأداء، ولن تشهدَ الأرضُ منذ بَرَاهَا اللهُ إلى أن تقومَ الساعةُ أداءً للأمانةِ وبلاغاً للرسالةِ وتَبيِينا للحقيقةِ كما حصلَ على يَدِ خيرِ الخليقة محمد بن عبد الله عُروتِنا الوثيقةِ، صلوات ربي وسلامُه عليه.
ودعوتُه وما قام به في الذَّاتِ التي اصطفاها اللهُ وطَهَّرها ونوَّرَها ومَيَّزَها وخَصَّصَها وأعزَّها حتى قال عنِ اللسانِ الذي يُبَلِّغُ به هذا الإنسان: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم، فكان في بيانِ معنى هذا الوحيِ الواجبِ عليه تبيِينُه صلى الله عليه وسلم ما أشار باصبعِه الطاهرِ إلى لسانِه الطاهر وقال للكاتب: (اكتُب فوالذي نفسِي بيده ما خرجَ منه إلا الحقُّ) ولا لسانَ أزكَى مِن هذا اللسان، ولا إنسانَ أزكَى مِن هذا الإنسانِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
لِمَ نتغافل عن هذه الحقيقة؟!
يا مَن حُكِم عليهم بالفناءِ وهم مُقِرُّون بذلك ونفوسُهم تكرهُه ولابدَّ لهم من وقوعه: مَن الذي حَكَم عليكم بهذا الفناء؟ مَن الذي حَكَمَ عليكم بهذا الموت؟ مَن الذي حَكَمَ عليكم بهذا الانتِقال؟
وتجدونَه بأسبابٍ منوَّعَةٍ وبأسبابٍ كثيرةٍ ظاهرةٍ، وأحياناً فجأةً وبغير سببٍ، وأحيانا بسببٍ ظاهرٍ ماديٍّ مفاجئ يقومُ بفعلِ فاعل أو بإهمالِ مُهمِل أو بشيءٍ مما يسمعُ الناسُ الحديثَ عنه.. يتحدثون عما حدثَ في لبنان؛ آية مِن الآيات، علامة من العلامات..
يا مَن هم تحتَ القهر: لِمَ العُتوُّ والنفور؟ لِمَ الاستكبار؟ لِمَ هذه المغالطة؟ لِمَ هذه المكابرة؟ ولن ينجوَ عربُكم ولا عجمُكم ومسلموكم ولا كافروكم مِن بلاءِ الدنيا والآخرةِ إلا بمعرفةِ رَبِّ الدنيا والآخرة والالتجاءِ إلى ربِّ الدنيا والآخرة.
يا مَغرورين بأنفسهم، يا مغرورين بثقافاتِهم، يا مغرورين بأسلحتهم: كلُّ ما حواليكم يشيرُ أنَّكم فقراء، كل ما حواليكم يشيرُ أنكم ضعفاء، كل ما حواليكم يشيرُ أنكم مقهورونَ لقاهرٍ وأنتم تأبَون الاعتراف، وتأبَونَ الخُضوعَ لهذا الأمرِ الذي جاء من فوق!
ألا لا نجاةَ إلا بالاتِّصَالِ بمَلِكِ الملوك ربِّ السماوات والأرض ورَبِّ العرش العظيم.
في قوله هذا الذي كرَّره في القرآن كفايةٌ للخروجِ من طغيان طرحِ أهلِ الإفكِ على ظهرِ الأرض، إذا اغترُّوا بتكنولوجيا، إذا اغترُّوا بشيء مما على ظهرِ هذه الأرض نقول لهم: رَبُّ السماوات والأرض ورَبُّ العرش العظيم مَن هو؟ وإلى أين يصلُ مُلكُكم؟ أنتم مُتَحَدَّون مِن أيام بيانِ الحبيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبلاغِه {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا} فمَنِ الذي حبسَكُم في هذه الأقطار؟ ولِمَ لا قدرةَ لكم على الخروجِ منها بأيِّ مَسَارٍ؟!
عَبَثاً يُحدِّثونَكم أننا ربما نجدُ الحياةَ في المرِّيخِ وننتقلُ إليه! {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} فنتحدَّى إمكانيَّاتِكم كلَّها طولَ أعمارِكم وإن جاء بعدَكم أحدٌ يمشي في مسارِكم نتحدَّاهم بكلامِ خالقِ المرِّيخِ والأرض؛ لِتُوقِنُوا أنكم في أوهامٍ، في خيالاتٍ، في ضلالاتٍ. منذُ مدة جاء الحديثُ عن إمكانيَّةِ الرحلةِ فقط إلى القمر – فضلاً عن التفكيرِ عن الانتقالِ إليها- فهل رأيتُم واحد؟ أسرة وحدة؟ بعض أُسرَة خرجوا مِن الأرض يحلُّون في القمر؟!
وفي القمرِ لا زالوا في أقطارِ السماواتِ والأرض، ما خرجوا؛ لكن حتى هذا ما قدرُوا عليه، ولا إلى أي كوكبٍ سيخرج بنو آدم {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} هذه الأرض {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} الكلامُ كلامُ قادر، الكلامُ كلامُ قويٍّ قاهر، الكلامُ كلامُ مبدىءٍ مُنشىءٍ خالقٍ فاطر، ليس كلام مُجَرِّب، ليس كلام مُحَاوِل. يا محاولين يا مجرِّبين: اسمعوا كلامَ القادرِ القويِّ المتين.. جَلَّ جلاله وتعالى في علاه..
ويتحدثُ الناس عن هذه الغرائبِ وعن هذه العجائبِ التي تحصل.. مِن حروبٍ كُلٌّ يُبَرِّرُ نفسَه فيها بأنه يحاربُ مِن أجل كذا، ومِن انفجارات يقول ذا لا علاقةَ لي، ويقول أنا ما دخلي، ويقول أنا ما قلت.. وبعد؟ والكلُّ تحتَ قهرِ حياةٍ وموتٍ {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}
لا الحياةَ خلقوها، ولا الموتَ يقدرون أن يخلقُوه باستقلال؛ فإن تسبَّبوا بأيِّ سبب -وقد آتاهم الربُّ قدرةً واختياراً فصرفوها بعقولٍ ضَلَّت إلى إيذاءِ الغَير، وإلى الأخذِ مِن حَقِّ الغَير، وإلى انتهاكِ حُرمةِ الدماءِ أو الأموالِ أو الأعراض- فإنَّ هذا الخلَّاقَ توعَّدَهم أن يعذِّبَهم ويعاقبَهم على هذا التصرُّف الذي فيه الإيذاءُ وجعل له أوامرَ ونواهيَ كثيرةً وجعل هذا الأمرَ وحدَه لا يُسَامِحُ فيه حتى يرضَى قلبُ الذي أُوذِيَ من خَلْقِه ولو بغير حقٍّ ولو كان كافرا، بل ولو كان حيواناً.
وعِزَّةِ اللهِ، المؤمنُ الميتُ على الإيمانِ، المحكومُ له بدخولِ الجنة لن يقدرَ على أن يدخلَ الجنةَ وعنده رفسةُ حمارٍ رفسَه بغيرِ حقٍّ حتى يؤدِّيَ حَقَّه، ولو عنده عضَّةُ أو قَبْصَةُ شَاةٍ مِن غيرِ حقٍ لن يستطيعَ أن يدخلَ الجنةَ حتى يؤدِّيَ للشَّاةِ حقَّها، حتى ترفسَه، وحتى تنطحَه، وحتى تأخذَ حقَّها ويظهرَ عدلُ الله تبارك وتعالى؛ فجعل ما بين هؤلاء الخلائق في تصرُّفاتِهم هو المحامِي عن عبادِه. قال لا تحسبوا أنَّ الضعيفَ الفقير ما أحد محامي له.. ما له قوة ما له نفوذ ما له سلطة يقول ربُّ القدرة أنا لهذا الضعيف (أنا الله المَلِكُ الحق العَدْل الذي لا ينبغي لأحدٍ مِن أهلِ الجنة أن يدخلَ الجنةَ وعِندهُ مَظْلَمةٌ لأحدٍ من أهل النار حتى اللَطْمَة فما فوقها حتى أخذها منه، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار أن يدخل النار وعنده لأحدٍ من أهل الجنة مَظْلَمَة حتى اللطمة فما فوقها حتى أخذها منه) بل ويُقادُ للشَّاةِ الجَمَّاء للشَّاةِ القَرْنَاء..
سبحانَ المَلكِ العَدل، سبحانَ صاحبِ المحكمةِ الكبرى التي تَذِلُّ لها الرقابُ كلُّها {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ..} -الإثباتاتُ الكبرى الربانيةُ في محكمةِ القويِّ الكبيرِ القادر- {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
أنتم في زمانِكم هذا رأيتم كم مِن مُتَأمِّرٍ مُتَصَرِّفٍ نافذَ الأمر صاحب كرسي وسُلطة مرَّت الأيامُ فصارَ مُتأمَّرا عليه وصار محكوماً عليه، منهم مَن حُوكِم ومنهم مَن حُبِس ومنهم ما يَدري بحالِه كيف يكون وما هي النهاية.. وفي أيام مرَّت قد كان يقول الأمر من تحت أنفه بالإشارة اعملوا واتركوا ثم صارَ بهذه الحالة -وهذا خضوعُ مخلوقٍ لقدرةِ مخلوقٍ مثلِه- أمَّا إذا بَدَت سطوةُ الجَبَّارِ الأعلى فكيف الخضوع! {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} في شدائدَ يلاقونَها وحكمُ الجبَّار مِن فوقِ الكل..
فيَا فوزَ مَن اتَّصلَ بهذا الإله ويا خَيْبَةَ مَن تعامَى وتَصَامَم عن سماعِ نداءِ الرَّبِّ الذي أدَّاه سيدنا محمد ثم قال في أداءِ هذهِ الرسالة: (ما تركتُ باباً من أبوابِ الخير إلا دللتكم عليه وأمرتكم به، ولا باباً من أبوابِ الشَّرِّ إلا حذَّرتكم منه ونهيتكم عنه). صدقتَ يا محمد بن عبد الله صدقتَ يا حبيبَ الله. ثم قال في حجَّة الوداع: (ألا هل بلَّغت؟) قالوا: بلَّغت. قال: (اللهم فاشهَد، ألا فلا تَرجِعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعض) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ثم قال: (تركتُم على المَحَجَّةِ البيضاء ليلُها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك) ثم قال: (تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به بعدي لن تضلُّوا أبدا كتاب الله وسنتي) (كتابَ الله وعترتي آل بيتي) ثم قال: (وعليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين مِن بعدي) ثم قال: (إنَّ الله يَبْعَثُ على رأسِ كلِّ مائة عامٍ مَن يُجَدِّدُ لهذه الأُمَّةِ دينَها) ثم قال: (لَيَجِدَنَّ ابنُ مريمَ في أمَّتي قوماً مثلَ حواريِّيه) ثم قال: (وإنَّ ديني هذا ليبلغُ ما بَلَغَ الليلُ والنهارُ، حتى لا يبقى بيتُ مَدَرٍ ولا حَجَرٍ ولا وَبَرٍ إلا دخلَه ديني هذا بِذُلِّ ذليلٍ أو عِزِّ عزيز). صدق صلى الله عليه وسلم
فبقي آثارُ دعوتِه وبلاغِه وبيانِه على ألسُنِ الخلفاءِ الراشدين ومَن معهم مِن الصادقين المخلصين مِن المهاجرين والأنصار ومَن لَحِقَ بهم من التابعين وتابعِي التابعين وأربابِ الصدق والإخلاص إلى أوقاتِنا هذه؛ صوتُ محمد، دعوةُ محمد، بلاغُ محمد، بيانُ محمد، أداءُ الأمانةِ مِن محمد للأمةِ قائمٌ على ظهرِ الأرض؛ قَوْمَة قُوَّة، قَوْمَةَ مَعَانٍ لختمِ النبوَّة، قُوَّةَ خلافة، قُوَّةَ مَزِيَّة، عبَّر عنها الحقُّ بقوله: وعد الله -وَمن أصدقُ مِن الله وعداً؟ ومَن أوفى مِن الله وعداً؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}- {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا..} مِيزتُهم على ظهرِ الأرض: يقومون بحَقِّ أمانةِ هذه العبادةِ التشريفيَّة التفضيلية التقديسيَّة: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وفي استمرارِ أُسُسِ الخلافة متصلة قال: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} لا يوجد مَن آمنوا وعملوا الصالحات في زَمَنٍ وطَبَقَةٍ إلا والحبالُ مُمْتَدَّة للي قبلَهم قد اُسْتُخِلِفُوا فَاسْتُخْلِف مَن بعدهم كما اَستَخْلَفهم مَن قبلَهم {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ}.
وفيها كانَ أهلُ الذوقِ والمعرفةِ يستأنسون بقولِ ربِّكم: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا -وفي قراءةٍ: "أَوْ نَنْسَأهَا"- نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فالحمد للهِ على سماعِ صوتِ الأمينِ المأمونِ في القرآنِ الذي بين أيدينا والسنَّةِ الطاهرةِ والعِترةِ الطاهرةِ والخلفاء الراشدين وخُلفاءِ العلم وخلفاءِ الحِلْم والبرِّ والتقوى مِن الصادقين المقتَدين المهتَدين
ثَبَتُوا على قَدَمِ الرَّسُولِ وصَحْبِهِ ** والتَّابِعينَ لَهُم فَسَلْ وتَتَبَّعِ
ومضوا على قَصْدِ السَّبيلِ إلى العُلَا ** قَدَمَاً على قَدَمٍ بِجِدٍّ أَوْزَعِ
فإن أردتَ أن ترى هديَ النبيِّ مُحَمَّد فهُوَ فيهم وهُوَ هُمْ وهُمْ هو، وإن تُرِد أن تَسمَعَ دعوة مُحَمَّد فهي فيهم وهُمْ هِيَ وهِيَ هُمْ، وإن تُرِد أن ترى مَسلكَه أو بلاغَه أو بيانَه ففيهم وفي كُتُبِهِم وفي آثَارِهِم وفي أَقوَالِهِم وفي النَّظَرِ إلى وُجُوهِهِم، قال صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئل عن أولياءِ الله قال: (الذين إذا رُؤوُا ذُكِرَ الله). ولم يزل هذا السَّنَدُ في أمرِ هذه الخلافة قائماً على مَمَرِّ السنين وعلى مَمَرِّ القرون قرناً بعد قرن.
فتبَّاً لعينٍ لا ترى النورَ البارزَ، تَبَّاً لِعَيْنٍ تتعامَى عن الشمسِ المشرقةِ وتتَّجِه إلى الظُّلُمَات المُحرِقَة {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} وهم {لا يَعْلَمُونَ} وهم {لَا يَعْقِلُونَ}، وما كانَ ذلك إلا بإعراضِهم وإدبارِهم.. ولو أقبلوا لتبيَّنَ الحقُّ لهم ولتوضَّحَ على يَدِ الأفصحِ الأسْمَح الأَفْسَح صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والمُبَلِّغين عنه الذين قال لهم: (بلِّغوا عنِّي ولو آية)، (ألا فليبلغِ الشاهدُ منكم الغائبَ). الله يرزق قلوبَنا الاستجابةَ لهذا النداء..
وربُّكم ذَكَر "أولو الألباب" وذكر أدعيتَهم في عرضِ صورةِ أنواعٍ مِن الصِّلاتِ بينهم وبينه؛ فِكْرٌ وذِكْرٌ. استخلَصوا بحبالِ صِلَاتٍ بين خَلْقٍ وخالقٍ، بين مصنوعين عرفُوا عَظَمَة الصَّانِع ومِنْحَةَ وخصوصيةَ الصَّنعَة التي صنعَها بهم جلَّ جلاله.
قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} العُقلاء. مَن هم؟ قال أهل الذكرِ والفكرِ الصحيح {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ..} لا يفارقون ذكرَ إلهِهم وخالقِهم ومحبوبِهم {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} الفكر الصحيح، الفكر الطيِّب.. إلى متى إلى القمر والمريخ ولا عرفنا ربَّ القمر ولا ربَّ المريخ؟! وأنَّ اللهَ خلقَها لنستدلَّ على عظمتِه ونلاقيهِ بوجوهٍ ابيضَّت بالإيمانِ وقلوبٍ آمنَت به وصدَّقَت؛ هذه حكمتُها!
يَدَّعون رحلاتٍ ولا شي خبر من فهمِهم ووعيِهم مَن هم ومَن هذه الكائنات! ومَن خلقَها ولماذا خلقَها!
وما خلقَها إلا لتدلَّ على عظمتِه وليستعدَّ المُستَدِلُّ بها على عظمتِه للقائه ومقابلتِه؛ هذه حكمةُ خَلقِها ووجودِها. وإلى متى يلعبون على أنفسِهم ويلعبون على مَن سِواهم ويضحكون على مَن غيرهم! هذه الحقيقة في هذا الكونِ والوجود؛ المُكَوِّن أرسلَ إلينا مَن يُنبِئُنا بهذه الحقيقة.. من أيام آدم وحي يتنزَّل من عند الخالق ووحي بعد وحي بعد وحي نبي {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۖ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} قال الله الذين عاندوا الرسلَ بِقُواهم وبطُغيانهم وبماديَّاتهم وبمُلكهم جعلناهم أحاديثَ فلا عينَ ولا أثرَ لهم، زالوا، وما بقي إلا حديث عنهم فقط.
أين النمرود؟ أين فرعون؟ أين الذين كابروا النبيَّ هود مِن قوم عاد؟ أين الذين عاندوا النبيَّ صالح وعقروا الناقة حقه من ثمود؟ أين؟ {فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق بُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}
يا ويلَ الذين يُعرِضُون عن الإيمانِ ويرتضُون الإلحادَ والفسادَ -كائنين مَن كانوا-
والحمدُ لله على نعمةِ الإسلام والإيمان، لك الحمدُ يا مَن هديتَنا، وانشُرِ الهداية يا الله، والذين نشأوا على "لا إله إلا الله" ثم تعرَّضوا لظُلَمِ الإلحادِ وصَدَّقوها خلِّصهم يا ربِّ قبلَ الخلودِ في الجحيمِ وقبلَ العذابِ المُهينِ العظيم
يا الله .. يا الله
وهي عِبرةٌ كبيرةٌ لنا؛ بعض الذين كانوا في بيوتِ مسلمين يموتون على الكفرِ ويُحشرون مع الكفارِ إلى النار خالدين! وكثيرٌ من الكافرين الموجودين اليومَ على ظهرِ الأرض، ما بينَ مُلحدٍ وما بينَ وثَنِيٍّ مشركٍ وما بين نصرانيٍّ وما بين يهوديٍّ وما بين هندوسيٍّ سيُسلِمُون ويكونون مِن المُسَابِقِينَ الذين يدخلونَ الجنةَ مع أصحابِ اليمين وبعضُهم مع المقرَّبين.. ما هذا؟ حكمةُ حاكم؛ كما حكمَ عليكم بالموتِ حكمَ بالشقاوة والسعادة
ولا معنا إلا أن نقولَ له: أسعِدنا يا مُسعِدَ السعداء، وأدخِلنا في دوائرِ السعداء
واليوم سيأتي فلا كلامَ لمُلحدٍ ولا لحضارةٍ ولا لرؤساءَ ولا لمرؤوسين، ويتكلمُ الجبارُ الأعلى ولا يقوَى ولا يقدر على مخاطبتِه مِن الخلقِ في ذاك اليوم يوم الحكمِ إلا "محمد" {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا} والكلُّ يعرفُ قدرَ "محمد" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله عن ذاك اليوم: {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} يجمعهم الذي خلقهم، يجمعهم الذي أنشأهم {ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} قال الجبَّار أنا أعددتُ الزمانَ إلى لحظةِ قِيَامِ الساعةِ فلابدَّ أن تأتيَ في وقتِها المحدد {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} لأنَّ الساعةَ التي حددتُها لم تأتِ بعد، ما شيء مؤخِّر القيامةَ إلا إرادةٌ أزليَّةٌ من الجبار وهي واقعة {أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} مقبلة مقبلة؛ وإنما حد حدَّده في زمن لابد أن تصيرَ إليه {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} هناك حقائقُ الفوزِ والخسران، حقائقُ الصلاحِ والفساد، حقائقُ الخيرِ والشر، حقائقُ الهدَى والضلال، حقائقُ السعادةِ والشقاوة يعرفُها الكل.. دعكَ مِن خَربطتِهم وكلامِهم الزائد الذي لا معنى له، سيعرفون ماهي السعادة وماهي الشقاوة؛ السعادةُ في سِرِّ هذه المجالس، السعادةُ في الاتصالِ بمحمد، السعادةُ في معرفةِ مَن خلَق، السعادة في الخضوعِ لمَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء، السعادة في الاستعدادِ للقائه.
اجعل خيرَ أيامِنا يومَ لقائك حتى نلقاكَ وأنت راضٍ عنَّا، يا الله مَن حَضَر ومَن يَسمَع لا تجعل فينا وفيهم شقيّاً قط، لا تُشقِنَا في الدنيا ولا عندَ الموتِ ولا في البرزخِ ولا يومَ القيامةِ، اجعلنا في ذاك اليوم مِن السعداء، مِن السعداء، ومن أسعدِ السعداء
يا الله .. يا الله .. يا الله .. يا الله .. يا الله
والمصيرُ الأكبرُ لنا ولكُلِّ المكلَّفين في وقتِنا ومَن مضى ومَن يأتي بعدَنا إلى يومِ النَّفخِ في الصُّور ليس توفيرَ وسائلِ راحة، وليس إقامةَ قصورٍ، وليس توفيرَ وظائفَ للناس يتوظَّفون فيها، وليس تعبيدَ طرقٍ وسفلتتها، وليس زراعةَ أشجار ولا إقامةَ مصانع؛ المستقبل الأكبر: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ..} هذا هو المستقبل.. دعكَ من هذا الذي يضحكونَ به عليك، هذا أمرُ مَمَرٌّ.. عبَّدوا الطريق أو ما عبَّدوها.. أقاموا القصور أو ما أقاموها.. وفَّروا لك الوسائل أو ما وفَّروها؛ كلُّها ستمر، ذه وذه.. ما هو هذا المستقبل؛ المستقبل هذا: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ..} عبَدَةُ الأهواء، عبدَةُ الأصنام، عبدَةُ العقول وما يسمونه بالعلمِ بغير معنى {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ..} وآباؤهم مِن قبل قد أعطيناهم نصيبَهم وأهلكناهم ونقلناهم إلى عذابِ البرزخِ، ومنتظرين عذابَ الآخرة، الذين عندك؟ {..وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ}
فالله يرزُقنا الإيمانَ واليقين، ويبارك لنا في إيمانِنا ويزيدُنا إيماناً في كُلِّ حين، ويرزقنا الاستعدادَ للقائِه والمرافقةَ لخاتمِ أنبيائه والدخولَ مع أصفيائه وأوليائه.. آمين، آمين، آمين
نشكو إليك قلوباً شَهِدَت أن لا إله إلا أنتَ وأنَّ محمداً عبدُك ورسولُك فما فَقِهَت من سِرِّ هذه الشهادة إخراجَ تعظيمِ الحقير عندكَ من كُلِّ مالا يُرضيك؛ وحلولَ عظمتِك التي إذا أشرقَت في القلب تَحَرَّرَ صاحبُها عن الأَسْرِ والرِّقِّ لكُلِّ الكائنات وصار عَبْدَاً خالِصَاً واحِدَاً لواحد
يا ربَّنا يا ربنا خَلِّص قلوبَنا، وقلوبَ أهالينا، وقلوب أصحابِنا وأحبابِنا من كُلِّ ظُلُمَاتِ الوهِم والخيال وارزقنا اليقينَ بالحقِّ واسقِنا مِن شرابِهِ العَذبِ الصافي الزُّلال.. يا الله .. يا الله .. يا الله
قال عن أهل هذه العقول: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ..} يعني المعيار عندهم في السعادة والشقاوة والخير والشر: دخول النار أو النجاة من النار. بس هو ذا هو، هذا الذي بيحكم الخلق، خَلَّك من التُّرَّهاتِ الباطلة الثانية.. بتدخل النار أو بتنجو منها؟ {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا..} هؤلاء أهلُ الألبابِ يقولون.. الصحابة وحدهم؟ ايش الصحابة وحدهم؛ صحابة وتابعين وتابع تابعين (كّلُّ صاحب لُب؟) إلى اليوم يقولون {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} كيف ما تسمعون؟ وهذا القرآن من أين جاء؟ وذي السُّنَّة من أين جاءت؟ وذا السلسلة في كُلِّ جيل من أجيال أُمَّتِهِ مِن الخلفاءِ المخلصين الصادقين مِن أين هم؟ ما تسمع؟! {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
{وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يا حاكمَ يومِ القيامة لا تجعل فينا في السامعين وفي الحاضرين ومَن في بيوتِهم مَخْزِيَّاً في ذلك اليوم {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} يا ربَّ العرش نُلِحُّ عليك ونسألُك لا تجعل في ديارِنا من يُخزَى في ذلك اليوم {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} اللهم لا يُخزَى مِنَّا ذَكَرُ ولا أنثى صغير ولا كبير.. يا الله .. يا الله
ولا تُخزِنا يوم يُبعَثون {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
يا ربَّنا، ولعَظَمَةِ الأمر وخطورتِه حتى مع كونِنا العُصَاةُ لا نَسْأَمُ مِن سؤالك ونُلِحُّ عليكَ ونُكَرِّرُ الطَّلَبَ؛ يا رَبَّ العَرشِ يا مُنزِلَ الكتاب يا مُرسِلَ خاتمِ النبيِّين إلينا لا تجعلْ فينا مَن يُخزَى في ذاك اليوم، ولا مِن أهالينا، ولا مِن أولادِنا، ولا مِن طُلَّابِنا، ولا مِن أصحابِنا، يا حاكمَ ذاك اليوم، يا مالكَ ذاك اليوم، يا مَن له الأمرُ في ذاك اليوم..
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} "للـــــــه"
عَظِّموا هذا الإله، اسألوه الآن، السؤال ينفعكم ذاك اليوم، أحضِر قلبَك معنا تُنقَذ، أحضِر قلبَك، تَوجَّه إلى ربَّك ترَ هذا الجزاء {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ستعرف قدرَ هذا الدعاء، وستعرف قدرَ هذا الطلب والإلحاح على رَبِّ الأرض والسماء.
والذين وقفوا على أبوابِ خلقِه مِن الذين لا يملكون شيئاً وقفوا بالخضوع والذُّلَّة وأمَّلوا منهم آمالا -وتَبَّاً لهم- أنت تدري واقف على بابِ مَن؟ وسائلٌ مَن؟ تعرف قدرَ هذا السؤال؟ لأمرٍ هو أعظمُ الأشياء عليك؛ المصيرُ الأكبر!
يا ربَّ العرش، يا ربَّ السماوات والأرضين، يا ربَّ الإنسِ والجن، يا مُنزِلَ الكتاب، يا مُنزِلَ القرآن، يا مرسلَ سيدِ الأكوان محمد: لا تُخزِنا يومَ يُبعَثون، ولا تجعلْ فينا ولا مِن أهلينا وأحبابِنا مَن يُخزَى يوم الدين.. يا الله .. يا الله
بلسانك وبقلبك قل له: يا اللـــــه..
واستشعِر أنه يسمعُك، وأنه يراك، وأنه يَنظُر صِدْقَك في قلبك، ويَنظُر أنَّك عَظَّمتَ ما عظَّم أم لا، أَكبَرْتَ ما كبَّر أم لا! {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} اجعلنا "معه" يا الله {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وبِكُلِّيَتِك توجَّه إليه وقل له: "يـــــــا اللـــه"
أوقفكَ على بابه.. لو أرادَ حرمانَك ما أوقفَك؛ فاعرِف قدرَ النعمة أن جاءَ بك وأوقفكَ على بابِه العظيم تناديه وتخاطبُه وتدعوه جَلَّ جلاله وتعالى في علاه {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} بَيِّض وجوهَنا بنورك يوم تَبْيَض وجوهُ أوليائك ولا تُسَوِّد وجوهَنا بظُلمتِك يومَ تَسْوَدُّ وجوه أعدائك يـــــــا الله .. يـــــــا الله
ونسألك لنا ولهم وللأمة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيِّك سيدِنا محمد، ونستعيذ بك مما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد
والطُف بإخوانِنا في لبنان وبالمسلمين والعِباد في كلِّ مكان، لطفاً تدفعُ به هذه البلايا ولا نسمعُ بها وحدة بعد الثانية، انفجار هنا، وبليَّة هنا، وانقراح هنا، وآفة هنا.. يا كاشفَ الضرِّ أوجَبَ هذا ذنوبُنا، وإنَّا نتوبُ إليك عنَّا وعن أهلينا وعن أصحابِنا وعن أهلِ زمنِنا فتُب يا تواب، وارحَمنا بالكتابِ ومَن أنزلتَ عليه الكتاب، واكشِف الكَربَ يا كاشفَ الكروب ويا دافعَ الخطوبِ يا الله، أنت الرَّبُّ ومَن سِواك مربُوب يا الله.. يا الله.. يا الله، يا أرحمَ الراحمين يا أكرمَ الأكرمين..
ومَن قُتِلَ منهم مسلماً فاجعَلها له شهادةً يا رب، وأنزلِ السكينةَ في قلوبِ وأقاربِ وأحبابِ جميعِ الذين قُتلوا وارزقهم الرضا والتسليم، والجرحَى اشفهم يا حيُّ يا قيومُ وعافِهم يا كريمُ يا منَّان يا عظيم.
وأسمِعنا وأرِنا في الأمةِ خيرا، وادفَع عنَّا شَرَّاً وضُرَّاً، وتولَّنا سِرَّاً وجهرا، وارفع لنا عندَك ذِكرا، وأعلِ لنا عندَك قَدرا، وأعِذنا مِن الآفاتِ والشرور طُرَّاً، يا خيرَ مَن يُدعَى وأكرمَ مَن يُرجَى يا كريمُ يا عفوُّ يا غفورُ يا مدعوُّ يا مرجُوُّ يا الله، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين وجُودِك يا أجودَ الأجودين.
وصَلِّ وسلِّم على الطُّهْرِ الأمين وآله وصحبِه والتابعين، وأنبيائك ورُسلِك وملائكتِك وصالحِي عبادِك، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.. والحمدُ لله ربِّ العالمين.
18 ذو الحِجّة 1441