(230)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، في دار المصطفى، ليلة الجمعة 17 جمادى الأولى 1442هـ، بعنوان:
مِنَّة اتصال القلب بالحق الخالق وتنزيله وحبيبه ومحبة المقربين
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم
الحمدُ لله على ما يبُثُّ مِن أنوارِ الدَّلالةِ عليه، ويُهَيِّئ مِنْ سُبُلِ الوصولِ إليه، وما يوفِّق لقلوبٍ على ظهرِ الأرضِ لتَعْتَزَّ بحُسْنِ التَّذَلُّلِ بينَ يدَيْهِ، تتحرَّرُ مِن أسرِ النُّفوسِ والأهواءِ والشَّهوات والشُّعوب والدُّول والأرضِ والسَّماء وتخضَع لربِّ الأرضِ والسَّماء فيُعِزَّها الله، ومن أعَزَّهُ الله لا مُذِلَّ له، فإنَّهُ لا يذِلُّ مَن واليت ولا يَعِزُّ مَن عاديْت، لا ينالُ حقائِقَ العِزِّ، وما يطْرَأ على الأفرادِ منهُم والجماعات مِن صورةِ العِزِّ المجازيِّ الظَّاهريِّ الصُّوريِّ مُنْقَطِعٌ يُنازِلُهُم فيهِ أنواعٌ منَ الإهانة، منَ الإذلال، وهم في الدُّنيا قبلَ الآخرة، ثمَّ يُحشرونَ في أسوَأِ حال، فلا عزَّ إلَّا لِمَن أعَزَّهُ الله، ولا عِزَّ إلَّا بطاعَةِ الله، ولا عِزَّ إلَّا بالتَّذَلُّلِ بينَ يديِ الله جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه.
وحملةُ العَرْشِ ما كان عِزُّهُم وتخصيصُ الحقِّ لهُم بحملِ العَرْش إلَّا لامتلاءِ قلوبِهِم بالذِّلَّةِ لهُ، بالخضوعِ لجلالِه، بالعُبودِيَّةِ لهُ سبحانَهُ وتعالىٰ ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ) هؤلاء الأعلى عندك أو حد مهندس عندك أحسن منه؟! أو مفَكِّر أو أصحاب حضارة؟! ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ) هؤلاء أعلى الخلائق.. فهُم بعد النَّبيِّين الأقرب إلى ربِّ العالمين، ما شأنُهُم؟ ما وصفُهُم؟ ما حالُهُم؟ ما فِكْرُهم؟ ما شُغلُهم؟ بِمَ يشتغلون؟ ( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) فالمؤمنون على ظهرِ الأرض رابطتُهم قوية أين؟ قال لك النِّت قوي ولا ضعيف؟ حملة العرش يستغفرون لهم، ما النِّت حقُّهُم هذا؟ إلى أينَ يصل؟
( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ) يَذكرونَ التَّوّابين فكيف ذِكرُهم للمحبوبين والمُقرَّبين؟ فكيف ذِكرُهم للأنبياءِ والمرسلين؟ مَن تابَ عن الذُّنوبِ ارتفع مِن وسخِ المعصية، ارتفع مِن قاذورات المخالفة لأمرِ الرَّبِّ ورسوله، يذكرونَهم حملة العرش ( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) أصعب شيء، أشَق شيء، أشد شيء ينالُه النَّاس الجحيم ( وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ ) ، ويقول لهم وأي واحد اتَّصل بهم أو لهم به قرابة دخِّلْهُ معهُم ( وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ) السَّيِّئات في الدُّنيا كذبٌ وغيبةٌ ونميمة، وزِنا وشربُ خَمْر، وغِش وبَطش وأذى وضُر، وسوءُ ظن وغيبة، وقطيعة رحِم وعقوق والدَين هذه السيِّئات في الدُّنيا، تُقابِلُها تماماً السَّيِّئات في الآخرة، ( يَوْمَئِذٍ ) ما سيِّئات يومئذٍ؟ الفضيحة، إعطاء الكتاب بالشِّمال، دخول النَّار، الخِزي أمامَ الأشهاد، الحيَّات والعقارِب، أن يُحشرَ على صورة الذَّر يطؤُهُم النَّاس بأقدامِهم، أن يُحشرَ في صورةِ حمار أو كلب أو خنزير وما إلى ذلك، أن تشتَعِلَ فروجُهُم ناراً.. هذه سيِّئاتُ يوم القيامة، سيِّئاتُ يومِ القيامة كلُّها مربوطةٌ بهذا الكذبِ والدَّجلِ والغيبةِ والنَّميمةِ ومخالفةِ أمرِ الله في الدُّنيا هذه تتحوَّل إلى حقائقِها في الآخرة والعياذ بالله تعالى، يقول: ( وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) صدقَ الله وصدقَ حملةُ العرش، الفوز العظيم أن تُوقى السَّيِّئاتِ يومَ الهولِ العظيم، ما عليكَ مِن لهبِ النار، ما عليك مِن حيَّاتِها، ما عليك مِن عقارِبها، ما عليك مِن لهبِها، ما عليكَ مِن ظهورِ الفضائح، ما عليكَ مِن أخذِ الكتابِ بالشمال، ما عليك مِن خِفَّةِ الميزان، وُقيتَ السَّيِّئات.. أنت الفائزُ الفوز العظيم، هذا هو الفوز العظيم.
يا متقاتلين في الدُّنيا، ترَوْنَ أنَّ الفوزَ في أن يغلِبَ أحدكُم الآخر، أو أن يصلَ إلى سلطة، أو أن يصلَ إلى مال، أو إلى آمالٍ ما أقصرَها وأحْقرَها.. وعِزَّة ربي ليس في ذلكم فوز، فهل تعقلون؟ والله العظيم ليس في ذلك فوز، واحذروا يوم أن يفوزَ مَن صدَّق هذا الكلام أن تنالوا أنتُم الخزيَ والذُّلَّ الدَّائِمَ والعذابَ الأكبر، ثمّ لا يفيدُكُم شيء، ثمّ لا يفيدُكُم ذلكم شيء ( وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) في الفوز العظيم.
( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) مِن أهلِ الجنة، يقول ( إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ) واحد صاحب جابوا له فكرة الإلحاد.. لعبوا بعقلِه عن البعثِ والمَعاد والدَّار الآخرة وزيَّنوا له الدُّنيا ( يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ) يقول له مَلَك ( هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ) شُوفوا هذا الرجل الذي كانَ بهذا الفكر، الذي كان بهذا المَسلك ( قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ) يقول نعم، ويُكشف الحجابُ بينهم وبينه فيرَوْنَه في النَّار ( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) شفت الملحد ذاك الذي كان يضحك عليَّ لما أذهب إلى المسجد، ويضحك علَي لما أحضر المولد، يضحك علَي لما أبِر الوالدين، ويضحك علَي لمَّا أقرأ القرآن ( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ) وإذا بالحجاب يُرفع عن ذاك وفي شِدَّة عذابِه يرى أنَّ صاحبَه هذا الذي كان يضحك عليه ويسمع صوتَه ( قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ) كدْتَ تهلكني معك يا خبيث! لو أنا سمعت كلامك ولو أني صدَّقت فكرك.. كُنتَ تظنُّ نفسَك عصريّاً متقدِّماً متطوراً تضحك عليَّ وعلى ديني وعلى صِلَتي بنبيِّي وعلى صلتِي بالآخرة، انظر الآن أين أنت؟ وأين أنا ؟ ( إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) في العذاب عندك هناك، أتكَوَّى بالنّار وأشربُ الحميمَ وأطعمُ الزّقُّوم وتلسعُني الحيَّات هذه والعقارِب التي عندَك، ( تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ )
ما العقل الذي كان فيك؟ تستغرب أنَّ الله يبعثُ العبادَ وهو قد خلقكَ مِن نطفة! ( أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ )
قال الله في حالِ أهلِ الجنة هؤلاء ( إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ )
إن كان هناك عمل فيه الفوْزُ الحقيقةُ هي لمثلِ هذا المصير، لأجلِ هذا المصير، نجتمع ونتذاكر ونتّبِع البشيرَ النَّذيرَ والسِّراجَ المنيرَ ونهتدي بهديِه، ونقدِّم كلامَه وتوجيهَه على كلامِ أهلِ الشَّرق والغرب المُفتِنين للعباد، المُوقِعِين لهم في الضُّرِّ والفساد، الفاسدين المفسدين.. ما اكتفَوا بفسادِهم يريدونَ إفسادَ غيرِهم، ويريدون إفسادَ العبادِ في الشَّرقِ والغرب ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) كما قال الله تعالى.
فقل لي ميزان مَن سيرجح؟! كلامهم في قولهم ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )، أو كلام الخلَّاق في قوله ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ) ؟ الله أكبر، قولهُ الحق وقولُهم الباطل ( قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) جل جلاله وتعالى في علاه.
أيُّها القلب: عظِّم هذا الرَّب فإنَّك مخلوقٌ له وعبدٌ مِن عبيدِه، نشرَ لك آياتِ الدَّلالةِ على عظمتِه وأرسلَ إليك رسولاً صادقاً مصدِّقاً للمرسلين مِن قبله، بلَّغَ الرسالة وأدَّى الأمانة، وجعلكَ به في خير أمَّة، استجِب ولبِّ نداءَ الرَّبِّ وأقبِل عليه بالصِّدق ولا تغرَّكَ نفسُك، ولا صديقُ سوء، ولا شيءٍ مِن منشوراتِ الكافرين والفاسقين ( إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) لم يخلقوك ولن يحضروا معك عند موتك، ولا حينَ وضعِك في قبرِك ولا في وقتِ حشرِك ونَشرِك، والحُكم ليس لهم ويحكم بينك وبينهم وبين العالمين كلِّهم ربُّ العالمين، مُنشئ وموجِد ومُبرِزُ العالمين مِن العَدَم جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
كان الله ولم يكن شيءٌ غيرَه، كان الله ولم يكُن شيءٌ معَه، خلق الخَلْق.. فلِمَ تغْتَر؟ المرجعُ إليه والحكمُ له، لا شيءَ معه ولا شيءَ غيره، وهو الآن على ما عليهِ كان، بيدِه الأمرُ كُلُّه وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، أنت واقف بين يديه، وتلبيَة لِدعوته حضَرتَ في هذا المحضر، ووراءك مِن القلوبِ المتابعة هنا وهناك والذين بهم تنتشر الأنوارُ بفضلِ الكريم، بواسطةِ الحبيبِ العظيمِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، وهذه شبكاتُ وسلاسلُ سندٍ إليه، أتزيد عليها شبكاتُ العنكبوت حقَّهُم؟ لا شبكات الإنترنت ولا غيرها ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) صدقتَ يا رب.. وأرِنا هذا النَّصرَ بيِّناً واضحاً لأهلِ الإيمان في زمانِنا، وأرِنا وأشهِدنا حقائقَه ومعانيَه في البرزخِ ويومَ القيامة ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )
أنتم في مجمعِكم المبارك بفضلِ الحقِّ، ببركةِ حبيبِه محمد، اتصلتُم بجميعِ الأنبياء والمرسلين، آمنَّا بهم أجمعين وصدَّقنا بواسطةِ هذا النَّبيّ ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) آمنَّا بكلِّ رسولٍ أرسلَه اللهُ وبكلِّ نبيٍّ ابتعثَه الله، وبالملائكةِ المقرَّبين وبحمَلةِ العرشِ وغيرهم، إن كانوا يدعون للذين تابوا في عمومِ الأرض فدعوتُهُم لأهلِ مثل هذه المجالس أقوى وأعظم وأهم، بل يقولون ( وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ما معنى صَلَح؟ كل مَن آمنَ مِن أولادِهم وذريَّاتِهم وأولادِهم وماتَ على الإيمان ألحِقهُ بهم وأدخِله معهم إلى الْفَوْزِ الْعَظِيم، وأينَ هذا الفوزُ العظيم؟ أشارَ إليه في الآياتِ الأخرى ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ )
يا طالبي العُلا، يا طالبي حقائقِ الرِّفعَة ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ )
ألحِقنا بهم يا ربَّنا يا الله، إنَّك أطلَعتَنا على هذا السِّرِّ وهذا التَّخصيصِ منك في ترتيبِ خلقِك ولن يكون إلا هو.. فأحبَبْناهم مِن أجلِك فاحشُرنا معهم.
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ) هذا صِنفٌ عظيمٌ مِن الذين يفوزون، مِن الفائزين ( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *عَلَى الْأَرَائِكِ ) الوسائد فوق سُرُرِهِمْ في الجنة ( عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) والسُّرُر هذه مِن أين جاءت؟ هل هي مِن حديد أو مِن خشب أو مِن ورشة قوَّمتَها وأقامتها؟ ومَن المهندس الذي رتَّبها؟ أسرَّة من الذهب ومن الفضة ومن اللؤلؤ ومِن الزبرجد.. الله الله الله.. الأرائك مِن الحرير والديباج ومِن الاستبرق.. يا سلام!
( عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ) تقع عينُك على وجهِ الواحد منهم تشوف النعيمَ فيه ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ * وَفِي ذَٰلِكَ.. ) يقول الله عبادي على ظهر أرضي عندكم أطماع، عندكم رغبات، عندكم أمنيات، عندكم هوايات، شوفوا هذا وتنافسوا فيه.. ساعة تسمعون شرقي وساعة غربي، ساعة غبي، ساعة مجرم، ساعة فاسق، يعرضون لكم أعروضات تذهبون وراءهم!! شوفوا العرضَ يقول لك ( وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) وهذا الصنفُ مِن أهلِ الفوزِ العظيم فوقَهم قومٌ أعظمُ منهم ( وَمِزَاجُهُ ) شرابُهم العجيب ( وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ) الله أكبر، والتسنيم هذا مِن أين يأتي؟ قال ( عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) أولئك شرابُهم من تسنيمٍ خالصٍ، وهؤلاء رحيقٌ مختومٌ مِزاجه.. يمزجون لهم قليلاً من شرابِ المقربين يزدادون به حلاوة وذوق ومعنى ومعرفة وراحة ولذّة ونعيم، يُعطونهم مزاجاً منه ( وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ) لكن أين التسنيم؟ ( عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )
يا ربِّ عبادك المقرَّبين هؤلاء مِن النَّبيِّين وكُمَّل أتباعِهم نحن مِن أجلِكَ نُحبُّهم فحقِّقنا بذلك، كل حاضر وكل سامع انظر إلى قلبه وحقِّقْهُ بهذه المحبَّة، والشَّوائب التي تمنعُه مِن التحقُّق بها أزِلها وأزِحها وأبعِدها ونظِّف قلبَهُ عنها، واشمل بذلك أحبابَنا ومَن في بيوتنا وذوي الحقوق علينا، صَفِّ قلوبَنا وحقِّقنا بحقائقِ محبَّةِ هؤلاء حتى تحشرَنا في زُمرتهِم بصادقِ وعدِ نبيِّك ( المرءُ مع مَن أحبَّ ) يُحشَر المرءُ مع مَن أحب.
لما تأمّل بعض العارفين هذه الأحاديث قال: لو أنّ عابداً صفَنَ أي قامَ برجلَيه بين يدي الله يعبد الله بين الركنِ والمقامِ عند الكعبة أربعين سنة ثم مات، لم يحشُرْهُ اللهُ إلا مع مَن يحب، أين الذين يحبُّهم وقلبُه معهم يُحشر معه، إن كانوا يهوداً وإن كان نصارى وإن كان مهندسين وإن كان لاعبين وإن كان مصارعين، الذي تحبُّهم تُحشَر معهم، وإن كانوا أنبياء وإن كانوا صدِّيقين ومقرّبين تُحشَر معهم.
فالمرء يُحشر في حديث المصطفى مع من أحب
قد قال فيما رُوي المرءُ مع من يُحب
وأنا أحِبُّه وقَولي صدق ما هو كذِب
وعند ذكره ترانا اطرب كما مَن طرب
معهم مزامير وكلام فارغ وصور خبيثة ساقطة يريدونَنا نطرب بها.. تف تف تف.. ما في هذا طَرَب، هذه كُرَب، هذا بُعدٌ عن الرَّب، طَرَبُنا بذكر محمد، طَربُنا بأشعارِ الصالحين المقرَّبين أهل هذه الحضرة، ولا نحب في زواجاتِنا إلا كلامَهم وأقوالَهم حتى نقربَ منهُم، حتى نُحشرَ معهم يومَ القيامة، وبذلك يطيبُ الطَّرَبُ للأرواح والانتعاش والفرح، بل ويُشرب الرَّاح وتُسقَى حالياتُ الأقداح التي بها تَهَيُّؤُ هذه الذواتِ للشُّربِ مِن التَّسنيم، إما مِن الرَّحيقِ المختومِ المَمزوجِ بالتَّسنيم وإلا فوق من التَّسنيمِ مباشرة، قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) مِزاج فقط، ومن أين الكافور هذا؟ قال: ( عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ) هؤلاء يُمْزَج لهم وهؤلاء يشربون بها ( يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) ما أعجبَ هذا الشراب! مِن أين جاءهم؟
اقرأ بعدها في الآيات ( وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) فهمت ولا ما فهمت؟ ( وَسَقَاهُمْ ) رأيت من السَّاقي؟ من أي مصنع جاء هذا الشراب؟ من أين جاء؟ ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) فنِعمَ السَّعيُ المشكور للذين تنافَسوا في كسبِ الأجور، وفي القربِ من حبيبِ الكريمِ الغفور.
الحمد لله الذي يُحضِركم هذه المحاضر، وما ينزلُ فيها مِن غيثِه الماطِر، وجودِه الغامر جلّ جلاله، ويُضحي بهِ كم مِن قلبٍ عامرٍ، بل كم مِن قلبٍ كافرٍ يصبح بعد ذلك مؤمناً طاهراً، بفائضاتِ هذه المِنَن.
ذكر لكم الأخ مصعب بعضَ الخيرِ مِن انتشارِ هذا النورِ والخيرِ في بلدِه بريطانيا في هذه الأيام ، رجعوا بعد شدَّة الكورونا صارت الإذاعاتُ الرسمية عندهم تقرأ القرآنَ كلَّ يوم يفتتحون بقراءة القرآن، وفي الفترة هذه أسلم كثير، الفيروس السَّيِّء جاءَ للأبدان والنِّعمة الطَّيِّبة جاءت للأرواح ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ )
ومن قعد وراء حُجُبِ هذه الدُّنيا وأخبارها له كابوسُها وله تعبُها وله حرُّها وشرُّها، ومَن اتصلَ بفوق وتمسَّكَ بالحبالِ الموصِلة إلى فوق له خيرُ الدُّنيا والآخرة، وله أنسُ الدنيا والآخرة، وله نعيمُ الدُّنيا والآخرة، لأنَّ ربَّ الدنيا والآخرة واحد، مرسلَ محمد مُصطفِي محمد هذا هو ربُّ الدُّنيا والآخرة، إذا أطَعنا حبيبَه سخَّر لنا الدنيا وسخَّر لنا الآخرة، فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهدى.
بحرمة هادينا ومُحيي قلوبنا ** ومرشدِنا نهجَ الطَّريق القويمةِ
دعانا إلى حقٍّ بحقٍّ منزَّلٍ ** عليه مِن الرَّحمن أفضلَ دعوةِ
يا خير دعوةٍ دعانا إيَّاها، بكَى فيها وخشعَ فيها، ودعا لنا فيها كثير، وأتى بها ليِّنةً قريبةً سهلةً وتركَنا على المحجَّةِ البَيضاء.
أجَبنا قبِلنا، مذعنِين لأمرِه ** سمِعنا أطَعنا عن هُدى وبصيرةِ
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهدى..
في وقتٍ تتزلزلُ فيه القلوب ثبِّت قلوبَنا وأهلينا كلَّهم وأصحابَنا كلَّهم حيث ما كانوا وأينما كانوا.
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهدى.. يا مقلِّبَ القلوبِ والأبصار ثبِّت قلوبَنا على دينِك، يا مصرِّف القلوب والأبصار صرِّف قلوبَنا على طاعتِك
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهُدى ** ويا رب اقبضنا على خير ملَّةِ
وعُمَّ الفروعَ والأصولَ برحمةٍ ** وأهلاً وأصحاباً وكلَّ قرابةِ
وسائرَ أهلِ الدين مِن كلِّ مسلمٍ ** أقام لك التوحيدَ مِن غيرِ ريبةِ
سيدي ومولاي بخزائنِك الواسعة لا تدَع قلباً مِن قلوب الحاضرين ولا السامعين في الليلة هذه إلا وسكبتَ فيه صدقَ المحبَّة للمقربين، يا رب، حتى يتحقَّقَ بها وتراها مِن قلبِه أنت يا عالمَ الغيوب فتكتب له الحشر معه.
يا رب.. عطايا ما يُعطيها غيرُك، ومِنح لا يمنحُها سواك، وقد أوقفتَنا على خزائنِ جودِك الواسعِ نطرقُ أبوابَ فضلِك لنا وللسَّامعين وللحاضرين ولأحبابِنا وللمؤمنين، اللهم وفِّر حظَّنا مِن هذا العطاء، سيدي ومولاي لا يبيتُ قلبٌ مِن قلوبِ مَن حضر معنا ولا قلوب مَن يسمعُنا محروماً مِن نَظرتِك هذه الربَّانيَّة وذوقِ حقيقةِ المحبَّة للمقرَّبين، حتى لا تبقَى ذرَّةٌ في قلوبِنا مِن حبِّ مبغوضٍ لك ولا مطرودٍ مِن رحمتِك ولا عدوٍّ مِن أعدائك يا الله، نحبُّ بحبِّك النَّاسَ ونُعادي بعداوتِكَ مَن خالفَكَ مِن خلقِك، نسألكَ الأمنَ يومَ الوعيد والجنةَ يومَ الخلود مع المقرَّبين الشُّهود والرُّكع السُّجود المُوفين لك بالعهود، إنَّكَ رحيمٌ ودود، وأنت تفعلُ ما تريد.
يا ربَّ العرش.. وأهلَهم وأولادَهم أعطِ قلوبَهم هذا النور، ارزقهم محبَّةَ المقرَّبين أرباب التَّمكين واليقين مِن النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين، واحشُرنا يا ربِّ معهم وفي زمرتِهم، واجمعنا يا رب
في مقعدِ الصدقِ الذي قد أشرقت ** أنوارُه بالعِندِ يا لكَ مِن سنا
والمتقون رجالُه وحضورُه ** يا رب فالحِقنا بهم يا ربَّنا
يا ربنا ألحقنا بهم يا ربنا ألحقنا بهم.. يا ربنا
وعجِّل بالفرجِ لهذه الأمَّة واكشفِ الغمَّة، وانشُر في المسلمين حقائقَ نورِ الإيمان والرجعةِ إليك والصِّدق معك، وانشر في قلوبِ الكافرين وكثيرٍ منهم نورَ لا إلهَ إلا الله محمدٌ رسول الله، واهدِهم إلى الصراطِ المستقيم، وثبِّتنا عليه يا رب واجعلنا مِن ناشريه والمحامِين عنه والدافعين عنه والذَّابِّين عنه والمبيِّنين له للبريَّة على خيرِ الوجوه التي تحبُّها وترضاها في نيابةٍ عن نبيِّك، في خلافةٍ عن نبيِّك، في إرثٍ مِن نبيِّك، في صِلةٍ بنبيِّك، في انطواءٍ في نبيِّك، يا حيُّ يا قيومُ دعوناكَ كما أمرتَنا فاستجِب لنا كما وعدتَنا.
لو لم تُرِد نيل ما أرجو وأطلبه ** من فيضِ فضلك ما ألهمتَني الطَّلبَا
وأنت أصدقُ القائلين والقائلُ فيما أنزلتَ على النَّبيِّ الأمين ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) يا قريب.. أقربُ إلينا مِن كلِّ شيء أنت، وأنت تُلهِمنا الدعاءَ وأنت تُوفِّقُنا للدعاء، وأنت تبعثُ منا الدعاءَ وأنت تُقدِرنا على الدعاء، وحاشاكَ أن تحرمَنا الإجابةَ وأنت القائل ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )
فإذا قد أحضركَ هذا المحضرَ وأشهدكَ مثلَ هذا الدعاءَ ماذا عليك؟ ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) أنتَ استجِب لأوامرِه، طبِّقها في عينَيك، وفي أذنيك، وفي فرجِك، وفي بطنِك وفي يدَيك، وفي رجلَيك، وفي أسرتِك، وفي أولادِك في مناسباتك، طبِّق أوامرَه ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) فيحوزون منه ما لا تَصِلُه الظُّنون ممَّا أخفي لهم مِن قرَّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون.
( فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم ).
اللهم اجعلنا مِن أهل ذلكَ المَسلك، وتولَّنا بما تولَّيتَ به أهلَ ذلك المنسَك، واجعلنا مِن خواصِّ مَن تعبَّدَ وتنسَّك، واستقامَ على المنهجِ القويم فحُفِظَ وما هلَك.
اللهم وادفَع عنا المهالكَ وعن أمَّةِ الحبيب، انظر إلى يمنِنا وأصلِحه يا ربِّ وأصلح مَن فيه وما فيه، وانظر إلى شامِنا وأصلِحه يا ربِّ وأصلِح مَن فيه وما فيه، وانظر إلى شرقِنا وإلى غربِنا، وانظر إلى أهلِ لا إلهَ إلا الله وحقِّقهم بحقائقِها وثبِّتهم عليها، واهدِ كثيراً مِن عبادِك ممَّن حُرِمَها فيما مضَى مِن عمرِه ليقولَها فيما يبقى حتى يلقاكَ بها يا كريمُ يا رحيم يا عظيم يا مجيبُ يا قريب يا قريب يا قريب..
لا شيءَ أقربُ إلينا منكَ فاجعلنا مِن أقربِ عبادِك إليك، وألحِقنا بالمقرَّبين مِن عبادك.. يا رب لا شيءَ أقربُ إلينا منك، وأنت أقربُ إلينا مِن حبلِ الوريد فاجعلنا يا مولانا مِن أقرب عبادِك إليك، ومِن المقرَّبين لديك وألحِقنا بهم يا مُقرِّب المُقرَّبين.
سيدي ما قُرِّب منهم واحدٌ إلا بتَقريبِك، لو لم تقرِّبْهُ ما قرب، لا نبي ولا ملك ولا غيره، مِنك، ومِن فضلِك، فيا متفضِّلاً عليهم أحبَبناهم مِن أجلك فألحِقنا بهم، قرِّبنا.. قرِّبنا.. قرِّبنا، يا مَن هو أقربُ إلينا مِن كلِّ شيء قرِّبنا إليك قُرباً عظيما يا أكرمَ الأكرمين.
نادوهُ وارجوه واسألوه واطلبوه وارجوه وادعوه وقولوا يا الله، ما أعظمَها مِن كلمة.. إنها اسمُه يا أحبابَنا، إنها اسمُه يا مَن آمنَ به، اسم ربِّ العرشِ العظيم.. الله.
قل يا الله.. قل يا الله.. بقلبِك قُل يا الله، برُوحِك قل يا الله، بسرِّك قل يا الله، بلسانِك قل يا الله، بكلِّيتِك وجمعيَّتك قل يا الله، إنه يسمعُك إنه يراك، إنه محيطٌ بك إنه مطَّلعٌ عليك، إنه أقربُ إليك مِن حبلِ الوريد، أنت سعيدٌ بدعائه قل يا الله.. يا الله.. يا الله.
ندعوكَ لا ندعو سواكَ إلهَنا فانظر إلينا، واعفُ عن إسرافِنا وتقبَّل منا ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )
آمين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
18 جمادى الأول 1442