(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 25 ربيع الثاني 1439هـ، بعنوان: كرامة وعز وشرف إرادة وجه الله الكريم
الحمدُ لله مُكرِمِنا وإياكم بهطّالِ ماطرِ إفضالِه، ومُنصبِّ وسيعِ جودِه ونوالِه، له الحمدُ، وله المنةُ أبداً سرمداً، ونسأله أن يصليَ ويسلِّمَ على عبدِه المصطفى نبيِّ الهدى، السببِ الأقوى في سعادةِ السعداء، وعلى آله وأصحابه ومَن سار على منهجِه فيما خفيَ وما بدا، على طولِ المدى، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين، خيارِ خلقِ اللهِ تبارك وتعالى في العالمين، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، والملائكة المقربين، وجميعِ عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
وإليه تتوجَّهون، ووجهَه الكريمَ تريدون وتقصدون، حقَّقنا اللهُ وإياكم بحقائقِ ذلك مع مَن ينظر إليهم ويجودُ عليهم ويرتضيهم لذلك، فإنَّ أسرارَ إرادتِه هي التي تحكَّمت في توجُّهاتِ قلوبِ بريَّتِه، وإن القلوبَ بين إصبعين مِن أصابعِ الرحمن يقلِّبُها كيف يشاء، ويا مقلِّبَ القلوب والأبصارِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك.
كثُرت أعدادُ القلوبِ الكافرةِ على ظهر الأرضِ والمُلحِدة والجاحدةِ بالرب والمكذِّبة برسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وخصَّ اللهُ مَن خصَّ بالإيمان والإيقان أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم اختلفوا في وجهاتِ قلوبِهم بعد ذلك، فمِن مُدرِكٍ أن هذا أعظمُ الأشياء وأجلُّها وأكبرُها في هذه الحياة وفيما بعدَها، فأقبل يريدُ التحقُّقَ بحقائقِ ذلك والارتقاء في مراقي شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، ويدركُ أنَّ مِن وراءِ ذلك شؤوناً عظمى في القربِ مِن الرحمن ورضا الرحمن والمعرفةِ بالرحمنِ والجودِ الذي ما لَه مِن قيود وما له مِن حدود، فيَهِيم ويُقبِل بالكلية.
وقلوبٌ دون ذلك مِن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله في توجُّهاتِها، وفي تنبُّهاتِها، وفي رغباتِها، وفي إقبالاتِها.. ويا مقلِّبَ القلوبِ والأبصارِ ثبِّت قلوبَنا على دينِك، ويا مصرِّف القلوبِ والأبصارِ صرِّف قلوبَنا على طاعتِك. يا مَن بيدِه أمرُ القلوبِ انظر إلى قلوبِنا.
ساقَتنا عنايتُه لأن نجتمعَ فنتوجهَ إليه، إن قصُر مَن قصُر منا في صدقِ التوجُّه وفي قوة التوجُّه، فبيننا مِن أهل الظاهرِ والباطنِ مَن أتحفهم بقوةِ التوجُّه وكمالِ التوجُّه وأخلصُوا إرادتَهم لوجهِه الكريم، فلا يريدون سِواه ولا يقصدون غيرَه ولا يريدون إلا وجهَه، في خلافةٍ عن مجالسَ كانت عُقدت بما فيها مِن نفائسَ في عهدِ نبيِّكم محمد، وسمعتُم وصيةَ الرحمن المكوِّن مقلِّب القلوبِ لأطهرِ القلوبِ وأصفاها، أن يُجالسَ هؤلاءِ، وأن يركِّز نظرَه عليهم، بل لا يعدوَ عينَه عنهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ولكن السر، ولكن الحكمة، ولكن حقيقة الأمر كامنٌ في معنى ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)
وهل حسبتُم أنهم وصلوا إلى هذا الصفاء بأن أرادوا وجهَه قبل أن يريدَهم هو!؟ فما أرادوا وجهَه إلا لمَّا أرادَهم، وأرادَ أن يريدوُا وجهَه فأرادوه وأرادوا وجهَه، وأصدر الوصيةَ لأوجهِ الوجهاء وأوجهِ وجهٍ توجَّهَ إليه فقال: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) هؤلاء محطُّ رحماتِنا فيكونوا محطَّ نظرك، لأنهم محلُّ نظرِنا، وحاشا رسولَ الله أن ينظرَ إلى مَن لا ينظرُ الله إليه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يتوجهَ إلى مَن لا يتوجه اللهُ تعالى إليه. فقال: (ولَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
أما الصنف الذين تصرَّفنا في قلوبهم فأغفلناها وأبعَدناها فأعرِض عنهم، فقد أعرضنا عنهم (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا) لا يقيمُ للذكرِ وزناً ولا لمجالسِ الذكر، ويسهلُ عليه أن يبعدَ عنها ويُؤثرَ عليها أدنى غفلةٍ وأدنى لعبةٍ وأدنى أكلةٍ وأدنى شربةٍ بدلَ مجلسِ الذكر فبها لا يبالي، ( أغفلنا قلبَه عن ذكرِنا ) فما الذي يحصل؟ يمشي يتخبَّل في الأرض، وإذا كان غافلَ القلب عن ذكرِ هذا الإله وهو متبعٌ لهواه فما يكون أمره؟ فُرطاً، وكان أمره ضائعاً، غفل عن ذكرِ الله واتبعَ هواه، فتحكَّم عليه هواه بما يضرُّه، وبما يغرُّه، وبما يُبعِده، وبما يحجبُه، وبما يعذِّبه، وبما يُشقِيه، وبما يُردِيه، واتبع هواه في كلِّ ما يُردِيه وما يشقِيه وما يُبعِده وما يحجبُه وما يظلمُه والعياذ بالله.. وهو فرحان!!
واحد مِن هؤلاء يسمِّي نفسه مثقفاً، وواحد من هؤلاء يسمي نفسه مفكِّراً، وواحد يسمِّي نفسَه متقدماً، وواحد يسمي نفسَه متطوراً، وواحد يسمي نفسَه المنقذ، وواحد يسمِّي نفسَه العبقري، سَمُّوا إلى أن تشبعوا، أين أنتم مِن ميزانِ الذي خلقَ؟ وهل يدومُ شيء مما قلتم؟ إنَّ لنا إلهاً قولُه الحق، فما أعجبَ وما أسرعَ ما تذهبُ أقوالُكم أدراجَ الرياح، لا أثرَ لها، ودعاويكم كذلك، بل يقول الجبارُ في عظمتِه لهؤلاءِ الذين أُغفِلت قلوبُهم عن ذكرِه وقصدُوا غيرَ وجهه: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) فما بقي مِن عملهم؟ (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ) مَن قد ماتَ مغترّاً كائناً مَن كان مِن الكفارِ والفجارِ والعصاةِ الآن لا يقدرُ على شيءٍ مما كسب، لا يفيده ما جمعَ، ولا ما قال، ولا ما سافر، ولا ما أسس، ولا ما صادَقَ، ولا ما ربط مِن علاقات، ولا ما خلَّف، لا يفيده مِن ذلك شيءٌ، (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وخُذ مثلاً آخر يضربُه الذي قولُه الحق: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) أعمالهم: الحضارات والصناعات، والجيوش التي أعدوها، والتسابق على القنابل والمدمِّرات ( أعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) هذه حقيقتُها، والله هذه حقيقتُها، والله العظيم هذه حقيقتُها (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) وما الذي يجدُ الخلق؟ وإن هرب عبدُه فأين يهرب؟ وأين يذهب؟ (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) فكلهم يرجعون إلى الله (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ) لأنه لا ملجأ آخر يذهبون إليه، إلى فين بيرجعون؟ بعضهم إلى بعض؟ سراب مع سراب، عدم مع عدم، ما يتأتى.. بل يرجعون إلى الخالق، يرجعون إلى القادر، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم* وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ) يرجعون كلهم إلى هناك ( إنَّه لا يفلحُ الكافرون ).
فإذا هداك اللهُ وأدركتَ هذا الخيرَ، ووفَّقكَ له.. احمُده واشكُره واطلُب منه الثبات، ( وقل ربِّ اغفِر وارحَم وأنت خيرُ الراحمين )، ونقول نحن وراءَ حبيبِنا محمدٍ بأمرِ الإلهِ الواحدِ الأحد الذي أمره أن يقول (رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ونحن خلفَ نبيِّك نقولُ ما يقول وما أمرتَه بقوله ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) لأنفسكم أيها الحاضرون وأيها السامعون قولوا له ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) لأهليكم ومن في بيوتكم قولوا له ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) ولجيرانكم وأصحابكم قولوا له ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) لحياتِكم كلِّها وماضيكم وحاضركم والآتي قولوا له ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) ولساعةِ وفاةِ كل واحد من الحاضرين والسامعين نقول له ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) ولساعة وضع كل منا في قبره نقول لربنا لأجل تلك الساعة ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) ولساعة الوقوف بين يديه، وساعة العرض عليه، إذا نُودي باسم كل واحد منا، ليقُم فلان بن فلان للعرضِ على الله، يا فلان بن فلان، اسمك ينادَى به، ليقم فلان بن فلان أنت أنت بنفسك، ينادي المنادي عليك في محكمةِ القيامة الكبرى حين القلوب تراها ملآى بأرجافها وأخوافها إلا مَن رحم الله ليقُم فلان بن فلان للعرض على الله، سينادَى باسمك والله، لتقفَ بين يديه، فلتلك الساعة نقول له مِن الآن ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) يا الله لمن يعيش معكم من المؤمنين والمؤمنات في زمانكم في جميع الجهات ( رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين )
وفقتَنا لدعائك فلك الحمد، شبَّهتنا بالأصفياء الذين قلتَ لنبيك: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) وحَمِدَك على ذلك لمَّا رأى هذه النماذجَ في أمتِه جلس وقال: الحمد لله الذي أراني في أمتي مَن أمرني أن أصبِر نفسي معهم، ربنا سررتَ قلبَه بأولئك النفرِ في مسجدِه مِن قبل ألف وأربعمائة وثلاثين سنة، ربِّ والليلةَ سُرَّ قلبَه، أفرِحه، أفرِح روحَه في برزخه، واجعلنا ممن يشكر على وجودِهم في أمتِه ويفرح بهم في أمتِه كما فرح بذلك الرعيلِ وبذلك الجيل يا كريم يا جليل يا كفيل يا مُنعِم يا متفضِّل يا الله، أريتَه في حياته وأرِه بعد هذه القرون يا رب، وأعرِض عليه بعد هذه القرون مِن أمتِه مَن يفرح بهم كما فرِح بأولئك، يا ربَّنا ويا ربهم ويا خالقَنا ويا خالقهم، ما أنعمَ عليهم غيرُك ولا تفضَّلَ عليهم سواك، ولا أتحفَهم أحدٌ دونك، كل الذي معهم مِن خزينتِك جاء، ومن عندك جاء، ومن حضرتِك جاء، فنسألك بما أكرمتَهم أن تُكرِمَنا وأن تنظرَ إلينا يا ربَّنا..
إذا عُرضتَ أمةَ نبيِّك عليه وأعمالَهم، فأكرِم عرضَ مجلسِنا ومَن فيه ومَن يسمعنا يا الله، وأحسِن عرضَنا عليه، وسُرَّ روحَه وأفرِح قلبَه، يا حيُّ يا قيومُ، وأنت الذي أرسلتَ إليه جبريلَ: قل لمحمدٍ إنا سنُرضيكَ في أمتك ولن نسوؤَكَ فيهم، فاجعل هذا من إرضائك فينا إرضائك له في أمته يا الله يا الله يا الله.
والصفة الكريمة التي وصفتهم بها: ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) نضعُ قلوبَنا بين يديك يا عالم بما فيها ظاهرها وخافيها، أنت أعلمُ بقلبِ كلِّ واحدٍ مِن الحاضرين والسامعين منه بقلبه، أنت أعلمُ بقلوبنا منَّا يا الله، كل ما كان منحرفاً عن إرادةِ وجهك فاصرِفه واقطَعه وانزَعه وأخرِجه مِن جذورِه مِن قلوبنا، حتى لا تبقى إلا إرادةُ وجهِك الكريم يا الله.
وما أسعدكَ إن قبِلك الليلةَ وصفَّى قلبَك فبِتَّ تريدُ وجهَه، وإنما يكون ذلك إذا سبقَ لك مِن الفضلِ الإلهي أنه يريدُك، فيفعلُ بقلبِك ذلك فتبيتُ ممَّن يريد وجهَه، وحينئذٍ استعرض ما في القلوبِ على ظهر الأرض، هذا يريد الرئاسة، وهذا يريد السمعة، وهذا يريد المال وهذا يريد الوظيفة وهذا يريد البيت وهذا يريد الثياب وهذا يريد الزينة وهذا يريد المظاهر.. وأنت تريد وجهَه، فهل مِن فرقٍ؟ كيف يا هذا، ولا ما بين السماء والأرض يمثِّل هذا الفرق، هل قَصدُ غيرِه كقصده!؟لا والله، لا هو كغيره ولا غيره كهو، وليس كمثله شيء، فيا فوز مَن بات على وجه الأرض في ليلتنا هذه من الإنس والجن وقلبُه يريد وجهَ ربه، ما أسعدهم.. فأسعِدنا يا ربنا أجمعين، أسعِدنا وأسعد أهالينا، وأسعد قراباتنا وأهلينا وأحبابَنا وأسعِد طلابنا، واجعلنا ممن يريد وجهك يا الله، حتى تنتشرَ أسرارُ إرادةِ وجهِك في كلِّ ما نعبدُك وكلما نذكرُك وكلما نقومُ وكلما نقعد وكلما نلبس وكلما نجالس وكلما نكلم وكلما نخاطب، حتى في معاشراتنا لأهلنا، ومرورنا على أصحابنا، وقيامنا بأعمالنا، اجعل صدقَ إرادةِ وجهِك محتويةً كلَّ ذلك، يا الله .. ندرك أنَّ هذا المطلوبَ عظيم وكبير، ولكن نوقنُ أنك أكبرُ وأعظمُ، وأنَّ خزائنَك أكبرُ وأعظم، وأنَّ جودَك أكبر وأعظم، ولولا ما علَّمتنا مِن ذلك ما قدرنا أن نسألَك، مَن نحن حتى نطلب هذا الطلب؟ هذه مراتب مقرَّبين، ومراتب فائزين، مَن نحن حتى نطلبَها؟
يا ربنا يا ربنا يا ربنا لولا ما تعرفتَ إلينا مِن عظمةِ كرمِك على عظمةِ ذنوبِنا، وعظمةِ عفوِك على عظمةِ سيئاتنا، وعظمةِ جودِك على عظمة أكسابنا وعلى عيوبِنا وما كان منا.. ما قدرنا أن نسألك، ومع ذلك أذنتَ لنا أن نسألك وأمرتَنا أن نسألك، والإذنُ منك والأمرُ منك أن نقوم بهذا جاءنا على يد أكرمِ خلقك وأفضلِ بريتك.. فما أعجبك مِن إله، ما أكرمَك مِن إله، ما أحسنَك مِن رب، ما أفضلَك مِن مُنعِم، من متطوِّل، مِن جواد كريم، سبقَت رحمتُك كلَّ ما كان منا.
فيا من هو الوجود الحق ارحم مَن أصلُهم عدم فأوجدتَهم بقدرتِك يا موجد الوجود، يا برُّ يا ودود يا الله، كما أخرجتَنا مِن العدم وجعلتَنا في خيرِ الأمم فضاعِفْ لنا الفضلَ والكرمَ، واجعلنا ممن وجهَك قصدَ وأراَد وأمَّ.. يا الله، ونشكو إليك أنواعاً من إراداتِ السِّوى في قلوبِنا وقلوبِ كثيرٍ من أصحابنا، نشكو إليك ونطرحُها بين يديك ونستكرمُك، ونسترحمُك، ونستعطفُك، ونلحُّ عليك، ونسألُك، يا ربي أين نذهب بقلوبِنا وقلوبِهم؟ ما نصنع بقلوبِنا وقلوبِهم؟ يا ربي مَن يُصلحُها؟ مَن ينوِّرُها؟ مَن يطهِّرُها؟ مَن ينزعُ منها إرادةَ السِّوى؟ وعزتِك ليس غيرك، فها نحن بين يديك، طرحنا أحمالَنا، ووقفنا بركائب آمالنا، وكل رجوانا فإن رجا راجٍ غيرَك فقد رجوناك..
لبستُ ثوبَ الرجا والناسُ قد رقدوا **وبتُّ أشكو إلى مولايَ ما أجدُ
وقلت يا أملي في كل نائبة ** ومن عليه لكشفِ الضرِّ أعتمدُ
أشكو إليك أموراً أنت تعلمُها ** مالي على حملِها صبرٌ ولا جَلدُ
وقد مددتُ يديَّ بالذل مبتهلاً ** مفتقراً إليك يا خيرَ من مُدَّت إليه يدُ
فلا تردنَّها يا رب خائبةً ** فبحرُ جودِك يروي كلَّ مَن يرِدُ
الحمد لله على ما جمعَكم وألهمَكم ووجَّهكم إليه، ونسأله تمامَ النعمة، ودفعَ النقمة، والنظرَ إلى الأمة، يا كاشف الغمة يا جالي الظلمة.
أيها الأحباب: وبقلوبٍ هذا وصفُها، وتصدق وجهتُها إلى ربِّها ستنجلي ظلماتُ البلايا المختلفة في المشارق والمغارب، وبقلوبٍ هذا وصفُها يأذنُ الله بدفعِ الشرِّ وأهلِ الشر يا ربي أتمِم علينا النعمة، وعامِلنا بمحض الكرم والرحمة يا الله
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ ** فالمذنب العاصي إلى من يرجعُ؟
حاشا لجودِك أن تقنِّط عاصياً ** الفضل أجزل والمواهب أوسعُ
ومَن الذي أدعو وأهتفُ باسمه ** إن كان فضلُك عن فقيرك يُمنع
مالي سوى قرعِي لبابك حيلةٌ ** فلئن رُددتُ فأيَّ باب أقرعُ
يا مَن يرى ما في الضمير ويسمع ** أنت المُعدُّ لكل ما يُتوقَّع
أنت المُرجَّى للشدائدِ كلِّها ** يا مَن إليه المُشتكَى والمفزعُ
ألستَ الذي أوحيتَ على أطهرِ قلوبِ خلقك قولَك: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) بلى نشهدُ أنك أوحيتَ، فأشهِدنا سرَّ هذا الوحي، وبركةَ هذا الوحي، بجاه الذي أوحيتَ إليه وبلَّغنا عنك ( فإني قريب ) أنت قلتَ ( فإني قريب )، أنعمت علينا فقلتَ ( فإني قريب ) ثم وعدتَ يا صادقَ الوعد يا مَن لا يخلف الميعاد فقلتَ: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) لك الحمد ، ثم أمرتَنا، فارزُقنا امتثالَ أمرك، ووجَّهتَ إلينا فارزقنا العملَ بتوجيهك، قلت: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فاجعل لنا صدقَ الاستجابةِ في عيونِنا فلا تعصيك، وفي آذانِنا فلا تعصيك، وفي ألسنتِنا فلا تعصيك، وفي أيدينا فلا تعصيك، وفي بطونِنا فلا تعصيك، وفي فروجِنا فلا تعصيك، وفي أرجلِنا فلا تعصيك، يا الله، وفي أجسادنِا كلِّها فلا تعصيك، وفي قلوبِنا فلا تعصيك، بل تستجيبُ لك يا الله ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أمرُكَ لنا بالإيمان بك أن لا نقدِّم عليك شيئاً، وأن لا نشهدَ شيئاً وننساك، لا نذكر شيئاً وننساك، ولا نرى شيئاً ونغفل عنك، (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) رجوتَ الرشادَ لمن استجابَ وآمن، اللهم ارزقنا الاستجابةَ والإيمانَ، وهب لنا منك الرشدَ في كل آن وفي كلِّ شان يا كريم يا منان، يا الله يا الله يا الله، توجهوا جميعاً إليه متذلِّلين بين يديه وقولوا:
الله الله يا الله لنا بالقبول.
25 ربيع الثاني 1439