(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 4 ربيع الثاني 1439هـ بعنوان: عظمة الرسالة وسر الهداية والدلالة.
الحمد لله ربِّ الخير، مُعطي الخير، وهَّاب الخير، سائق الخير إلى مَن شاءَ من عباده، مرسِل إلينا نبيّ الخير الداعي إلى الخير، من جُمِعَت فيه الخيرات، فكان محَطَّها مِن حضرة الرَّحموت ومِن حضرة الرحمن الجليل سبحانه وتعالى.
وقال له مخاطِباً مبينا لكلِّ عاقل يعرفُ سرَّ الخطاب ومنزلةَ سيدِ الأحباب مِن ربِّ الأرباب: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) فصارَ في أسرارِ(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) قِيَم المجامعِ هذه، وما تفرَّعت منه وما يتفرعُ عنها تحتَ أسرار: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هو الذي أرسله.. ربُّ العرش، رب الأرض والسماء، رب كل شيء ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
فرأينا مِن آثار هذه الرسالة امتدادَ هذا النورِ، وهدايةَ قلب ذكّركَّم بفضل الله تبارك وتعالى الممنوح الموهوب المُغَطَّى بما يَكْتَنِفُنا من عيوب، ويحوم حولَنا من شُوب، شُوب الإلف، شُوب الإعراض، شُوب العادة، شُوب التولِّي، شُوب التلفُّت يمنةً ويسرة، شُوب عدم صدقِ الاقبال، شُوب عدم معرفة القدر لذي القدر والفضل لذي الفضل ( واللهُ ذُو الفضلِ العظيم ) جل جلاله
هذه الشوائب وهذه العيوب تمنعُنا عن إدراكِ حقائقِ الفضل من المتفضل، فَتَقْصُر لنا معرفة المتفضل جل جلاله ومعرفة الوهاب جل جلاله.
وشأن المحبة التي حدثكم عنها بسائق من فضل الله يسوق هذا القلب حتى وصل إلى المأمن، وإلى الحصن وإلى المنبع وإلى المصدر. ما وصل إلى مجرد بلد ولا إلى مجرد جدران؛ وصول الأجسام إلى هذه الأماكن وصل إلى محمد، وصل إلى ربِّ محمد؛ فما مهمة محمد إلا أن يوصلَ إلى ربه، ما مهمة محمد إلا يقرِّب إلى ربه، ما مهمة محمد إلا أن يربِط الخلق بخالقهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ ولذلك أُرْسِل، ولذلك نبِّىء، ولذلك بُعث، ولذلك جاءنا هادياً وبشيراً ونذيراً (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا)
نوِّرنا اللهم بأنوارِ هذا السِّراج، وفِّر حظَّنا من أنوار هذا السراج يا الله.
(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) تعلَّقَ بِحبِّ سيدنا عيسى بن مريم المسيح عليه السلام. وكلُّنا نحبه، لكن نحبه على ميزان صحيح، ولكن نحبه على نظر قويم، ولكن نحبه على صراط مستقيم، نحبه وننزله منزلتَهُ التي أنزله الله فيها؛ وهذا الذي تقبله الفطرة.
فلما رأى ما وصل من التحريف والتبديل والتغيير لدعوة سيدنا عيسى، وإنجيل سدينا عيسى وبشارة سيدنا عيسى..!
سيدنا عيسى في صلب رسالته التبشير بمحمد ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
فلما كَبُرْ سِنُّه ما رأى في الكنيسة حقيقةَ ما عند عيسى، ولا ما بلَّغه عيسى.. هكذا ثالث ثلاثة وابن وروح القدس! وفلسفات لا العقل يقبلها، لا الروح يقبلها لا القلب يقبلها !
وأين الحقيقة يا رب؟ {يا عبادي كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم}
استجابه الذي يُجيب المضطرَّ إذا دعاه، وسِيِقَ إلى هذا الإسلام لمَّا سأل ربَّ الأنام وتوجه إلى الخالِق العلَّام، فقذفَ في قلبه نورَ الإسلام.
حتى من أثر البيئة والمكان الذي نشأ فيه والدعايات والكلام على الإسلام وعلى رسول الإسلام نفر عقلُه ونفرت نفسُه، فكانت النفسُ نافرة، ولكن القلب يهديه مُقَلِّبُه (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) جل جلاله؛ حتى أذعنَ العقلُ والنفسُ لنور الله الذي حلَّ في القلب وقَبِلَ الإسلام..
وجاءت الحيرة الأخرى؛ مِن تحريف المحرِّفين، مِن انتحال المبطلين، مِن تأويل الجاهلين في أمة الأمين صلى الله عليه وسلم..
وأين أذهب بنفسي؟ فهداه الذي هداه في أول مرة. هو الذي هداك للإسلام فادعه ليهديك إلى الطريقة ليهديك للمنهج الصحيح في دين الله، والمعرفة النورانية وحقيقة الموروث في وحي الله وخطابِه لرسولِه وبلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
فدعا ربه.. فوجد امتداداً لأنوار الرسالة التي امتدت مِن مكة المكرمة إلى المدينة ووصلت إلى مثل ذي الأماكن، واستقرَّ مِن سرِّها ونورِها الحظ الوافر الكبير. تَنَقَّلَ في قلوب مقربين وعارفين وهُدَاة مهتدين، وامتدَّ منه الخير... إلى ما ذكَر لكم. كان عندكم في الأسبوع الماضي الشيخ حمد بن عيسى –أعانه الله وأخذ بيده وزاده من الفضل والارتباط والثبات على سواء الصراط-. وكان لقاؤه بنا في تلك البلدة وجئنا إلى محله وإلى مكانه الذي كان يقيمه، وفتح الحق له سبحانه وتعالى أبوابه وأعطاه سبحانه وتعالى من فضله؛ فوجد أثرا من آثار الرسالة والرسول، فأخذَ قلبه؛ عرف القلب أن هذا هو عين الهداية، وأن هذا هو عين الصواب والأمر الموروث من سيد الأحباب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وساقته العناية حتى وصل إلى هذه الرحاب.
ويا فتَّاح افتح لنا بابك، واجعلنا من جملة أحبابك.
أيُسَاق هذا من هنا وهذا من هناك ثم تُحرم قلوب قريبة المسافة، قريبة من حيثُ الحس!
ويا رب لا تحرمنا خيرَ ما عندك لشرِّ ما عندنا.
قال سيدنا الشافعي في مطالعتِه لأسرار الإرادة والتقريب والإبعاد والاشقاء والإسعاد، يقول:
فَمَا شِئْتَ كَان وَإِنْ لَمْ أَشَاء وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأ لَمْ يَكُنْ
خلقتَ العبادَ عَلَى مَا أَرَدْتَ فَفِي العلم يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
والأمر أمر الله
رَبِّي إنَّ الْهُدَى هُدَاك وآياتك نورٌ تَهْدَي بِهَا مَنْ تَشَاء
ونسألك بالجمع ومَن فيه أن تنظر إلى والديه وتهديهم إلى الإسلام قبل أن يخرجوا من هذه الدنيا، لا تُعرضهم للنار. أَسَهْلُ أن يَتعرض آدمي لنار موقدة تطِّلِع على الأفئدة؟!
اللهم أنقذهم اللهم اهدهم، وانشر الإسلام في تلك الربوع والأقطار، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
وأطل لمن تطيلُ لنا منه العمر يا ربي حتى يرى بالعين وصولَ دين نبيك في كل بيت من بيوت الأرض شرقِها وغربِها { ..حتى لا يبقى بيت شجرٍ ولا مدرٍ ولا وبرٍ إلا دخلَهُ ديني هذا بذل ذليل أو عز عزيز}
أعزَّنا اللهم بك وبرسولك وبدينه وبما جاء به عنك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
وأنتم في آثارِ هذه الرسالةِ وامتدادِ حبالِها وخيراتِها الواسعةِ على الأمة، هيئاتُها ومؤسساتها.. أبى اللهُ أن تتبعَ شيئاً من المؤسسات التي مرجِعُها إلى مخلوقٍ وعلى ظهر الأرض منقطع عن ربِّه، أبى الله أن تَكون مرجعية ولا صلة بشيء من القواطع والمقطوعين عن وحي الله وعن وحي رسولِه من كلِّ قُوى الظاهر، من كلِّ قُوَى المادة على ظهر الكون.
كما عاشَ قلبُ آسيا بنتُ مُزَاحِم وسطَ قصرِ فرعون فلم يُصِبْهَا من ظلمة الكفرِ ولا دعواه ولا جنده ولا خيرِه ولا رجله ولا ذرة في قلبها.
وقال سبحانه وتعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) ضرب بها المثلَ في المتصلين به، والمؤمنين به، وهي في أي مكان؟ وعايشة في أي قصر؟ وتحت سلطة هذاك الذي يقول (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ثم تَرفَّع وقال (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)! أولاً قال (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ثم بعد أربعين سنة قال (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)! .. إلى غير ذلك من الطغيان.
ولكنَّ هذا القلبَ مَحْمِي، ما كان هذا القلب عائشاً تحتَ دولة فرعون، كان الجسدُ موجوداً بين الأجساد، لكن هذا القلب الذي لا يعيشُ إلا تحتَ دولةِ الرحمن ورُسُلِه وأنبيائه وصالحي عباده.. تأثَّر حتى أشرقَ نورُ القلب في الجسد، فظاهرُ الجسدِ في قصرِ فرعون، وحقيقةُ الجسد محرَّرٌ مِن فرعون وقصرِه، ومِن حبسِه وأسرِه، ومِن منهجِه وفكرِه، ومِن جيشِه وجندِه، ومِن قوَّتِه وما عندَه.
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) ما وجهُ هذه الصلةِ العظمى بك وهي في هذا الموطن؟ (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) عليها رضوان الله تبارك وتعالى.
فاستحقَّت أن تُكْرَم وأن تُجَل، وأن تُدخل الجنة وتُرْفع إلى أعلى الدرجات، وأن لا يكون زوجُها في الجنة إلا خيرُ البريات، صلى الله عليه وسلم.
ثبتَت وصدقَت، حتى انتهى بها الأمرُ إلى أن يطّلع على سرِّها ويهدِّدها ويقتلها وهي لا تُبالي. كما قد قتلَ الماشطةَ التي كانت تُمَشِّط بناتُه، وأولادَها الصغار ، وهي مؤمنة سرى الإيمانُ في قلبها، وكون مهنتِها أن تمشِّط بناتِ فرعون ما ضرّ قلبَها ولا كدر عليه..
يُكدِّر على الناسِ التفاتاتُ القلوب، حتى وهو ظاهره في المسجد ولا في الحرم وقلبه ملتفتٌ إلى ذاك وذاك يتضرر. أمَّا مَن صدقَ مع عالمِ السر والنجوى ما يَضره شيء مِن هذه المظاهر ولا مِن هذه الصور.
تجيء إلى قصر فرعون تُمَشِّط رؤوسَ بناته وشعورَهن. سقطَ يومٌ المشطَ من يدِها فقالت: " بسم الله". قالت لها: من اسمه ذا؟!. قالت: الله ربي. قالت: ألك ربٌّ غير أبي؟!. قالت: ربي وربُّ أبيك وربُّ السماوات والأرض، الله الذي خلقَنا. قالت: أُخْبِر أبي عنك؟ قالت: أخبريه.
أخبرته ودعاها: أتتخذين ربّاً غيري؟!. قالت: ربي وربك الله. مؤمنة، وبقلبها المؤمن تحدَّت دولةَ الكفر والطغيان الكبير.
هددها ترجعين وإلا أقتلك. قالت أبدا.. فأمرَ بالزيت وسط طست كبير يُحَمَّى وقال ضعوها فيه، ووضعوا ولدها الأول وولدها الثاني والثالث رضيع .. فأدركتها الشفقة على الرضيع فتقاعست، فإذا بالرضيع يترك الثديَ ويقول: يا أماه اثبتي، فإنك على الحق، يا أماه أثبتي فإنك على الحق.
ووضعوها في الزيت وسَعِدَت وشقيَ فرعون، وجنودُ فرعون وقُوَى فرعون ومملكة فرعون وسلطان فرعون، شَقُوا إلى الأبد (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
وفي ليلةِ الإسراء والمعراج شمَّ رسولُ الله رائحةً طيبةً زكيةً حسنةً، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: رائحة ماشطة بنات فرعون.
هذه التي ضَحَّت وصدَقت وتحدَّت دولةَ الكفر كلَّها وثبتَت وفَدَت بروحها؛ هذه رائحتُها الطيبةُ في جنة الله سبحانه وتعالى، وأولادها هؤلاء الصغار معها في الجنة. وهنيئا لها، من ذاك اليوم وهي في النعيم.
ويا ويل فرعون (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ۖ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ ..) بكل ما عندهم من قوى وتخطيط (غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ*إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ) مَن آمن ومَن كفر، مَن صدق ومَن كذب، مَن أقبل وخضع وخشع ومَن ترفَّع وتكبر (مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)
اللهم أسعِدنا، لا تجعل في مجمعِنا ولا في من يسمعُنا إلا سعيدا، تظهر سعادتُه في الحياة وعند الوفاة وفي البرزخ وفي ذلك اليوم يا الله. ولا تجعل في ديارنا ولا في أهالينا ولا في أقاربنا ولا في طُلَّابنا إلا سعيدا، لا تجعل فيهم شقيا يا الله.
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)
يا فعَّال لما تريد اجعلنا في خيارِ العبيد، وأهل حقيقةِ التوحيد، والواردين على الحوض المورود، والداخلين إلى جنات الخلود (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).
والذي يحصل في الحياة مِن مختلف الأفكار مِن مختلف الاتجاهات، مِن مختلف الهيئات والمؤسسات والهيئات والشعوب والدول.. كلُّ الذي يحصل (مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ ۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ)
كُلًّا سيلاقي جزاءه .. وهذه النتائج الحتميةُ سائرةٌ على القوم، لا فرعون وحده، ولا النمرود وحده، ولا عاد وحدهم، ولا ثمود وحدهم ولا قوم نوح وحدهم؛ بل هي سائرةٌ على كلِّ مَن رفع رأسَه بغيرِ حق، يتكبَّر على الحق.
ستكون النتائج هكذا، ولن يفوزَ إلا مَن لشهادة الحقِّ يحوز، ويَتِّبِع المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويُطيعه ويهتدي بهديه. فلنا الشرفُ بطاعةِ هذا المصطفى. اللهم ارزقنا حقيقةَ طاعتِه، وحقيقةَ محبتِك ومحبتِه يا حي يا قيوم.
لمَّا ابتدأ يُدرك ذرةً من المحبة حين وصل، قال: عرفتُ أني لا أحب. الآن بدأ يُحب، لما بدأ يُحِب وخامر المحبة، داخلَ بشاشتُها باطن القلب، قال عرفت أني ما أحب ما كنت أحب ولا أعرف المحبة!
وهكذا العلوم اللدنية خاصة علوم الحقيقة الربانية؛ إذا ظنّ أنه قد عَلِم فقد جَهِل. وإذا عَلِم اعترف بعجزه، واعترف بضعفِه، واعترف بأنه ما كان شيء ولا عنده شيء؛ فأخذ يتطلب ويزيدهُ الرَّب جل جلاله، ويهب فيمن يَهَب سبحانه وتعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
وبهذا كان بعض الشيوخ يُعلّم بعضهم الدعوة إلى الله تعالى ويُذَكِّرُه بواجباتها ومقاصدها وأساليبها. فأخذ مُدَّة ورجع وقال له: أنا قد عرفت الآن الدعوة، ائذن لي لأرجع وأقوم بالدعوة. بكى الشيخ!. قال: مَالَك تبكي؟!. قال: اجلس مدة أكثر تعلَّم في الدعوة. قال: مرحبا. فقضَّى مدة، ثم رجع إلى عند الشيخ وإذا بُه يبكي!. قال: مالك؟. قال: ما عرفتُ مِن الدعوة شيئا! الدعوة أكبر مني ومن عقلي.. فتبسَّم الشيخ، وقال الحمد لله ، اذهب الآن إلى بلادك وأقِم الدعوة. الآن بدأت تعرف الدعوة وتعرف القيام بها.
وكلُّ شؤونِ الشريعة في رِفْعَتِها بهذا الحال؛ كبيرة أكبر مني ومنك ومن أهل الأرض كلِّهم. جاءت مِن عندِ الأكبر، جاءت مِن عند خالقِ كلِّ شيء، جاءت مِن عند ربِّ العرش، جاءت مِن عندِ مُنشئِنا مِن الذراتِ ثم مِن الطين ثم مِن الحمأ المسنون ثم مِن النُّطفِ والعلقِ والمُضَغ، جاءت مِن عنده هذه الدعوة، جاءتنا مِن عند جبارِ السماوات والأرض؛ فكيف يحيطُ بها عقلُ إنسان أو يُحيط بها ذاك أو ذاك؟! ولكنها مواهب ومراتب يُعطي الله منها ما يشاء ( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ).
أمَّا عِلْمُه كلُّه لا أحد يُحيط به، أما غيبُه فلا أحدَ يحيطُ به. ولكن على مراتب (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)
فَقٌلْ لِمَنْ يدَّعِي بالعلمِ مَعْرِفَةً ***عَرَفْتَ شَيْئَاً وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ
ربَّنا (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
فانظر إلى أهلِ المجمعِ يا رب، وإلى من يسمع يا رب، وفِّر حظَّهم مِن المحبة، وفِّر حظَّهم مِن الإيمان، وفِّر حظَّنا وإياهم مِن العلمِ النافع، ومِن القربِ منك، ومن رِضَاك يا الله.
يا الله ما حال الذين يبيتون الليلةَ على ظهر الأرض وهم لك محبوبون؟
ما أطيبَهم.. هم الخِيَار، هم الكبار. وإن كان فيهم مَن لا يذكرهم الناس ولا الجرائد ولا الصحف ولا في النت، ولكن هم الكبار والله، هم العظماء والله.
الذين يبيتون هذه الليلة وهم محبوبون عند ربِّ الأرض والسماء، كلٌّ منهم هو الأرفع والأسمى. فعسى أن تبيتَ وأنت منهم.
يا ربِّ ألحقنا بهم.. يا الله.
أتعسُ الناس مَن يبيتُ ليلتَنا هذه وربُّ العرشِ غضبان عليه، وإن سَمُّوه ما سَمُّوه، وإن قالوا عنه ما قالوا، يبيتُ والجبار غضبان عليه.. أتعسُ الخلق أبأسُ الخلقِ على ظهر الأرض.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، يا الله رضا يا الله رضا والعفو عما قد مضى.
إلهنا نبيتُ الليلة ونحن ومَن في بيوتِنا مَرْضِيٌّ عنهم مِن قِبَلِك، محبوبينَ لك ولرسولك يا الله، مقذوفة في قلوبهم أنوار محبتك ومحبة رسولِك؛ حتى تكون ورسولُك أحبَّ إلينا مِن كل ما سواكما يا الله.
قُلْهَا بِرَغَب وصدقِ طلب، ورجوعٍ إلى الرب، ورغبةً فيما لديه، وتذلُّلٍ بين يديه؛ ليُكرمَك بهذه العطية السنية البهيَّة الرضية، وتعيشُ بها العيشة الهنيَّة في الدنيا والبرزخ والآخرة، حيث يَحشرك مع أهلِ الوجوهِ الناضرةِ التي هي إليه ناظرة.
يا الله .. يا الله
يا الله حَرِّك في هذه القلوب صدقَ المودةِ لك ولحبيبِك المحبوب؛ حتى إذا عُرِضَ الجمعُ عليه نالَ مِن باطنه ما نالَه الأطفالُ والبناتُ من الأنصار يوم نَظَرَ إليهم يومَ قدومِه إلى المدينة وقال: أتحببنني؟ قلن: نعم يا رسول الله، والله إنا لنحبك. فقال لهن: الله يعلمُ أن قلبي يحبكُن.
إلهنا.. أطفالَ الأنصارِ نالوا هذه المنزلةَ بما أحدثُوا من طربٍ بحبيبك محمد، فاجعل في هذه القلوب مِن المحبة والطربِ وإرادةِ النصرةِ الصادقةِ لهذا النبي؛ بجميع أقوالِنا وأفعالِنا، وفي ديارِنا ومنازِلنا، ولباساتِنا وأهلنا وأولادنا، اجعل لنا مِن الصدق في كل ذلك ما تُحِبُّ وما يُحِبُّ هذا النبي، ونبيتُ محبوبين لك ومحبوبين له، اللهم في لُطْفٍ وعافية.
يا الله نستفتح بابَك ونطرق بابَك ونقف بأعتابك، ونتذلل إليك، ونتضرع بين يديك، ونطلبك ونرجوك، ونسألُك وندعوك، ونتوجَّه إليك، ونلحُّ عليك، يا الله اجعلنا مِن محبوبيك ومحبوبيه في عافية.
يا الله شَرِّفنا بحسنِ متابعته، شَرِّف عيونَنا بالنظر إلى طلعتِه، واجمعنا جميعاً في زمرتِه. بجاهِه عليك، بمنزلتِه لديك، بمحبتِك له بمحبتِه له، بما بينك وبينه أجِب دعاءَنا، وحقِّق رجاءنا؛ أن نبيتَ ونحن في محبتِك ومحبتِه في لُطْفٍ وعافية آمين يا الله.
حاشاك أن تُهْمِلَنا حاشاك أن تُخلنا فمنك كل مِنَّةٍ وكل نعمةٍ بنا
يا الله يا الله يا الله .. يا ربنا يا ربنا يا ربُّ يا أهل الثنا.. يا إلهنا فإن وكلتنا فمن لنا؟
أَذِق الكلَّ منا بردَ رضاك ** عنه لكي يدومَ له الهنا
وأحيِه لك مسلما ** وتوفَّه بك مؤمنا
واجعله يوم نشورِه ** من كلِّ خوفٍ آمنا
فَلَكَ الْقِدَم ولَنَا الْحُدُوث ** ولَكَ الْبَقَاء ولنا الْفَنَاء
يا ما أكرمك مِن رب .. يا ما أرحمَك مِن إله، تقبل مثلَنا يطرقُوا أبوابَ رحمتِك وتُحضِر لهم ملائكتَك وتفتح لهم الأبواب! ما أكرمك! ما أكرمك! ما أكرمك! ما أرحمك!
نِعْمَ الرَّبُّ أنت، نِعْمَ الإلهُ أنت، نِعْمَ الْمَوْلَى أنت، نِعْمَ الخالق أنت، نِعْمَ القدير أنت، نِعْمَ السميع البصير أنت، نِعْمَ المُقدِّم الْمُؤخِّر أنت، نِعْمَ الْمنَّان أنت، نِعْمَ الوهَّاب أنت .. يا الله
وهل يُرَى في كرمِك وإحسانِك أن تجمعَنا هنا ثم تُفرِّقنا هناك؟ لا نظنُّ ذلك بك يا رب لا نظن ذلك بك يا رب..
فَيَا رَبِّ وَاْجْمَعْنَا وَأَحْبَابَاً لَنَا *** فِي دَارِكَ الْفِرْدَوْسِ أَطْيَبِ مَوْضِعِ
فَضــلاً وَإِحْسَانَـــاً وَمَنَّا مِنْـكَ *** يَـا ذَا الْجُوُدِ والفضلِ الأتمِّ الأوسعِ
يا الله .. يا ما أحلاها. خاطِبه بها، وادعه بها، وقل: يـــا الله. نِعْمَ الإله ربي وربك ورب كل شيء، وما لنا غيره وما لنا سواه .. يا الله
وهل قدرتُ أنا أو قدرتَ أنت، بقلبٍ أو لسانٍ أن نقول يا الله إلا به؟ إلا مِنْهُ وإلا بفضلِه!
فله الحمد .. ألا له الحمد.. ألا له الحمد ألا له الحمد بما هو أهله، بما حمد به نفسَه، بما حمده نبيُّه، بما حمدَه الملائكة، بما حَمِده المقرَّبون والصديقُون والأنبياء والمرسلون.
اللهم لك الحمد شكرا ولك المن فضلا، فأتمِم على كلِّ واحدٍ منا النعمة، مَن حضر ومَن يسمع ومَن والانا فيك يا الله.
وحبالُ الدلالة عليك مِن أنوار الرسالة كَثِّرْهَا في الأرض في شرقها والغرب، وأرِنا آثارَها وظهورِ خيراتِها يا الله.
كما اجتهد عدوُّك إبليسُ ومعه مَن أطاعه مِن شياطين الإنس والجن ليصدُّوا عبادَك ويردُّوهم عن دينِك؛ فنسألك بمحمدٍ أن تُقْبِلَ بالقلوبِ عليك فيدخل عبادك في دينك أفواجا يا الله.
وكروب بلاد المسلمين ارفعها يا رب وادفعها يا رب، وحوِّل الحالَ إلى أحسنِه يا رب.
أريتَنا من عجائبِ لطفِك فأرِنا أضعافَ ما أريتَنا، وزِدنا مِن فضلِك ما أنت أهلُه، وسُرَّ قلوبَ الصالحين بما تُحْدِثُه في المسلمين يا الله.
ونِعْمَ الإله إلهكم، وما أكرمَه، أوقَفنا وإياكم على بابِه. لو نظر لواحد مِن ذنوبي ما أعطاني هذا المحل، ولا أعطاني هذا الموقف، ولا أعطاني هذا الكلام، ولا أقدرني أدخل هذا المكان!
لو كان نظر مِن غير عينِ الصفح والعفو والرحمة إلى واحد مِن ذنوبي لما قدرت على هذا ولا ما وصلت إلى هنا؛ لكنه الله يا أحبابنا .. الله يا إخواننا.. الله يا أصحابَنا .. الله يا طلابَنا.. الله يا من يسمعنا.. الله يا من يجلس معنا
يا فوزنا بالله .. يا سعدَنا بالله .. يا الله رحمتك الواسعة.
والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
ولا سألنا ولا دعونا
فأنزلَن سكينةً علينا ** وثبت الأٌقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا
فثبِّتنا يا مثبِّت، وانظر إلينا يا أكرمَ ناظر، وأصلِح لنا كلَّ باطن] وظاهر يا أرحم الراحمين.. والحمد لله رب العالمين.
04 ربيع الثاني 1439