(536)
(235)
(575)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 27 جمادى الآخرة 1444هـ بعنوان :
عجائب سراية الهداية في الخلائق ومجالي إرادة الرحمن في عباده وتولِّيه نصرة رسوله ودينه
الحمدُ لله (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)، لكَ الحمدُ يا منّان، لكَ الحمدُ يا رحمن، لكَ الحمدُ يا مُنزِل القرآن، لك الحمد يا خاتِم النُّبُوَّة بِعَبدِكَ المُصطفى سَيِّد الأكوان، مُحمّد المُنتقى مِن عدنان، اللهم لك الحمد شُكراً كما أنتَ أهلُه بِما أنتَ أهلُه، فَوَسِّع اللهم لنا نِطاقَ عَطاياكَ الكبيرة في الهِدايات واهدِنا فيمن هَديت، وزِدنا هُدى وآتِنا تقوانا، يا من لا إله إلا هو بِحَقِّكَ عليك لا تَكِلنا إلى أحدٍ غيرك ولا تَكِلنا إلى سِواك، وتَوَلَّنا في جميعِ شُؤونِنا يا حيُّ يا قيُّوم حتى نعبدكَ كأنّنا نراك، ونُحظى مِن ذلك بِمُواصلاتِكَ وهِدايتك وعِناياتِكَ ورِضاك، وعجائِب مِنَنِكَ ومواهبكَ وهَداياك.
لك الحمدُ يا من ختمتَ النُّبوَّة بِسَيِّد المُرسلين، فَصَلِّ وسَلِّم عليه في كل نَفَسٍ وحالٍ وحين، واجعل في قَلبِ المُتَكلمِ والحاضرينَ والسّامعينَ نوراً يشِعُّ يزدادُ أبداً في الصِّلَةِ بك وبِهذا الرَّسول نبلُغ به السُّول والمأمول، ويصلُح لنا به شأننا في جميع ما نَنوي ونَعتقد ونفعل ونقول، في الدُّنيا والبرزخ والآخرة يا برُّ يا وصول، يا مالك الكُل يا مَن بِيَدهِ ملكوتُ كلّ شيءٍ لا إله إلا أنت آمنا بك، فَثَبِّتنا وانصُرنا وأسعِدنا وَلَا تَدَعْ حَاضِراً مَعَنَا وَلَا سَامِعاً لَنَا إِلَّا رَبَطْتَ عَلَى قَلْبِهِ بِرَابِطِ صِدْقٍ مَعَكَ يَحْيَى عَلَيْهِ وَيَمُوتُ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثَ بِهِ مَعَ الصَّادِقِينَ فِي الْيَوْم الَّذِي قُلْتَ فِيهِ: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).
وسَتَرى بِضاعاتُ الكاذبين مِن رأسهِم إبليس ثُمّ كُل من وقعَ في حِبالِ التَّلبيس والتَّدليس من الإنس والجن معه سيظهر كذبهم (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ)، تكبَّروا بِكَذِب وتكَبَّروا بِغُرور وتكبَّروا بِتُرَّهات وبَطالات وتكبَّروا بِدَعوة عِلم فانحرف مِنهم مَنِ انحرف!
ولا يزال في مُختلف البُلدان وفي مُختلف الشُّعوب والمُوظَّفين في المُؤسَّسات الحُكومِيّات والأهلِيّات قُلوبٌ مُستجيبة وقُلوبٌ قابِلَة للإجابة، وكُلّها بِيَدِ بارِئ مُنشِئ خالِق فاطِر مُكَوِّن مُدَبِّر، مُقَدِّر مُقدِّم مُؤخِّر نافِع ضار، يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) اللهم اهدِنا فيمن هَديت يا أكرم الأكرمين.
ولا تزالُ الهِدايات بِبَركةِ ما أنزلَ من الكُتب وأرسلَ مِن الرُّسُل، وخَتمِ الكُل بِسَيِّد الرُّسل والقُرآن الكريم مُنتشرةً خصوصاً في هذا الصِّنف من المخلوقين من المُكلَّفين من الإنس والجن، يغتر من يغتر ويفتري من يفتري، ولكن بِحَمد اللهِ يؤمن من يؤمن ويعرف من يعرف ويُدرِك من يُدرِك ويهدي الله من يهدي، رَبِّ إِنَّ الهُدى هُداك وَآياتُكَ نورٌ تَهْدِي بها من تشاءُ.
وإنَّكُم وإن كان يَجِدُ هذهِ الفُرصة بِحَسبِ الصِّدق والإخلاص مَن وُجِد في أيِّ زمان ولكنَّكُم في الزمان الذي أنتم الآن فيهِ بِما فيه من أنواع الابتِلاءات والامتِحانات والاختِبارات وانتشار الفساد والشَّر ومُطاردة الخير لأجلِ قلعهِ، ونشر السُّوء في بُلدان المسلمين وفي البيوت الطَّيِّبَة الصّالحة، وإن كُنتُم في ضَوءِ ذلك فأنتُم في فُرصةٍ من الزَّمن فتحَ الله فيها أبواب لِهِداية من يشاءُ من عِباده، ومن أراد أن يتشرَّف بالتَّسَبُّبِ في نشرِ هذه الهِداية يصدُق مع عالم السِّر والعَلَن ويخضع، ويُقَوِّي ارتباطه بالسَّنَد إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويتذلَّل ويُنيب ويرحم ويحرِص، وسَيُجري الله على يدهِ خيرات بها الوُصولُ إلى رفيعِ الدَّرجات والدُّخولُ في القيامة في الصُّفوف الأوَّلات.
ارزُقنا الصِّدق يا رب، ارزقنا الإخلاص يا رب، ارزقنا التَّواضُع يا رب، ارزقنا الحِرص على هِداية خلقِك من سِرايةِ ما قلت عن نبيك: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)، ارزقنا رأفة ورحمة خلقِك من سرايةِ قولك عنه: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) يَشُقُّ عليه عَنَتُنا وما يُنازِلُنا من الشَّدائِد، فلا يُحِبُّ لنا إلا الأُنسَ والسُّرور والحُبور والخُيور صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولكن بِمِنظارِهِ الأوسع الأرفع الكبير فلا يُستطاعُ تَصوُّر حقيقة رحمته، عبَّرَ عنها عالِم السِّر والعَلَن بِما أنزل في الكتاب: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) أولى بِمَن؟ مِن أنفسهم! من أنفسهم! من أنفسهم، يعني ما يُمكِن أنّ نفسَك تُحِبَّك كما يُحِبَّك هو، ولا أنّ نفسَك تنصحك كما ينصحك هو، ولا أنَّ نفسك ترحمك كما يرحمك هو، والمعرفة أين هي مِن نفسك؟! ما عِندك معرِفة المعرِفة عنده، وادراك الحقيقة عنده، هو الذي يُلقِيها إليك صلى الله عليه وسلم.
(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)
بالله عليك أيُّها المؤمن الحاضِر والسَّامِع ومَن سيسمع خِطاب ربّ العرش العظيم، يُخاطبنا بِهذهِ الآيات العجيبات البَيِّنات الواضحات الشَّريفات المُسعدات المُقَرِّبات المُنوِّرات الهادِيات، فَيُكرِّر الضَّمير في الخِطاب لنا ويذكر نفسهُ بِضمير العَظَمة، ويذكرُ عبدهُ المُصطفى مُحمّد ويربطنا من هنا ومن هنا ومن هنا، (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا) هذا ضمير ربَّك (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ)، راح لِخِطابك: (رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ) ربطنا بالحبيب كيف؟ (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).
فكيف نُدرِك هذهِ الأسرار ونأخذ نصيبنا الوافي مِن هذا العطاء المِدرار؟ قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)، وبذلك مِن عَهدهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جاء مَن خَلَفهُ وأسَّسوا لِلأمّة مجالس الذِّكر وحلقات الذِّكر والاجتماعات على الذِّكر، ونشروا الأذكار لِلفَرد في السِّر وفي الجَهر وفي المجامِع: "من ذكرني في نفسه ذكرتهُ في نفسي" يقول رب العرش "ومن ذكرني في مَلَأ ذكرتهُ في ملأٍ خير منه وأطيَب" جلَّ جلاله، فنشروا ذلك فارتبطت بِذلكَ قُلوب تنزَّهَت عنِ الشُّوب وما وقعت في حبلِ الكَذوب، سَلِمَت مِن دَوَاعي إبليس، وهمُ المُشار إليهم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرينَ على الحَق" بينما اغترَّ الكثير وخُدِعَ الكثير وانحدرَ الكثير وسقط الكثير.
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقِّ والهُدى ** ويا ربِّ اقبِضنا على خيرِ مِلَّةِ
ولا يزالُ هذا الخير الذي بُعِثَ به البشير النَّذير والسِّراج المنير ساري في قلوب كثير في الشَّرقِ والغرب، في شعوبٍ ودول، في أفرادٍ ومؤسَّسات، بِقُوَّة القَوِي وقُدرةِ القادِر، وإرادة المُريدِ الذي ما كان ولا يكون إلا ما أراد (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) فهل تقبل الكرامة؟ بِحُسنِ الانتماء إلى رحابِ العُبوديَّة له والخضوع لِجلاله، والدخول من باب حبيبهِ في القيام بأمانة التبليغ والإرشاد والنُّصح والتَّبيين، والمُحافظة على السُّنة الكريمة في نفسك وأهل بيتك وأولادك وبِما تقدر، يا عالِم يا مُتعلِّم يا تاجر يا مُزارِع يا صانِع يا طيَّار يا مُوظَّف يا صغير يا كبير.. مَن قَبِل مِنكُم فبحرُ جُودِ اللهِ لا يردُّ أحد، من تولَّى فهو على نفسه، من أدبَرَ فهو على نفسه، من أعرضَ فهو على نفسهِ، وأما البضاعة عُرِضت!
وكان يقول صلى الله عليه وسلم لِأوائل الذين بُعِث إليهم، يقول لهم عليه الصَّلاة والسلام: يا معشر قُرَيش قولوا كلمة واحدة يَدِين لكم بها العَرَب وتَذِل لكُم بها العَجَم، كلمة واحدة تشمُل العالَم هذا كلّه! لا إله إلا الله، قولوا لا إله إلا الله.. وأبَوا وتَوَلَّوا، وقال الله عن طوائِف منهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) صَدَّق جميع الرُّسُل الذين قبله، بل وجميع الرُّسُل الذينَ قبلَهُ بَشَّروا به وذكروا صِفَتهُ، وأُخِذ عليهم من قِبَل ربِّ العرش العَهدَ أن إذا برز وظهر في وقت أحد مِنهم أن يتَّبِعه، وأخذوا العهود على أُمَمِهِم إن برز مُحمداً يتَّبِعوه، فهُم كُتلة واحدة وأمّة واحدة وشأنٌ واحد، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى آلهِم وصحبِهم وأتباعِهم.
ولمّا جاءَ الخاتَم كانت أمتهُ خيرَ أُمّة، آله خير آل، أصحابه خير أصحاب، كلُّ نبي له أُمّة وآل وأصحاب، كُلُّ نبي من الأنبياء له أُمّة وله آل وله أصحاب، وتشرَّفَت أُُمَمهُم إذا أطاعوهم وانقادوا لهم، وتشرَّف أصحابهُم إذا ناصروهم وقاموا معهم وجالسوهم واقتبسوا النُّور مِنهم، وتشرَّف آلهُم إذا اقتدوا بهم واهتدوا بِهَديهم وأذعنوا لهم، فكان الآل والأصحاب والأُمَم المُقادون الطائِعون هُم حِزب الله وهُم أهل الجَنّة، وجاء خاتم النَّبيِّين أُمَّتهُ خير أمّة، آلهُ خير آل، أصحابهُ خير أصحاب، لا في الأُمَم مِثل أمَّتهِ ولا في أصحاب أحد من الأنبياء مِثل صحابته ولا في آل أحد من الأنبياء مثل آلهِ صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه وسلم.
ومن عرف الخَيرِيَّة مِن هذهِ الأُمّة واتَّصل بالآل كما ينبغي واتّصل بالأصحاب كما ينبغي، في دائِرة ومسلك إرشاد الرّحمن: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، اللهم اجعلنا من أهلِ الفَوز العظيم يا عظيم يا الله، اجعل قلبي وقلبَ كُلّ حاضِر معنا وسامِع لنا مُستجيباً مُلَبِّياً لِنِدائِك، قابِلاً عنكَ ما أرسلتَ به خاتَم أنبيائِك، مُستقيماً على المِنهاج بِلا اعوِجاج حتى يلقاكَ وأنتَ راضٍ عنهُ يا الله، واصطَفي الكثير مِنّا يا رب لِتَجعلهُم في خِيار الوَرَثة له والخُلفاء عنه، وقُرَّة عينهِ وسُرور قلبِهِ، يَرِد مع الفرد مِنهم ألوفٌ مُؤَلَّفةٌ إلى الحوضِ المَورود، يا بر يا ودود، يا ذا الكرم والجود، يا عالم الغَيب والشُّهود، يا مالِك الدُّنيا والبَرزخ واليوم المَوعود، أنتَ مالِك يومِ الدِّين فاجعلنا في زُمرَة النَّبي الأمين، ولا تُفَرِّق بيننا وبينه يا الله.
اجعلنا في خاتِمَةِ شهر جُمادى الآخرة نَظَراً مِن نَظَرِكَ تَثبُتُ به في قلوبِنا الصِّدقَ معكَ، والنِّيَّات الصَّالِحة المَرضِيَّةَ لك المقبولة عندك، حتّى نستقبِل رجب بِخَير ما يستقبلُهُ المحبوبونَ لك والمَرضي عنهم مِن قِبَلِك، والذين سبقت لهم مِنكَ سابقة السَّعادة والحُسنى وزيادة يا الله، دعوة عظيمة إذا قَبِلَها فيك فَبُشرى لك، وبذلك تُهنَّى هُنَا وَهُنَاكُ، فيَا رَبَّنَا اقْبَلْنَا يَا اللَّه، تَوَجَّهوا جَمِيعًا إِلَى اللَّه، وَقُولُوا يَا رَبَّنَا تَفَرَّقَتْ قُلُوبُ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى أَبْوَابِ غَيْرِك، وَجعَلْتَنَا مِنَ الْقُلُوبِ الَّتِي أَكْرَمْتَهَا بِالْتَوَجُّهِ إِلَيْكَ وَحْدَكَ فلك الحمدُ فاقبلنا على ما فينا واجعلنا مِن أهل الصِّدقِ معك يا بارينا.
اختِم لنا شهر جُمادى الآخرة بِخَير وأقبِل علينا رجب بِأعظمِ الخيرِ وأفسَح الخيرِ وأوسَع الخير وأتم الخير والفرج لِلمُسلمين يا إلهنا، وما آتَيتنا في وادينا ونادينا وما آتيتَ المؤمنين مِن طَمأنينة أو سكينة أو أمن أو دَفع لِلشُّرور فنسألُك أن تُديم ذلك مُتَّصِلاً بِالفَرَج الكبير يا رب، والذين نازلتهُم الشَّدائِد والبلايا والحروب اكشِف الشَّدائد عنهم وحَوِّل أحوالهم إلى أحسن حال يا الله، قولوا يا الله.
أنعَم عليكم بِالتَّوَجُّه إليه وليس لِهَذهِ النِّعمة مِن قِيمة ولا مِن ثَمن، لو لم يُعطكم إيّاها ما قدر أحد مِن الأوَّلين والآخرين أن يُعطيكم إيّاها، لكنَّ رب العرش أعطاني وأعطاكم فاحمدوهُ واشكروه وتوجَّهوا إليه، وتذلَّلوا بين يديه واصدُقوا في طَلَبهِ وقولوا يا الله، وما تظنُّون في هذا الرَّب؟ وما تظنُّون في هذا الإله؟ إذا صدقتُم، إذا أقبلتُم، إذا أنبتُم، إذا خشعتُم، إذا خضعتُم، إذا تنقَّيتُم، ما تظنُّون في هذا الإله؟ وهو القائِل جلَّ جلاله في حديثه القدسي: أعدَدتُ لِعبادي الصَّالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر" ، تَجِدون تِجارة أربح مِن هذه؟ يا عبادَ الله يا إنس يا جِن آمَنوا بالله واليوم الآخر.. شيء أربح من هذا؟
أقبِلوا واصدُقوا واخرُجوا هذه الأغلال مِن تعظيمِ الفانِيات وما أورثكُم مِن مٌحاقدات ومُحاسدات، وما أورثكُم مِن إضاعة سُنَن خَير البَرِيّات، وأن تأتوا بِعادات الفُجّار والكُفّار تُركّبونها في دياركم في أولادكم في مُناسباتكم! يا مؤمنين الرِّبح الكبير أمامكم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
ما شيء في تِجارات الدُّنيا يُنجي من العذاب الأليم! بالله عليك لا اللي في وقتك ولا الذي مضى! تِجارة تُنجي من العذاب الأليم؟ أكثرها يُوقِع في العذاب الأليم في الدُّنيا قبل الآخرة حتى! ولكن هذه التِّجارة التي دلَّ عليها مُحمد بِأمرِ الرَّب أوَّل فَوائدها تُنجيكُم مِن عذابٍ أليم، فكيف هذه التجارة؟ كيف ندخل في أهلِها؟ تُؤمنونَ بالله ورسوله، آمنّا بالله وبرسوله، إذا قُلتَ آمنت بِرَسوله فقد آمنتَ بجميع النَّبيِّين وجميع المرسلين وجميع الملائِكة المُقرَّبين وجميع الكُتب المُنزَلَة، لأنَّ رسولهُ حَوَى ذلك كلّه وجاء بِتَصديق ذلك كلِّهِ.
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) قال أعطيتكم الأنفُس والأموال.. في طريقة أجعلكم بها مُتَبرِّعين وهي حقي ولا لكم شيء، لكن أنا بعطيكم طريقة تُقِيمونها على مَرضاتي وتبذلُونَها في نُصرَة رسولي ولا تَقبلوا غير ذلك! بَسمِّيكم بائِعين وبسمِّيكم مُعطين وبسمِّيكم باذلين وهو كلُّه حقي ما لكم شيء أصلاً! (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)، وخذ ذا بيقول لكم كذا وذا بيقول لكم كذا وكل ساعة بيظهرون لكم فكرة وكل ساعة بيظهر لكم شِعار، خُذ الجواب الحاسِم من عند الخالِق العظيم: (ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) هو هذا.
(ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) تُريدون تشمُّون شذى النَّتيجة؟ (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً)، معنى طَيِّبة؟! طَيِّبة! ولَبِنَة مِن فِضَّة ولَبِنَة من ذهب ومِلاطها المِسك الأذفر، ما فيها هم، ما فيها غم، ما فيها قذر، ما فيها وسخ، وما فيها تعب وما فيها نَصب وما فيها موت، هذه المساكِن الطَّيِّبة، شيء من المساكن الدُّنيا فيها هذا؟ لما بنى بعض الملوك دار وزخرفهُ كُلّ ما جاء أحد يزوره يُثنون عليه، جاء واحد من الأولياء جاء مَرَّ عليه قال له شفت البيت قال شيء رأيت فيه عيب؟ قال واحد عيب، مُهندسي البلد والكِبار كلهم ما قالوا! قال فيه عيب، قال عيبه أنَّ صاحبه يموت، أقول هذا لو كان صاحبه ما يموت ممتاز قصر ما أحسن منه، لكن عيب في حقه صاحبه يموت نكَّس رأسه الملك! لكن تِلكَ القُصور يُنادى على أهلها (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ): إنَّ لكُم أن تنعموا فلا تَبأسوا أبداً، إنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تهرموا أبداً، إنَّ لكم أن تصِحُّوا فلا تمرضوا أبداً، إنَّ لكم أن تَحيَوا فلا تموتوا أبداً، أسمِعنا يا ربِّ هذا النِّداء صغيرنا وكبيرنا، ذَكرنا وأُنثانا وجميع مَن في بيوتنا يا الله، لا تحرِم حاضِراً ولا سامعِاً أن تُسمعه هذا النداء في دار الكرامة والهَناء يا الله.
له الحمد جاء بكم إلى بابه وأوقفكُم على أعتابه، مِن دون سابقة مِنّي ولا منكم بَل فضله علينا وعليكم فأتِمَّ النِّعمة يا الله، واجعَل رجب هذا العام مِن أكبَر وأعظَم وأنوَر أشهُر رجب على الأُمَّة أجمعين، ظاهراً وباطناً يا ربِّ، في نِيَّةِ إبليس وجُنده وكثير مِمَّن دخل في صَفِّهِم أن يُحدِثوا في رجب هذا بلايا وآفات ومشاكل وأنت حسبُنا ونِعمَ الوكيل، ونُفَوِّض أمرنا إليك إنَّكَ بَصيرٌ بِالعِباد والتجأنا إليك، اللهم فرُدَّ كَيدهُم في نُحورهِم، واجعلهُ لنا ولِلمُسلمين فرجاً وفرحاً وسروراً وخيراً وأمناً وطمانينةً وقُرباً مِنكَ ودُنوَّاً مِن حضرتكَ وفَهماً عنك يا الله يا الله يا الله، بِرَحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
وما دعاكُم وَوفَّقكُم وأحضركُم إلا وقد سبقت مِنهُ إرادة أن يُعطي وأن يَهَب وأن يُقَرِّب وأن يُصلِح، وأن يُحَوِّل ظُلُمات إلى أنوار وأن يُحَوِّل ميُول إلى اعتِدال، وأن يُحَوِّل سبحانه وتعالى انحِراف إلى استقامة، وأن يُحَوِّل بُعد إلى قُرب، وأن يُحوِّل شقاء إلى سعادة، فهذهِ سُنَّته وهذه عناوين سُنَّته هذا في هذا الوجود، وعبَّرَ زَين الوجود وقال أنَّ الله يقول للملأ الأعلى: هُمُ القوم لا يشقى بهم جليسهم.
بارِك لنا في مجلسنا وبارك فيمن يسمعنا، ولا تصرِفنا إلا مُزوَّدين بِخَيرات كبيرة ومُطَهَّري القُلوب، مُستقبلين لَيالي رجب بِصدقِ الاستغفار، صِدق الاستغفار! فَلِلهِ فيهِ عُتقاء مِن النَّار في كُلِّ لَيلة مِن ليالي رجب، وقال أكثِروا فيه من الاستغفار صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه وسلم، فاللهُمَّ وَفِّقنا في أيّامه ولياليه لِعَمَل ما يُرضيك، وما رتَّبَ الصّالحون في بُلداننا وفي شرقِ الأرض وغَربها مِن مجالس خَير وأعمال صالحة، أيقِظ قلوب المُسلمين لِتُعَظِّمها وتقوم بها على وَجهِها فتفتح لها بِها أبواب الفرج وتدفع الضِّيق والحَرَج، يا كاشِف الشّدائِد يا دافِع الضُّر، يا رافِع البلاء يا سامِع الدُّعاء، يا من لا يُخيِّب الرَّجاء يا الله، بِوَجاهة حَبِيبِكَ الْأَمِين، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين.
27 جمادى الآخر 1444