(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 6 جمادى الأولى 1443هـ بدار المصطفى بتريم ، بعنوان :
عجائب الأقدار في تطوير الأطوار وفاصل ما بين حقائق السعادة والنعيم والشقاوة والعذاب في أحوال المكلفين في الدارين .
الحمد لله وحده، ذي العلو والكبرياءِ والجلالِ والإفضالِ والجمالِ والنوال في كل حال؛ بما لا يُعَبّر عنه مقال، بل لا يتخيَّله خيال؛ ذلكم الله مولى الموال، ذلكم الله الكبير المتعال، ذلكم الله المعطي ذي العطايا الجِزال، {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مَن بيده ملكوت كل شيء {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُ} {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} -تعالى في علاه- {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يقول -جَلَّ جلاله-
ولقد بلَّغنا الحقائقَ خيرُ الخلائق، أسبقُ كُلِّ سابق، وأصدقُ كلِّ صادق، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه وكل مُتَّبعٍ في المنهجِ صادق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل السَّوابق، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا وأهل مجمعنا ومن يسمعنا معهم وفيهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وله الحمدُ على توالِي إنعامِه، وعظيم إكرامِه، وجزيلِ تفضُّلِه، وعجيبِ تطوُّلِه، بما لا يُحَدُّ ولا يُعَد؛ ولكنها مظاهر تجلِّيات الواحدِ الأحد؛ ما برز جمادٌ إلا بها، ولا برز نباتٌ ولا حيوانٌ ولا إنسانٌ ولا جنيٌّ ولا مَلَكٌ إلا بها. وبأسرارِ قدرتِه وإرادتِه كان كلُّ التكوينِ لجميع الكائناتِ بلا استثناء، وكلُّها جاريةٌ بعد ذلك تحتَ علمِه، وتحت حكمِه، وتحت إرادتِه السابقة، ولا رَادَّ لحكمِه، ولا مُعَقِّبَ لحكمِه وقضائه -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-
ولكن في فسحةِ المَهَل -ما بين زمنِ التكليف إلى حلول الأجل- يَنزِلُ بالجنِّ والناس المكلفين مِن أنواع الخيالاتِ والتوهُّمات والظنونِ الفاسدات ما يقطعُهم بسطوةِ الشهوات، والرغبةِ في الفانيات، وتعظيمِ الزائلات، واختيار الحقيراتِ المنقضيات؛ هذه مع النفوس الراغبةِ في ذلك وأهوائها أقوى أسلحةِ عدوِّهم إبليس؛ ليهوِيَ بهم في الهاوية، ويقطعَهم عن السبيلِ القويم القويِّ النورانيِّ الحقّ الصَّريح الذي لا حقَّ غيره؛ "لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله" وما قام عليها مِن فكر، وما قام عليها مِن اعتقاد، وما قام عليها مِن تصور، وما قام عليها مِن عمل؛ هو الحق، وكُلُّ ما خرج عنها مِن فكرٍ فباطل، وكل ما خرج عنها مِن تصوُّر ففاسدٍ وباطل، وكل ما خرج عنها مِن عمل] فسيِّءٌ وفاسدٌ وباطل، وكل ما خرجَ عنها مِن قولٍ فباطلٌ وضلالٌ وفساد..
"لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله" صلى الله عليه وسلَّم هي الحق، وكلمةُ الحق {وألزمهم كلمةَ التقوى..} – أي رعيلنا الأول- {.. وكانُوا أحَقَّ بِها وأهْلَها وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا..} -وهو فتح خيبر في تلك الأيام- {..هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}
والله شهيدٌ الذي أرسل عبدَه خيرَ العبيد سيدَ أهلِ حقيقةِ التوحيد، سيدَنا محمداً بالمنهجِ الرشيد والمسلكِ السَّديد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛ جعل مجرَى إرادتِه في هذه الحياة على أنبياءَ ومعهم أصفياء، وعلى مخالفِين لهم؛ وعلى ذلك يترتَّبُ الخيرُ والشر، والسعادةِ والشقاوة، والعلوِّ والانخفاض، والصلاح والمخالفة والسوءِ والفساد، والعذاب والنعيم، حقائق العذاب والنعيم وحقائق السعادة والشقاوة والجنة والنار؛ كلها مترتبةٌ على ذلك؛ فتدورُ حقائقُ الاصطفاء مِن قبلِ الله، والإمدادِ بالفضلِ والإحسانِ وبالإسعاد وبالنعيمِ لمَن كانوا مع الأنبياء، وفي ركبِ الأنبياء، وصفوف الأنبياء -اللهم اجعلنا معهم وفيهم ومنهم في خير ولطف وعافية يا قويُّ يا متين-
كلُّ أنواعِ الضلالِ والفسادِ والشقاء والعذابِ والشرِّ والضرِّ والبُعدِ والقطيعة والحجابِ تدورُ على مَن خالفَ الأنبياءَ وخرج عن ركبِهم -كائناً مَن كان- مِن كلِّ مكلَّفٍ بلغَتهُ هذه الرسالة، ولهم سوء الحساب وسوءُ المصير وبئس العُقبى وبئس المصير الذي يصيرون إليه.
حقيقةٌ مِن الحقائق يجب أن نُدركَها، لا يصرفُنا عنها ولا يعكسُها علينا نفسٌ ولا هوى ولا شيطانُ إنس ولا جن..
ألا: إنَّ مِن شعارات أهلِ اليقين أن: "خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، وإن شر الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته".
فيا مُصَدِّقين لأطروحاتِ وموازين خالِين عنِ الحقِّ واليقين، مِن مفسدِين وكافرين وفاجرين ومُغترِّين.. منهم مَن يسمِّي نفسه بالعلمانيِّين، ومنهم مَن يسمُّون أنفسَهم بالحدَاثِيِّين.. سمُّوا أنفسَكم ما شئتُم..
يا مغترِّين بما تطرحون مِن الظنونِ والأوهام يساعدُكم عليها النفوسُ الأمَّارةُ والأهواء والشهوات: استعجالُ بعض اللذائذ الجسدانية المادية المؤكَّدة التي لا تصحبُها الطمأنينةُ ولا الاستقرار، ولا الأمن القلبِي الباطن، ومهما أُمِّنَ ما حواليهم بأصنافِ الأمنِ الحسيِّ الماديّ.. مَن يؤمِّن باطنَك؟ مَن يؤمِّن قلبَك؟ مَن يؤمِّن نفسيَّتَك؟
وهو الشأن الذي يعيشُ فيه أولئك في كلِّ ما رتَّبوا لأنفسِهم وفي كلِّ ما سعُوا إليه؛ يعيشون عيشة ضنكاً ويُحشَرون عُميانا يومَ القيامة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
ولا يجد الطمأنينةَ إلا أهلُ الإيمان بالله {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ}
لا تدَع يا ربِّ في مجمعِنا ولا في مَن يسمعُنا قلباً إلا ملأتَه بالإيمانِ ورزقتَه الطمأنينةَ بذكرِك، اجعل نفوسَنا مطمئنةً تؤمنُ بلقائك، وتقنعُ بعطائك، وترضى بقضائك، وما أنعمتَ به علينا وعلى هذه الأمةِ وخيارِها مِن الصحابةِ وآلِ البيت الطاهر والصادقين والمخلصين والعلماءِ العاملين والعارفين والأولياء المُحَقِّقين المُمَكَّنِين؛ نسألكَ اللهم أن تُتِمَّ النعمةَ علنيا وعليهم، وعلى هذه الأمة، وتبارك لنا في ديمُوميَّةِ ذلك بدوامِ كتابِك القرآن، وسرِّ وعدِك الذي وعدتَ به سيدَ الأكوان؛ أن يبقى في أمَّته أصفياء وأتقياء وأنقياء مهما ظهرَ فساد، ومهما طغَى خلافٌ وعناد، مِن أربابِ الكفر ومَن وقعَ في أسرِهم مِن كُلِّ مَن لم يصفُ ولم يتهَّذب لأنه لم يتأدَّب فلم يَقرُب إلى الرَّب ولم يؤخَذ إلى ساحات هذه القُرب لرِضاه باتباعِ هواه
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} وكيف يُهدى في الدنيا ومآواه الجحيم؟ وكيف يطمئنُّ ويُقَرَّبُ ومآواه النارُ الموقَدة؟
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فكيف يَضِلُّ والجنة مآواه؟ وكيف لا يذوقُ الطمأنينةَ ولذَّةُ القربِ مِن الرحمن في الدنيا قبل الآخرة والجنة منقلَبُه، والجنةُ غايتُه؟ اللهم اجعلنا من أهل جنتك..
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وهذا الذي يجبُ أن يخافَه كلُّ عاقل، وهو الذي يخافُه سكانُ السماواتِ مِن الملائكةِ المقربين {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} عليهم سلامُ الله تبارك وتعالى..
ويخافُه العقلاءُ على ظهرِ الأرض، ويُقابِل ذلك ما يرسلونَ علينا اليومَ مِن أصنام؛ أصنام التخويف بالفَقر، أصنام التخويفِ بالمرض، أصنام التخويفِ بالحرب، أصنام التخويفِ بغيرِ الله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
ألا: إنَّ مالكَ السماوات والأرض أنزلَ على الحبيبِ محمد -في حالٍ مِن الأحوال التي في حكمةِ اللهِ فيها وإرادته- أن يبتليَ بعضَ الأخيار والمقرَّبين بضيقٍ في المعيشة أو قلَّة في المادةِ في حالٍ مِن الأحوال مع وافرٍ منَ الطمأنينةِ والسكينةِ ومع ما خبَّأ لهم مِن التسخير في الدنيا قبلَ الآخرة والعطاءِ الكبير الذي (لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشر) فأخذ يتفوَّه بعضُ المنافقين: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} ويذهبون منه.
وكأنَّ الأمرَ قائمٌ على المادة! وهي كلُّ شيءٍ في نظرِهم وفي اعتقادِهم.. وظنوا أنَّ مَن حواليه إنما تيسيرُ بعضِ المعيشة أو الرزق هو الذي يلفُّهم نحوه، وما علموا أنَّ في مَن حواليه قلوبًا عرفَت الله.. عرفتِ اللهَ بتعرُّفِهِ إليها! وحينئذ فشعارُهم -كما هو شعارهم في مكة –: "أَحَدٌ أَحَد" لم يُخرِجْهم عن تعظيمِه ومحبَّته ومودتِه إيذاءٌ، ولا تجويعٌ، ولا ضربٌ، ولا تعذيب، وقالوا "أَحَدٌ أحد" ، وقال:
"وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ** علَى أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذلكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَأْ ** يُبَارِكْ علَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ"
وتقدم أبو سفيان: يا خُبيب أَتُحِبُّ أنَّك في مكانِك وأهلك آمن مطمئن، ونحن الآن سنقصُّ رأسَك سنقتلك أتحب أنك بدلَ هذا القتل في أهلِك وأولادِك ومحمد بدلَك نأتِي به هنا نقتُله؟ قال: "لا والله! ما أحبُّ أنَّ رسولَ الله في محلِّه الذي هو فيه تصيبُه شوكةٌ في رجلِه وأنا في أهلِي وولدي! قتلي أهون عليَّ مِن أن تصيبَه شوكةٌ في رجلِه في المكانِ الذي هو فيه!"
قالوا: ما رأينا أحدا يُحِبُّ أحدا كما يحب أصحابُ محمدٍ محمدا.
قالوا {حَتَّى يَنْفَضُّوا} وأجاب الرحمنُ بحقائق، وظهرت مقتضياتُها الحِسِّيَّةُ في اليومِ الأول ولا الثاني ولا الثالث {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} لا يفقهون هذه الحقيقة..
والمنافقون والكافرون اليومَ على ظهرِ الأرض لا يفقهون.. لا يفقهون هذه الحقيقة، لكن! خوَّفوا أصحابَنا فوجَدنا كثيراً مِن المنتمين إلى مِلَّتنا لا يفقهونَ كما هم لا يفقهون! وَوَدِدنا أنَّ المؤمنَ يفقَه!
وحينئذٍ لا يُغرَى بمالٍ وغنًى وثروة، ولا يُهدَّدُ بفقرٍ وقِلَّة مال.. إذا فَقَه! إذا فَقَه مَن هو، ومَن في الكونَ، ومَن مُكَوِّنه، ومَن مُسَيِّره، وما العواقبُ الكبرى.. لا يُغرَى بمال ولا بِمُرَتَّب ولا بوظيفة ولا بشيءٍ مِن هذا؛ فيُحرَف عن الهدى، وعن الصواب، وعن التُّقى، وعن الأدبِ مع الرَّب، ولا يُمنَع عن ذوقِ لذائذَ قُربِ رَبِّه، وعن إدراكِ حلاوةِ رضاه عنه، ومعرفتِه به، ولذَّةِ مناجاتِه -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- ولو بمُلكِ الدنيا! وقد قال سيدُنا عبدُالله بن حذافةَ يضحك على ملكِ الروم عندما قال له: تترك دينَك هذا وتكفر بمحمد وأعطيك نصفَ ملكي وأزوِّجك ابنتي؟ ضحكَ عليه قال له: لو تعطيني ملكَك كلَّه، الذي هو كبيرٌ في ذهنِك على أن أفارقَ هذا الدينَ لحظةً وحدةً وأعودُ إليه.. ما فعلت!
هل تظنُّ أنَّ مُلكَك هذا صنمٌ لي أسجدُ له؟! أتظنُّ أن مُلكَكَ هذا أمرٌ يقطعُني عمَّن عرفتُه! عمَّن أحببتُه! عمَّن سجدتُ له! عمَّن تشرَّفتُ بالخضوعِ لجلالِه! عمَّن تلقَّيتُ عجيبَ إفضالِه! وأنت في هذه الليالي على كرسيِّك وسريرِك ما تَنعَمُ بالهناءِ الذي في قلبي وأنا أسيرٌ عندك.. أبيتُ في حالةٍ مِن الجمال ومِن الرضا ومِن الأُنْسِ ما تِحَصِّلها أنت في مُلكِك هذا.. أتُغرِيني بمالِك أو بما عندك؟!
الله أكبر .. الله أكبر.. هكذا شؤون مَن فَقِه عن الله -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
اللهم انشر نورَ الفقه في قلوبِ أهالينا وأولادِنا حتى لا يكونوا عُرضَةً إذا أُغروا بفسادٍ في الأزياء راحوا! بفسادٍ في الأقوال راحوا! بفسادٍ في المنظورات راحوا، بفسادٍ في العادات راحوا وراءها.. مساكين! لو فقهوا ما راحوا وراء هذه الترَّهات والبطالات!
لكن ما فقهوا مَن هم، ومَن خالقُهم، وإلى مَن يرجعون؟ ولِمَ خلقهم؟ وكيف يُجرِي هذه الأحداث؟ -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
ولا يكون في مُلكِه وملكوتِه إلا ما شاءَ وما قدَّر وما أرادَ وما قضى، (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
فأنزَلَ اللهُ الآية: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} ومع ذلك قبل كلامِهم هذا وتطبيلِهم به وقولِهم { لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} قد قال نبيُّنا لسراقة: ( كيف بك وأنت تلبسُ سِوَاريّ كسرى وقيصر؟)
مع ذلك مَرَّ بأيامٍ جاع فيها وجاعَ أصحابُه – قبل أن تأتيَ سِوارَا كسرى وقيصر- ولا يُغَيِّرُ هذا شيئاً مِن مقتضى الحكمِ السابق شيء، العاقبةُ هي، والنهايةُ هي، والأحداثُ فيها تجري بها، وفيها ما كان. ثم كرَّر الكلمةَ لمَّا قالوا أنَّ كسرى قابلَ كتابَك الذي أرسلتَه إليه.. إنما الكتاب كتابُ محمدٍ رسولِ الله عبدِ الله المصطفى وأنه مزَّقه، وقال: (مُزِّق مُلْكُه، لتُنفَقَنَّ كنوزُ كسرى وقيصر في سبيلِ الله) وكان الأمرُ كذلك، فلمَّا فتحَ اللهُ الفتوحاتِ على نبيِّه المصطفى في آخرِ حياتِه قال: مَن مات وله مالٌ فمالُه لورثتِه، ومَن مات وعليهِ دينٌ فإليَّ وعليَّ) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله..
بعد أن كان في تأسيسِه رعايةُ أمانةِ الله في حقوقِ الخلقِ، يقول للميِّت إذا جِيء بهِ.. أعليه دين؟ فإذا قالوا: نعم، قال: (صلُّوا على صاحبِكم) لا يصلي هو عليه.. وكان هذا أشقَّ ما يكونُ عليهم، ولكن يُنبِئهم أنَّ حقوقَ الخلقِ خطيرة، وأنَّ الرسالةَ تقوم على الأمانةِ في هذه المعاملة، ولا أحدَ يتبعُ نفسَه في إرادةِ أخذِ حقِّ الغَير. حتى صاروا يلتزمون بدَينِ الميتِ قبل أن يُؤذِنَ رسولَ اللهِ بالصلاة عليه حتى لا ينقطعَ عنِ الصلاةِ عليه.
فلما فتحَ اللهُ الفتوحَ قال ذلك، وجاء مالُ البحرين في ليلة، وُضِعت أكوامٌ مِن الذهب والفضة وسطَ المسجدِ ووافَى صلاةَ الفجر كثير.. فلمَّا التفتَ إليهم تبسَّم وقال: لعلَّه بلغَكُم قدومُ سعدٍ بشيء. قالوا: بلى يا رسولَ الله. قال: (أبشِروا وأمِّلُوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على مَن كان قبلَكم، فتنافسُوها كما تنافسُوها فتُهلكَكم كما أهلكتهُم) صدق صلى الله عليه وسلم..
وهكذا.. نقول لمَن على ظهرِ الأرض: إن أصاب مَن أصاب اليوم -وقد تكون مِن جرَّاء تصرفاتِ مكلَّفين لأجلِ أغراضِهم وأهوائهم ونفوسِهم وعليهم الحساب ويتحمَّلون العقاب، وإن جاع مَن جاع وتعبَ مَن تَعِب-؛ فإنَّنا وعلى ظهر هذه الأرض تُقبِلُ علينا أيامٌ يكون بعد أن كان أسعد الناس بالدنيا لُكع بن لكُع يكون أسعدَ الناس بالدنيا المؤمنون الصادقون؛ خادمة لهم مسخَّرة لهم. ولابد أن تأتي هذه الأيام بما أخبرنا الله ورسوله، ما عندنا في الظاهر تخطيط لذلك، فخطِّطوا كما تشاؤون فلن يكونَ إلا ما قُلنا، ولا يكون إلا ما حدَّثنا عنه الذي لا ينطقُ عن الهوى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
خطِّطوا لديارِ المسلمين ما تريدون.. تريدون أن تنهبُوا ثرواتِها، وتأخذوا ماديَّاتِها، وتضربوا أبناءَها بعضَها ببعض.. اعملوا ما شئتم وعليكم المسؤولية وسيحاسبكمُ مَلِكُ الكل وترجعون إليه.. ومع ذلك فلابدَّ أن يأتيَ على هذا العالم الإسلامي يومٌ يُنادي فيه خليفةُ رسول الله: "مَن يريد شيئًا مِن المالِ فليأتِنا: فلا يأتيه أحد، إلا واحد، فيقول اذهب إلى الخازنِ الأميرُ فلان.. يذهب فيقول احمل مِن الذهبِ ما تستطيع، فيُحَمِّلُه إياه فيمشي، فإذا مشى خطواتٍ قُذِف في قلبِه الزهدُ، ويقول كنت أجشعَ أمةِ محمد! عُرِض عليهم المالُ فما رضُوا إلا أنا! فيرجعُ به، فيقول للخازن: أنا ما لا أريد هذا المال ، فيجيبه: ونحن قد أخرجناه ما نُرَجِّعه.
هكذا يكون الحال!
وستأتي أيامٌ على بلادِ المسلمين في أوطانِ المسلمين -مهما خطَّطتم- يمشي الماشي بالذهبِ فلا يجدُ مَن يقبلُه منه! يعرضُ الذهبَ على الناس فلا يجدُ مَن يقبله! لابد أن يأتي هذا اليوم؛ ولكن هذه حكمةُ الله في تدبيرِ الأشياء- والابتلاءُ كبيرٌ في اغترارِ الناس بأوقاتِ المجاعات – حتى أنه بعد أن تمرَّ تلك الحالةُ العجيبة في أيامِ الإمامِ المهدي يرسلُ اللهُ بعد ذلك على كثيرٍ مِن طوائفِ المسلمين جوعًا وضيقاً في تحصيلِ المادةِ والأكلِ، ويُبعث الدجال يقول هذا الأكلُ عندي وهذا المادة عندي، تعالوا، اكفروا بمحمد وخلفائه هؤلاء وأعطيكم.. ويحصل ما يحصل..
هذه فتنة كبيرة من أكبر الفتن التي بينَه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الساعة، مِن أكبرِ الفتن ومِن أعظمِ الفتن -ولكن أيضا- هذه الفتنة بشدَّتِها أربابُ الصِّلةِ الخاصَّةِ بمحمد لا تقدرُ عليهم.. ما تقدر عليهم، ولا فيهم مَن يُفتَن، ولا فيهم مَن يَغتَر. والذين مع الإمام والذين ذهبوا إلى الجبال خوفاً مِن الدجال منهم مَن يُغَذِّيهِ اللهُ بالذكرِ فيجعلُه له مكانَ الطعام والشراب -في مدةِ أيام الدجال- ومنهم مَن يُرسِل لهم ظباءً تَحلِب لهم لبن فيشربون مِن ألبانها فيكتفون به مدةَ تلك الأيام.. قال صلى الله عليه وسلم: فإذا خرج عيسى بن مريم انتهت فتنة الدجال، قال (يُخبِر أولئك الصابرين بمنازلهم في الجنة) هكذا الحكمة، وهكذا التدبير، وهكذا التدوير، وهكذا التسيير، من لدن حكيمٍ خبير.
فلا يغرُرك غِنًى ولا فقر، ولا تجزع مِن ذا، ولا تفرح بذا {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}
ويبقى بعد ذلك حكمٌ لا معقِّب له {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}
وهكذا فلنحمدِ اللهَ على مِنَنِه علينا وعلى نعمِه علينا..
يا رب املأ هذه القلوبَ بأنوارِ الإيمانِ واليقين والصدقِ معك، واجعلهم في أهلِ الوفاءِ بعهدِك وإيانا وأحبابنا أجمعين والأمة المحمدية، بأسرار "لا إله إلا الله" انظر إلى مَن يقولُها نظرةً تُحَقِّق بها قلوبَهم بمعانيها..
يا الله .. يا الله .. يا الله
يا أكرمَ الأكرمين، يا أرحمَ الراحمين، فرِّج كروبَ المسلمين وادفعِ البلاءَ عن المؤمنين، وحوِّلِ الأحوالَ إلى أحسنِها، يا محوِّلَ الأحوال حوِّل حالَنا والمسلمين إلى أحسنِ حال، وعافِنا مِن أحوالِ أهلِ الضلالِ وفِعلِ الجهَّال..
يا الله: غياثَك السريع، يا الله: غيثَك الهاطلِ المريع، يا الله: جودَك الدائم، يا الله: عفوَك العظيم، يا الله: عافيتَك في الدنيا والآخرة، يا الله: انظر إلينا والحاضرين والسامعين والمؤمنين نظرة تُزيل العنَا عنَّا وتُدني المنى مِنَّا وكل الهنا نُعطَاه في كُلِّ حين
ربِّ احيِنا شاكرين * وتوفَّنا مسلمين * نُبعَث من الآمنين * في زُمرَةِ السابقين
بجاه طه الرسول * جُد ربِّنا بالقبول * وهَبْ لنا كُلَّ سول * ربِّ استجب لي آمين
ربِّ استجب لي آمين .. ربِّ استجب لي آمين .. ربِّ استجب لي آمين يا رب العالمين
اللهم يا أولَ الأولين، ويا آخرَ الآخرين، ويا ذا القوةِ المتين، ويا راحمَ المساكين، ويا أرحمَ الراحمين ارحم أمَّةَ النبيِّ محمد، أغِث أمَّةَ النبيِّ محمد، أصلِح شأنَ أمةِ النبيِّ محمد، اكشف كروبَ أمة النبيِّ محمد، وحوِّلِ الأحوالَ إلى أحسنِها يا الله..
سعدتم بقولِ "يا الله"، ولو عَلِمَ المغترُّون الملايين لجالَدُوكم على هذا الأمر وسابقُوكم، ولكنَّها سوابق مِن خالق.. سوابِق مِن خالق؛ تظهر حقائقُها يومَ يقومُ بين يديهِ الخلائق
"لا إله إلا هو" .. توفيقَك يا رب، عفوَك وعافيتَك يا رب
نادوه، وارجوه، وتوجَّهوا إليه متذلِّلين بين يديه، خاطِبوه باسمِه، يوفِّقكم ويسمَعْكم ويجِبكم ..
يا الله..
مكَّنكم تقولوا "يا الله"، وفقَكم تقولوا "يا الله"، أنعَمَ عليكم بقول: "يا الله"؛ فكونوا راجِين، وطامِعين، ومتذلِّلين، وخاضعين، وخاشعين، وواثقين، وموقنين..
وقولوا: يا الله .. يا الله .. يا الله
يَا سَرِيْعَ الْغَوْثِ غَوْثًا مِنْكَ يُدْرِكْنَا سَرِيْعًا ** يَهْزِمُ الْعُسْرَ وَيَأْتِي بِالَّذِي نرْجُوا جَمِيْـعًا
يا قَرِيْـبًا يا مُجِيْـبًا يا عَلِيْمًا يا سَمِيْـعًا ** قَدْ تَحَقَّقْنا بِعَجْزٍ وخُضُوْعٍ وانْكِسَارِ
قَدْ كَفَانِي عِلْمُ رَبِّي مِنْ سُؤَالِي وَاخْتِيَارِي
رَبِّ فَاجْعَلْ مُجْتَمَعْنَا * غَايَـتُهْ حُسْنُ الْخِـتَامِ * وَاعْـطِنَا مَا قَدْ سَأَلْنَا * مِنْ عَطَايَاكَ الْجِسَامِ
وَاكْرِمِ الْاَرْوَاحَ مِنَّا * بِلِقَا خَيْرِ الْاَنَامِ * وَابْلِغِ الْمُخْتَارَ عَنّـَا *مِنْ صَلَاةٍ وَسَلاَمِ
الله الله يا الله لنا بالقبول...
06 جمادى الأول 1443