(536)
(228)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 26 ربيع الثاني 1445هـ، بعنوان:
دعوات الأنبياء ووراثهم وما تحمل من سلام وخير للأنام وشؤم وسوء دعوة إبليس وجنده وما تجلب من شقاء الدارين
السلام على النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، السلام على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، السلام على جميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، مَن مضى ومَن هو حاضر ومَن يأتي إلى يوم الميقات، السلام على كل مَن سلَّم علينا، والسلام على كل مَن قصد وجه الله، والسلام على كل مَن اقتدى برسول الله، والسلام على كل مَن وفَى بعهد الله، والسلام ورحمة الله تعالى وبركاته على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وخصوصًا على أهل الصدق والإخلاص والجهاد في سبيل الله، ورحمة الله وبركاته، عدد ما خلق وملئ ما خلق، وعدد ما في الأرض والسماء، وملئ ما في الأرض والسماء، وعدد ما أحصى كتابه وملئ ما أحصى كتابه، وعدد كل شيء وملئ كل شيء.
والحمد لله السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام، تبارك وتعالى ذو الجلال والإكرام، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، نَسْعَدُ بالخضوع لجلاله، والتذلُّلِ لعظمته؛ فهو الرّبّ، وهو الإله، وهو الخالق القادرالقادر، وهو {الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}، وهو الذي يُحسِن المعاملة لعباده، وهو الذي يُجَازِي على القليل بالكثير {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، لا إله إلا هو.
نشهد أنه أرسل رسلاً وأنبياءً جعل خاتمهم وسيّدهم وإمامهم السراج المنير؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ذي القدر الكبير، البشير النذير، اللهم أدم صلواتك عليه وعلى جميع أنبيائك ورسلك، وعلى آله وآلهم، وعلى أصحابه وصحابتهم، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وسِرْ بِنَا في سبيل الهدى والسلام، مؤتمّين بخير إمام خير الأنام، عبدك الهادي إلى مَسْلَكِ السلام وطريق السلام ودار السلام، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وتلكُم دعوة رب السماوات والأرض للعاقل الواعي من عبادهِ المُكلّفين إنسًا وجِنًّا؛ بمن أرسل من الرُّسُل وبما أنزل من الكتب، وبما خَلَّفَ للمرسلين من خلفاء، وأقام عنهم من نُوَّاب، وبما حَكَمَ في هذه الأمة المحمدية أن يُبقِيَ نور الدلالة عليه والدعوة إليه باقية ظاهرة، على رغم إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن، وكل مَن كَرِهَ الحق، وكل مَن كَرِهَ الهدى، وكل مَن كَرِهَ الخير للبشر، وكل مَن كَرِهَ النور والصلاح للإنس والجن، على رغم أنوفهم؛ قضاءً منه -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
وقال عن وجود هذا الصِّنفِ من هؤلاء المُكَلَّفين المُعَاندين والمعارضين والمضادّين: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ..} ما جاء سيّدنا محمد بفكر بشرٍ ولا بترتيب إنس ولا جِنٍّ، ولا بدواعي ودوافع مالٍ ولا جاهٍ ولا مُلكٍ ولا سلطان، وما جاء بترتيب الفكر البشريّ ليُبَلِّغ هذا البلاغ؛ لكنه اجتباءُ واصطفاءُ وإرادةُ وانتخابُ وقدرةُ ذي المُلكِ والملكوت، والعِزّة والجبروت والكرامة والرحَموت، ذاكم إله كل شيء الحيّ الذي لا يموت
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} المسألة أكبر من دول على ظهر الأرض! وأكبر من شعوب على ظهر الأرض! وأكبر من مؤسسات، وأكبر من هيئات ووزارات، وأكبر من كُلِّ الذي دَفَعَ مَن دفَع إلى شيء من أعماله على ظهر الأرض أو أقواله، الأمر أكبر من ذلك {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} هو جل جلاله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وكُلُّ ما سواه ضلال، وكل ما سواه باطل، فالذي جاء به هو الهدى وكل ما خالفه ضلال، ودين الحق دينه، وكل دين سواه فهو باطل {هُو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} قضاءٌ قَضَاه مَن يقول للشيء {كُن فَيَكُونُ} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
فالحمد لله الذي جعلكم من أهل هذا الهدى والمنتمين إليه، ومن أهل هذا الحق ودين الحق، وثَبَّتنا الله وإياكم على ذلك. اللهم زدنا هدى، وثبِّتنا على الحق فيما نقول، وثبِّتنا على الحق فيما نفعل، وثبِّتنا على الحق فيما نعتقد.
اللهم لا تخذُلنا إلى ضلال ولا إلى باطل، في جميع أحوالنا وشؤوننا، فأنت القائل فيما أخبر عنك خاتم الرسائل: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكم) اللهم اهدنا فيمن هَدَيْت.
واستهداؤه تعالى بدعائه، واستهداؤه بالإصغاء إلى أنبائه، وإلى أنباء أنبيائه، وإلى ما بَسَطَ لنا من آياته وسُنَّةِ خير بَرِيَّاتِهِ، وتبليغها على أيدي خُلفائه وأهل وراثته.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد حَمَّل الواعين من هذه الأمة الأمانة وقال: (بلِّغوا عني ولو آية)، وقال: (ألا فليُبَلِّغ الشاهد منكم الغائب)، وقال: (رُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى سامع، ورُبَّ حَامِلِ فقهٍ ليس بفقيه).
اللهم ارزقنا حُسنَ النيابة والخلافة عن خاتم النبيين والمرسلين، وارزقنا الهداية إلى الهدى ودين الحق الذي كتبتَ ظهوره على الدين كله، اللهم وما استخدمتَ من عبادك الذين اصطفيتَ في إظهار هذا الدين فاجعلنا منهم وفيهم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
يا سلام أنت السلام ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحيِّنا ربَّنا بالسَّلام، وأدخلنا برحمتك دار السلام، تباركتَ ربَّنا وتعاليتَ يا ذا الجلال والإكرام.
أيها المؤمنون بهذا الإله، المَمْنُوحُونَ الهُدَى والحقّ: والهُدى ما جاء به حبيبُ الرَّب، والحَقُّ دينه الذي هو الحق عند الله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: ولقد جاءكم الحبيب من عند ربِّه سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}، {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
اجعلنا ممن اتبع رضوانك، اهدنا سُبُل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا على الصراط المستقيم، وثبِّتنا على الصراط المستقيم، يا عليُّ يا حكيم، يا عظيم يا عليم، يا رحمن يا رحيم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا الله.. يا الله: اجعل جميع مَن في مجمعنا ومَن يسمعنا ويُشاهدنا ويُوالينا عندك من أهل الهدى ودين الحق، المُتَمَكِّنينَ في الهدى ودين الحق، النَّاصرِينَ للهُدَى ودين الحق، الخادمين للهدى ودين الحق، النَّاشرين للهدى ودين الحق، الحاملين لرايات الهدى ودين الحق..
يا الله، وأرِنا ظهورهُ على الدين كُلِّه؛ بمختلفٍ من مراتب هذا الظهور، وأحواله، وأصنافه يا الله.. يا الله.. يا الله، حتى تجمعنا في دار السلام.
ولم يزل مولانا السلام يدعو الأنام إلى سُبُلِ السلام، ويُرسِلُ إليهم الأنبياء أئمةً إمامًا بعد إمام، يدعون إلى الحق والهدى، يدعون إلى ما يُوجِبُ حقائق الفوز والسعادة، هاهنا وغدا. وإبليس ومن معه يدعون إلى ما يُوجِبُ الشقاء، وإلى ما يُوجِبُ الخِزْيَ والخُسرَ في الدار هذه ودار البقاء، ولم تَزَل تِلكُم الدعوات لإبليس وجنده أمام دعوات أنبياء الله ورسله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}.
لا تُغوِي أحدا مِنَّا ولا من أهل بيوتنا بدعوة إبليس وجنده، ولا بِغَلَبَةِ هوىً، ولا نفسٍ أمَّارة، ولا اغترَارٍ بدنيا مَكَّارة، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.
اللهم اهدنا فيمن هديت، اهدنا في كُلِّ فكرٍ، وفي كُلِّ تصَوُّر، اهدنا في كُلّ قولٍ، وفي كُلِّ فعلٍ، واهدنا في كُلِّ نِيَّةٍ، وفي كُلِّ قصدٍ، واهدنا في كُلِّ حركةٍ وسكونٍ، واهدنا في كُلِّ ظهورٍ وبطون.. هادي. اللهم اهدنا فيمن هديت،
فلقد جمعتنا بالفضل، والهداية، والهدى الذي بعثتَ به محمدا على هذا الدين، دين الحق، دين الإسلام؛ فاجتمعنا على أعتابك، ووقفنا على بابك، نسألك ونرجوك، ونؤمّلك ونقصدك، ونطلبك ونُعَوِّل عليك، ملتجئين إليك، مُتذلّلين بين يديك، فلك الحمد يا مَن وهبتنا هذا، ومننتَ علينا به في صِحَّةٍ، وفي عافية، وفي أمنٍ، وفي طمأنينة، فاحفظ علينا ما آتيتنا، وزدنا من فضلك ما أنت أهله، ولك الحمد على ذلك، وعلى كل مِنَّةٍ ونعمة أنعمتَ بها على أحد من عبادك، وخصوصًا على نعمة الإيمان والأمن لكل مؤمن أمّنته في بيته، أو في بلده، أو في قُطره وفي زمنه.
اللهم ومَن جعلتَ بين أيديهم الابتلاء أنواعًا من الخوف أو نقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات؛ ثبِّتهم، واجعلهم من الذين إليك يرجعون، وعليك يُعوّلون، ويقولون: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}؛ فتأتيهم من عندك صلوات ورحمة؛ عِدْلَانِ، مباركان، عظيمان، جليلان، وعلاوةً فوقها: هداية {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
يا أكرم الأكرمين ثبِّتنا على ما تُحِبّه مِنَّا وترضى به عنَّا، وازقنا الاستجابة والتلبية لنداء الدَّاعي إلى السلام، رسول الإسلام، خير الأنام، في كُلِّ خاصٍّ وعام، يا ذا الجلال والإكرام.. يا الله.. يا الله .. يا الله.. يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وليعلَم كلّ ذي عقلٍ وذي فَهْمٍ وذي وَعْيٍ وذي رَأيٍ على ظهر الأرض من الإنس والجِنّ: أنَّ دعوات الأنبياء -حتى بجهادهم وما قاموا به من قتال- هو عَيْنُ الرَّحمةِ والسلام لمن على ظهر الأرض -إن عقلوا- والله إنهم لا يُقاتِلونَ لمَغْنَمٍ ولا ذِكْرٍ، ولا ثرواتٍ يقتسمونها، ولا غَرَضٍ من الأغراض؛ ولكن ليُخرِجوا الناس من النار إلى الجنة، ومن العذاب إلى الرحمة، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الغضب إلى الرِّضا، ومن الخسران إلى الفوز، ومن الشقاء إلى السعادة؛ فكلهم رحمة لعباد الله، مَن ربّهم الرحمن الرحيم.. جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وجاء خاتمهم صلى الله عليه وسلم يَسُنُّ فيما أُمِرَ به وأُمِرَ به المؤمنون، من الإغلاظ على الكفار وقتال أئمتهم: أن لا يُمَثِّلوا بأحدٍ، وأن لا يُذَفِّفُوا على جريحٍ، وأن لا يقتلوا امرأة ولا صبيَّة، ولا مُعتَزِلاً في صومعته..إلى غير ذلك من المَحَاسِن، وأن يُحسِنوا إلى مَن أسَرَوا، وأن يدعو الجميع، وأن تكون رغبتهم في إسلامهم وفي إيمانهم أعظم وأكبر، وقال لمن يُرسِلهم: (اُدْعوهم إلى الله، فوالله لأن تأتوني بإسلامهم أحبَّ إليَّ من أن تأتوني بأموالهم وسباياهم) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ولكن مَن خرَج عن دَربِ الأنبياء، لا يُقَاتِل ولا يَستَعمِل الأسلحة ولا يعتدي على الغير؛ إلا لغرض نفسيٍّ، وإرادة هابطة، وكرسيٍّ وسلطان، وثروة على ظهر الأرض! فهل شيء يدفعهم غير هذا؟ هل شيء يدفعهم غير هذا لهذه الحروب؟ لهذا القتال؟ لهذه الأسلحة التي يفتخرون بها؟ ماذا يريدون منها؟ يريدون السيطرة على خلق الله! يريدون السيطرة على رقاب عباد الله من غير حق! يريدون أخذ الثروات! يريدون تنفيذ أهوائهم! هل لهم دافع غير هذا؟ فليُنبِئونا وليقولوا! وكلما جاؤوا إلى مكان ودمّروا وحاربوا قالوا: من أجل أن نُقِيم بينكم الديموقراطية وأن نُصلِح أحوالكم! فما يأتون إلى مكان إلا ازداد سوءه وتعبه وتعب الناس فيه، وأنواع الظلم والآفات! ما يدفعهم؟ ما يدفعهم؟!
أمَّا دوافع الأنبياء وأتباعهم كان يُعبِّر عنها سيدنا الربعيّ بن عامر: "الله ابتعثنا.." ما لنا غرض، ما لنا قصد في أنفسنا؛ لكِنَّا عرفنا عظمة الخالق، ومهمة هذا الخلق والوجود، وأن نقوم بأمره ونصره، "الله ابتعثنا لنُخرِجَ العباد من عبادة العباد إلى عبادة رَبِّ العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة" عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. وعوا وحي النبي محمد وبلاغ النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقاموا بتنفيذه وبتعريفه خير قيام -عليهم السلام، ورضي الله عنهم، وألحقنا بهم، وأرانا وجوههم، في البرزخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة-
وقال عن سادتنا من هذه الأمة: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. اجعلنا ممن اتبعهم بإحسان يا مُنزِل القرآن، اجعلنا ممن رضيتَ عنهم وأرضيتهم وأعددتَ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، يا منَّان، يا كريم يا رحمن .. يا الله .. يا الله، وافعل ذلك بجميع أهلينا وأحبابنا وذوينا وطلابنا وذوي الحقوق علينا، يا أرحم الراحمين .. يا أرحم الراحمين .. يا أرحم الراحمين، هَبْ لنا ذلك، واسلك بنا أشرف المسالك.
ولم يزالوا في منهج هذا السلام يُسَلِّمُونَ أنفسهم مِن موجبات الندامة والخُسران، والإيقاع في التَّجَبُّرِ والطُّغيان، والانحراف في السِّرِّ والإعلان؛ يُزَكُّونَ النفوس، ويقصدون وجه المَلِكِ القُدُّوس -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- فيصير أحدهم في وصفٍ وصفه حبيبُ المَلِكِ القُدُّوس، وقال: (والمؤمن مَن أَمِنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم) وقال: (المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولم يزالوا تحيّتهم السلام، وشعارهم السلام، وإذا لقوا بعضهم البعض ابتدأوا بالسلام (وخيرهم الذي يبدأ صاحبه بالسلام)، ولم يزالوا يبعثوا لبعضهم البعض السلام، وإذا جاءوا عند من سبقهم من أهل القبور ألقوا عليهم السلام، كذلك علّمهم رسول الإسلام ونبيُّ السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ولم يزالوا كذلك حتى يصِلون إلى المراتب الرفيعة؛ فتنتهي بهم هذه المسالك إلى أن يكون ما قال الإله المالك: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمنون بالله: لم يزل هذا المنهج يَدلُّ على الله، ويُرشِدُ العباد لما هو أقْوَم وأَطْيَب {إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} اللهم أجرنا من عذابك الأليم.
أيها المؤمنون: ولقد قال الله تعالى عن أعداء السَّلام من شِرَارِ الأنام على ظهر الأرض: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
يَظهَر علم الله: مَن المجاهد؟ مَن الذي لم يتخذ وليجة دون الله ورسوله والمؤمنين؟ ولم يوالي إلا الله ورسوله والمؤمنين، يعلَم الله ذلك من هذه الأحداث التي يُحدِثها في العالَم؛ فيُظهِر علمه؛ مَن الصادق، مَن المُخلِص؟
اللهم انظر إلى إخواننا من أهل الإسلام في غَزَّة وعسقلان، والبيت المقدس، والضفة الغربية، وبقيَّة فلسطين، وبقية أجزاء الأرض، بِنَظَرٍ من عندك ربَّاني، تملأ به قلوبهم إيمانا ويقينا، وإرادة لك ولوجهك، ونصرة لك ولرسولك.. يا أرحم الراحمين.
فإنَّ أهل الصدق منهم؛ ما أعظم درجاتهم! وقد أُشِير إليهم بِبنَانِ النبوة، وقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فيما صَحَّ من حديثه: (تكون نبوّة ورحمة، ثم خلافة على منهاج النبوة ورحمة، ثم مُلْكٌ عاضّ ورحمة، ثم جِبْرِيَّة، ثم يَتَكَادَمُونَ تَكَادُمَ الحمير..) قال صلى الله عليه وسلم: (..فجاهدوا في سبيل الله، وخير جهادكم الرِّباط، وخير رباطكم عسقلان). اجعل اللهم مَن في غَزَّةَ من الصابرين والمجاهدين مِمن أرادهم نبيك، وممن أشار إليهم، أنعِم عليهم بذلك، وارزقهم الإخلاص والصدق.
وكفى بما نَزَل بهم وبالأمة -لكُلِّ مَن عَقَل-: أن يتركوا الإرادات لغير الله، وأن يتركوا التَّبَاعُد من أجل الحِزبية، ومن أجل المذهبية، ومن أجل العصبية، ومن أجل أي اعتبار! ومن أجل أي ذَرْءٍ ذُرِءَ لهم مِن ذَرْءِ إبليس في التحريش! فقد ذرَأَ كثيراً وحرَّش بين المسلمين! وحُقَّ للعُقلاء من المسلمين اليوم أن يَهدِمُوا وأن يُبِيدُوا زَرْعَ التحريش الذي بذَره إبليس فيما بينهم، وأن يجتمعوا على كلمة واحدة، وعلى قلب واحد، يريدون به وجه الله!
إلى متى يلعب علينا إبليس وجنده شياطين الإنس والجن؟! بالمذاهب، وبالقبائل، وبالمناطق، وبالرغبة في الثروات، والرغبة في الدنيا، ويَضربون بعضنا ببعض! ويُجنِّدون بعضنا ضد بعض!
دفع الله شرهم عنَّا وعن المسلمين، وجمع شمل المسلمين بعد الشتات، وثبَّتهم أكمل الثبات، يا مُثَبِّتَ القلوب، يا مُقَلِّبَ القلوب والأبصار ثَبِّت قلوبنا على دينك .. يا الله .. يا الله، حتى يَصِحَّ لِكُلِّ فَردٍ مِنَّا لجميع مَن يعيش معهم من أهل الإسلام: السَّلام، ومَن قَدمَ كذلك، ومن يأتي مُسلِمًا؛ حتى نجتمع في دار السلام، ثم يأتينا السلام من حضرة الإله المَلكِ العَلَّام، بعد أن يُسَلِّم علينا الملائكة ويُسَلِّم علينا الأنبياء ويُسَلِّم علينا المُقَرَّبُون والصِّدِّيقون.. ثم يأتي المَلَك إلى قصر الواحدِ في الجنة ويقول: "ربّك السلام يُقرئك السلام، وعليك مني السلام" ويُجِيب: الله السلام ومنه السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} اللهم لا تحرمنا هذا الخير العظيم، وهذا الفضل الكبير، الجسيم الفخيم، ولا تقطعنا عنه بإغراءات العدو الرجيم، ولا إغراءات نفوس ولا أحد من كل لئيم، يا حيُّ يا قيوم رغِّبنا فيما رغَّبنا فيه أنبياؤك وأصفياؤك مما ائتمنتهم عليه أن يُبَلِّغُوه إلينا، يا رَبَّ السماوات والأرضين، ويا رَبَّ العالمين، ويا قاضي وفاصل وحاكم يوم الدين، يا مالك يوم الدين، يا أكرم الأكرمين يا الله، اجعلنا في يوم الدين في زمرة النبي الأمين، وفي دائرته، وأهل مودته ومرافقته.. برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبارك في جمعنا، وبارك لنا في الإسلام والإيمان، وما أعطيتنا والأمة من خير احفظه علينا، وضاعفه لنا يا ربِّ يا الله، ورُدَّ كيد الكائدين في نحورهم وصدورهم، واخذل أعدائك أعداء الدين، واجعل الدائرة عليهم، واشغلهم بأنفسهم، وخَالِف بين وجوههم وكلماتهم يا الله..
(إنَّ مَن أعانَ ظالما سلّطه الله عليه)، ويَا ظَلَمَة الأرض: مهما تعاونتم سنوات قَلَّت أو كثُرت على ظُلمِ الخَلْقِ فسيُسَلَّط بعضكم على بعض، وستُصبِحُونَ عِبرة لعباد الله (إنَّ الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته) جَلَّ جلاله {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} فاجعل كيدك على الفجار الكافرين، المؤذين المعاندين، يا قوي يا متين.. يا الله.. يا الله..
واجعلنا والحاضرين والسامعين ومَن في بيوتنا من أنصارك وأنصار رسولك الأمين، ظاهرًا وباطنا، حِسًا ومعنىً، والحمد لله رب العالمين.
26 ربيع الثاني 1445