(536)
(228)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 16 صفر الخير 1445هـ، بعنوان:
حقيقة الإنسانية وكرامة الآدمية بنور موجدها وميزان الحق مكوِّنها وخالقها
الحمدُ للهِ نور السماوات والأرض، مُكرِمنا بإشراقِ النور لِيجعلهُ الشفيع الأعظم يوم العرض، ويُشرِق منه النور على كُلّ من سبقت لهم سابقة السعادة مِن عالم الغَيب والشهادة جل جلاله، ويجمعهم أجمعين تحت لِواء هذا المصطفى الأمين، وتحت رايته يوم الدين.
(یَوۡمَ لَا یُخۡزِی ٱللَّهُ ٱلنَّبِیَّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُ) فاجعلنا يا ربِّ معه، (وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُ نُورُهُمۡ یَسۡعَىٰ بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۡ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَاۤ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ) ربّنا أتمِم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، ربنا أتمِم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أدِم صلواتك على السِّراج المنير والبشير النذير، الهادي إليك والدالِّ عليك سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته المُطهّرين وأصحابه الغُرّ الميامين، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى أنبيائك ورسلك أجمعين مَن جعلتهم سُرُج المُهتدين الهادين، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المُقرّبين وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
نورُ الله الذي أشرق ومِنهُ تكوَّنَ الملائكة المُقرَّبون وبُعِثَ النبيون والمرسلون، وصار منه للمؤمنين ما لا يُطفأ يوم يُخسَف الشمس والقمر، يوم تندثِر الكواكب وتتناثر، يوم لا يبقى نور إلا نور الله الذي يبرُزُ في مُحمد بن عبد الله وفي أتباعِه.
(یَوۡمَ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَـٰفِقَـٰتُ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِیلَ ٱرۡجِعُوا۟ وَرَاۤءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُوا۟ نُورࣰا)، لأنكم رجعتم وراءكم أيام كنتم في الدنيا، عُرِضَ عليكم النور ودُعيتم إليه فرجعتم إلى ورائكم، وقلتُم تقدُّمنا وقلتم تطوُّرنا وقلتم حضارتنا، وقلتم تكنولوجيانا وقلتم خصائصنا، وقلتم عُلوّنا وقلتم رِفعتنا وسُموّنا، ثم قلتم شهواتنا وأهواءنا ورُحتُم وراءها، فارجعوا وراءكم كما رجعتم ورجعتم وراءكم في الدنيا، (فَٱلۡتَمِسُوا۟ نُورࣰا) إن كان فيما رجعتم إليه في الدنيا نور فيظهر لكم النور، (فَضُرِبَ بَیۡنَهُم بِسُورࣲ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُ فِیهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَـٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ).
(یُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ) يعني عِشنا في زمان واحد ومكان في الدنيا، (قَالُوا۟ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِیُّ حَتَّىٰ جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ * فَٱلۡیَوۡمَ لَا یُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡیَةࣱ وَلَا مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ هِیَ مَوۡلَىٰكُمۡ) لأنّكم ما تولّيتُم إلا النار، تولّيتم الزِّنا والسرقة والكذب والغِش والخِيانة والقتل والاعتداء والخداع! وقُلتم سياسة وقُلتم شطارة، وقُلتم ما قلتم، أنتم توليتم النار والنار مولاكم! (هِیَ مَوۡلَىٰكُمۡ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ).
هذه الغاية التي ينتهي إليها جميع المُكلّفين شاء من شاء وأبى من أبى لا فرق! لا يتطلّب هذا المآل والمرجع رِضا أحد ولا مشيئة أحد ولا اختيار أحد، بل إرادة الواحد الأحد، الذي خلق الكل وكوَّنَ الكل وإليه مرجع الكُل -جلّ جلاله-، ومِن رحمته أنزل الكتب وأرسل الرُّسل وختمهم بالأفضل الأكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلنا بهِ خير أمة، فتواترت إلينا الخيرات التي يجب أن نعرِف قدرها، لا تُعرَف حقائق الإنسانية وكرامة الإنسان إلا بها، ولا يُوصَل إلى شريفِ رفيع رُتَب الإنسان إلا بواسطتها.
ومن بقي عنده أثر مِن نور الفِطرة المُستقاة مِن هذا النور، حفظ شيئاً من الفضائل والمناقِب والمكارم والقِيَم، مِن وفاء ومِن رحمة ومِن تواضُع ومِن إنقاذ للغير، ومِن إرشاد ومِن مساعدة ومِن معاونة، وأمثال ذلكُم مِن الصفات الحَسنة الحميدة التي تتناسب مع الإنسانية، وذلك أنَّ ما جُعِل فيمن هو دون الإنسان من الحيوانات والنباتات والجمادات، ما جُعِل فيها من خير أو منافع فالإنسان أولى به وأحق، وما تجرّد من هذه للشر والضُّر كما سمعتم في ضرب المَثل بهذه الحيوانات التي لا تعرف إلا الانغلاق على نفسها أو الإضرار بغيرها، هذا صِنف ونوع ومظهر من صفات تلك الحيوانات المُنحطّة.
ولما أراد الله أن يُبَيِّن خطر تقهقُر الإنسان وتدهوره وانحطاطه قال: (إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَالأَنعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ) والعياذ بالله تبارك وتعالى، أولئك الذين عطَّلوا الإنسانية وخصائصها، (لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ..) من هم هؤلاء؟ (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ) أيّ غفلة؟ غافلون عن خالقِهم! غافلون عن مُكَوِّنهم وبارئهم ومُنشئهم، غافلون عن عظمته المُبتثّة أنوارها في كل شيء، غافلون عن المرجع إليه والمصير، غافلون عن ما يشاهدونه في بداياتهم مِن نُطفة وعَلقة ومُضغة وعِظام، ثُم تُكسى العِظام لحماً ثم تنشِئ خلقاً آخر.. ما هذا؟ وما معنى هذا؟ وما السِّر في هذا؟ ولماذا يُكوِّن الإنسان بهذا التكوين! ثم يخرُج طفلاً ثم يكون بعد ذلك شاباً، ثم يكون كهلاً ثم يكون شيخاً ثم ينتهي! ما هذا الترتيب؟ ما هذا التدبير؟ من وضعه؟ من رتَّبَه؟ وكُلهم خاضعون لهذا الترتيب ثم يجهلون الخالق؟ بل يتجاهلونه ويُنكرونه وهُم يُدعون إلى الإيمان به جل جلاله وتعالى في عُلاه، ثم يُستعبدون للشهوات والأهواء إلى أبعد الحدود الذي تُخرجهم عن الإنسانية والحيوانية، فَكلُّ خباثة في حيوان أو نبات أو جماد كانوا هُم مركزها الأكبر، وكانوا هم مظهرها الأشد، إن كانت السباع تفترس واحد بعد الثاني، جاءوا بالقنبلة الذرية وافتخروا بها وجاءوا بأسلحة الدمار الشامل، فمن الأخبث ومن الأشد خطر؟ إن كانت الحية تقتل واحد بعد الثاني.. ولكن هؤلاء في الثانية يقتلون مئات، في الثانية يقتلون عشرات، ما هذا الانحطاط؟ ما هذا السقوط؟ (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ) مَن هؤلاء؟ قال هم ذرء ذُرِأَ لجهنم أصحاب النار!
(وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا) عطلّوا شأن القلوب، عوَّجوا التفكير وأمالوه، شأن القلب والفِكر يقول أنت مخلوق لك خالق ولم تُخلَق عبث، والوجود يحمل حِكمة عظيمة؛ فابحث لم خُلقت ومَن خلقك، انحرفوا عن هذا التفكير وانصرفوا عنه، بل تجاهروا بالمُضادّة له، (لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا).
(وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا)، يرونَ صور الأشياء وفيها الدلالات على مُصوِّرها، فيتغافلون ويتعامون عن رؤية المُصوِّر ويقفون عند الصور وكأنها كل شيء وكأنها كَوَّنت نفسها فهم لا يبصرون.
(وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤ) نِداء الحق والهُدى جاءهم مِن خالق كُل شيء عالم ما خفي وما بدا، على ألسُنِ الأنبياء حتى خُتِموا بسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آل وصحبه وسلم، (لَّا یَسۡمَعُونَ) ويسمعون وسوسة عدوهم، ويسمعون مُرادات نفوسهم، فهم لا يسمعون صوت الحق ونداء الحق.
(وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ) ، وفي ضلالتهم وهم أضل من الأنعام وفيهم الخباثة التي لا توجد في حيوان ولا نبات ولا جماد، مكرٌ وخِداع ما يحصل من شيء من هذه الكائنات، تدمير شامل ما يحصل من شيء من هذه الجمادات ولا الحيوانات ولا النباتات، إلا بِصُنعهم وسعيهم ومكرهم وخباثتهم هُم، بنو آدم هؤلاء الذين خرجوا عن الآدمية وخرجوا عن الإنسانية! وبعد هذا الانحطاط والهوي إلى الحضيض السافل يدعوننا لأن ننحط معهم ويدعوننا لأن نهوي في الحضيض معهم! وما دعوتهُم إلا بيانٌ عن تقصيرنا في أمانة الدعوة، الحقِّيَّة الحقيقية النورانية الربانية الإلهية السماوية، النبوية الرسولية المحمدية الأحمدية.
ومهما قامت هذه الدعوة التي فيها حياة الناس وتحقيق إنسانيتهم، ومُوافقة الفِطرة السليمة وحُسن المعيشة على ظهر الأرض حتى لِمن لم يؤمن، وحُسن المعيشة لِمن آمن في البرزخ ويوم القيامة، وفيها أمن الناس وفيها صلاح الناس، وفيها القيَم وفيها الفضائل، وفيها الأخلاق التي قال المُتجرِّؤون الأضل من الأنعام لا أخلاق عند بني آدم، كيف لا أخلاق؟ إلا كل جماعة هم يصطلحون على شيء ويقوموا به.. هذه هي أخلاقهم، لا والله! خالقنا، خَلقَ نوراً وظُلمة.
(ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ) خلق خيراً وشراً، خلق هُدىً وضلالاً، خلق حقاً وباطلاً، خلق صلاحاً وفساداً، خلق جنة وناراً، وعلى هذا تقوم القِيَم والأخلاق، إنّ الأخلاق كل وصف وشأنٍ وعملٍ وقولٍ يُحِبّهُ ويرضاهُ الخلّاق، هذه الأخلاق، هذه القيَم، ما لم يرضهُ خلّاقنا ومُكَوّننا هو الانحراف، هو الانهيار، هو الهدم، هو الضلال، كُلُّ ما لا يرضاهُ الخالق من الأقوال، كُل ما لا يرضاه الخالق الذي خلق من الأفعال، كُل ما لا يرضاه من الصفات؛ فهي الظُّلمات وهي الفساد وهي الضُّر وهي الشَّر وهي الهَلَكة، ميزان رباني بُعِثَ به الأنبياء لِيُعلِموا العِباد بِخبرِ هذا الميزان الذي لا يتزعزع ولا يتغير ولا يكون المرجع إلا إليه، وكل من غالطَ نفسه بميزان سِوى هذا فهو الهاوي بأشد الهُوِي إلى ظُلُماته وآفاته وعذابه وسوء المصير.
(وَلَـٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِیُّ حَتَّىٰ جَاۤءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ) قائدكُم إبليس بِما لهُ من تدليس وتلبيس، بِما له من كذب، بِما له من صِياغة يصوغُ فيها خدائعه ويصوغ فيها كذبه، وصدّقتموهُ وكذّبتم الحقّ ورُسُله وأنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم، (وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ).
(فَٱلۡیَوۡمَ لَا یُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡیَةࣱ وَلَا مِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟..) ما قيمة حضاراتكم؟ ما قيمة دولكم؟ ما قيمة تقدّمكم؟ ما قيمة أجهزتكم؟ في يوم يقول الله فيه: (وَلَوۡ أَنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا) تعرف ما في الأرض جميعاً؟ ذهبها ومدرها وبترولها وغازها وأسلحتها ومعسكراتها ورئاساتها.
(وَلَوۡ أَنَّ لِلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا وَمِثۡلَهُ مَعَهُ لَٱفۡتَدَوۡا۟ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلۡعَذَابِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ) لو كان هذا كُلّه موجود يقول خذوه مُقابل أن ينجو! ما قيمة الذي عندهم؟ ليس بشيء! (لَٱفۡتَدَوۡا۟ بِهِ مِن سُوۤءِ ٱلۡعَذَابِ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمۡ یَكُونُوا۟ یَحۡتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا كَسَبُوا۟) الظُّلم، الكذب، الغِش، سمَّوهُ تقدُّم وتطوّر وسمّوه سياسة، يغش ويكذب وينشُر غير الواقع، ويُقلِّب الحقائق مِن أجل يتوصّل إلى أغراض ساقطة هابطة ويُسمي نفسه المُتقدِّم! (وَبَدَا لَهُمۡ سَیِّـَٔاتُ مَا كَسَبُوا۟ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِ یَسۡتَهۡزِءُونَ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
هذه أخبار لا ظن ولا توقُّع ولا تجربة؛ لكن أخبارُ حقٍّ خلّاق فعّال لِما يُريد، قولهُ الحق وله الملك يوم يُنفَخُ في الصور، حملهُ عنه على ظهر الأرض أصفياء أهل الأرض، وأتقياء أهل الأرض، وأنقياء أهل الأرض، أنبياء ورُسل اختارهمُ الخلاق واصطفاهم، (ٱللَّهُ یَصۡطَفِی مِنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ رُسُلࣰا وَمِنَ ٱلنَّاسِ) وبعثهُم إلينا بهذه الأخبار وبهذا الميزان، (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزࣱ) جل جلاله وتعالى في علاه.
(ٱلرَّحۡمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ * ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانࣲ) يرجع الحُسبان في الشمس والقمر وتسييرها، والكواكب من حواليها والأرض التي نحن عليها إلى مَن؟ مكاتب من؟ وزارات من؟ إلى أيّ دولة؟ (ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانࣲ * وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ..) على ظهر الأرض من النباتات (یَسۡجُدَانِ * وَٱلسَّمَاۤءَ رَفَعَهَا) مِن قَبل خلق هؤلاء المُتكبّرين، من قَبل إيجاد هؤلاء المُتمرِّدين، السماء رفعها، انظر إلى عَظَمة مَن رفع السماء، تفتخر لي بِطائرة بدون طيار تمشي؟ والسماء التي فوقك من الذي رفعها؟ افتح عينك ما تُبصِر؟ افتح إذنك ما تسمع؟ شغِّل عقلك ما تفقه؟ مَنِ الذي رفع السماء بغيرِ عَمد؟ ومِن أيام جدّك وجد جدك وقبل.. وجد جد جدك؟ من الذي رفعها؟ وصيانتها على مَن؟ وإحكامها بِيَد من؟ الله الله الله الله!
سبعة سماوات وَصَفَهُنّ: (أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَـٰدࣰا * وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادࣰا * وَخَلَقۡنَـٰكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا * وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتࣰا * وَجَعَلۡنَا ٱلَّیۡلَ لِبَاسࣰا * وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشࣰا * وَبَنَیۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعࣰا شِدَادࣰا) ما هذا المبنى! هاتوا خبر ذا المبنى! خل حقك السفسطة في التليفون والجوال وانظر المبنى ذا الكبير، أين بانيه؟ من رافعه؟ (وَبَنَیۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعࣰا شِدَادࣰا * وَجَعَلۡنَا سِرَاجࣰا وَهَّاجࣰا * وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَ ٰتِ مَاۤءࣰ ثَجَّاجࣰا * لِّنُخۡرِجَ بِهِ حَبࣰّا وَنَبَاتࣰا * وَجَنَّـٰتٍ أَلۡفَافًا) أما كُلّ هذا أمام أعينكم؟ ما لكم لا تُبصِرون!
(إِنَّ یَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِیقَـٰتࣰا) لهُ وقت مُحدَّد! (وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡ فِیمَا فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ) لكن لها حد محدود بِقُدرة موجد الوجود، الخالق المَلِك المعبود، فتأتي في وقتها، (لَا تَأۡتِیكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةࣰ) (لَا تَأۡتِیكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةࣰ) !
(أَتَىٰۤ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ سُبۡحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ) ، (وَحَشَرۡنَـٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدࣰا * وَعُرِضُوا۟ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفࣰّا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدࣰا) وجاءَ الموعد انظر! (وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُشۡفِقِینَ مِمَّا فِیهِ وَیَقُولُونَ یَـٰوَیۡلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلۡكِتَـٰبِ لَا یُغَادِرُ صَغِیرَةࣰ وَلَا كَبِیرَةً إِلَّاۤ أَحۡصَىٰهَا وَوَجَدُوا۟ مَا عَمِلُوا۟ حَاضِرࣰا وَلَا یَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدࣰا) جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وصلتكُم هذه الأنوار فاحمدوا الله، مُنَوِّركم بِلا إله إلا الله مُحمّد رسول الله، ثبِّتنا عليها يا رب، وحقِّقنا بِحقائقها يا رب في جميع أقوالنا وأفعالنا، فإنا نعوذُ بك من قولٍ لا ترضاه ومن عمل لا ترضاه ومن وصف لا ترضاه؛ فلا تجعل لنا أقوالاً إلا مرضِيّةً لك، ولا أعمالاً إلا مرضِيّةً لك، ولا أوصافاً إلا مرضيةً لك محبوبةً عندك يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين.
كُلُّ ما في هذا الوجود الذي يُنبِئُ عن هذه الانحطاطات الغريبة التي وصل إليها الإنسان والبشرية في الزمن بما لم ينحدِر إليه مَن قبلنا مِن الأمم، أمّة بعد أمة فيهم أنواع من الفِسق والفجور والكفر، ولكن تقدُّم الناس صار في كل شيء حتى في الانحطاط والتدهور، حتى في أنواع الكفر، حتى في أنواع الفواحش والشهوات، انحطّوا على مَن قبلهم، وصار لا نظير لهم في الفساد ولا في الغَي، ولا عاد صار هذا الإنسان الذي فيه من يُفكِّر أن يكون خادم لحيوان أو يتحوَّل إلى صورة حيوان إلى غير ذلك مِن هذه الانحطاطات التي بلغت مبلغها! وذلك يُحرِّك قلوب من جاءهُ نور الحق على يد محمد، ما لكم تبخلونَ بهذا النور والأمة تتدهوَر هذا التدهور وتسقط هذا السقوط! ولو أشرق هذا النور في قلوبهم وعقولهم ما رضوا لأنفسهم بهذا التدهور، ولا بهذا السقوط ولا هذه الحالات المُزرِية، ولا بهذا الهلاك المُحقَّق والعياذ بالله تبارك وتعالى.
اعرفوا قدرَ ما أوتيتم من الخير وما تفضَّل عليكم الرب من هذه الأنوار، واعرفوا قدر هذه المجالس التي فيها صوت النبوة وصوت الرسالة وصوت السماء، وصوت الوحي والصوت الرَّبّاني والدعوة الإلهية؛ لِيُنقِذ الله من يُنقِذ ويرحم من يرحم، ويُقرِّب من شاء ويهدي من يشاء ويُسعِد من يشاء.
اللهم وَفِّر حظّنا من المِنَن وادفع عنا الآفات والمِحَن في السِّرِّ والعَلَن، واجعلنا مِمّن لبّى دعوة جدّ الحسين والحَسَن، عبدك المؤتمن الذي ختمتَ به النبوة والرسالة وجعلتهُ سيد الكل وإمام الرسل صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وصاحبهم وتابعيهم وعلينا معهم وفيهم، صلوات تُنقِّي بها يا ربّنا قلوبنا عن شوائبها، وعن معايبها وحُجُبها وظُلماتها وآفاتها، حتى يُشرِق لنا النور وتنشرح به الصدور، وينشرح به الصدر وينفسح فَنُنِيبُ إلى دار الخلود، ونتجافى عن دار الغرور ونستعد للموت قبل نزوله، "إنّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح، فهل لذلك مِن علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله".
اعمُر أعمارنا بخير ما يُقرِّبنا إليك ويرفع لنا المنزلة لديك حتى نلقاكَ على خير حال يا الله، كُلّ حاضر معنا وسامع لنا أنت وليّهُ عند خروجِ روحهِ وحصول غرغرتهِ وخروجه من هذه الدنيا؛ اللهم فالطُف بِكُلٍّ مِنا عند مماته وأْذَن بِثباتهِ، واجعلهُ يلقاكَ وأنت راضٍ عنه، تُحِبُّ لقاءه وهو يُحِبُّ لقاءك يا الله! نُلِحُّ عليك في ذلك يا الله، نُلِحُّ عليك في ذلك يا الله، يا من يُحِبّ المُلحّين في الدعاء نُلِحُّ عليك في ذلك يا الله، حُسن خاتمة، ثباتاً عند الممات، وفاةً على اليقين والمحبة، لُقيا لك وأنت راضٍ عنا، مُرافقة لحبيبك، وروداً موارد أهل تقريبك، وروداً على الحوض المورود، استظلالاً بِظِلِّ لواء الحمد المعقود، مُرافقةً لنبيك المحمود يا الله، حُسن خاتمة عند الموت يا الله، ثباتاً عند الممات يا الله، وفاةً على حقيقةِ لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا الله نسألك ذلك ونطلبك ذلك، ونُلِحُّ عليك في ذلك، ونتوجَّه إليك بذاتك وأسمائك وصفاتك وحبيبك أن تُحقِّق لِكُل مِنا حُسن خاتمة عند الوفاة.
يا الله ثبِّت قلوبنا على دينك، واختم لنا بالحسنى واليقين والمعرفة والمحبة يا حيُّ يا قيوم، ارحم موتانا وأحيانا وأصلِح ظواهرنا وخفايانا، وادفع البلاء عن بلداننا وأوطاننا، وحوِّل أحوالنا إلى أحسن الأحوال، رُدَّ كيد إبليس ومن دخل معه في نحورهم، واكف المسلمين جميع شرورهم، ارزقنا أداء حقّ هذه الأمانة في رحمة العباد، وفي تقريبهم إليك وإيصالهم يا جواد، يا مُصلِحاً أصلِح لنا كل قلب وفؤاد، وتَوَلّنا في المعاش وتَوَلّنا في المعاد، يا أجود الأجواد، يا من له عطاء ورِزق ما له من نفاد، يا الله يا الله يا الله، نِعمَ من ناديتموه ورجوتموه.
اللهم لا تُخَيِّب رجاءنا ولا ترُدَّ دعاءنا، وأرِنا في الأمة ما تَقَرُّ به عين نبيك يا أرحم الراحمين، واجعلنا في رِضوانك وفي كمال الإيمان واليقين والصدق معك، في جميع شؤوننا ظاهراً وباطناً، يا مُجيب الدعوات يا قاضي الحاجات يا رب الأرضين والسماوات، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
15 صفَر 1445