(230)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، في دار المصطفى، ليلة الجمعة 5 ربيع الثاني 1442هـ بعنوان:
حقيقة أولي الألباب بميزان الكتاب وصلاتهم بعالي الجناب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ المتفضِّلِ بإشراقِ النُّورِ المبين.. ليهديَ به من يشاء ((يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)) جلَّ جلاله وتعالىٰ في علاه..
نحمدهُ ونسألهُ الصلاةَ والسلامَ على عبْدِهِ الَّذِي به هدانا، وعلَّمنا وأرشدَنا ودعانا، وَوَجَّهَ الخطابَ إلينا ونادانا، فَلَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك، تلبيةً لمنادِيك والدَّالِ عليك، اللهم أَدِمْ صلواتِك على عبدِك المختار سيدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه الأطهار، وأصحابِهِ الأَخيار الشَّارِبينَ مِن ذلك المعدنِ خيرَ الكؤوس، فنالوا أعلىٰ مراتبِ تزكيةِ النُّفوس، وعلى مَن والاهم فيكَ واتَّبعهم بإحسانٍ على مَمَرِّ الأيّامِ واللَّيالِ إلى دارِ المآل، وعلى آبائِهِ وإخوانهِ منَ الأنبياءِ والمرسلين أهلِ المراتبِ الرفيعةِ العَوال، وعلى آلِهم وأصحابِهِم وَتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.. يا أرحمَ الراحمين.. يا أرحمَ الراحمين.
واسقِ هذه القلوبَ مِن سُقيا محبَّتِكَ ومحبَّةِ حبيبِك المحبوبِ وأَكرِمْها بذلك، لتَسْلُكَ في بقيةِ العُمرِ خَير المَسالك، محفوظةً مسلَّمةً مِن جميعِ الزَّيْغِ والآفاتِ والمهالك، مُتَعَرِّفةً مدركةً لأحلى المدارِك، وأشرفِها حَتَّىٰ تلقاكَ ظافرةً برضائِكَ عند لقائِك، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين ويا أَجْوَدَ الأَجْودين، وهذا أعلىٰ ما يُحَصَّل ويُكتسَب ويُطلَبُ ويُرغَب، ويُنالُ مِن خلال هذه الحياةِ القصيرةِ لكلِّ قلب، يتهيأ لذلك كلُّ قلبٍ لَبَّىٰ نداءَ رَبِّهِ الأعلى الذي دعانا إِلَىٰ شهادة أن لَّا إله إِلَّا الله وحدَه لا شريكَ له وَأَنَّ محمداً عبدُه ورسوله صَلَّى الله عليه وَعَلَى آلِهِ وصحبه وسلم ((رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ)) اللَّهُمَّ أَكرِم قلوبَنا والحاضرين والسّامعينَ بالسَّماعِ القويِّ الكبيرِ وحظٍّ وفيرٍ بسرِّ سماعِ نداءِ المنادي للإيمانِ والتحقُّق بحقائقِ الإيمان ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرَار * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْـمِيعَادَ))
وأهلُ هذا المَسْلك والمدْركِ والوِجْهَة والهمِّ والفكرِ الرفيعِ الصافي مِن أولي الأَلْبَاب كما وصفَهم ربُّ الأربابِ في عظيمِ الكتاب جلَّ جلاله وتعالى في علاه، كان مِن محصولاتِ نتائجِهم ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)) ففاز ذكورُهم وفازَ إناثُهم، وفازَ صغارُهم وفازَ كبارُهم، صفَت مدارُكهم وصفَت أفكارُهم وعلَت وسمَت، وما بقيَت محبوسةً في شَيْءٍ مِنْ هذه التَّافِهات الساقطات، الزائلات الفانيات التي حُبِسَتْ فيها أكثرُ أفكارِ أهلِ الْأَرْضَ، فعليهم الخِزْيُ يومَ العرض لِحَبسِ أفكارِهم في هذا الحقير، في هذا الزائل.
ويقول قائلهم: ((لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ))
((يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا))
((يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلً)) قد تَبَيَّنَ أَنَّ غاية ما كنتُ أُفكِّر فيه أنا وإيّاه تافِه وساقِط وهابط.
((يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي))، وهل الذِّكْرُ غير هذه التعليمات والتوجيهات والتنبيهات الإلـٰهيات الربانيات العظيميات القُدسيّات مِن ربِّ العرشِ جلَّ جلاله؟! تكرَّمَ وتفضَّلَ بإنزالِها على لسانِ خاتمِ النُّبُوَّة والرسالاتِ صلى الله عليه وسلم.. هذا هو الذِّكْر.
مَن أضلَّكَ عن هذا الذِّكْر فقد استهزأ بك، وقد أَفْسَدَكْ وقد ضرَّكْ ((لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا))
اللَّهُمَّ إنَّا نعوذُ بك مِن الخُذلان ونسألكَ التوفيقَ لمرضاتِك يا رحمٰن في كلِّ آن، وأنْ تسموَ بأفكارِنا حتى نطلبَ الدرجاتِ العُلى مع خِيارِ الملأ، ونستفيدَ من الحياةِ القصيرةِ خيراتٍ كبيرة، بقلوبٍ منيرةٍ وأقْدامٍ ثابتةٍ على الطريقةِ المرضِيَّة في الظاهرةِ والخفيَّة، يا مجيبَ الدعوات يا قاضيَ الحاجات يا ربَّ الأرضين والسموات.. يا الله.
أولئك الذين أخذوا مِن خلقِ السَّمواتِ والأرضِ غايةَ ما يُستفادُ مِن النَّظَرِ فيها والتأمُّل لما حوَته وحملَته ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) أَصْحَابِ العقولِ .. اللهم اجعلنا منهم.
((لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) وَأوَّلْ ميزتُهم في هذهِ الحياة ذِكْرُ الله قياماً وقعوداً وعلى الجنوبِ في الليل والنهار.
((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) يَذْكُرون مَن خلق، يَذْكُرون مَن أنعَمْ، يَذْكُرُونَ مَن وهب، يَذْكُرُونَ مَن تكرَّم، يَذْكُرُونَ مَن خلقَ الألْسُنَ لَهُم ومكَّنهم مِن ذكرِه بها، وخلقَ القلوبَ لهم ومكَّنَهم مِن ذكْرِهِ بها، وخلقَ الأسماعَ لهم، وخلقَ الأبصارَ لهم جل جلاله.
((يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)) هؤلاء أَهْلُ اللُّبِّ عقلوا، وما مقدارُ عقلِ مَن يذكُر منْ لم يَهَبْهُ السَّمْعَ ولا البصرَ ولا اللِّسان ولا القلبَ الفؤاد ولا العقلَ ولا الجسدَ ولا الرُّوح ولا الأبَ ولا الأمَّ ولا الحياةَ ولا الهواء.. ما وهبَه شيئاً مِن هذا، يذْكُرُه وينسى الوهاب لِكُلِّ هذه الأشياء، يستنشقُ هواءً مِن الرَّبِّ وهو ذاكرٌ لغيرِ الرَّب، ناسي للرَّب!! ينظر مناظرَ بعينٍ خلَقها الرَّب وهو ذاكر لغيرِ الرَّب ناسٍ للرَّب.
يسمع أصواتاً منها ما أحبَّه الرَّب ومنها ما كرهَهُ، والذي يسمعُ ما كرهَهُ الرَّب مِن تلك الأصْوات، أصواتُ أهلِ الخيانة، مَنْ أهلُ الخيانة؟ كلُّ مَن دعا إلى محرَّم، كل منْ استخَفَّ بعظيمٍ عند الإله الأعظم.. خائن، بأي وسيلةٍ مِنَ الوسائل يستمع إلى هذه الأصوات بِأُذُنٍ خلقَها اللهُ ناسِياً خالِقَها ذاكراً غَيْرَ خالِقِها، أيُّ عقلٍ عِنْدَه؟ أيُّ لُبٍّ عِنْدَه؟ إِنَّهُ الأحمق، إِنَّهُ السَّفيه، إِنَّهُ السَّاقِط، إِنَّهُ الَّذِي ناقض مع العقل مع الفطرة، مع السَّمع مع البصر، قال جَلّ جلاله ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَـمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا* إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) ((وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَـمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))
لعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: تضبُطون استعمالَ السَّمْعِ فيما أحبَّ خالقُ السَّمْع، استعمالَ البصر فيما أحبَّ خالِقُ البصر جلَّ جلاله.
وهؤلاء الذين يُغْرُونَكُم بأن تفتَحوا أعْيُنَكُم على المناظرِ الحرام.. ولم يخلقوا أعْيُنَكُم، وَيُعَرِّضونَكم لأَن تُعانِدوا خالقَ أعْيُنِكُم وتتعرَّضوا لِغَضَبِهِ وسخطِه كيفَ يستجيبُ لهم عاقل؟ كيف يستجيبُ لهم ذو لُب؟ إِنَّهُ الذي انعكسَت عليه الموازينُ ولم يدرِ حكمةَ الخلق ولا سرَّ الوجود ((وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ)) سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ !
أنتَ المقدَّسُ عن أن تلهوَ أو تلعبَ أو تتَّخذ سماواتٍ وأرضاً عَبَثاً وَهُزُوءا.
((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِين ** مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَـمُون * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْـمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ* ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيم * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُون))
أيها الشَّاكُّون، أيها المُترَدِّدون.. ما كنتم به تمترُون ستعاينون له مُعايَنة، ويقال: ((إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ))، ((هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ))، ((هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)).
((إِنَّ الْـمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْـمَوْتَ إِلَّا الْـمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))
هذا هو الذِّكْرُ الذي جاءنا، هذه حقائقُ النهاياتِ للكلِّ مِن جميعِ هؤلاء المكلَّفين، مَن آمنَ ومَن كفَر، مَن صدَّقَ ومَن كذَّب، مَن أقبلَ ومَن أدبر، هذه النهايةُ وهذه الغاية.
((فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ))
إنَّ أهلَ الْإيمانِ بالله مِن أولي الألبابِ يرتَقبون فضلاً ومَغفرةً ورضواناً وإحساناً وتوفيقاً في بقيةِ الأعمار، وحسنَ خاتمة ووفاةً على الإيمان، ويرتقبون عفواً مِن الرحمن، ونعيماً في البرازخِ، وحشراً مع زيْنِ الوجود يوم الْقِيامةِ، ووروداً علي حوضهِ المورود، واستظلالاً بظلِّ لوائهِ المعقودِ وبظلِّ العرشِ.
يرتقبون إذناً بالدخول إِلَىٰ دارِ الكرامةِ ومستقرِّ الرَّحْمة، وأَنْ يُنادَوا من قِبَلِ رَبِّ العَرش ((أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخَطُ عليكم أبداً)) ويخافون على جميعِ المجرمين والفاسقين والكافرين على ظهرِ الأرض مِن موتٍ على سوءِ الخاتمةِ ولقاءِ جبّارِ السمواتِ والأرضِ وهو غاضبٌ على أحدِهم ساخطٌ عليه، ومِن عذابٍ في القبورِ وعذابِ يومِ البعثِ والنشور، وخلودٍ في دارِ يُقال لهم فيها: ((اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ))
هذا الارتقابُ هو الارتقابُ الحقُّ الصحيحُ الصريحُ الذي لا يكونُ غيرُه؛ وماذا يرتقِب أولئك؟! ماذا يرتقِب أولئك؟
إنَّ غاياتِهم التي تَقْصُر إلى مُدةِ بقائهِم في الحياةِ الدنيا وأحدُهم لا يدري سنة، سنتين، عشر، خمسة عشر، عشرين، أقل.. أكثر.. يرتقبون فيها ما يعدُهم به الشيطان ((وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)) ثم قد يرسمُ في أذهانِهِمْ أَنَّهُمْ سَيُنْصَرون وَلَنْ يُنْصَروا، وَأَنَّهُ سيُخذَلُ أَهْلُ الله ولن يُخْذَلوا، وَأَنَّ وَأَنَّ.. مِن الكلامِ الفارغ، ثم لا يكون إِلَّا أن يلقى أحدُهُم رَبَّهُ فتنكشف الستارة فيعلم الحقيقة فيكفر بِكُلِّ ما كان معه، وَبِكُلِّ ما كانَ متوجهاً إليه وراغباً فيه، ولا ينفعه ذلك.
((فَلَـمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَـمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ))
اللهم أَعِذْنا من الكفر، وَأَعِذْنا من الظُّلْمِ، وَأَعِذْنا من الظلمة، وَأَعِذْنا مِن موجباتِ الحَسرةِ والندامة، واجعلنا مِن أولي الألباب.
((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ))
فالخِزْيُ لِمَن يدخلُ نارَ الله مِنْ كُلِّ قاصدٍ لمعصيةِ الله وراضٍ بها، مِنْ كُلِّ مخالفٍ لمحمدِ بن عبدالله صَلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله الذي أكرَمَكُم بهذا الذِّكْرِ وبهذا الخير، وبهذه المصاحبةِ للملائكةِ وللأرواحِ الطاهرةِ، ومصاحبةِ حبيبِ الرحمن مُحَمَّدٍ بالإيمان بِهِ وتعظيمهِ ومحبَّتِهِ، وَذِكْرِ أَخْلاقِهِ وشمائلهِ، والتَّشَوُّف إلى اتّباعِهِ، والرغبةِ في الاقتداء به ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) اجعلنا مِن المحبوبين لكَ وله برحمتِك يا أرحمَ الراحمين وجودِك يا أجودَ الأجوَدين.
ولا يزال الحقُّ به يرحمُ مَن شاء مِن عبادِه، ويعيشون مهما كان عَلَىٰ ظهرِ الأرض مِن ابتلائاتٍ واختباراتٍ وامتحاناتٍ متقلِّبةٍ بصورٍ كما تسمعونها وكما تشاهدونها لكل مُعْتَبِرْ وَلِكُلِّ مُدَّكِر، يعيشون في أَمْنِ قربٍ من الله، وفي أَمْنِ رضوانٍ من الرحمن، وفي أَمْنِ محبّة، وفي أَمْنِ معرفةٍ خاصَّة.. هذا في الدنيا ((الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَـمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْـمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))
وفي العُقبَى ما هو خير، وفي العُقْبى ما هو أفضل، وإنَّ للحقِّ حِكَماً في تسييرِ شؤونِ عبادِه وَأحوالِهِم.
((قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْـمُلْكِ تُؤْتِي الْـمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْـمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
تماماً كما هو المُتَحَكِّم في الليلِ والنهار ((تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ))
أَيشارِكُهُ في هَٰذَا أَحَدْ؟ فهو إذن المُسَيِّر المُدَبِّرُ لهذه الأفكارِ ولهذه التوجُّهات، ولهذه الإقبالات ولهذه الرَّغَبات، ولكن ما أشدَّ وَأَسْقَطَ أن يتعلَّقَ قلبُ المؤمنِ بمشابهةِ فاجرٍ أَو كافرٍ في زِيِّهِ أَوْ في منظرهِ أَوْ في كلامِه، وينسى مُحَمَّدَ بن عبدالله، وينسى أنبياءَ الله، وينسى رُسلَ اللهِ صلوات الله وسلامه عليهم، والصالحين مِن عبادِ الله، ولكن((يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ)) وَمَن تشبَّهَ بقومٍ فهو منهم، وَمَنْ أَحَبَّ قوماً حشرهُ اللهُ في زُمْرَتِهِم، ويعيش في أَمْنِ زيادةِ الرِّضا وزيادةِ المعرفة وزيادةِ المحبَّة وزيادةِ القُربِ كُلُّ صادقٍ مع الخالقِ مُقتدٍ بخيرِ الخلائق، في أيِّ زمانٍ أمامَ أي فِتْنَة، حتى إذا تمسَّكَ بهذه العروةِ الوُثقى ولو جاءت أشدُّ الفتنِ فتنةُ الخبيثِ الدجال لعاشَ في أَمْن.. أَمْنِ قربٍ، وَأَمْنِ رضا، وَأَمْنِ محبة، وَأَمْنِ معرفة بِاللهِ جلّ جلاله؛ يعيش فيها أَهْلُ هذه الدرجات عند ظهورِ الفتنةِ الكبرى ما بين مَن ذهبوا إلى الجبال، وما بين مَن أُرْسِلْ إليهم الظِّباء يشربون مِن ألبانها، وما بين مَن أن تغذَّت أجسادُهم بغذاءِ أرْواحِهِم بالتسبيحِ والتقديسِ للملكِ الجليل جلَّ جلاله، مُدَّة الفتنةِ حتى ينزلَ سيدُنا عيسى بن مريم ويقتل الدجال، وما بين مُنْحَازين مع سيدِنا الإمامِ المهدي عليه رحمةُ الله، وثابتين معه وقائمين معه، وينزل عيسى بن مريم ويُبيِّن لكثيرٍ مِن هؤلاء المؤمنين منازلَهم في الجنةِ بثباتِهم أيام تلكَ الفتنةِ الكبيرة.
فيا فوزَ المتعلِّقين باللهِ ورسولِه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. وَهُم عَلَىٰ ثقةٍ بهذا الإله، واعتمادٍ عليه، وتوكُّلٍ عليه جلَّ جلاله، وهو يُسيِّر أمورَهم بألطافهِ وبتيسيرِه وبعَونِه، وبمُلاحظتِه وبحكمتِه الربانيَّة لا إِلَهَ إِلَّا هو.
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدرا)) فهو الذي يُولجُ الليلَ في النهارِ وهو الذي يُقدِّرُ الأقدارَ، وَيُطَوِّرُ الأطوار.
اللهم اربُطنا بحبيبِك المختار، إنَّكَ تجعلُ للقلوبِ صلةً بذلكَ الحبيبِ المحبوب فاجعل صِلاتِ قلوبِنا مِن أقْوى الصِّلات، وأشرفِ الصِّلات، وأعلى الصِّلات، وأثبَتِ الصِّلاتِ، وأعلى الصِّلاتِ.. يا حيُّ يا قيومُ يا رفيعَ الدرجات.. يا ذا العرش يا مَن يُلْقي الروحَ مِن أمرِه على مَن يشاءُ مِن عباده، رَوِّحْ أرواحَنا بنسيمِ قُربِك، وحقائقِ محبَّتك، ومحبةِ حبيبِك سيدِ المرسلين، آمين.. آمين.. آمين.
يا أكرمَ الأكرمين انظُر لأهلِ المجمع ومَن يسمع نظرةً ربانية، تجعل قلوبَنا في أقوى الصِّلاتِ بخيرِ البريَّة، في جميعِ شؤونِنا الظاهرةِ والخفية، حتى نُكرَم في يومِ المحشرِ بشريفِ المعِيَّة.
فيا ربِّ واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارِك الفردوس أطيبِ موضعِ
فضلاً وإحساناً ومنّاً منك يا ** ذا الفضلِ والجودِ الأتمِّ الأوسعِ
يا الله.. يا الله.. يا الله
((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) يا الله.. يا الله.. يا الله
نظرة مِن نظراتك لكلِّ قلبٍ مِن هذه القلوب الحاضرة، وقلوبِ جميعِ مَن يسمعُنا ومَن في ديارِنا أجمعين، تملأها بالإيمانِ واليقينِ والرابطةِ بحبيبِكَ الأمين، واجعل صلاتِنا به أقوى الصِّلات، وتَوَلَّنا به في الظواهرِ والخفيَّات، وعجِّلْ بتفريجِ كرباتِ أُمَّتِه في المشارقِ والمغاربِ يا مجيبَ الدعوات.
رُدَّ كيدَ أعدائكَ وأعدائه في نحورِهم، واكفِ المسلمينَ جميعاً جميعَ شرورِهم، ولا تبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحدٍ مِن المسلمين يا حيُّ يا قيوم.. يا حيُّ يا قيوم.. يا حيُّ يا قيوم.
بسرِّ لهجهِ باسمِك يا حيُّ يا قيوم ليلةَ بدر انظر إلينا نظرتَك الى أهلِ بدر، واكشِف عنا الهمَّ والغمَّ والكدَر في السرِّ والجهر.
يا حيُّ يا قيّوم أصلِح القلوب، يا حيُّ يا قيّوم اغفرِ الذنوب، يا حيُّ يا قيُّوم اكشفِ الكروب، يا حيُّ يا قيّوم تُب علينا لنتوب.
يا حي يا قيوم رُدَّ كيدَ أعدائكَ أعداءِ الدين في نحورِهم، واكفِ المسلمين جميعَ شرورهم يا حيُّ يا قيّوم يا الله.
ونادوهُ متوجِّهين إليه، مُتذلِّلينَ بين يَدَيْه، واثقين بِهِ، خاضعين لجلاله مرتقبِين لفيضِ إفضالِه، وقولوا: يا الله.. بها تنتفعون وبها ترتفعون، وبها تُجابُون وتُسمَعون.
قولوا للأقربِ إليكم مِن حبلِ الوريد.. يا الله.
قولوا لمَن قال عن نفسِهِ (فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) يا الله.
أتدرون مَن تنادون؟ ومَن تدعون؟ ومن تطلبون؟ ومَن تسألون؟
ما أسعَدكم بهذا الإله الحقّ الحيِّ القيّوم.. نادوه بإخلاصٍ وصدقٍ وخضوعٍ وخشوعٍ وقولوا يا الله.. يا الله.. يا الله.
استجبْ دعاءنا وحقِّق رجاءنا، ولبِّ نداءنا، وأحسِن خاتمتَنا، واستر عوراتِنا، وتحمَّل التّبعاتِ عنا، واجعلنا مِن أسعد أُمَّةِ حبيبِك محمدٍ بحبيبِك محمد وقُربِه، ومودّتِه وحُبِّه، والشربِ مِن شُربِه، والنصرةِ له، والاتباعِ له، والاقتداءِ به، والسَّيرِ على دربه، ونصرةِ أمَّتهِ وخدمتِها على خيرِ الوجوهِ وأجملِها.. يا الله. في تمكينٍ مكين، ولطفٍ وعافية يا أرحمَ الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.
وصلِّ وَسَلِّمْ عليه في كلِّ حالٍ وحين، وآله وصحبِه والتابعين وأنبيائك والمرسلين، وآلهم وصحبِهم والتابعين، وملائكتِك المقرَّبين، وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
05 ربيع الثاني 1442