(230)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى ليلة الجمعة 15 صفر الخير 1442هـ بعنوان:
حقائق الشرف والكرامة والإسعاد وأقنعة التمرد والجحود والعناد
الحمد لله واسعِ الإفضالِ وجزيلِ النوال ذي العطايا الجزال والجود في توال، لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ في الدنيا وفي المآل.
آمنَّا به وبما جاء عنه وعلى مرادهِ، والمنّةُ له، وآمنَّا برسولهِ وعبدهِ المصطفى محمد وما جاء به عن الله وما بسط لنا به من بساطِ الاصطفاءِ والخيريَّة والعطايا الجزيلةِ الكريمةِ السَّنيَّة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم}
ولو آمن أهل الكتاب، الذين سبَقتْ لهم الإشارات في بلاغِ أنبيائهم عن خيرِ البريَّات، وعن أنَّه يُبْعثُ فتكونُ أُمَّتُه خيرَ الأمم، بشَّروا به وَوُصِف بأوصافِه في صورتِه الكريمةِ وخِلقتهِ العظيمة وأخلاقِهِ الكريمة العظيمة صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمْ. قال سيِّدنا عيسى لِقوْمِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليه.
{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} وكان أفضل لهم من التعلِّقِ بهذه التيَّاراتِ وهذه الحركاتِ وما حَصَلَ بَيْنَهم وبين مَن حواليهم ممَّن يعيشون معهم، بعد ذاك التلاعبِ بالدين والسخريةِ بأمر الحق جلَّ جلاله وأمْر رُسُلِهِ، وصُكوكِ الغفرانِ والتلاعبِ بالتحريفِ والتبديلِ لكلامِ الرحمن، حتى وُجِدت نفوسٌ تكره الدين وتكره أهلَ الدين، وترى فيه نقصاً وضعفاً وحاشا لدينِ الله، ولكن تحريفُهم وتبديلُهم وتغييرُهم وأهواؤهم التي أوجبت ذلك، وقامت فيهم هذه الثورات والحركات ومضادَّة الأديان من قِبَل شعوبهم، وجاء التنكّر وسمُّوهُ وأضفوا عليه أسماء وألقاب، تنكُر وتمرُّد وجُحُود وتباعُد، وسموهُ بأسماءَ علمانية وأسماء تقدُّم وأسماء تحرُّر وأسماء تطوّر؛ هو التنكُّر هو التمرُّد هو العِناد هو الجحود هو نفسه.
وأضفَوا عليهِ هذه الأسماء كما حدَّثنا صلى الله عليه وسلم أنَّ قوماً من هذه الأمة يُسمُّون الخمرَ بغير اسمها ويشربونها عيانا وإعلاناً، ويقولون هذه اسمها كذا كذا وهي نفسها هي الخمر، وهل يفيدُ تقليب الأسماءِ من شيء ؟!
وكان ما كان وحتى وصلوا الى ما وصلوا إليه الآن {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} خيرٌ مِن كلِّ هذه المهاوي وهذه الأتعاب، لو آمنوا بالله وبمحمد ﷺ وما جاء عن الله، كان خيراً لهم، منهم المؤمنون، قليل، وأكثرهم الفاسقون، ومع ذلك هم ومَن معهم من كلِّ مَن سوَّلتْ لهُ نفسه أن يعاديَ لا إله إلا الله محمدٌّ رسول الله ويعادي منهجَ الحق.
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنصَرُونَ *ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ}
وكُلِّ عصيانٍ واعتداءٍ نتائجُه هذه المآلاتُ الصعبَة الشديدة، وهذه الندامات والحسرات {لَيْسُوا سَوَاءً} قال الله تعالى في إنصافه {لَيْسُوا سَوَاءً} منهم ومِنْ مَنْ مضى من أخيارهم {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}
هذه مظاهر الصلاح والخيرِ والفوزِ والفلاح {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}
هذا هو المسلك، هذه هي علامات الفوزِ والنجاحِ والفلاح لا غيرَها، من كل ما يُتَشطَّحُ بهِ ومن كل ما يُفْتخر به، غير القيام مِن أجل الله؟! غير حقائقِ الإيمان بالله؟! غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟! لا فخر.. لا شرف.. لا عزّة.. لا وصولَ الى السعادة.
والهداية كلها فيما قال الرحمن: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}
فتقوم آثارُ الوفاء بعهدِ الله عند المؤمنين باللهِ أن يصْدُقوا في تبعيَّتِهم للنبيِّ محمد، وأن يتبرَّأوا مِن كلِّ استتباعٍ لشرقٍ أو لغربٍ، لصغيرٍ أو لكبير، لإنسيٍّ أو جنيِّ، لأي أحدٍ، شعوباً وحكومات.
قد بايَعنا الله وبِعنا الأنفسَ والأموالَ لله، والمتبوع محمدُ بن عبدالله، فلسنا للبيع، ولا وِجهتنا للبيع، ولا أخلاقنا للبيع، ولا اعتقادُنا للبيع، ومَن يعيشُ على ظهر الحياة بعقلهِ، ففي منهجِ الله تبارك وتعالى ميزانُ التعامل بلا ظلمٍ ولا إجحاف، ولا تعدٍّ للحد ولا تدخُّلٍ في أديان الناس في دين الحق والهدى وفي ما يُؤخَذ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، وفي ما يُسْند إلى هذا المصطفى.
هذا ليس من حقٍّ لمصانع ولا صناعات ولا تجارات ولا حضارات ولا دول ولا شعوب ولا أمم متحدة ولا دُول صغرى ولا كبرى، ما لهم حق أن يتدخَّلوا فيه.
ليس من حقهم؛ لا عقلا ولا عُرفاً ولا منطقاً، ما لهم حق فيه، لا خلقوا ولا رزقوا ولا إليهم المرجع، وإن طغوا. وإن قال لسان الحالِ مِن بعضِهم {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}
وإن قال لسانُ الحال مِن بعضِهم {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي}
وإن قال لسانُ الحال مِن بعضِهم {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}
وإن قال لسانُ الحالُ مِن بعضِهم: لنخرجنَّكم من أرضكم أو لتعودنَّ في ملِّتنا.
عادَ الأمم السابقة كانوا يقولون {لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا}
أما الآن يقولون (من أرضكم سنخرجكم، حتى ونحن بعيد منكم،) لأنهم تطوروا!
اللهم اكشفِ البلاءَ عن المؤمنين، واملأ القلوبَ بالإيمانِ واليقين، وارزقنا التبعيَّة لحبيبِك الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}
يعلنُ أهل الوفاء، أننا لسنا للبيع في التبعيَّة في أمرِ الدين والحقِّ والخُلقِ لأحد، ولكن الخالق بعث لنا مَن يتمِّم مكارم الاخلاق، فليس لنا عنه انصراف، ولا عنه محيد ولا إلى غيره انطِلاق، صلوات ربي وسلامه عليه. وهو صاحبُ (أنا لها في يوم القيامة) فمن ينالها غيره؟ حتى الملائكة، حتى الأنبياء ما ينالونها. فكيف بالحضارات وأهلها؟! فكيف بالدول وأهلها؟!
ماذا عندهم؟! أكثرهم مخزيِّون في ذلك اليوم، أكثرهم مخزيِّون.. {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}
اللهم اجعلنا معه، واجعل إيمانَنا معه، واجعل تبعيَّتنا له ظاهراً وباطناً يا الله.
فالناسُ يبيتون على ظهرِ الأرض وأكثرُهم تبعيَّتُهم لأهواء أو لأنفس من عندِ ذواتهم، والأعجبُ مِن ذلك أنَّ الأكثر لهم تبعيَّات لأهواءَ وشهواتِ غيرهم، تبعيُّتهم لأهواء وأنفس غيرهم.
بأي صورة من الصور يجعلونها؟ والشريعة المحرِّرة للخلق من استرقاق بعضهم يقول:
{وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه} جلَّ جلاله وتعالى في علاه، فيبيتُ أكثرُ الناس وتبعيَّاتهم للأنفس والأهواء، بعضهم من قِبل ذواتهم وبعضهم لأنفسِ غيرهم ولأهواءِ غيرهم، ولا يفوزُ إلا مَن كان هواه تبعاً لما جاء به حبيبُ الحق.
الذين يعيشون على هذا الوفاء بعهدِ الله تبارك وتعالى، ويبيتون في ليلتِنا هذه على ظهر الأرض وتبعيَّتهم بكل هِمَّة وبكل عزمٍ وبكل جزمٍ للحقِ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والنداء يخاطب كلَّ ذرةٍ من مشاعرهم وأحاسيسهم {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}
تأمَّل الثمانيةَ هذه، وقِس حركةَ الناس في الحياة.. هل يوجد غيرها؟
يا متقدِّم يا متطوِّر.. هل معك غير هذه؟
إن كان شيء من هذه كلها {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
تهديد من الجبار لستم بالصادقين ولا بالموفين بالعهود ولا بالمؤمنين {فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
فإن إيثارَ الغير من هذه الأشياء على الله ورسوله فسوق، خروجٌ عن السَّوى، خروج عن الحق، خروج عن الهدى.
فالله يُسْكِنْ قلوبنا محبَّته ومحبَّةَ رسولِه حتى نعيشَ باقي أعمارنا واللهُ ورسولُه أحبُّ إلينا مما سواهما، وهذا مِن أقوى أسباب ذوقِ حلاوة الإيمان، وعلى قدْرِ ذوقِ حلاوة الإيمان تُعطَى المعرفةَ بالرحمن، وعلى قدْر هذا الذوقِ والمعرفة نعيمُكَ في الجنَّة، ولذَّتك بما فيها ومنزلتكَ عند مُنشِئها وباريها جلَّ جلاله.
فلا تَغبُن نفسَك ولا تخدَع نفسَك ولا يخدَعكَ غيرُك، خيرُ ما كسبتَ رضوان مولاك والقربُ مِن خالقك ومحبتهُ والمعرفةُ الخاصة به، ولا يعرفُه إلا من تعرَّف بفْضلهِ إليه جلَّ جلاله وتعالى في علاه، ومهمَّتُنا وقد صدَّقنا محمداً وآمنَّا به أن نبحثَ عن هذا الذوقِ وهذا الوجدانِ وهذا التحصيلِ لارتقاءِ مراتبِ الرضا والمحبةِ والمعرفةِ والقرب مِن الله..
مِن أجل القُربِ مِن وظائف، من أجل القُربِ من مظاهر في المجتمع.. سافرَ الناس، تعبَ الناس، وبذلَ الناسُ جهوداً كثيرة، فما تُقَدِّر القربَ مِن ربِّ العرش.. ما مقداره؟ هو الذي أحقُّ أن تبذلَ فيه كلَّ شيء وتنالُ القربَ من الله، والله بيده ملكوت كلِّ شيء.
فبالله عليك ماذا ينقص عليك؟ وماذا يقصر؟ إذا قرُبتَ ممَّن بيده ملكوتُ كلِّ شيء. أتراه يُخسِرك؟ أتراه ينقصك؟ أترى أنَّ غيرَه أعلم بخيرك ومصلحتك منه؟ وليس بيدك ولا بيدِ غيرك شيء إلا ما ابتلاكم واختبرَكم به فقط، وإلا الأمرُ له، والمُلك له {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
ما أعجب أن تكونَ منه قريباً وأن تكون له مُحِباً، وما أعظم وأجلَّ أن تكون له محبوباً (ولا يزالُ عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل بعد أداء الفرائض حتى أُحِبَّه)، ومراتب الشرف والعزةِ التي ذُكرت في القرآن في هذه الآية وغيرها من الآيات {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}
يقول تعالى في هذا المعنى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}
لأنَّ أشدَّ كلِّ شدةٍ في الآخرة، كما أَنَّ أنعمَ كلِّ نعيم في الآخرة، بل شدائدُ الدنيا وبلاؤها وأتعابُها وآلامُها لو جُمِعتْ، ما ساوت آلامَ ســاعـةٍ في الآخرة، ونعيم الدنيا ولذائذها وشهواتها لو جُمِعتْ، ما ساوت لذَّةَ نعيم ساعة في الآخرة {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} يعني عاقل، متفتِّح متطوِّر متحرِّر.. هذا صحيح.
أما واحد يتنكَّب عن سبيلِ الله يقول تطوُّر.. إلى فين تطوّر؟ يتدهور ، أين يذهب!؟ تركَ القويَّ وذهب لمن ليس بيده شيء، أي تطوُّر هذا! ما ذا ضيَّع!؟ وأين ذهب؟ وكيف النتيجة؟
لكن هذا وعى {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}
فإذا كان في عالم الدنيا ومع اختلاف الأضرارِ والشدائد بعوضة مقبلة عليك متْعِبة، نعم متعِبة، يمكن قرصة ويمكن تحمل ملاريا ولا شيء، تـمام.. لكن لو في أسد مُقبل ويجي واحد يقول ماذا تريد من الأسد! البعوضة البعوضة !! قل له لما أكون مجنوناً مثلك سأشتغل بالبعوضة واترك الأسد، دعني أهرب من الأسد أولا، وهات لي عشر بعوضات تقبصنا وأسهل لي ولا عضة وحدة من الأسد، عضة من الأسد وأنهتني، خسران الآخرة هو الخسران.. أنت تخوِّفني من البعوضة، ألم في الدنيا ولا فقر في الدنيا، وشوف الذي أمامي؟! تريدني أتوهدر في نار الله تعالى مِن شأن تخلِّصني من هذا الأمر الحقير! دعني أجوع أحسن لي أموت من الجوع، وإن كان لا يموت من الجوع أحد، لأنه أرزاق قد قدَّرها، وقبل ما تكمل رزقك ولو تجمعت حكومات الأرض تمنعك ما تقدر، لما تُكمِّل رزقك، لو لك حبة ما قدرت حكومات الأرض أن تقطعَها عنك، وما قُدِّر لماضغيك أن يمضغاه فلا بدَّ أن يمضغاه.
تعجّب بعضهم واحد حصلت له حادثة جاء يمشي في الطريق سقط في البئر وجاءوا وأنقذوه وخرَّجوه والحمد لله وجابوا له لبن يشربه وقالوا: الحمد لله رب سلَّمك ونجَّاك، إيه الذي حصل لك؟
قال: كنت أمشي كذا، قام يصور كيف يمشي، سقط مرة ثانية ومات.
فتعجب اللي معه! قال هذا كان له لحظات من العمر، عند السقطة الأولى ما يمكن يموت قبلها، وكان له شربة لبن في الدنيا، هذه ما يمكن يشربها إنسان ولا جني ولا حيوان حقه، مقدَّرة من عند الرب حقه، يطلع من البئر.. اشرب لبنك كمّل الِّلي لك، ارجع مرة ثانية هيا روّح لك، هو ثاني مرة متشبث في الحياة ما بغى يسقط، إلا بغى يصوّر لهم بس، كيف راح وراح حسه وعقله وسقط السقطة الثانية! ومات.. له لحظات في الحياة.
سقط من عمارة كبيرة، فوق، ويسقط وإذا بقاطرة مارة ملآنة بالإسفنج وسقط فوقها، سلِم، وخرج وجاء أصحابه يهنّونه فرح وراح البقالة يشتري لهم عصير، في الطريق شوية رجْله كذا سقط ومات محلّهُ، كان سقط من فوق ما مات!
عاد باقي لحظات له، عمر له من الله لابد يكمله ما مات، في الطريق يمشي في الأرض في سواء الأرض لا من محل عُلو والأجل حضر ومات في مكانه {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}
بقي بعد ذلك، اختبار الله لنا بالأسبابِ والحركاتِ والاكتساباتِ وأن نزنَها بميزان التوكل عليه والصدق معه والاعتماد عليه، ودون الاعتماد على الأسباب وأن نأخذ الحلال ونترك الحرام، إختبار فقط { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
وإلَّا.. لا فينا بأفراد ولا مجموعات، مَن يُقدِّم من دونهِ ولا يؤخَّر من دونهِ ولا يرفع من دونه ولا يخفض من دونه ولا يعطي من دونه ولا يمنع من دونه أبداً أبداً أبدا، اختبار فقط، يختبركم، كيف تتصرف؟ كيف تختار؟ وهل تتبع المختار وإلا تروح وراء الأهواء والأشرار؟ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}
والمرجع إليه والحكم إليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}
{فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} جلَّ جلاله، فالحمد لله على أقضيةِ الله وأقداره.
كنا قد فقدنا علم من أعلام المسلمين (الشيخ نور الدين عتر) عليه رحمة الله تبارك وتعالى في الشام وكان مِن أهل العلم الذي تربى في سندِ العلم وأدب العلم والخضوع والخشوع والإنابة، عليه رحمة الله، جاء في بعض السنين وحضر بعض المؤتمرات في صنعاء وجاء وزار إلى دار المصطفى وتحدث هنا، ورأينا عنده لما زرناه في الجامع الأموي ومجموعة من النساء عندهم والبنات حفظن الأمهات الست، قال بدأن برياض الصالحين ثم حفظن صحيح البخاري وصحيح مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وكملن.
وقال إن الذين بدأن بحفظ رياض الصالحين سهُل عليهن حفظ بقيته، ولما ابتدأن في الكتب الكبار، قالوا صار المتنُ أشقَّ علينا من السند، السند متكرر وحفظن وكان سهل عليهن، وصار المُتون هي التي يركِّزن عليها، ومنهن عدد تخرَّجن على يده، عليه رحمة الله، وعلى نظره ، عليه رحمة الله وجمعنا به في دار الكرامة في مستقر الرحمة.
تعجب لما جاء ورأى الطلبة والوافدين وكذا قال ما تنقص عن الحركة عندنا بالشام والوافدين في تلك الأيام وعاد الأبواب مفتوحة في الشام في الوقت.
والله يرينا آثار دعوةِ المصطفى لليمن والشام والبركة فيها، ولابد أن تُرى، وفيها طوايا كثير وخبايا ولابد أن تظهر وكل شيء في وقته وكل شيء في زمانه، ولا أحد من المسلمين ولا الكفار يقدر يغيّر قضاء الله وقدره ولا يقدِّم ولا يؤخر، ولكن كلهم خدمة القضاء والقدر، هذا يصدق مع الله فينال الرضا وهذا تسوِّل له نفسه ويعاند وينال السُخُط والبعد وسوء الحساب والكل راجع الى رب الأرباب جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
أَنْتَ وَالخْلاَئِقْ كُلُّهُمْ عَبِيدْ ... وَ الإِلَهُ فِينَا , يَفْعَلُ مَا يُرِيدْ
هَمُّكْ وَاغْتِمَامُكْ وَيْحَكْ مَا يُفِيدْ ... الَقْضَا تَقَدَّمْ فَاغْنَمِ الْسُّكُونْ
لاَ يَكْثُرُ هَمُّكْ مَا قُدِّرْ يَكْونْ
رحمهم الله تبارك وتعالى .
وهذه الحادثة التي فيها تسعة أنفس صلينا عليهم مَّرة في جنائز في وقت واحد، أعلى الله درجاتِهم وجمعنا بهم في أعلى الجنة، ولحقهُم هذا السيد حسين بن سهل، والسيد حسين بن علي الحبشي، من أرباب الأخلاق والسيرة، وفي وظيفته مقتصر على الزهد والحلال، يصرف ما عنده وما يوجد له دولاب من أجل ثيابه في غرفته التي يعيش فيها، راضي ولا متلفت كذا وكذا، ولو أراد تحت أدائه فُرص كثيرة ليأخذ منها لكن ما يحب هذا، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
(ومضوا على السبيل الى العُلى)
وذا يروح وكذا.. شأننا كلنا المضي، إلّا .. كيف نستضيئ؟ ما دمنا في أيام الفرصة القليلة اليسيرة لندرك بها الدرجاتِ الرفيعةَ الكبيرة.
فياربِّ وفقنا، يامن وفق أهل الخير للخير وأعانهم عليه وفقنا للخير وأعنّا عليه. الحمدلله الذي جمعكم على هذا التوجه إليه وعلى هذه الإنابةِ إليه وعلى التذلل بين يديه.
تأتون في مثل هذه الساعة؟ وكلكم تطرقون بابَ من؟ وترتجون مَن؟ وتؤمِّلون من؟ وترتمون على أعتابِ من؟ ومن حيث يُحب أن يؤتى، ذكره وذكر كتابه وذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والصلاة على رسوله محمد، فوسائلكم خيرُ الوسائل وأعلى الوسائل إلى الرب جلَّ جلاله وتعالى في علاه والحمد لله.
هذا مرمي على باب نفسه وهذا مرمي على باب شهواته وهذا مرمي على باب جماعته، وهذا مرمي على باب قبيلته وهذا مرمي على باب حكومته، وأنتم تجون في العزة ترتمون على بابِ ربِّ العرش العظيم، اللهم لك الحمد، فالله ينظر إلى قلوبكم. والقلوب التي صدقَت مع الله في شرقِ الأرض وغربها، اقبَلهم يا رب وانظر إليهم وأقِم بهم حقائقَ الشريعة وحقائقَ الاسلام، وادفع القطيعةَ وادفع شرَّ اللئام مِن أهل الخيانة واهل المكرِ وأهل الضرِّ بعبادك.
اللهم واجعلنا في أنفعِ العبادِ للعباد وأبرك العباد على العباد، فإنَّ نبيَّك علَّمنا أنَّ أحبَّنا إليك أنفعُنا لخلقِك، فاجعلنا من أنفع الخلقِ لخلقِك برحمتك يا أرحم الراحمين.
بتوفيقك وبتأيدك وإلهامك الرشد في الحركات والسكنات، لا تدع ياربي في مجمعنا ولا من يسمعنا قلبا إلا حشوته بنور معرفةٍ بك ورضاً منك ورضاً عنك ومحبةً منك ومحبة لكَ وقُربٍ منك يا قريب.
يا مَن هو أقربُ الى كل فردٍ منا مِن حبلِ الوريد، وليس البعدُ إلا منَّا وعلى حسابِنا وفي شأننا، فاطوِ مسافةَ البعد عنا طيَّا، واكفِنا اللهم ليَّاً وغيَّا، وأنظِمنا في سِلكِ أهل الاتباع لحبيبِك محمد خيرِ الورى هديا، خلِّقنا بأخلاقه وأدِّبنا بآدابه، يا ذا الجلالِ والإكرام.. يا ذا الجودِ والإنعام.. يا حيُّ يا قيوم يا الله.
اقبلنا على ما فينا وأقبِل بوجهِك الكريم علينا يا ربَّنا.. تتوالى بنا الليالي والأيام وتنقضي بنا الأعمار فاجعلها مصروفةً في خيرِ ما يرضيك.
واجعلنا مِن أسعدِ الخلقِ برضاك ومحبَّتك والقربِ منك والمعرفةِ بك في ســاعةِ نلاقيك.. يا الله.. يا الله.. هيئنا وإياهم لشريفِ اللقاء، اخلَع علينا أسنى وأزهى خِلَعِ التُقى، واربطنا ربطاً لا ينحلُّ بحبيبك المنتقَى، يا الله.. يا الله.. يا الله.
يا خيرَ مَدعُوّ وأكرم مَرجو، يا كريمُ يا غفور يا عفو يا حيُّ يا قيوم يا الله ..
إنك عفوٌ تحبُ العفو فاعفُ عنا..
وقد نالَ الهناءَ مَن باتَ ليلتَه وقد عفوتَ عنه فاعفُ عنا.. قرَّت مَن عفوتُ عنه عينا.
فاللهم فاعفُ عنا وزدِنا، وارضَ عنا، وزِدنا، وقرِّبنا وزدنا، وتعرَّف علينا وزدنا يا الله .. يا الله
القلوب تلهج باسمك والألسن تلهج باسمك والشأن قد أحاطَ به علمُك، ونحن بين يديك فارحم تذلُّلنا يا حيُّ يا قيوم وتوجُّهَنا إليك يا الله.. يا الله.. يا الله
برحمتِك يا أرحم الراحمين وأصلح يمَنَنا وشامَنا.. شرقَنا وغربَنا.. اكشفِ الغمَّةَ عن جميعِ الأمةِ ظاهراً وباطناً برحمتك.
والحمد لله رب العالمين.
16 صفَر 1442