(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 15 رجب 1440هـ، بعنوان: تعظيم أوامر العظيم ونواهيه وشرف مناجاته والتذلل بين يديه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ على توَالي مِنَنِهِ وعلى عظيمِ أياديهِ ونِعَمِهِ، له الحمدُ شكراً، وله المَنُّ فضلاً، ونسأله مِنه جُوداً وطَوْلاً، وأنْ يزِيدَنا مِن فَضلِهِ ما كانَ لهُ أهْلاً، ونَسْألُهُ أنْ يُصَلِّيَ ويُسلِّمَ على عبدِه المصطفى مَن جعلَهُ بينَ بريِّتهِ الأفضلَ والأعلى، والأكْمَلَ والأجَلَّ والأغْلى. اللَّهُمَّ أَدِمْ صَلَواتِكَ على صَفْوَتِكَ مِن البرِيَّة سيِّدِنا محمَّدٍ صاحبِ المعراجِ والإسْرَاء، وعلى آلِه وأصحابِه أُسْدِ الشَّرَى، وعلى مَن تَبِعَهُم بإحْسانٍ وبِمَجْرَاهُم جَرَى، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنْبِياءِ والمُرسَلِينَ سادات الكُبَراء، وعلى آلهِم وصحْبِهم ومَن تَبِعَهُم بإحْسان، وعلى الملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادِكَ الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم بِجُودِكَ يا كريمُ يا منَّانُ يا أرْحمَ الراحِمين.
إنَّ الذي يجمَعُكُم جلَّ جلالهُ، ويجمعُ معكم قلوباً كثيرةً في شرْقِ الأرضِ وغرْبِها في هذا الزمانِ متوجِّهينَ إليهِ ومُسْتَمْطِرينَ ما عِنْدَه؛ هُوَ الذي أرْسلَ رَسُولَه؛ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وَهُوَ الَّذي وعَدَهُ بالنَّصْرِ، وأنْ يَبْقَى الخيْرُ في أُمَّتِهِ، حتى إذا نزلَ سيِّدُنا عيسى بنُ مريم مِن السَّماءِ إلى الأرضِ وَجَدَ في الأمَّةِ مِثْلَ حَوَارِيِّيهِ وأفْضلَ مِنْهُم، فضلاً وجُوداً وكَرَماً ومَنَّاً، وهو الذي سُبحانهُ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء، وإليه مَرْجِعُ كُلِّ شَيْء.
فهنيئاً لِمَنْ فَتَحَ له بابَ معرفةٍ به بِتَعَرُّفٍ مِنهُ جلَّ جلاله إلى ذلك العَبْد؛ وإنما تُفتَحُ هذهِ الأبوابُ بالاسْتِجَابةِ والاقْتِداءِ والاهْتِداءِ، والحضُورِ في مَحاضِرِ النُّور بالانْكِسَارِ والخشوعِ والخضوعِ لِلْمَلِكِ الغَفُورِ جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، كم على ظَهْرِ الأرضِ مِن مجالِس ولا كُلُّها بِمَرْضِيٍّ عند الله، ولا كُلَّها بِمَشْكُورٍ عند الله، ولا كلها بِمَذْكورٍ بالخيرِ في الملأ الأعلى، ولكن مَجالِسُ المؤمنين الصَّادِقين المخْلِصِينَ المتوَجِّهِينَ الذَّاكِرينَ لله، المذْكُورينَ عند اللهِ وفي الملأِ الأعلى، وهو القائل في حَدِيثهِ القُدْسِي: {مَن ذَكَرَني في نفسِهِ ذَكَرتُهُ في نفسي، ومَن ذَكَرَني في ملأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَأَطْيَب}، الحمدُ لله على نِعَمِهِ ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ).
أيُّها المْسْتَغْفِرونَ في طولِ الوقتِ، والذين وُفِّقُوا في هذا الشهر المبارك لِكَثْرَةِ الاستغفار: اسْتَمْسِكُوا بالغفَّار، وافرحُوا بالغَفَّار، وعَظِّموا الغَفَّار الذي قال لَكُم فيما أوْحَى على لِسَانِ نَبِيِّه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)؛ فاتِح بابِ التَّوْبَةِ كَرَمَاً مِنهُ ورحمةً بالعِباد، يَبسُط يَدَهُ بالليل لِيَتُوبَ مُسِيءُ النهار، ويَبْسُط يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليل، مَن أكْرَمُ مِن إلهِكُم هذا ؟!، مَن أعظمُ جُوداً مِن ربِّكُم سُبحانَهُ وتعالى؟ لَهُ الحَمْدُ وَلَهُ المِنَّة.
فَلْيَغْتَنِمَ الفُرْصَةَ كُلُّ عاقِل مِمَّنْ آمَنَ بِهَذا الْإِله، ولِيتَحَقَّقْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ التي هِيَ سَبَبُ الهلاكِ، سَبَبُ تَسَلُّطِ الأعْداء، سَبَبُ الفَسَاد، سَبَبُ الضُّر، سَبَبُ الغَلاء، سَبَبُ الحُرُوب، سَبَبُ الكُرُوب ؛ هذهِ الأسْبَابُ الحَقِيقِيَّة تَتْبَعُها أسْبَابٌ وَوسَائِل مُتَسَلْسِلَة؛ لَكِنِ الأصْل في سَبَبِ الغَلاءِ والحُرُوب والكُرُوب والشُّرُور والآفَات وتَسَلُّطُ الأعْدَاء: مَعْصِيةُ الله؛ مَعْصِيَةُ الله في الدِّيارِ والمنازلِ والأسْواقِ والشَّوَارِعِ، والأماكِنِ الُمخْتَلِفَةِ، في الخلَوَاتِ والجَلَوات، ما حقُّ هذا الإلهِ الكريمِ بهذا الوَصْفِ العظيم أنْ يُعصَى!، ولا أنْ يُخالَف!، ولا أنْ يُرتَكَب ما نَهَى عَنْهُ، ولا أنْ يُتْرَك ما أمرَ بهِ !
إنَّهُ الله، يا تَابِعَ الهوى، يا مُعَظِّمَ أنْظِمَةَ مَخلُوقين مِثْلَه، يا مُعَظِّمَ قوانينَ قَوْمٍ خُلِقُوا مِنَ النُّطَفِ مِثْلَهُ وَيَرْجِعُونَ إلى هذا الإله، ربُّك أعْظَم، وإلَهُكَ أكْبر، فاحْتَرِم أمرَهُ وقُم بهِ، واحْتَرِم نَهْيَهُ وانْزَجِر عَنْهُ وابْعُد، قَبْلَ أنْ يكون عندك انْدِفَاعٌ لامْتِثالِ أيِّ أمْرٍ انْظُر إلى أمْرِ اللهِ الذي خَلَقَ فامْتَثِلْهُ وقُمْ بِحَقِّهِ كَما ينبغي لك في الظَّاهِر والباطِن.
وقَبْلَ أنْ تَنْدَفِعَ بَأيِّ وَسِيلَةٍ إلى البُعْدِ عَنْ أيِّ مَنْهِيٍّ عنهُ مِنْ قِبَلِ الحُكُوماتِ ومِنْ قِبَلِ الأحْزَابِ ومِن قِبَلِ الهَيْئَات: انْظُر إلى نَهْيِ ربِّ السَّماواتِ والأرض، الحاكِم يومَ العَرْض، فانْتَهِ عَمَّا نَهاكَ (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) ، (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)؛ لا تَأكُلْ مما لم يُذْكَرِ اسْمُ الله عليه ؛ كُل مما سُمِّيَ الله عليه، كُلْ مما ذُبِحَ باسْمِ الله ، وكُلْ مِنْ ما أبَاحَ اللهُ لَكَِ باسْمِ الله تعالى في عُلاه، وكُلْ طَعامَ الأصْفِياءِ والأتْقِيَاءِ والأسْخِياءِ؛ فإنَّهُ لكَ دَواءٌ ونورٌ لِقَلْبِك.
واحْذَر مِنْ كُلِّ ما حرَّمَ اللهُ؛ فَمَهْما اشْتَهَتْهُ نَفْسُكَ بِوَجْهٍ فَهُوَ سُمٌّ، وَهُو ضُرٌّ، وَهُوَ غِشٌّ، وَهُوَ ظُلْمَةْ، وَهُوَ بُعْدٌ، وَهُوَ عذابٌ، وَهُوَ جَحِيمٌ وهو نار؛ أمَا سَمِعْتَ قَولَهُ: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، وَسَمِعْتَ قَوْلَهُ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ومَن يُطِيقُ هذا؟! ومَن حُورِبَ مِن قِبَلِ اللهِ ورسُولِهِ على أيِّ حَالَةٍ يَمُوت؟!، بأيِّ خاَتِمَةٍ يُختَمُ لَه؟!، إذا كانَ الله يُحارِبُهُ ورسولُهُ بأيِّ خاَتِمَةٍ يُختَمُ لَه؟!، على أيِّ وصْفٍ يُمُوتُ؟! إلى أينَ يَنْتَقِلْ؟، كَيْفَ حَالهُ عِندَ المسْألةِ في القَبرِ؟، كَيْفَ حَالهُ عِند الوُقوفِ بين يَدَيِ الله يَوْمَ القِيَامَةِ إذا كانَ الله يُحارِبُهُ ورسولُه ؟!
فلا أعْظَمَ في الأوامِرِ مِن أمرِ الله، ولا أعَظَمَ في النَّوَاهِي مِن أمرِ الله ، فَلْنَمْتَثِل ما أمَرَنا، وَلْنَجْتَنِب مَا نَهَانا عَنْهُ جلَّ جلاله، ولنا بِذَلِكُمُ العِزُّ والشَّرَفُ والْكَرَامَةُ والخَيْرُ في الدُّنْيا والآخِرَة مِن قِبَلِ ربِّ الدُّنيا والآخِرَة، ومالِكِ الدُّنيا والآخِرَة، والُمتَصَرِّفِ في الدُّنيا والآخِرَة؛ إنَّكُم تَتَعَجَّبُونَ في تَصَرُّفَاتِ وتَخْطِيطاتِ مَن هُم في قَبْضَتِهِ، ومَن هُم تَحْتَ يَدِهِ، ومَنْ هُوَ خَلَقَهُم، فَكَيْفَ تَنْسَونَ مَن خَلَقَكُمْ وخَلَقَهُمْ؟!، وأوْجَدَكُم وأوْجَدَهُم؟! هُوَ أهْيَب، هُوَ أعْظَم، هُوَ أكْبَر، وَهُم لا يَتَصَرَّفُونَ في أيِّ مَسْلَكٍ إلا تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَتَحْتَ أَمْرِهِ جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، وأحَدُهُم عن أيِّ مشروعٍ مِن مَشارِيعِهِ يَصْرِفُهُ بِخَطْرَةٍ، ويصرفُه بِنَظْرَةٍ ويصرفُه بِوَجْعٍ في صَدْرِهِ وبِألَمٍ في كَبِدِهِ وينتهي المسألة!!؛ الأمْرُ لَهُ، والملْكُ لَهُ، والحُكْمُ لَهُ، والمرْجِعُ إليه .
يا أيُّها الغَافِلُ عَنْهُ: أنْتَ رَاجِعٌ إليهِ، فاذْكُرْهُ قبْلَ الرُّجوعِ بالخشوعِ والخضوع، تَحُوزُ الخَيْرَ هُنَا وهُناك، وإلا فلَنْ تُغْنِيَك نَفْسُك ولا صديقُك ولا صاحبُك، ولا ثَرْوَتُك ولا قَبيلتُكَ ولا حِزْبُك ولا حُكومَتُك ؛ كُلُّهم عَبِيدُه، كلُّهم في قَبْضَتِه، كلُّهم تَحْتَ حُكْمِه، وهو الله، مَجِّدهُ، وَحِّدهُ ، قُلْ: "لا إلهَ إلا الله"، واحْمَدُه على ما هداك ، ما أعطى هذه الكَلِمة كُلَّ أحَد وأعطاكَ إيَّاها، اسْأله أنْ يُحقِّقَكَ بها ويُثبِّتَك عليها ويَتَوفَّاك عليها، ويَحْشرَك في زُمْرَةِ أهْلِها، فاحْمَدِ الله وقُلْ: "الحمد لله"، وبالِغ في تَقْدِيسِهِ وتَنْزِيههِ وتَسبيحِه، وقل: "سُبْحانَ الله "، واعْلَم أنَّهُ: الأجَلْ.. الأكْرَم.. الأفضل.. الخالِق: البارِئ.. المصوِّر، فَكبِّرْهُ تَكْبِيراً، وقُلْ: "اللهُ أكبر".
اللهم اجْعَل حَقِيقة هذا التَّكْبيرِ في قَلْبِ كُلِّ حَاضِرٍ معنا وسَامِعٍ لنا، اللهم اجْعَل حَقِيقةَ تَهْلِيلِكَ وتَحْمِيدِكَ وتَسْبيحِكَ وتَكْبِيرِكَ ثابِتَةً راسِخَةً في قَلْبِ كُلِّ حاضِرٍ معنا وسامِعٍ لنا، وفي قُلُوبِ أهْلِيهِم يا رب، وأولادهِم يا رب؛ حتى نَشْكُرَ في يومِ المحْشَر، ونُحْشَرَ مع الحبيبِ الأكمَلِ الأطْهَر، وتُشَاهِدَ عيونُنا وجْهَ خيرِ البَشَر، ونَرِدَ على حَوْضِهِ المورودِ الأطْيَبِ الأطْهَر مع أوائلِ الواردِينَ يا كريمُ يا برُّ، يا الله.
إنِّما يكونُ في أوِّلِ الوارِدينَ مَن تَحَقَّقَ بحقائقِ: "سبحان الله والحمد لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر"، ولقد قال حبيبُ اللهِ خيرُ مَن بَشَّرَ وأنْذَر: {أحَبُّ الكلامِ إلى الله أرْبَعٌ: سُبْحَانَ الله، والحَمْدُ لله، وَلا إِلَهَ إلَّا الله، والله أكْبَر}. ونسألُكَ اللهمَّ أنْ تُحَقِّقَنا بحقائِقِها، اجْعَل في قلوبِنا حقِيقةَ: "سبحان الله"، وحقِيقةَ: "الحمد لله"، وحقيقةَ: "لا إلهَ إلا الله"، وحقيقةَ: " الله أكبر".
وإذا حَلَّت هذه الحَقيقةُ في قلْبِكَ عِشْتَ الحياةَ الطيبة، المُشار إليها بقولِ الرَّب: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وتعيشُ لذَّةَ الإقْبَالِ على ربِّك سُبحانَهُ وتعالى في خُضُوعٍ تَامٍّ لَه، وإذا بالنَّفْسِ وشَهَواتِها وإبليس مُتَصَاغِرين مُتَذَلِّلين أمامَك، ولَقَد قالَ الله لِرَأسِهم إبليس: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا) يا نِعْمَ الوكيل ويا نِعْمَ الكَفِيل توكَّلنا عليك فاكْفَلَنا وادْفَع عَنَّا شَرَّ عَدوِّك وشَرَّ النُّفوسِ الأمَّارَةِ، وزَكِّها لنا يا رب، آتِ نُفُوسَنا تَقْوَاها، وزَكِّها أنتَ خُيْرُ مَنْ زكَّاهَا، أنتَ ولِيُّها ومَوْلاها، يا الله يا الله يا الله.
يا حاضِراً في مَحْضَرِ الوِجْهَةِ إليه، والتَّذَلُّلِ بينَ يديْهِ، والطَّمَعِ فيما عِنْدَه: اصدُق وِجْهَتَكَ إلى اللهِ عالمِ الغُيوب يُنَزِّهْ قَلْبكَ عن جميعِ العُيوب، يا مُطَهِّرَ القُلوب طَهِّر قلوبَنا، يا مُنَوِّرَ القُلوب نَوِّر قلوبَنا، يا مُصَفِّيَ القُلوب صَفِّ قلوبَنا، يا الله أنت الناظرُ إلى القُلوبِ يا رحمنَ الدنيا والآخرة ورَحِيمَهُما .. ما تَنْظُرُ في قلوبِنا ؟ وما ترى في قلوبِنا؟ يا رب: المُتَكَلِّم والحاضِر والسَّامِع بين يديك ماذا ترى في قلوبِهم؟ ماذا تَنْظُر في قلوبِهم؟ بِحَقِّكَ عَلَيْكَ نسألُك أنْ تَمْلأَها بما تُحِب، وأن تملأها بما يُرْضِيك، وكلُّ ما فيها مما لا يُرْضيك فنَزِّهها وغَسِّلها عنه، واحْفَظها وصُنْها مِنه وخلِّصْها منه. يا الله .. يا الله.. يا الله .. نَبِيتُ وهذهِ القُلوبُ مُتَحَقِّقَةٌ بحقيقةِ: " لا إله إلا الله، وسبحانَ الله والحمدُ لله والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم".
قُلْهَا، ثَبَّتك الله عليها، قُلْ: "الله أكبر"، عسى أنْ يَلُوح لكَ سَنَا نورِها عند الغَرْغَرَة، وساعةَ المخْرَجِ مِن هذهِ الدنيا فَتُثَبَّت على: "لا إله إلا الله ".
يا إلهنَا، وفي يومِ الجُمُعَةِ الماضِيَةِ حَضَرَ كثيرٌ مِن عبادِكَ لِصَلاةِ الجُمُعة بِنِدَائِك، وقُلْتَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ)، فَسَعَوا وَهُم في بَلَدٍ لا يَزالُ يُحْكَمُ بغيرِ الإسْلامِ ومَضَتْ لهم فيه أوقاتٌ في طُمَأنينةٍ وسَكِينةٍ، ثم تَعَرَّضَت إليهم يَدٌ أثيمةٌ ممن ابتليتَهُم بالحِقدِ والحَسَدِ فَقَتَّلُوا منهم نحوَ الخمسينَ كانوا يشهدون أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله. فنسألُكَ اللهمَّ أنْ ترْفعَ درجاتِهم عندَك، وأنْ تَقْبَلَهم في الشُّهداءِ لَدَيْك، وأن تُكرِم نُزُلُهم لدَيك، وأن تَحشُرَهم في زُمْرَةِ نبيِّك والصَّالحين، وأنْ تُنزِلَ في قُلُوبِ أهاليهِم وقَرابتِهم الطُّمأنينةَ والسَّكينةَ والرِّضا بما قَضَيتَ وقدَّرتَ يا ربَّ العالمين. وأن تُبرِزَ حقيقةَ الإسلام، ونورَ الإسلام، أنتَ القائل: ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، فأظْهِر دينَ نَبِيِّكَ على الدِّين كُلِّهِ يا الله.. يا الله.
وقد حَرَّكتَ لِذَلِك نُفُوساً وأسْلَمَ الكثيرُ منهم في خلالِ هذا الأسبوعِ ودخلُوا في دينِ الله، وَوَعَدَت دَوْلتُهم بمن فيها أن تَرْفعَ صَوْتَ هذا الأذانِ غداً يوم الجمعة في جميعِ إعلامِها وجميعِ أجْهِزَتِها في دَوْلَتِها كُلِّها فاجْعَل في ذلك إظهاراً لنُورِ الحقِّ يعمُّ أقطارَ الأرضِ يا قويُّ يا مَتِينُ، يا الله. .. يا الله .. يا الله ، ونَشْكو إليكَ أرْوَاحاً تُزْهَقُ في بلادِ المسلمينَ وغيرِ بلادِ المسلمينَ باطِلاً وظُلمَاً، فيَا حيُّ يا قَيُّوم أوْجَبَ ذلِك ذنُوبُنا فَلَكَ نَسْتَغْفِر، وإليك نتوبُ مِن ذنُوبِنا ونَنْدَم ونتَحَسَّر، اللهم فاغفر لنا يا خيْرَ الغافِرين، وعامِلْنا بما أنتَ أهْلُه ولا تُعامِلْنا بما نَحنُ أهلُه، يا أكرمَ الأكرمين يا الله.
ولن تَطُولَ السَّنَواتُ حتى لا يبقى بيتٌ مِنْ بيوتِ الأرْضِ كلِّها إلا دَخَلَهُ دينُ هذا النَّبي محمد، وأُذِّنَ فيه بـ " الله أكبر" وَ "أشهد أن لا إلهَ إلا الله" وَ "أن محمداً رسول الله"، وفي ذلك رحمةٌ الله لعبادِه، وتَكْثيرُ أنْ يُحْشَرَ مَن يُحشَرُ في زُمْرَةِ المؤمنينَ فيَردِونَ على الحوضِ المورُود ؛ فإذا باهَى الأنبياءُ بِأُمَمهِم كانت مُبَاهاةُ نبيِّنا أكبرَ وأوْسَع. اللهمَّ وسِّع هذا النِّطاقَ، واكْفِنا شرَّ مَن ساءَت منهم الطَّبائِعُ والأخلاق، وحَوِّل أحوالَ المسلمينَ إلى أحْسنِ حال، يا كبيرُ يا متعال، يا الله.. يا الله..
أنتَ تقولُ: يا الله، وهو يسمَعُكَ، وملائكتُه يكتبونَها لك، ثُم تُثْبَت في صحيفتِك، ثم تُقابَل بها عند موتِك وفي قبرِك ويوم القيامة .. ما هذه النِّعَمة ! شَرَّفتنا بندائِكَ يا رب فلكَ الحَمْد، وكلُّنا نقول لكَ مِن قلوبِنا وأرْواحِنا وأجزائِنا وكُلِّيَّاتِنا : "يا الله" نِداء المسْتَغِيث.. المُستَرحِم.. المُستَكِين المْسْتَجير بك مِن نَفْسِهِ ومِن هَوَاهُ، ومِن شياطينِ الإنسِ والجِن، ومِن كُلِّ القواطِع والعَوَائِق يَفِرُّ إليك، ويَهْربُ إليك، ولا ملْجَأ ولا منجأ مِنْك إلا إليك، ونقولُ لنا ولإخوانِنا: "يا الله" ، لحياتِنا نقولُ لكَ: " يا الله"، ولِوَفَاتِنا وحالَةِ كُلِّ واحِدٍ ساعَةَ وفاتِهِ مِنَّا نقولُ لكَ: "يا الله". نقولُ لكَ: "يا الله"؛ لأنَّهُ ما غَيْرُك يُنْقِذْنا، ما غيرُكَ يرْحمنا، ما غيرُكَ يكونُ لنا في تِلكَ السَّاعات، وساعة مَقْبَر ومَدْفَنَ كُلِّ واحِدٍ مِنَّا نقولُ لكَ لِتِلْكَ السَّاعة: "يا الله"، وإذا تَعَرَّضْنا لِمَسْألةٍ في القَبْرِ أو يومَ القيامةِ نقولُ لكَ: "يا الله" رَحْمَتُكَ تَسَعُنا، وعَفْوُكَ يَشْمُلُنا، وتَجاوزُكَ يُنجِّينا، ومُسَامَحتُكَ بها نَسْلَمُ مِن العذابِ الأليم، ورحمتُكَ بها ندخلُ الجنَّة، فأدْخِلْنا جنَّاتِ النَّعيمِ مَعَ الأوائل، مِن غيرِ سَابِقَةِ عذابٍ ولا عتابٍ ولا فِتْنَةٍ ولا حِسَابٍ يا الله. وللميزانِ، وللصِّراطِ، ولاسْتِلامِ الكُتُبِ والصُّحُفِ يومَ القِيَامَةِ، ولِسَاعَةِ العَرْضِ عليكَ، نقولُ لكَ لِكُلِّ ذلك: يــا الله.. يـــا الله.. يــا الله، كُنْ لنا في تِلْكَ المواقِف كُلِّها، لا تُسَوِّد وَجْهاً مِن وُجُوهِ الحاضِرينَ، ولا السَّامِعينَ يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسوَدُّ وجُوه، ولا تُخزِ أحَداً منهم في يوم الخِزْيِ والسُّوءِ على الكافرين، ولا تُخْزِنا يومَ القيامةِ إنَّكَ لا تُخْلفِ الميعاد (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
ويُنادَى على كلٍّ منَّا إذا عُرِضَ عليكَ: "لقد سَعِدَ فلانُ ابن فلان سَعَادَةً لا يَشْقى بعدها أبداً"، ونعوذُ بعَظمتِكَ وعِزَّتِك وجَلالِك وكِبْرِيائِكَ ورَأْفَتِكَ ورَحْمَتِكَ وكَرَمِكَ وأسْمائِكَ وصِفَاتِكَ أنْ يُنادى على أحدٍ مِنَّا بـ "لقد شَقِيَ فلان ابن فلان"، نعوذُ بِك، وبِعِزَّتِكَ وأسْمائِكَ وصِفَاتِكَ، فلا يُنَادَى على أحَدٍ مِن أهْلِ مَجْمَعِنا ولا مَن يَسْمَعُنا بهذا النداءِ البَئيسِ يومَ القِيَامةِ المْخْزِي يومَ الطَّامَّة، نجِّنا مِن كُرَبِ يومِ القِيَامَة وشدائدِ أهوالِ يومِ الطَّامَّة، وبَيِّض وُجُوهَنا إذا اسْوَدَّت وُجُوهُ العُصَاةِ في مَوْقفِ الحَسْرَةِ والنَّدامةِ يا كريمُ .. يا الله.
ونقولُ لكَ: "يا الله يا الله يا الله" للقاءِ حبيبِك، ولمصافَحَةِ حبيبِك، ولمكالَمَةِ حبيبِك، ولِرُؤْيَةِ وَجْهِ حبيبِك، وللورودِ على حوضِ حبيبِك، ولِمرَافَقَةِ حَبِيبكَ في ذَلِكَ اليومِ، وفي دارِ الكرَامَة ؛ نقولُ لكَ : "يــا الله" . لا يُبَلِّغُنَا ذلك غَيرُكَ قَطُّ قط قط ، وأنتَ القادِرُ على ذلك إذا رَحِمْتَ وإذا أَكْرَمتَ وإذا مَنَنْتَ، لا إلهَ إلا أنتَ، فاجعلنا مْن رُفَقائِه، واجْعَلْنا في زُمْرَتِه، واجعلنا ممن يَنْظُر إلى وجْهِهِ الصَّبيح، ويسمعُ قولَهُ المليح، ويُصَافحُ كَفَّه، ويُسْعَدُ يا مولانا بالمجاورةِ له والمرافقة في دار الكرامة .. آمين، لِكُلِّ ذلِكَ نقولُ لكَ: يا الله يا الله يا الله .. يا الله يا الله يا الله .. ما لَكُم ربٌّ غيره، ولا إلهٌ سِوَاه، وأنتُم بينَ يَدَيْهِ وهوَ أقرَبُ إلى أحَدِكُم مِنْ حَبْلِ الوَرِيد، يَسْمَعُ ويَجُودُ ويَتَكَرَّمُ وَيَرْحَمُ ويَتَفَضَّلُ، فقولوا لَهُ: يا الله يا الله يا الله .. يا الله يا الله يا الله.
إنَّها مَجالِسُهُ في الأرْضِ يَغْبِطُها أهلُ الملَأِ الأعلى في السَّماء؛ إنها مَجالِسُ مُنَادَاتِه، ومَجالِسُ مُناجَاتِه، ومَجالِسُ تَجَلِّيَّاتِه، ومَجالِسُ عَطَفَاتِه، ومَجالِسُ رَحَماتِه، ومَجالِسُ نظراتِه، ومَجالِسُ الصِّلَةِ بهِ والواصِلِينَ المُوصِلين، ومجالِسُ المعرفةِ به والعارفينَ المُعَرِّفين، إنها مجالسُ كَرَمِ أكرمِ الأكرمين، ورحمةِ أرحمِ الراحمين، ما حَضَرْناها بِقُدرتِنا ولا بِحَوْلِنا وَقُوَّتِنا ولا باسْتِحْقاقٍ مِنَّا ؛ لِكَنَّهُ أحْضَرَنا ونَظَرَنا ووفَّقَنا ووهبَنَا وأسْعَدَنا، فَلَهُ الحمدُ والمِنَّة.
الحمدُ لله رب العالمين، حمداً يوافي نِعَمَهُ ويُكافئُ مَزِيدَهُ، اللهم أتْمِم علينا نِعْمَتَك، اللهم أتمم علينا نِعْمَتك، اللهم أتمِم علينا نعمتَك. أحْضَرْتَهُم مجالِسَ دَعائِك ومُناجاتِك فارْزُق قلوبَهُم شُهُودَ عظمتِك، وشُهُودَ رَحمتِك، وشُهودَ أسمائِكَ وصِفَاتِك، وشهودَ ذاتِك بمرآةِ حبيبِك، يا الله ، أكرِمْنا وإيَّاهُم بذلِك ما دُمْنَا في هذِهِ الدَّار وفي هذه الأعْصَارِ وفي هذه الأشْهُرِ والمواسِمِ ذاتِ الأنوار، وَفِّر حَظَّنا يا كريمُ يا غفَّارُ يا رحمنُ يا رحيمُ يا واحِدُ يا قَهَّارُ يا الله .. يا الله .. يا الله
خَلَقَكُم وجَعَلَكُم في أمَّةِ مُحمَّدٍ، ووفَّقَكُم للإيمانِ والإسلامِ، وجمَعَكُم على الوِجْهَةِ إليهِ، والتَّذَلُّلِ بين يدَيْهِ، وَرَبَطَكُم بِحِبَالِ المُقَرَّبينَ والعَارِفينَ وصَالِحِي الأمُّة، فاحَمَدُوهُ واشْكُرُوهُ، وتَوجَّهُوا إليهِ، وتذلَّلوا بين يديْهِ إليه، واسْتَحْيُوا أنْ تَعْصُوهُ بَعْدَ لَيْلَتِكُم، عينُك ما تَعصي بها ربك، أُذْنُك ما تَعصي بها ربك، ولا يَدك لا فَرْجك ولا بَطْنك ولا رِجْلك، لا تعصي ربَّك، لِسَانُك لا تعصي به ربك، هو خَلَقَه لك فاشْكُره عليه، استقِيموا على الطَّاعة.
الله يجعلها أشْهُر برَكةٍ وفرَجٍ للمسلمين، وغِياثٍ للمُسلمين، وصلاحٍ للأمَّة أجمعين..
والحمدُ لله رب العالمين.
16 رَجب 1440