(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 8 ربيع الثاني 1446هـ، بعنوان:
النوع الأعلى من الحياة وأحوال أهليها في الدارين وخيبة مَن حُرِمها
لتحميل المحاضرة (نسخة إلكترونية pdf):
الحمد لله العلي الأكبر، القائل: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ)، والغاية هي الغاية، والنهاية هي النهاية للكل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)[القمر:49-55].
له الحمد وله المِنَّة، نسأله أن يجعلنا في أهل النفوس المطمئنة، الراضية المرضية الكاملة، وأن يجعل مآلنا الجنة، وأن يجعل لنا من ناره وعذابه وقايةً وجُنَّة.
لا إله إلا هو وحده لا شريك له، اختار من بين عباده سيِّدَ أهل الوَلَعِ بالله والوَلَه، عبده المجتبى المختار، فخَتَمَ به رسله، وجعله قائد الكل وإمام الكل، ويجتمع الكل تحت لواء الحمد الذي يحمله -والله يجمعنا وإياهم، ويجعمنا معهم تحت ذاك اللواء-
صلِّ يا رب على مَن به هديتنا، وشرَّفتنا، وأكرمتنا، وجعلتنا (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)[آل عمران:110]، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأكياس، ومن تبعهم على خير أساس، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلت لهم البِنَاء الذي لا يَهْتَاس، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين، أفضل الصلوات وأزكاها، وأعلى التحيَّاتِ وأغلاها، عدد ما أحاط به علمك، وما وسعه علمك، عدد كل شيء، وملء كل شيء، يا رب كل شيء.
وبعد: فإنَّ الخالق المكون -جَلَّ جلاله- أنعمَ علينا بإنزال الكتب وإرسال الرسل، ثم جعل خير أمة الأمة المحمدية، وهي من حيث الزمان آخر الأمم، ومن حيث الأعمار أقصر الأمم أعمارًا، ومع ذلك فهي أول الأمم في مواقف القيامة كلها، وهي أول أمة تدخل إلى جنة الله، فيتأخر من قبلنا من الأنبياء والرسل بأُمَمهم؛ إكرامًا لمحمد ﷺ من قِبَلِ رَبِّ محمد ﷺ : «إن الله حرم الجنة على الأمم حتى تدخلها أمتي، وحرّمها على الأنبياء حتى أدخلها أنا»، صلوات ربي وسلامه عليه..
أدخلنا معه الجنة فإنه أول من يدخلها، وأنزلنا معه في قصورها فإنه أول من ينزلها، وارحمنا يوم يشفع للخلائق فترحمها.
وقلت له في كتابك مخاطبا: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)[الإسراء:79]. فصَلِّ على صاحب المقام المحمود، واجعلنا له أحباء وأنصارا وجنودا، وثبِّتنا على دربه في الغيب والشهود، واجمعنا به في الدنيا والبرزخ واليوم الموعود، ووَفِّر حظَّنا من الاجتماع به في جنات الخلود، وفي ساحة النَّظَرِ إلى وجهك الكريم، يا بَرُّ يا ودود، واجعل صِلاتنا به أقوى الصِّلات، وتولَّنا به في الظواهر والخفيات، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وبارك في تلبية هذه القلوب لندائه، واستجابتها لدعوته؛ حتى تحيَا الحياة المخصوصة، الشريفة، الرفيعة، الكبيرة، الكريمة، التي تبقى وتتأبَّد، فلا يكون معنى مفارقة الروح للجسد إلا تقريبا من النعيم المُخَلَّد، ومن الرجاء الأكبر الأَمْجَد.
فذاك هو معنى الموت عند من حييَ قلبه، فلا موت بالمعنى الذي يخافه الناس.
ومن أجل هذه المعاني الرفيعة التي جلَّت عن القياس؛ نهانا الله أن نُسمِّيَ مَن قُتِلَ شهيدا في سبيله مُخلِصًا لوجهه لإعلاء كلمته أن نُسميهم أموات، قال: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ)[البقرة:154].
يعني مهما تصوّرتم عن حياتهم فحياتهم أكبر مما تتصوّرون، وهذا معنى: (وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ).
ثم قال لا تقولوا ولا تتخيلوا أنَّ عندهم موت.. فالموت عند مَن يعيش أمامكم مُعَظِّما للمادة، ولأي شيء غير الحق -تعالى- يقطعه عن الله -جَلَّ جلاله- هم الأموات.. وليس هؤلاء! (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[آل عمران:169-171]
(يَسْتَبْشِرُونَ) أيضًا.. والبشائر الكبيرة كلها هذه إذا ما كانت هي هذه الحياة فما هي الحياة؟!
ايش هي الحياة إذا ما كانت هذه البشائر الكبرى هي الحياة؟!
فما معنى الحياة؟
معنى الحياة: قال بعض علماء الحرم إنك قاعد في الدنيا تبول وتخرّج الأوساخ .. هي هذه الحياة عندك؟
هم في حياة فيها البشائر وفيها القرب، وما فيها بول وما فيها وسخ..! فأنت تسمي نفسك هذه حياة وتلك ما تعرف قدرها؟
تلك الحياة! تلك الحياة الأكبر!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال:24].
والذين حيّت قلوبهم من قبلنا بهذا المصطفى قالوا عنه ﷺ:
دَعَانَا إلى حَقٍّ بِحَقٍّ مُنزَّلٍ ** عليه من الرحمن أفضلَ دعوَةِ
أَجَبْنَا قَبِلْنَا مُذعِنِينَ لأَمْرِهِ ** سَمِعْنَا أَطَعْنَا عن هدى وبصيرةِ
فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
ونسألك يا ربَّ العرش للمتكلم والسامعين والحاضرين والمشاهدين والمتعلقين:
ثبِّتنا على الحق والهدى، ثبِّتنا على الحق والهدى.. فيما نقول ونفعل ونعتقد، ونتحرك ونسكن، ونأتي وندع، ونرضى ونسخط..
فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
اجعل الوفاة وفاة حياة رضاك، وحياة الفرح بلقاك، وحياة المحبة للقاك؛ حتى لا يموت الواحد مِنَّا إلا وهو يحب لقاءك، وأكبر وأعظم وأجل أنت تُحِبُّ لقاءه.. أنت أنت أنت تحب لقاءه!
وعِزَّة الحي القيوم.. من قالوا عنه أنه انتقل من هذه الحياة الدنيا فلقي الله ورب العرش يُحِبُّ لقاءه.. مَن أكرم حياة منه هذا؟ مَن أسعد حياة من هذا؟
لقي رب العرش ورب العرش يُحِبُّ لقاءه! فمن أطيب حياة منه؟ مَن أسعد حياة منه؟
أو حياة الدنيا وهمومها وغمومها وأوساخها وتلبيسها وكذبها.. هي هذه الحياة؟ (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) ، (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) [العنكبوت:64]، لهو ولعب.. هذه الحياة الدنيا!
ولكن من كان يعيش في الدنيا وقد حَيِيَ قلبه فعنده حياة.. ليست الحياة الدنيا! عنده حياة ليست الحياة الدنيا.. الحياة الدنيا لهو ولعب! ووالله فتِّش من قريب وبعيد ما شي عندهم غير اللهو واللعب!
وتتكرر عليهم: (حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)[يونس:24].
إشارة إلى أن النهايات الكبيرة ما تستمر فترة؛ (لَیۡلًا أَوۡ نَهَارࣰا) وحدة من الثنتين.. إما ليل ما عاد يدركه النهار، وإما نهار ما عاد يدركه الليل، وحدة منها.. إما في الليل أو في النهار.. فقط! ما عاد شيء باقي بعد ذلك، بعضهم هلكوا في الليل وفي النهار ما عاد لهم وجود، وبعضهم هلكوا في النهار وفي الليل ما عاد لهم وجود..
يعني لمَّا يجي الحل من فوق؛ حل من فوق.. وانتهت المسألة!
(..لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24].
والحقيقة: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ..) إلى أكرم الحياة الأبدية، وأشرف الحياة السرمدية (.. وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[يونس:25].
يا ربَّنا أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحيِّنا ربَّنا بالسلام، وأدخلنا برحمتك دارك دار السلام، واهدنا إلى الصراط المستقيم.
النهايات الكبرى للجميع: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَة وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ..) حالتهم في القيامة: (..كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[يونس26-27].
(أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ..) -والعياذ بالله تعالى- (..هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار!
يا خالق الجنة والنار: بذاتك، وأسمائك، وصفاتك، وخير خلقك؛ أجرنا مِن النار، واجعلنا من (.. الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:101-103].
أيُّ يوم هذا؟ يوم الأهوال والشدائد، يوم أكبر من جميع ما يتخيله الناس! (یَوۡمَ نَطۡوِی ٱلسَّمَاۤءَ كَطَیِّ ٱلسِّجِلِّ لِلۡكُتُبِۚ..) ايش العظمة هذه! ايش القدرة هذه! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء:104].
وبعد ما ذكر -سبحانه وتعالى- هؤلاء أصحاب الجنة وأصحاب النار: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ..) باعدنا بينهم، ولعن بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض..
مَن هم؟ كل من يُخطِّط لأذى البشرية، كل من يُخَطِّط لظلم البشرية، كل من يخطط للطغيان في الأرض.. هم هؤلاء، هم (..فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)[يونس:28]. وكيف نحن نتبع الخطة حقكم؟ قالوا: اذهبوا ما لنا دخل فيكم ولا لكم دخل فينا!
قالوا كيف؟ أنتم الذين رتبتم لنا، وأعطيتمونا، وأغريتمونا بهذا، وفعلتم لنا هذا! وقلتم لنا كذا، وصورتم لنا أنكم أهل التصرف في الوجود وفي العالم! هكذا عملتم!
(فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِیدَۢا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَـٰفِلِینَ)[يونس:29]، قالوا كنا نحن في غيّ.. نسينا الله ورسله، وأنتم عبدتونا وعبدتمونا، وإلا نحن خلاص كفرنا.. ما عاد شي من هذا الكلام (فَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ) خلاص جاء الحق (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ..) إيش نويت؟ إيش فعلت؟ إيش قابلت به آياتنا المُنزَلة؟ إيش قابلت به رسالة رسولنا؟ ما الذي جرى في ذهنك وبالك وذهبت وراءه؟ ما الذي تآمرت عليه؟ ما الذي مكرت به؟ ما الذي خدعت به البشر؟
(.. كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ * قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ..)
مَن أراد عبادة غير الحق.. إن كان شمس قل له ضلال، إن كان قمر قل له ضلال، إن كان صناعة قل له ضلال، وإن كان تكنولوجيا قل له ضلال، وإن كان خطة عسكرية قل له ضلال، أي شيء تعبده (..فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ)[يونس:29-32].
كيف يُضحك على عقولكم؟ كيف يُلعَب بكم يمنة ويسرة؟ وأنا ربكم الذي خلقتكم بيَّنت وهديت وأرسلت الرسل!
وقد قال الله في أمة قبلنا: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[فصلت:17-18].
وهكذا يقول -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ..)! هذا سلطان مبين! وآيات واضحة! ودلالات! وتحدي! والسحر حقكم تَقَاصَر أمامه وانتهى! آمِنوا؟ (..فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)[هود:96-105].
وكثير من الذين رَدُّوا دعوة الرسل كان بدافع اغترارٍ بما أوتوا ومُكِّنُوا فيه من ظاهر العلم، يقول (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ..) وبعد ذلك؟ كذبوا الرسل، وايش حصل؟ الذين استهزأوا بهم من الرسل وأتباع الرسل (..وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)[غافر:83-85].
وقد قلنا لكم في هذه المجامع: أن سيدنا وإمامنا لمَّا أَظْهَر ابن الصياد بعض التطاولات والاطلاع على بعض الخواطر قال له ﷺ: «اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ».
وقلنا إنَّ هذا خطابنا لكل من أراد أن يمكر بخلق الله، وأن يضحك على خلق الله، وأن يستهزئ بخلق الله -بأي نوع من الأنواع-:
«اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ»،
«اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ»،
«اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ»،
وهكذا لم تزل حقيقة: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[الصافات:171-173]، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غافر:51-52]. -والعياذ بالله-
يا ربَّ الدارين هَبْ لنا خير الدارين، واجمعنا بسيد الكونين، واملأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وانشر ذلك في قلوب أهالينا وأولادنا، وطلابنا وأحبابنا، واجعلنا من قوم تحدَّث عنهم نبيك فقال: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُم»، «لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ»، «لا يَضُرُّهُمْ مَن خالَفَهُمْ»، «..حتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ ظاهِرُونَ».
ألحقنا بهم، وسِرْ بنا في دربهم، واسقنا من شُربهم، واجعل فينا صفاتهم، وأخلاقهم، وحالاتهم في الصلة بك وبرسولك، ظاهراً وباطناً.
أحينا حياة السعداء؛ حياة من تحب بقاءه، وتوفَّنا وفاة الشهداء؛ وفاة من تُحِبُّ لقاءه، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم وأرنا نتائج وجهات أُمَّةِ حبيبك محمد ﷺ في شهر ذكرى ميلاده بعد أن فارقنا ذلك الشهر، وأظهر لنا خيراتها في بقيَّةِ أشهرنا، وما بقي لنا من دهر، في السر والجهر، يا قوي يا متين، فإننا استغثناك، ولجأنا إليك، وتذللنا بين يديك، وعَلِمنا أنَّ الأمر كله لك، فأحينا حياة أهل السعادات، وارفعنا مراتب المحبوبين من أهل العنايات، وتولَّنا في الدنيا والآخرات، واكشف عنَّا وعن الأمة جميع الكربات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات..
يا الله: لا تصرف من المجمع أحد ولا ممن يسمعهم أو يشاهدهم إلا أحييت قلبه،
إلا أحييت قلبه،
إلا أحييت قلبه..
بحُرمَةِ هادينا ومحيي قلوبنا ** ومُرشِدِنا نَهْجَ الطريق القويمةِ
دعانا إلى حقٍّ بحقٍّ مُنَزَّلٍ ** عليه من الرحمن أفضل دعوَةِ
أجبنا قبلنا مذعنين لأمره ** سمعنا أطعنا عن هدى وبصيرةِ
فيَا رَبِّ ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
وعُمَّ أصولًا والفروع برحمَةٍ ** وأهلا وأصحابا وكُلَّ قرابَةِ
وسائر أهل الدين من كُلِ مسلمٍ ** أقام لك التوحيد من غير ريبَةِ
يا أرحم الراحمين: اجعل لنا من حصونك الحصينة، والصدق معك، والإقبال الكلي عليك، والاستمساك بحبلك المتين؛ ما تَقِينَا به جميع الأسواء في الظاهر والباطن..
وصَلِّ وسلِّم دائم الدهر سرمدا ** على خير مبعوث إلى خير أُمَّةِ
محمد المخصوص منك بفضلك ** العظيم وإنزال الكتاب وحِكْمَةِ
والحمد لله رب العالمین..
07 ربيع الثاني 1446