(536)
(235)
(575)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 27 جمادى الأولى 1446هـ، بعنوان:
المستقبل الأعظم وأثر الأسر والصحبة في الدارين
0:31 سراية الإسعاد في الأزل
1:50 أهمية حصن الأسرة وحصن الجليس
5:14 واجب سقي قلوب الأولاد بهذه المعاني
6:42 مصاحبة أهل السوء عبر الأجهزة
7:53 خطاب لعقلاء أهل الأرض!
9:01 طائفة من الأمة ظاهرين على الحق
10:35 من بئس القرين؟
12:42 نعم الحياة الطيبة!
14:23 الإله الذي يجب يخضع الجميع له!
16:40 أحزاب المستقبل الكبير
19:45 طلب الدخول مع زمرة أهل الجنة
20:28 يا ما أعجبه من خطاب!
22:30 الشفاعة العظمى
23:40 الدعاء للأمة المحمدية
25:37 يا ربنا يا ربنا يا ذا البها وذا السنا
لمشاهدة تسجيل البث للمجلس كاملاً
الحمد لله الحي القيوم، الواحد الحي الذي جوده يعلو ويدوم، وقد خصَّنا بحبيبه المعصوم، سيد المرسلين وخاتم النبيين؛ فجاءنا عن الله بالله نورا مبينا، وهدانا بالله إلى الله صراطا مستقيما.
وجعل الله تعالى سِرَايَةَ ما سَبَقَ في الأزل؛ مِن إرادة الإسعاد لمن يُسعدهم، والإمداد لمن يُمِدّهم، والتقريب لمن يُقرِّبهم؛ سارية بواسطة هذه الذَّاتِ المحمدية الأحمدية، داعي الله، المنادي بأمر الله إلى الله.
و: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)[آل عمران:193]. اللهم فاجعل في قلوبنا من الإيمان ما جعلته في قلوب الذين قالوا قبلنا من صحابته وأهل بيته وخواصِّ أتباعه: (فَآمَنَّا)، اجعل في قلوبنا من الإيمان ما جعلتَ في تلك القلوب؛ حتى نتَرَقَّى في علم اليقين وعين اليقين وحَقِ اليقين، إلى أعلى مراتب كل مسعود محبوب، يا مقلب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك.
وجعل -سبحانه وتعالى- مجالي امتداد هذا النور، والوصول إلى السَّابِقَةِ التي قُضِيَت بقدَرٍ مقدور من مولانا -سبحانه وتعالى- مُقَدِّرِ الأقدار ومُطَوِّر الأطوار، مُكَوِّرِ النهار في الليل ومُكَوِّر الليل في النهار.. لا إله إلا هو -جلَّ جلاله-؛ جعل مجاليها في هذا الحرص على الهداية، والتربية من الآباء والأمهات. وهي مسؤولية كبيرة عظيمة جليلة، وآثارها كبيرة!
كم بإهمالها اِرْتَدَّ مسلم إلى كافر! كم بإهمالها خرج من بيوت الصالحين فاسق ومجرم! كم بإهمالها امتدت يد عدو الله إلى داخل بيوت الأخيار والصالحين!
ولكن بالاهتمام وبالتربية وبالانتباه؛ كم حَفِظ الله من سِرِّ اتصال، وكم سقى من كأس وصال، وكم رقَّى مِن مراقٍ عوالٍ!
بعد هذا الأمر الذي أشار إليه سيدنا خاتم الإنباء والإرسال ﷺ : "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ"، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-؛ بما يُلقِيَان عليه، بما يُزَيِّنان له، بما يُحَبِّبَان له، بما يَفْسَحَان له من مجالات منظورات أو مسموعات "يُهَوِّدَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-! يُخرِجَانِهِ عن الفطرة بسبب هذه الغفلة وهذا الإهمال!
وربما تحولت إلى اعتزاز بترك الدين، وترك الهدى والمخالفة للحق الذي جاء عن الله -جلَّ جلاله-، واعتزازٍ بفَسَقَة ومجرمين ليس لهم عند الله -تبارك وتعالى- مقدار جناح بعوضة ولا أقلَّ من ذلك -والعياذ بالله سبحانه وتعالى-!
وبهذا الإهمال تمتدّ مصائب الصحبة الخبيثة والصحبة السيئة؛ التي يقوم المرتكز الثاني عليها: "المرء من جليسه"، "المرء على دين خليله"، "إِنَّمَا مَثلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً"، هذا أقل الأشياء من مجالسة الجليس السوء!
فوجب علينا أن ننتبه من هذه الحصون: حصون الأُسَر، وحصون الجلساء. فإنَّ مَكْرَ وكيد إبليس في إغواء الخلائق وإبعادهم عن الخلائق، مرتكز على هذه الحيثيات، ومرتكز على هذه المواطن!
وهذا الإهمال والإغفال من قِبَل الأُسَر والآباء والأمهات، وإهمال اتخاذ الأسلوب الحَسَن اللائق في تعليق قلب الابن والبنت؛
فيجب أن تعمل الأُسَر على سَقِي قلوب وأفكار وعقول أولادهم بهذه المعاني؛ حتى
وربما صاحب ولدك سيئا قبيحا بعيدا، ليس له وجود في بلدك من حيث جسمه، ولا في قطرك ولا في دولتك.. ولكن عبر هذه الأجهزة، موجود في موطن بعيد ولكن كان صاحبا بفكره الخبيث، وبتصويره السيء المعكوس، وبطرحه المقلوب المسموم.. كان ولدك رفيقا له وصاحبا له وهو في بلد بعيدة منه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-!
فسَرَى النِّتَن، وربما طارت الشرارة.. والشرارة إن وقعَت في العين تُعميها، وإن وقَعَت في شيء من الأعضاء تُكَسِّر حركته وتُصيبه بمصيبة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وإذا زادت عليه شرارة بعد شرارة يقع الموت، ولا يعود يبقى من الدين شيء ولا من الإسلام شيء -والعياذ بالله تبارك وتعالى-!
فالله يحفظنا وأبناءنا وبناتنا ويصوننا..!
ألا يا أرباب العقول في شرق الأرض وغربها: أيَطِيفُ بِخَيَالِ أحدكم أنَّ مُكَوِّن السماوات والأرض أهمل العُقَلاء المكلفين من الإنس والجن بلا بَيَان؟ بلا هدى؟ بلا إرشاد؟ بلا رسالة؟ بلا نبوة؟! لنأتي ويتَّخِذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله؟! وليَخرج من بيننا أشقانا وأبعدنا عن الله تعالى ليقودنا وليصير إماما لنا!
أهذا لائق بحكمة الحكيم؟!
أهذا متوافق مع عظمة العظيم؟! -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- لا والله!
ألا: وليس في شرق الأرض وغربها قدوة يجب أن تُتَبَّع خيراً ولا ذَاتِ حَقٍّ؛ غير قدوة الأنبياء والمرسلين وخاتمهم الأمين سيدنا محمد!
ولا وصول لنا إلى تلك القدوة إلا سلاسل إسنادنا إليه؛ من حَمَلَة سِرِّه وسُنَّتِهِ؛ جيلا بعد جيل وزمنا بعد زمن وقدما على قدم.
و: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، و: "يَحمِل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدوله"، و"ليَجِدَنَّ ابن مريم حين يخرج إلى الأرض من أمتي قوما مثل حواريه…"، يؤمنون بالله ورسله، وينصرون الله ورسله، ويبذلون الأموال والأرواح من أجل الله -سبحانه وتعالى- على مسلك رسله.. صلوات الله وسلامه عليهم.
فالحمد لله على هذه الخيرات..
فيجب أن ننتبه من هذه القدوة العظيمة، والأسوة التي بالاقتداء بها يرضى رَبُّ السماوات والأرض، ويَقضِي بالفوز يوم العَرْض، ويُسكِن أصحابها جنات تجري من تحتها الأنهار في مرافقة النبيين.
(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)[النساء:69]. والله ما أحسنه مِن رفيق! نبيين وصِدِّيقين وشهداء وصالحين! (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)!
ومَن سواهم؟ مَن سواهم في الدائرة الأخرى.. قال الله: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)[الزخرف:36-38]. (فَبِئْسَ الْقَرِينُ)!
أولئك الأولين: (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا)، وهذا: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ)؛ بئس القرين غافل، بئس القرين جاهل، بئس القرين ضال، بئس القرين مَن لا يعرف خالقه، بئس القرين مَن يَدَّعي المعرفة وهو لا يدري مَن خلقه!
(فَبِئْسَ الْقَرِينُ) كُلُّ مَن خَالَفَ منهج الله الذي أنزله على رسله؛ بفكر أو سلوك أو تصرف أو معاملة.. بئس القرين! إن كان فردا وإن كانوا جماعة، إن كانوا شعوبا وإن كانوا دولا.. بئس القرين!
ما أخبثه من قرين! ما أسوأ حاله من قرين! إن قارنتهم فسوء المصير لك ولهم!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].
قال الله لأعرف الخلق به: (وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف:205].
وقال -جلَّ جلاله-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الأعراف:179].
ما أسوأ الغفلة عن الله! وما أجمل ذكر الله..
ولذا كان في مجالس الذكر حياة للقلوب، ورَبْطٌ بالحياة التي بُعِث بها طبيب القلوب، سمعتم نداء الله عنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال:24].
أي حياة هذه؟ حياة الزخارف والمظاهر مع خراب البواطن؟ ومع الغش، ومع السوء، ومع الكدر؟
قل لهم لا لا لا! حياة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
فَنِعْمَ الحياة الطيبة حياة الأنبياء، حياة أتباع الأنبياء بصدق.
وكُلُّ مُكَلَّفٍ بلغته الرسالة يستطيع أن يكون من أتباع الأنبياء بصدق، ويدخل في هذه الحياة التي يحيا صاحبها على تقوى الله، وعلى خشية الله، وعلى محبة الله، وعلى رجاء الله، وعلى الصدق مع الله. ويُنَادَى عليه في القيامة (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)[المائدة:119].
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الزمر:60-64].
هذه هي الألوهية، ما هي صناعات على ظهر الأرض، ما هي أسلحة على ظهر الأرض من المخلوقين من النُّطَف، ومن الذين اليوم أحدهم صداع في رأسه، ومغص في بطنه، وبعد بكرة رجله ما أدري ايش فيها، والانتخابات ما جات في صالحه، وذا طِلع له وذا طلع…! ما هي هذه ألوهية! ما هي هذه ربوبية..!
(لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الزمر:64]، مَن (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)[الحج:65]. هذا هو الإله، هذا هو الرب الذي يجب أن يخضع الجميع له -جلَّ جلاله-!
(لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ..) تريدون أُسَلِّم فكري ومسلكي في الحياة لمَن غير الله؟ لواحد مخلوق مثلي؟! في عقل أو ما في عقل؟ هذا غاية الجهالة! (..قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ..) فكان أَعْبَد عَابِد، وكان أَشْكَر شَاكِر ﷺ (..بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ..)
هذا المستقبل العظيم الكبير الذي بُعِث الأنبياء للاستعداد له، هذا المستقبل. أمَّا المستقبل الحقير القصير يتشدَّقون به أنواع الملحدين والكفار على ظهر الأرض! (..وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا..) مِن أول مَن كفَر، مِن أول مَن فسَق مِن أولاد آدم إلى أن تقوم الساعة، مِن أول مَن فَسَق مِن الجن إلى أن تقوم الساعة (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا..) ايش زمراً؟ أحزاب، وأصناف، واتجاهات، ومبادئ، ودول (زُمَرًا)..
(..حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا..) هذا المستقبل.. يا مخططين بالمستقبل، يا مُتَشَدِّقين بالمستقبل: هذا هو المستقبل! (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ..) -والعياذ بالله تعالى-!
أكبر الكِبر التكبر على الله! التكبر على شرع الله، التكبر على منهج الله، التكبر على أوامر الله..! أنظمة مضادة للشرع مخالفة.. ما هذا الكبر؟! مخلوق وتتكبر على إلهك الذي خلقك! (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)!
(..وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا..) لِمَ زُمَر؟ أنبياء وأولياء وكل واحد معه أتباع، زُمَرة في زُمَرة ولكن الرأس واحد اسمه محمد..
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا..) هذا مستقبلهم (..حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الزمر:63-75]، الحمد لله رَبِّ العالمين.
يا ربنا لا تجعل حاضراً معنا ولا مستمعا لنا ولا مشاهداً لمجمعنا ولا مواليا؛ إلا فيمن يُسَاقُ إلى الجنة مع المتقين زُمَراً إذا سِيقَ الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زُمَرا، ونسألك أن تجعلنا في زمرة حبيبك زين الوجود، الحامد المحمود، صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، سيِّدِ أهل الشهود..
يا الله .. يا الله
اجعلنا قريبا منه في مقامه المحمود، إذا سجد لك فشَرِّفنا اللهم بنور ذلك السجود، وأسمعنا ما يَحْمَدُكَ به حبيبك الحامد المحمود؛ مِمَّا تفتَحُ عليه من محامد لم يحمدك بها قبله ملَكٌ ولا إنسي ولا صغير ولا كبير في الأول والآخر؛ ولكن تجلّياتك عليه بالإفضال وجزيل النَّوال حتى في يوم الأهوال؛ فتُلهمه محامد ما حمدك بها سواه.. أسمعنا محامده حين يحمدك، شرِّفنا بذلك، أسعدنا بذلك، أكرمنا بذلك..
يا الله .. يا الله
ولو لم يُعَدَّ في الآخرة من نعيمٍ إلا الإذن -لمن يُؤذَنُ له أن يسمع هذه المحامد وما يجد عندها من لذَّة- لكفاه!
وأسمعنا نداءك له حين تقول له: "يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ"، يا الله..
يا ما أعجبه من خطاب، يا ما ألذَّ به خواصّ الأحباب في ذاك اليوم يوم المآب!
فإن كان لسواهم يوم الأهوال فهو لهم يوم النَّوال، ويوم الإفضال، ويوم العطايا الجِزَال، والملائكة تقول لهم: (هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء:103].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم..
فيُشَفِّعه الله في الأولين والآخرين شفاعةً لا تحصل لأحد قبله ولا لأحد بعده! فـ الشفعاء جميعا في الموقف، أعظمهم: الأنبياء والملائكة والصديقون المقربون والعلماء العاملون والشهداء، هؤلاء مَن يشفع في القيامة. وما أحد منهم شفاعته تعمّ أهل الموقف كلهم إلا هذا وحده، ولا أحد منهم يبدأ في الشفاعة في قليل ولا كثير ولا صغير ولا كبير في ذاك الموقف؛ حتى يَفتح باب الشفاعة هذا.. ﷺ
فمَا أعظمه من شفيع، وما أعلى جاهه الوسيع لدى الإله الحق البديع -جلَّ جلاله-!
فيَا رَبِّ اجعلنا في صفِّه، وفي حزبه، وفي دربه، وفي زمرته، وفي مرافقته، نحيا ونموت على محبتك ومحبته، ومودتك ومودته، ونصرتك ونصرته، ونُحشَرُ في خوَاصِّ أهل زمرته..
يا الله .. يا الله
يا الله.. أعطيتنا الإسلام والإيمان، وجعلتنا في أمة سيد الأكوان خير أُمَّة، ومكّنتنا من دعائك، وجمعتنا في مجامع مَن فيها من الملائكة والأرواح أضعاف أضعاف مَن يحضرها ويسمعها مِن الإنس والجن، فلك الحمد شكرا ولك المنّ فضلا، وإنَّا ندعوك ونسألك ونقول: يا الله اجعلنا في زمرة ذاك الحبيب، وقرِّبنا أعلى التقريب، ووَفِّر لنا منه وبه وفيه الحظَّ والنصيب.
يا الله .. يا الله
اللهم وعجِّل بإيصال الأنوار إلى قلوب أُمَّته في المشارق والمغارب، وعجِّل بكشف الكربات عن أهل فلسطين، وعن أهل الشام، وعن أهل السودان، وعن أهل الصومال، وعن أهل العراق، وعن أهل ليبيا، وعن أهل اليمن، وعن بقيَّة المسلمين في المشارق والمغارب..
يا ربَّ المشارق والمغارب، يا دافع المصائب، يا كافي النوائب، يا حيُّ يا قيُّوم، يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد: إليك توجهنا، وإياك قصدنا، وعليك اعتمدنا، وأنت ملاذنا، وامتدت أيدينا بفضلك منك إليك، مُتَذَلِّلينَ، خاضعين، خاشعين.. يا حيُّ يا قيُّوم عجل بالنصر للمسلمين، يا حي يا قيوم رُدَّ كيد المعتدين، الظالمين، الغاصبين، الفاجرين، الكافرين، ولا تبلغهم مراد.. يا حيُّ يا قيوم،
يا الله .. يا الله
ونتوجَّه كلنا إلى الله، أسعدنا يا مُسعِدَ السعداء، وكُن لنا هاهنا وغدا.. يا الله
ونتوجَّه إليه أجمعين، ونقول:
يا ربنا يا ربنا يا ربنا يا ربنا ** يا ربنا أنت لنا كهف وغَوْثٌ ومُعِين
عجِّل برفع ما نزل أنت رحيم لم تزل ** مَن غيرك عزَّ وجل ولاطِفٌ بالعالمين
ربِّ اكفنا شرَّ العِدَا وخذهم وبَدِّدَا ** واجعلهم لنا فِدَا وعبرة للناظرين
يا ربِّ شَتِّت شمْلهم يا ربِّ فرِّق جمعهم ** يا ربِّ قَلِّل عدَّهم واجعلهم في الغابرين
ولا تُبَلّغهم مُرَاد ونارهم تُصبِح رَمَاد ** بـ كهيعص في الحال ولُّوا خائبين
وشَرِّ كُلِّ ماكِرٍ وخائنٍ وغادِرٍ ** وعائنٍ وساحرٍ وشَرِّ كُلِّ المؤذيين
من مُعتَدٍ وغَاصِبِ ومُفتَرٍ وكاذِب ** وفاجِرٍ وعائبٍ وحاسِدٍ والشامتين
يا ربنا يا ربنا يا ذا البهاء وذا السَّنَاء ** وذا العطاء وذا الغِنَا أنت مجيب السائلين
يَسِّر لنا أمورنا واشرح لنا صدورنا ** واستر لنا عيوبنا فأنت بالسِّتْرِ قَمين
واغفر لنا ذنوبنا وكُلَّ ذنبٍ عندنا ** وامنُن بتوبةٍ لنا أنت حبيب التائبين
بجاه سيدنا الرسول والحسنين والبتول ** والمرتضى أبي الفحول وجاه جبريل الأمين
ثم الصلاة والسلام على النبي خير الأنام ** وآله الغُرِّ الكرام وصحبه والتابعين
يا الله..
27 جمادى الأول 1446