(536)
(228)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مُكرِمنا بالوقوف على بابه، وبفيض السحَّاح مِن عجائب جوده سبحانه وتعالى وإفضاله وعطائه بواسطة أحبابه، وبواسطة سيد أحبابه، حبيبه المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه.
ولقد جمعنا الحقُّ تبارك وتعالى لنتذكر شأنَ المسير وشأنَ المصير، وما خُلقنا إلا ليحسُن منا المسير حتى يصلحَ ويحسنَ لنا المصير، (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) ومن عرف قدرَ هذا الإله بما يُستطاع معرفتُه للخلق، وأنَّى يُقدر للرحمن قدرُه؟ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولكن بقدرِ ما يتهيأ العبادُ عامة وهؤلاء الناس خاصة، الذين أُكرِموا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته الخاتمة للرسالات، بقدرِ ما يقدرون على أن يتحملوا من إدراك معرفة عظمة ربوبية الرب الذي لا رب غيره، والإله الذي لا إلهَ سواه يحسنون المسير بمنهاجه، بتعاليمه، بشريعته، بوحيه الذي أوحاه يتشرفون بذلك، يُكرمون بذلك، لا يُرمون إلى الأهواء، ولا إلى أفكار البشر، ولا إلى تعاليم الخلق، ولا إلى تنظيمات الناس، ويعيشون في الحياة وهم على منهاج ربانيٍ رحمانيٍ مِن إلههم الكريم، يمضون به في أقوالهم وفي أفعالهم، ويطبِّقونه في بواطنهم في نياتهم ومقاصدهم وشهودهم، حتى تتهذبَ وتتطهرَ خواطرُهم ووارداتُهم، فيصفو لهم المورد، فيرِدُون الموردَ الأعذبَ على الشهود الأسنى، شهود الإله جل جلاله وتعالى في علاه، المقدِّر المدبِّر، الفاطر، المكوِّن، المقدِّم، المؤخِّر، الذي بيده الأمر كلُّه وإليه يرجع الأمر كلُّه، (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ)، يا مَن بيده الخير نسألك الخيرَ كلَّه، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشرِّ كلِّه، ما علمنا منه وما لم نعلم، بيده الخير وهو على كل شيء قدير جل جلاله وتعالى في علاه.
ما كان ينبغي للأرض أن تحجبَنا عن مُوجدِها، عن مكوِّنها، عن منشئها عن إلهنا، عن ربنا، ما كان للهواء وما فيه، ما كان للبحار ما كان للأجهزة ومن صنعها أن يحجبونا، أن يردُّونا، أن يصدونا، أن يحولوا بيننا وبين شهود خالقنا، مكوِّننا، فاطرنا، موجدنا، رب كل شيء، وليس للسماوات وما كان لها أن تحجبَنا عن الإله الذي فطرها، والذي بدعها والذي يشقها وقت انشقاقها، فهي مع عظمتها جعلها سبحانه وتعالى سبعاً شدادا، مُحكمة الصنع لا تحتاج من أحد إلى صيانة، لا تحتاج من أحد إلى ترميم، لا تحتاج من أحد إلى تفقّد، لا تحتاج من أحد إلى نظر كيف تتماسك، كيف تبقى، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا) وجعل الله لنا العبرة أن ما نُحدثه على ظهر هذه الأرض مما يقوم على أيدينا يحتاج إلى صيانة، يحتاج إلى ترميم، يحتاج إلى تبديل، ويروح ويجي هذا غير، ولكن الأرض مَن رمَّمها؟ نفس الأرض التي نحن عليها، من يرممها؟ من يقوم بصيانتها؟ يقول سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) بتنادون شي من الهيئات والمؤسسات؟ بتنادون شي من أصحاب الصناعات تقول امسك الأرض امسك الأرض.. ممكن؟ (وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ)، (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ*مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) جل جلاله وتعالى في علاه.
كلهم ضعاف ومع ذلك كل ما صنعوا احتاج إلى كم مِن تفقُّد، والواحد منهم يُخلق له جهاز في باطنه يمر عليه ستون سنة وسبعون سنة وما حد رمَّمه له ولا حد عمل فيه صيانة، وهو شغال طول هذه السنين بقدرة الكبير المتعال جل جلاله، قال سبحانه وتعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا*وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا*وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا*وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا*وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا*وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا*وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا*وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) وهي بشدتِها وتماسكها ملايين السنين تأتي لحظة واحدة يقول تشققي فتتشقق، مُوري فتمُور، (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا*وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا*فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، اليوم يفتخرون أنه قد رُؤي يقطّعون من الجبال ويخرِّمون في الجبال ويعملون في الجبال، لكن سيِّروا الجبال، سيِّرها النهائي كلها، (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)، ما يقدر إلا يقطّع، منها يعمل له طريق فيها، ورأى نفسه قويا، وهي كلها ضعيفة أمام القوي جل جلاله، وإذا شاء سيَّرها، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا*فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا*لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)
وظهرت لنا الأخبار يذكرون عن الإمام الفاكهاني، في أخبار مكة أنه نقل من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، (لا تقوم الساعة حتى تُبعج جبال مكة)، وفي الرواية الأخرى (لا تقوم الساعة حتى تخرم جبال مكة) وهذا كلام من قبل 1400 سنة، والبعج عيوننا ذي رأته، والتخريم عيوننا ذي رأته، وفي مكة قاعدين ندخل من نفق إلى نفق، من نفق إلى نفق، مخرمة جبال مكة، تخرمت وبُعج منها ما بُعج، وأزيل منها ما أُزيل، سبحان الله وهي علامة اقتراب الساعة من غير ما شك، وهي قريبة القريبة، كانت قريبة من بعثته صلى الله عليه وسلم، عمر الدنيا من أيام بعثته إلى نهايتها قصير بالنسبة لما مر، قد مر على الأرض القرون بعد القرون بعد القرون والألوف من السنين والملايين من السنين مرت عليها وانتهت (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا) تعرف كثير؟ بميزان ربك كثير، (وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) وكلهم انتهوا وقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا*فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا*وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا*وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا*وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا).
فلا ينبغي ان يحجبكم تاريخ ولا أول ولا آخر ولا أرض ولا سماء عن شهودكم للإله الحق رب الأرض والسماء، ما يجي رجب وموسمه شعبان وموسمه والزيارات ومافيها ورمضان وما فيه إلا ليرسخ فيكم هذا الشهود قبل لقاء المعبود، قبل أن ترجعوا إلى البر الودود جل جلاله، فتحوزون نصيبكم من هذا السر الذي إذا قام في عبد بواسطة الفضل والبر من الإله البرّ جل جلاله وتعالى في علاه، نُعّم في العقبى بأنواع النعيم ولذذ بأنواع التقريب والتكريم، ولا تكون لذة المؤمن في الجنة إلا على قدر ما صفا من شهودهم في الدنيا، وما تم لهم من معرفة أيام الدنيا بالإله الحق جل جلاله وتعالى في علاه.
وقالوا: ومن عرف كل شيء ولم يعرف الخالق فكأنه لم يعرف شيء! كأنه لم يعرف شيء، ما هذا يفيده معرفة هذه الأشياء، إذا جهل المكوِّن والخالق، ومرجعُه ليس إلى شيء من هذه الأشياء، إن مرجعه إلى هذا الخالق، وقربنا من الخالق ونيلنا لرضى الخالق على قدر ما أعطانا من المعرفة به في هذه الدنيا، فخذ نصيبك، خذ نصيبك من رجب ولياليه وأيامه تعرف إليه حتى يتعرف إليك، فإذا تعرف إليك، كشف عنك الحجاب، شهدت العظمة، إن رأيت سارية قابلتك العظمة، وإن رأيت قطيفة قابلتك العظمة، وإن نظرت ميكروفون قابلتك العظمة، وإن رأيت سيارة.. وإن رأيت طائر وإن رأيت طائرة وإن رأيت هواء وإن رأيت أرض وإن نظرت إلى سماء كل ما فيها يقول ربي عظيم، يقول ربي كبير، يقول ربي قدير، يقول ربي سميع بصير، يقول ربي محيط بكل شيء (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) .
فعسى نُكرم بنصيب من هذا العطاء الوافر من حذرة الكريم الفاطر، يارب ما حالَ بيننا وبين هذا من ذنوبنا فاغفرها لنا، سامحنا فيها، ادفع عنا ظلمتها، وكدورتها، وحجابَها، وشرّها، وضرّها، فإنا نفرّ من ذنوبنا إليك، ولا ملجا ولا منجا منك إلا إليكن علمناك رباً تغفر الذنب وتؤاخذ به، إن شئت آخذت به فهلك عبدك وإن شئت غفرت فنجا عبدك، فيا خير الغافرين اغفر لنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أكرم الأكرمين.
وهكذا يسر لكم سبحانه وتعالى ما يسر إن ذكر لكم إخوانكم الذين ذهبوا إلى العمرة، من سر ارتباطهم بالمكان أو بالدار من شان صاحبه، كان ما كان من تسهيل أو من تيسير أو من تدبير أو من مقابلة حسنة هنا أو هناك، فإنما هو تذكرة لنا أن نربط قلوبنا بالشان وصاحب الشان ومَن أُنزل عليه القرآن، لأن الدار دارُه والآثار آثارُه، والأنوار أنواره، وهو المصطفى، وهو المجبتى لربنا الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه
وإنما الرجاء بنرد نحن وإياكم على موارد في القيامة وعلى مواقف هناك، ونحن نترقب هناك أن يكون شيء من اللطف، والعفو والرأفة والرحمة والتجاوز والصفح والإحسان، فإنها ألف موقف، خمسين موقف في القيامة، خمسين موقف كل موقف مقدار ألف سنة، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، تعرف هذه المواقف، هذا المستقبل شوفه للأمة كلهم، من لم يستعد له كذاب أن يقول استعدّ للمستقبل، كذاب أن يقول ضمن المستقبل، كذاب يقول أحسن المستقبل، ما استعدّيت لخمسين موقف كل موقف مقدار ألف سنة، أي مستقبل عملت لك؟ هذا المستقبل الكبير، يمر على بعض الناس الخمسين ألف سنة كما بين الظهر والعصر، هؤلاء أهل دائرة المصطفى، هؤلاء أهل القرب من الله، نسأل الله أن يلحقنا بهم، وفيهم خواص، تعرف هؤلاء الخواص؟ مقدار خمسين ألف سنة يمر على أحدهم كأخف صلاة صلاها في الدنيا، قال بعض أصحابنا تعجبت مرة عند الحبيب جعفر بن أحمد العيدروس صلى ركعتين خفيفتين، فالتفت إلي قال يا فلان شفت هاتين الركعتين؟ الله سبحانه وتعالى ذهب بروحي فيها إلى مكان كذا ومكان كذا وعالم كذا وعالم كذا.
والموقف هناك في القيامة كله حق الخمسين ألف سنة كأخف صلاة صلاها أحدهم في الدنيا، وقد انكشفت الغمة .. هنيئاً لأهل القرب من الله، هنيئاً لأهل حضرة الله عسى معهم يا إخوان يا أحباب، أقيمت ذي المجالس لتكون لكم صفوف في صفوفهم، ليكون لكم دخول في دوائرهم فهذا المقصد من الواحد الأحد، جل جلاله، لأن أكثرَ الناس غافلون عن هذه الحقائق، عن هذه العواقب، عن هذا المصير الأكبر، عن هذا المستقبل الأعظم، غافلون في هذه الدنيا كما يقول الله تعالى في ذكرِ غرورِِهم (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ*سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ*بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) إن المجرمين بأصنافهم الذين حُرموا الذوق، حُرموا الأدب مع رب الخلق، ما عرفوا قدرَ حبيبه ولا أطاعوه، في أيام ذي الدنيا اغتروا بذا وذاك، وراحوا هنا وهناك على غير منهج ملك الأملاك، على غير إرشاد سيد العباد والنساك، صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين أجرموا في هذه الحياة، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ*يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ*إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ) وأمثالكم قد مضوا. كم تريد مِن مثلِك؟ مائة مائتين ثلاثمائة عشرة ألف عشرين ألف، قد مروا مثلك، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) والأمر محسوب، (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ*وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) فيا فوز أهل الاستقامة (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ*فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) جل جلاله.
اللهم اجعلنا من المتقين وألحِقنا بالمتقين، يقومون في حياتهم بما يرضي الرب جل جلاله، قد هيّأ لكم أسباب ووسائل، تصل بكم ذا وذاك، تستطيعون الاتصال بذا وذاك، ومجامع تُعقد وأنتم في أمن وفي طمأنينة وعوافي في أبدانكم، من أين جبتوها؟ من خزائن مَن أخذتموها؟ ما يقدر عليها لا حكومات ولا آباء ولا أمهات ولا مؤسسات، ممنوحات من فائض جود بارئ الأرض والسماوات، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، يصبح أحدكم والحال كما قال صلى الله عليه وسلم (من أصبح آمِناً في سربه، مُعافى في جسده، عنده قوت يومه وليلته فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)، الحمد لله، الله يتم النعمة علينا وعليكم، ونتعاون على البر والتقوى ونتواصى بالحق والصبر ونكثر استغفار، نصف الشهر الأول قد رحل كله، ودخلنا في نصف الشهر الثاني، عسى تمامه بالتوفيق، عسى تمامُه باللحوق بخير رفيق، عسى تمامُه بالدخول في دوائر المحبوبين لربنا الرحمن، الرفيق الذي يحب الرِّفق في الأمر كلِّه جل جلاله وتعالى في علاه، فارفُق بنا وارأف بنا وارحمنا يا ربنا، يا ربنا، يا ربنا، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وهكذا، تقوم الشؤون لمن يتذكرون، ولمن يُحسنون النظرَ بالتذكرة في كل شيء على ظهر هذه الأرض، فيغنموا ما قدروا عليه من العمر والوقت، في ذكر، في شكر، في إنابة في استقامة، في عمل بما يحب اللهُ ورسولُه، في نظر إلى بواطنهم، وإجراء منهج الله عليها، إجراء منهج الله على الباطن في النيات والمقاصد والحضور والذكر حتى تفتح لك شاشات الشهود الأسنى، وتعبد اللهَ كأنك تراه، وإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ ورؤيته أكبر رؤية، تثقل عليك رؤية فلان رؤية فلتان، تُعد لها عدتها، حتى في جسدك حتى في يدك.. إذا يراك واحد تثقل عليك رؤية فلان وفلان، تعز عليك رؤيته!؟ ورؤيته؟ ورؤيته؟ ورؤيته؟ وهو الذي يرى ضميرَك، يرى باطنَك، ويرى سرَّك، صفِّ سرَّك لله، زيِّن باطنَك بالطيبة لله تبارك وتعالى، واسمع النصح واصدق ترَ النجح، وإن الفوز قريب لمن صدق مع الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه.
نسأل اللهَ أن يقيم بين الأمة روابطَ النور والحق والهدى والمعرفة والأخوة والمحبة في الله، حتى يكون التسابق إلى الدخول إلى دائرة المصطفى، سابقوا عليها الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم وأرضاهم حتى حلفت أسماء بنت عميس، لما وصلت من الحبشة مع الذين وصلوا مع سيدنا جعفر، ودخلت بيت حفصة بنت عمر أم المؤمنين، خيمتها في خيبر، من الذين ذهبوا إلى خيبر، ما صبروا في المدينة، وصلوا المدينة قالوا لهم رسول الله في خيبر.. فذهبوا إلى خيبر، بقي منهم قليل في المدينة ينتظرون رجوعه، والبقية حملهم الشوق إلى الذهاب لخيبر، قام يستقبل سيدنا جعفر ويعانقه ويلتزمه ويقول (لا أدري بأيهما أُسرُّ أكثر؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟) سيدتنا أسماء بنت عميس جالسة تتكلم مع سيدتنا حفصة دخل سيدنا عمر، قال من عندك؟ قالت أسماء بنت عميس، قال الحبشية؟ البحرية هذه؟ التي جاءت في السفينة، قال نعم، قال يا أسماء سبقناكم إلى رسول الله، كنا معه فنحن أحق به منكم، قالت: ما تقول؟ جلستم عند رسول الله يطعم جائعكم ويعلِّم جاهلكم ويعلمكم ويكسوكم ويطعمكم ونحن في أرض الغرباء البعداء هناك؟ تنالنا الشدة والمشقة تكونوا أولى به منا والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أبلِّغ مقالتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر ما يقول ولا أزيد ولا أنقص، وذهبت وجاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله قال عمر كذا وكذا، قال فما قلتي له؟ قال قلت له كذا وكذا، قال ما هم بأحق بي منكم ، وإن لهم هجرة واحدة ولكم أهل السفينة هجرتان، فجعل اهل السفينة أرسال أرسال ياتون إليها يقولوا ما قال رسول الله؟ ما قال رسول الله؟ قال ولقد رأيت أبا موسى وهو يستعيد من المقال، قولي ماذا قال النبي، ماذا قال فينا أصحاب السفينة لما جئنا، فهذه مسابقة الصحابة إلى الرحاب الطاهرة، إلى القلب الطاهر.. من أحق منا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يكون أولى منا برسول الله؟ وهكذا يكون الصادقون في كل زمان، إن كان هناك تسابق وإن كان هناك سعي مشكور، فهو السبق إلى هذه الشؤون، الله يكرمنا بها يارب بصاحب الإسراء والمعراج، يفتح لنا باب وصلة به لا تنقطع أبدا نرقى بها أعلى مراقي الوداد من حضرته يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
فما جئنا إلى بابك إلا لائذين بأعتابك، وسائلين واسع إفضالك، وجزيل نوالك، وأنت ربنا لا رب لنا غيرك، فادفع عنا شرَّ الحجابات وشر السيئات وشر المخالفات يا غافر الذنوب والخطيئات، يا الله، أنت تسعدُ بقولك يا الله، لأنك تنادي من؟ وتدعو من؟ وتطلب من؟ وتخاطب من؟ وتنطق باسم من؟ وهو أكرمك بذلك جل جلاله، لك الحمد يا ربنا يا الله، فجُد علينا يا الله، وانظر إلينا يا الله، وأسعِدنا يا الله، وقرِّبنا إليك زلفى يا الله، وطهِّرنا من معايبنا ومثالبنا وذنوبنا وسيئاتنا وخطيئاتنا وعثراتنا يا ربي كلها طهِّرنا منها تطهيرا، ونوِّرنا منك تنويرا، واجعل لنا في منازلِ قُربِك قدراً كبيرا، يا الله، يا الله، أحسِن لنا ولهم عاقبة ومآلاً ومصيرا، يا الله، يوم البعث والنشور مع بدر البدور، صغيرنا والكبير، لا يتخلف منا أحد يا الله، بحقِّك عليك، بأسمائك، بصفاتك، بذاتك، بأهل حضرتك، بسيدِ أهل حضرتك، حقِّق لنا هذا الطلب، وأنِلنا إياه يارب يارب، يا الله، يا الله، يا الله، جمعُنا ومن يسمعُنا لا يتخلف عن ركبِ حبيبك يوم القيامة، آمين يا الله، حقِّق يا الله، أجِب يا الله، اسمع يا الله، اسمح يا الله، جُد يا الله، امنُن يا الله، أكرِم يا الله، يا الله، يا الله، يا غوثاه، يا رباه.
يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، حبِّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، كرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، واكفِنا شرَّ الشياطين، شر المؤذين، شر الظالمين، شر المستكبرين، شر أعداء الدين، ولا تبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحد من المسلمين، يا الله، يا الله، يا الله..
نحن المسعودون بذكرِك، نحن المطمئنون بذكرك، نحن شاكرون لك ما أسديت إلينا مع سوء ما قدمنا إليك، فيا ساترنا ويا متجاوزاً عنا ويا مُحسن معاملتنا، انقلنا من الإساءة إلى الإحسان، انقلنا من الغفلة إلى الذكر، انقلنا من البُعد إلى القرب، انقلنا من المعصية إلى الطاعة، انقلنا من كل حالة دنيّة إلى كل حالة رفيعة عليّة، يا الله.. باقي رجب بارك لنا فيه، في أيامه ولياليه وساعاته وما فيه، وما تجود على أهليه، وشعبان وفِّقنا لإدراكه، وللدخول مع السُّلاك القائمين فيه بما يرضيك، يا أرحم الراحمين، ورمضان نبلغه كلنا يا الله، كله يا الله، ونحوز الخير الواسع فيه يا الله، رحماتك ونفحاتك مغفرتك وعتقك من النار، نظفر بالحظ الكبير، والنصيب العظيم يا عظيم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
16 رَجب 1435