(536)
(235)
(575)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى، ليلة الجمعة 18 شعبان 1444هـ بعنوان:
القلوب المكرَمة بالتوجه إلى إلهها الحق وما يرتب المكوِّن عليها من دفع شرور ونيل خيور
نفعنا الله ورقّانا مراقي قُربه، وأكرمنا سبحانه وتعالى بِمَوَدّتهِ وحُبِّه، وأدْخَلَنا في أهل الصدق معه من خواصِّ حِزبه، يا جامعنا على الوِجهةِ إليك.. وَجِّه قلوبنا إليك، وأقبِل بوجهك الكريم علينا، وزدنا من فضلك ما نذوق به لذَّةَ وصْلك في حياتنا الدنيا، ونعيش على الازدياد من محبتك ومعرفتك ونَيلِ قُربِكَ.. حتى نُتوفّى وكُلّنا شوقٌ إلى لقائك، نُحِبُّ لِقاءك وأنت تُحِبّ لقاءنا، وأنت يا ربِّ تُحِبّ لقاءنا بِمَحضِ فضلك، وتُسعِدنا سعادات الأبد التي ليس لها غايةٌ ولا حصْرٌ ولا حد، وذلك فضلك الواسع الذي لا يزالُ يمتد، لا إله إلا أنتَ.. أرسلتَ إلينا حبيبك مُحمّدًا خاتم الرُّسلِ أحمد، فَصَلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن والاهُ فيك وسار على منهجه الأرشَد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين بَشَّروا به قبل أن يُولَد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المُقرَّبين وعبادك الصالحين وعلينا وعلى أهل مَجمعنا ومن يسمعنا معهم وفيهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وتدارك أمة هذا الحبيب، واجمع شمل أمة هذا الحبيب، ووفِّر لهم من معرفةِ سِرِّ بِعثته وختمِ نُبُوَّتهِ ورأفتهِ ورحمتهِ والاقتداءِ به الحظَّ والنصيب، وَفِّر اللهم حظوظَ أهالينا وأبنائنا وبناتنا وطلابنا وأصحابنا مِنْ حُبِّكَ وحُبِّه، وأسعِدنا بِقُربِكَ وقُربهِ يا الله، إنّ هذا مِن أعظم ما يُطلَب منْ ربكم، ويُتحصَّل عليه على ظهر هذه الأرض، من قِبَل هؤلاء الذين خلقهم الله تبارك وتعالى وشرّفهم بالروح والعقل وآتاهم الأسماع والأبصار، وأنزل إليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل، وجاءنا ختمُ المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه وسلم، فمن عاش يفوته طلب هذه المطالب، والرَّغبة إلى الرب سبحانه مع كل راغب، وانحصرَ في مطالب الفانيات والزائلات، فقد قَصُرَ حظُّه وقد قَصُرَ نصيبه من العطاء الوافر، ولم يعرِف قدر العُمر ولا قدر الحياة الدنيا ولا مُهِمَّتهُ فيها، ويتعرّض بعد ذلك لأن تفوتهُ الحياة الآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى!
{رَبَّنا مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} وما المُنادي إلا مُحمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والسماع له على درجات؛ وما مِن مؤمن يؤمن إلا وقد نالهُ من سماع هذا النداء نصيب، ولكن له مراتِب بعد ذلك وشؤونٌ بديعة عجيبة! سمعنا مُنادٍ ينادي للإيمان، أكرِم اللهم قلوب الحاضرين والسامعين بسماع هذا النداء بِدرجات عَلِيَّة ومراتب سَنِيّة، حتى تَحسُن الإجابة مِنّا والتلبية لهذا النداء {فَآمَنَّا} أكملَ الإيمان يا رب، أقوى الإيمان يا رب، أعظمَ الإيمان يا رب، نزدادُ إيماناً في كُلِّ لمحة ونَفَسٍ يا رب، {فَآمَنَّا} ومن آمن بهذا المصطفى فإن مصطفيهِ قد ارتضاه وقد خصَّهُ بِعطاياه، اللهم حقِّقنا بِحقائق الإيمان بِنَبيِّك محمد وما جاء به عنك، يا الله! آمنّا بالله ورسله فَزِدنا اللهم إيمانًا ويقينًا وحقِّقنا بِحقائق الإيمان، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والمؤمن من أقوى علاماته في تحقُّقِه بالإيمان أن يأمَنهُ الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، أن يأمنهُ الناس كل الناس؛ لا يخاف أحد من الناس أن يظلمه في دِرهم ولا فِلس، ولا أن يهتِك عِرضهُ بِكلمة ولا بِنظرة، ولا أن يمُدَّ يدهُ على دمٍ من الدماء، فهذا شأنُ المؤمن؛ المؤمن من أمنهُ الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، والمؤمن من يُحِبُّ لأخيهِ ما يُحِب لنفسه، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهُم أخلاقًا، ربّنا افتح لقلوبنا سماع هذا النداء من هذا المُنادي وزِدنا يا ربنا ارتِقاءً في هذا السَّماع، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآثارُ ندائه قال عنها ربكم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَاب} وترتبِطُ الأعمال بالإيمان، ومهما صَحّت وخلَصَتْ وقُبِلت زاد بها الإيمان، ولذا يقول لنا عن رمضان سيد الأكوان: "من صامَ رمضان إيماناً واحتساباً" بدافعِ الإيمان على أساس الإيمان؛ التصديق التام القوي بالحق الخالق، عالم الظاهر والباطن والذي إليه المرجع، الآمِر لنا بالصيام بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ترتقون في مراقي تقواي، ويزيد لكم عطاي، وتنالون الشَّرف بِلِقائي وأنا راضٍ عنكم، لعلكم تتقون، وهي عبادة ضرورية لِبني آدم وللمُكلَّفين للإنس والجن على ظهر الأرض، لهذا كتبها على كُل أمّة؛ من أيام آدم وشريعة الصيام وفرض الصيام وعبادة الصيام قائمة إلى أن جاء خاتم النبيين، قال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وهو السُّلَّم القوي لارتقاء مراتِب تقوى الحيِّ القيوم القادر سبحانه وتعالى، الذي بيده ملكوت كل شيء.
وكلُّ ما يُتصوَّر عن حُرِّيَّة أو شرف أو كرامة أو تقدُّم في جهلٍ بعظمة الخالق واستعداد للقائه.. فمُجرَّد ضلال ومَحال وخيال وَوَبال على أصحابه، وما دعا إلى الكرامة والشَّرَف والحُرِّيَّة إلا الله خالق الكل، دعا هؤلاء المُكلَّفين الذين يُتعرَّضون بِغفلاتهم إذا ارتضوها وبشهواتهم إذا اتَّبعوها ولم يُقيموا ميزان صرفِها فيما يُرضي الرَّب جل جلاله، وقيامها على حدودها التي حدَّدها الرحمن جل جلاله، وتحويلها إلى أدوات للرَّغَبَات، واشتِهاء شريف المقامات وحقائق السعادات في الدنيا وفي الآخرات، هؤلاء الذين يُتعرَّضون إذا ما قاموا بهذا للهَوَان والذُّل في الدنيا والآخرة، جعل الله إنقاذهم بما أوحى وبما أرسل ونبّأ على أيدي النبيين والمُرسلين صلوات الله عليهم.
وفي كل زمان على ظهر الأرض ما فاز ولا سعد ولا ظفر بحقائق الشرف والكرامة والحُرِّيَّة إلا أتباعُ النبي، أتباع الأنبياء في ذلك الزمان حتى جاء النبي المبعوث إلى جميع الخلق بالرحمة العامة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، واختارت مشيئةُ الخالِق المُكَوِّن أن تكونوا من أمته وأن تكونوا من أتباعه، وأن تجتمعوا على سماعِ ندائه لِيَتَّسِع لكم مجال سماع هذا النداء، كل صادق منكم في كل جَلسة يجلسها.. يتَّسِع مجال سماعه للنداء، ويحِسّ به من داخله، ويبعثه على كمال التنقية وعلى كمال التصفية.
وإذا كان كذلك، فكل رمضان يحضُره يكون حاله فيه خير من رمضان الذي قبله وأحسن من رمضان الذي قبله، وهي شعيرة عظيمة من عظيم الشعائر، سيد الشهور شهر رمضان، بلَّغنا الله إياه وجعلنا من خواصِّ أهله في عافية، فيه الفوائد الكبيرة والمِنَح الوفيرة من حضرة الرحمن جل جلاله لعباده، حتى قال خاتم الرسالة: "ويلٌ لمنْ أدركَ رمضان فلم يغفر له!" إن لم يُغفَر له فيه فمتى؟! أي تيسَّرَت أسباب الغفران في الشهر الكريم بلغنا الله إياه، ومع الغفران من الله عطايا حِسان ومِنَن رِزان ومحبَّة وقُرب ورِضوان منه، ورِضوان من الله أكبر جل جلاله وتعالى في علاه.
ولا يزال بحمد الله في العالم من يتَّصِل بهذه التربية التي سمعتم الحديث عنها، وما تقدَّم في الأزل من إرادة الحق عز وجل أن يحفظ القرآن ويحفظ في أُمَّة النبي محمد أسرار الاتصال بالقرآن ومن أُنزِل عليه القرآن، ولا يزالون حتى إذا نزل عيسى بن مريم على ظهر الأرض وجدَ في الأمة مِثلَ حواريِّيه، من أهل النُّصرة والوَعي والفهم والصِّدق والزَّهادة وإيثار الباقي على الفاني وإدراك الحقيقة، يجدهم في هذه الأمة كما أخبرنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأن الله تعالى يُبقي هذه الخَيرِيَّة في هذه الأمة فالحمد لله على مِنَّتِهِ ونِعمته، والله يُتِمُّها علينا وعليكم.
وتجد القلوب المتوجهة إلى الرحمن في شرق الأرض وغربها تنتظر مثل أيام هذه الفُرَص، وتنتظر هذا الشهر الكريم وبِسِرِّ وِجهاتهم يحصل شيء كبير من جُودِ الله تعالى وتقديره في كشف رزايا وبلايا وتحويل الأحوال إلى أحسنها.
إنَّ كُل ما يتعلق بالماديات ولو كُسِيَت كُسوة الصِّدق والإخلاص والعمل بالشريعة.. إنما هو مُجرَّد ظِلّ، إنما روح الأمر: إرادة الرحمن فيمن يصطفيهم ومن يرتضيهم، والآية مُصَرِّحة بقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} يعني عندكم أعمالكم لكن إذا ماشي دعاء.. إيش ماشي دعاء؟ ماشي افتقار واضطرار إليّ واتصال بي لا أعبأ بكم ولا أُبالي بكم {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}.
أرباب الدعاء وأرباب التضرُّع والابتهال هم الأسباب القوية لإصلاح الشؤون ودفع الفتون ورفع البلايا عن الأمة، فَلتكُن مِمّن يدخُل في هذه الدائرة ويُسهِم ويُساهِم مع أهل الوِجهات الصَّادِقة إلى الرحمن جل جلاله ويكونوا سببًا للفرج، وهُم يبذلونَ ما في الوِسعِ في عالم الأسباب وعالم المادِّيات وعالم الحِس، ولكن انتباههم من شأن القلوب وَوِجهتها إلى الرب يكون أعظم، ويكون عندهم في نظرهم أهمّ، فيصدُقون مع العليّ الأكرم، ويستفتحون أبوابه وهو الفتاح العليم جل جلاله وتعالى في علاه.
ومِنْ وصفِ إلهكم يُعطي ولا يُبالي، ويَمنح ولا يبالي، ولو أكرمَ الجميعَ لم يُبالي ولم ينقص من مُلكِهِ شيء، ولو عَذّب أهل السماوات والأرض وأهلكهم لم ينقُص من مُلكهِ شيء ولم يبالي بشيء؛ فهو الغَني الغِنَى المُطلَق، ومع ذلك رحمته سبقت غضبه جل جلاله، وخلق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، ويجزي الجزاء الحَسَن ويُعطي المِنَن، والمُلحدون والفاجرون والكافرون.. بالله عليكم كل ما هم فيه من قُوَى حِسِّيَّة وإمداد مَن أمدَّهُم بها؟ مِن أين جاءوا بها؟ أترى وهم في غّيِّهِم وضلالهم كيف يمدَّهُم وكيف يُنعم عليهم، فما يكون جزاؤهم بعد هذا الإصرار لمن مات منهم على هذا الإنكار والاستكبار إلا النار! اللهم أجِرنا من النار {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار}.
فتوجّهوا بِوِجهاتِكم بِأن تكونوا أنتم وبيوتكم وما يَجري فيها وما يجري منكم من أعمال في رمضان من أسباب إغاثة الله لعباده، وإنقاذ الله لِخَلقهِ بما كان من إيمانٍ بالله واحتساب وصدق وإخلاص وتوجُّه إلى الرب جل جلاله.. من إبليس بما يستطيع من وسائل.
كان أول لما بدأَتْ هذه الوسائل لِنشرِ الكلام ولنشر الصور ولنشر المناظر.. تشهدونهم من قبل ثلاثين سنة أربعين سنة إلى وقت قريب، يقولون بمناسبة رمضان يُخفِّفون كثير من برامجهم اللَّهوية وبرامج الغفلة، ويقولون بمناسبة رمضان نُخَفِّف، ويأتون بكثير من برامج يسمونها دينية وما إلى ذلك، سنة بعد سنة حتى دخلوا وخفَّفوا التَّكثيف من تلاوة القرآن ومن نشر البرامج الدينية! حتى وصلوا الآن في السنوات هذه ألا بمناسبة رمضان يزيد اللهو ويزيد الغفلة! ولا عاد شي حياء لا من الإذاعات ولا من التلفزيونات! وصلوا إلى هذا، هذا مشروع لإبليس وهم يترقُّون فيه.
ولكن مشروع محمد تظنون ما فيه مُترِّقين؟! وَلَا فيه مُتلقِّين؟! هُم هُم؛ نحن نُحرِّك القلوب والعزائم منهم، وهُم إذا انتبهوا وإذا قاموا فهم المَنصورون وهم المُؤيّدون وهم الغالبون، ولكن تكون أنتَ منهم أو لا تكون؟! ومهما كان لابُدّ أن يشهد رمضاننا المُقبِل قلوب يُقلِّبها مُقلّبها فيما يُحِب ويرتضي ويرضى عنها، ويَجري بسببهم خيراً كثيراً للأمة، ويُفسد خِططًا كثيرة لإبليس وجُندِه تَضمحِل بِقلوب هؤلاء وَسِرّ صِلَتهم بالمولى في ليالي رمضان وأيامه، شَارِك، سَاهِم، ادخُل، اقرُب، تَسبّب لذلك، انظر ما الذي يجري في بيتك وما الذي يدور.
كان عهد الناس هنا في مثل هذه البلدان يشتغلون، اشتغال كُلِّي بالإقبال على الله والحضور معه حتى ما يكاد يتفرَّغون لِبعضهم البعض، وإذا اجتمعوا في يوم الجُمعة فالشُّغل بِالله غالب عليهم، حتى إذا جاءَ يوم العيد رأيت البهجة عليهم في التِقاء بعضهم البعض! وحتى تمُر عامّة الليالي ما يتلاقون فيها لِشُغل كُل واحد بمسجده وعباداته وترتيبه هو وأهل بيته الكُل مشغول! الكل مشغول بنصيب من القرآن، الكل مشغول بالقيام، الكل مشغول بالحضور مع الله، الكل مشغول بأنواع من الصدقات والقُرُبات، كان هذا الجو الذي يسود، وهكذا حتى ما تكاد تسمع في رمضان بِمثل عزومات ونحوه! كثرت الآن عندنا.. أدخِل فيها ذِكر، أدخل فيها خَير، لا تُخرِجها إلى غفلة! لا تُخرجها إلى لهْو! انوِي فيها نية صالحة.
ولا تنسَ نصيبك من سر الاتصال بنورانية رمضان وخصائص رمضان؛ فإنَّ مِن ملائكة الله في السماوات من لا يُؤذَن لهم في نزول الأرض إلا في رمضان، ولهم تردُّدات على المساجد وعلى بيوت المسلمين في رمضان، حتى فيهم من في ليلة القدر من يدخل كل بيت فيه مسلم ويُسلِّمون على الناس، وصحَّ في الحديث: "من فطّر صائمًا من مال حلال صلَّت عليه الملائكة ليالي رمضان، وصلّى عليه جبريل وصافحهُ جبريل ليلة القدر، ومن صافحهُ جبريل يرِقُّ قلبه وتكثر دموعه" يدخلون بين الناس، قال الله في الليلة المباركة: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم} فيكونون في الأرض أكثر من عدد الشجر والحجر في تلك الليلة، ويتفقَّدون المؤمنين إلا أن بعض الذين خانتهم وجهاتهم وانقلبوا.. تحمِل عنهم الملائكة حَزَن ويرفعونه إلى السماء، ويقولون كنا وجدناه في العام الماضي مُقبلًا ثم وجدناه مُدبرًا في هذا العام! وجدناه عاصٍ والعياذ بالله تبارك وتعالى وينقلون الأخبار، وهكذا ليالي مباركة وتدخُل الملائكة مع المتصافحين حين يتصافحون إذا تقابل المسلمون، وتدخُل مع الداعين حين يَدعون وتُؤمِّن على دعائهم.
وموسِم فضل وإحسان جزل وعطاء من الحق عز وجل لا يَحُدُّه حَد وخصوصاً في هذه الأمة، وخُصوا بخصائص؛ منها أول ليلة من رمضان ينظر إلى أمة محمد، وكل من نالتهُ النظرة لم يُعذِّبهُ أبدًا، لم يشقى بعدها أبداً، اللهم انظُر إلينا يا كريم.
فتوجَّهوا بِوِجهاتكم وهِمَّتكم ونِيّتكم، وتساعدوا مع هذه القلوب التي وَعَت عن الله سِرَّ الخطاب، فلا يؤثِّر فيها هذه الدعوات للغفلات ولا للملاهي، ولا لتركِ القيام في رمضان ولا لفعلِ الشَّرِّ والعِياذ بالله تعالى في رمضان، وكل ليلة ينادي المنادي يا باغي الخير أقبِل ويا باغي الشر أقصِر، فلا يكون في بيتنا من يُدعى عليه بالخسران.
يا رب حرِّك فينا الهِمَم والنِّيَّات لأن نكون على ما تُحِب في الأقوال والأفعال والصفات والكلمات والنظرات والمسموعات، وجميع الشؤون في الظهور والبطون، يا عالم ما يُسِرون وما يُعلنون، ثَبِّتنا على قَدَمِ الأمين المأمون وتولَّنا بما أنتَ أهله بِقُدرتك يا من يقول للشيء كن فيكون.
رجوناكَ ووجَّهنا حُسن ظنّنا فيك لنا وأسرنا وأهل ديارنا وأهل بلداننا وأهل مجمعنا ومن يسمعنا.. فاجعل كل واحد منهم نائلًا جوائز الفضل الواسع، مُترقِّياً إلى مقامٍ رافع، تقوى صِلَته بك وبحبيبك وعبدك الشافع، وينال بذلك من خيرك ما لا تنتهي إليه المطامع، يا قريب يا مُجيب يا سامع يا الله.
يا الله.. قلوبنا بين يديك فاجعل كل قلب من القلوب التي تقذِفْ فيها محبَّتَك وتُؤهِّلها لحسن التضرُّع بين يديك، فتجعلها سبباً لِكَشفِ الشدائد والبلايا، ودفع الآفات والرزايا، واللطف بالأمة في الظواهر والخفايا، يا رب البرايا يا الله.
يا الله.. أنت رَجاؤنا، أنت عُدّتنا، أنت عُمدتنا، أنت ثِقتنا، إليك وجَّهنا آمالنا، فيا من أوقفتنا على باب الفضل بالفضل منك، أتمِمِ النِّعمة على كُل فردٍ منا، واجعلنا مِمّن سبقت لهم منك الحُسنى، وتولَّنا بما أنت أهله في كُلِّ حِسٍّ ومعنى، يا الله يا الله يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
اقبلنا على ما فينا، وأقبِل بوجهك الكريم علينا، وأصلح ظاهرنا وخافينا، وبلِّغنا فوق أمانينا من خيرات الدارين، يا رب الدارين يا خالق الدارين يا ملك الدارين، يا مُكوّن الدارين يا مُتصرّف في الدارين، يا رب وما سِواه مربوب، يا إله وما سِواه مألوه، يا واحد يا أحد يا حيُّ يا قيوم.. حقِّق رجاءنا وبلغنا مُنانا واقبل دعاءنا، وزِدنا مِن فضلك ما أنت أهله والحمد لله رب العالمين.
17 شَعبان 1444