(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 5 ربيع الثاني 1445هـ، بعنوان:
الأخطار الهائلة من استبدال القدوة والقيادة المنتخبة من قبل الإله الخالق بما يخالفها وارتباط عزة الدارين بالانقياد لها
الحمد لله.. مُشرِقْنا بأنوار البشير النذير والسراج المنير، عبدهِ المصطفى محمد مركز التنوير والتطهير والرُّقِيِّ إلى المقام الكبير، اللهم أدِم صلواتك على المصطفى خير البريَّة، وعلى آله الأطهار وأصحابه ومن والاهم وسار في سبيلهم السَّويَّة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب العَلِيَّة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، عدد ما خلقتَ ومِلء ما خلقتَ وعدد ما علمتَ ومِلء ما علمت.
كُل صلاةٍ من تلك تُنَوِّر بها قلوبنا وتُصلِح بها أمورنا، وتدفع بها البلاء عنَّا، وتُصلح بها شؤوننا بما أصلحتَ به شؤون الصالحين في الحِسِّ والمعنى، وتتداركنا به والقلوب التي تعيشُ على ظهر الأرض من المكلّفين بهدايتك وعنايتك ورعايتك، وتُمِدّنا بالتوفيق للقيام بأداء هذه الأمانة على الوجه الأحبِّ إليك والأرضى لك، والأحبِّ لرسولك والأرضى له، والأنفع لعبادك أجمعين، يا رب العالمين يا أكرم الأكرمين.
فإنك تجمعنا واقفين على بابك ولائذين بأعتابك، راجين لثوابك وخائفين من عذابك وعقابك، أنتَ أملنا، وأنت مقصودنا، وأنت رجاؤنا، وأنت ثقتنا، وأنت عُدّتُنا، وأنتَ مولانا، وأنت خالقنا، وأنت رازقنا، وأنت مُحيينا، وأنت مُميتنا، وأنت باعثنا، وأنت الذي بيدك أمرنا كله.. لا إله إلا أنت؛ فارزقنا كمال الإيمان واليقين، ورقِّنا أعلى مراتب التمكين، كما تُحِبُّ وترضى يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
فإن الأعمار القصيرة تَمُرُّ بالصغير والكبير والذكر والأنثى، والعربيّ والعجمي والإنسي والجِنّي، وتمر بالصالح والطالح والمؤمن والكافر والمُقبل والمُدبِر، وكلٌّ يبلغ إلى لحظة قُدِّرت بتقدير خالق السماوات والأرض وبارئ النَّسَمَات من قبل خلق السماوات والأرض؛ فإذا وصل إليها انقضى عمره ورحل من هذه الحياة إلى برزخ، والبرزخ إلى يوم يُبعثون.
ويوم يبعثون يَتمَيَّز مِن المُكَلَّفِين: مَن العزيز ومَن المَهِين، مَن الفائز ومَن الخاسر، مَن السعيد ومَن الشقي! قال الله عن ذاك اليوم: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَومَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.
أمَّا في هذا العالم: كُلٌّ بما آتاه ربّ العالَم من هؤلاء المُكلَّفين يتكلّم، ويتكلّمون بدوافع أهوائهم وبدوافع نفسياتهم، ويتكلمون بكذب كثير ويتكلمون بِزُورٍ كثير، ويتكلمون بغرورٍ كثير، ويتكلمون بقَلْبِ الحقائق، ويتكلمون بتصوير الأشياء على غير ما هي عليه، وهؤلاء أصناف الكفار وأصناف الغافلين والعُصاة من المسلمين.
أمَّا أهل الاستقامة من المؤمنين، وأمَّا الأنبياء والمرسلون، وأمَّا ورَثتهُم: فلا يتكلمون برعاية مولاهم إلا بالحقِّ والصِّدق والهدى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}، والحسنات معدنها هؤلاء أهل سَبْقِ السعادة؛ فمنهم من اُختِيرَ من بدايته، كالأنبياء والمرسلين وخواصّ ورثتهم، ومنهم من يبدأ مرحلة عمره القصير بكُفرٍ أو بغفلة أو بمعصية، أو يطرأ عليه شيء من ذلك في بعض مراحل حياته؛ ثم تَجْذِبه يَدُ العناية من الرَّبِّ والتوفيق إلى أن يلحق بخير فريق، ويُتوفَّى على خير حال.
وتِلكُم أقضية وأقدار.. حارَت فيها الأفكار، لأهل السماوات والأرضين، في مختلف الأقطار!
قال سيدنا الشافعي:
"فما شئتَ كان وإن لم أشأ ** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العباد على ما أردتَ ** ففي العلم يجري الفتى والمُسِن
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ ** وهذا أعنتَ وذا لم تُعِن"
والحقيقة راجعة إلى ما قال رَبُّ الخليقة فيما يرويه عنه خير الخليقة العروة الوثيقة محمد: (يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا مَن هديته، فاستهدوني أهدكم).
اللهم اهدنا فيمن هديت، واهدِ أهالينا، واهدِ أولادنا، واهدِ إخواننا، واهدِ أصحابنا، واهدِ أقاربنا، واهدِ جيراننا، واهدِ أهل جَمْعِنا، ومن يسمعنا، ومن يُشاهدنا، ومن يتّصل بنا؛ هدايةً تامة، واهدِ إخواننا المسلمين في الشرق والغرب، لِمَا هو أتمّ وأقوَم وأكرم، وانشر هدايتك في البرية حتى يؤمِن كثير من الكفار، ويُسلمون في تبعيّة النبي المختار، ويخرجون من الظلمات والأكدار، إلى ساطعِ الضياء والأنوار، يا كريم يا غفّار.
واخصُص بالهدايةِ مَن يُؤذَى من المسلمين، ومَن يُعتدَى عليه من المسلمين، ومَن يُحارَبُ ويُقاتَلُ من المسلمين، مِمّن يُقاتلهم أعداؤك.. أعداء نبيك، أعداء البشرية، أعداء الخير، أعداء الهدى، أعداء السلامة، أعداء السلامِ، أعداء القِيَمِ، أعداء الفضائل، أعداء الإنسانية.
هذا حقيقة وصفهم وحالهم، ومن مات منهم على ذلك فهو بغيض الله وعدوّه مُخَلَّدٌ في النار -والعياذ بالله من ذلك- وإن ادَّعوا غير ذلك، وإن قالوا غير ذلك!
ولم تزل أفعالهم وأحوالهم تُكَذِّب أقوالهم، وبهرجة ما غرّوا به مِنَّا رجالاً ونساء، حتى تُشِبِّه بأعداء الله وسط بيوت أهل الله، ووسط بيوت حرم الله -سبحانه وتعالى- ووسط بيوت بلدان الخير والهدى!
تبًّا لهم ولما جاءوا به! ويا حسرةً على العباد الذين صدَّقوهم؛ أنهم أهل قُدوة أو أهل أُسوة! أو أهل معرفة، أو أهل نظام أو أهل تطوُّر أو أهل حضارة!
وما حضارةُ كُلُّ مَن خالف الله ورسوله إلا الظُّلم، وإلا الإفساد، وإلا الكذب وإلا الاعتداء، وإلا الخِداع.. هذه حضاراتهم تنتهي إلى ذلك، بل هي قائمةٌ على ذلك، ويبرز من وجوهها ما يبرُز!
وكُلُّ ما يتشدَّقون به: أين يذهب أمام الواقع؟ أمام الحقيقة؟ أمام ما يدور في الناس؟!
يريدون اتهام بعض المسلمين بتقتيل الأطفال! وعندهم إمامٌ هداهم إلى الله ودلّهم عليه، حرَّم عليهم أن يقتلوا الأطفال أو النساء غير المقاتلات، وأمرهم أن يَكفُّوا حتى عن المُدبِر من أهل الهزيمة.. اتركوه، وأمرهم أن يكفّوا عن أهل الصوامع، ومَن يَعتَزِل ميادين القتال.
ولم يوجَد نظام من أيام آدم إلى أن تقوم الساعة، أجمع ولا أَوْسَع ولا أَنْصَع ولا أحسن مِن نظام محمد بن عبد الله، وكُلُّ مَن اتبعهُ يقوم على ذاكم النظام الحَسَن، وما يخرج عنه خَارِجٌ إلا بمخالفته جد الحسين والحسن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم لا يجدون بعد ذلك أيَّ دليل ولا حُجَّة على أنَّ أحداً من هؤلاء قتل الأطفال! لكن هم قتلوا الأطفال قبل، ويقتلوا الأطفال في الحال، وقتلوا الأطفال بعد، ولا حساب عليهم! إنما قتل الأطفال جريمة إن جاء من آل فلان! هذه الحضارة! هذا التقدُّم! هذا حقوق الإنسان! هذا النظام! هذا التطور! أعوذ بالله من غضب الله!
وهكذا تُنتَهَكُ الحُرُمات، وتُضرَب المستشفيات! ثم يُسكَتُ عن ذلك!
ولكن يُنسَبُ إلى الحقِّ والعدل والهُدى والنور.. أنواع الظلم وأنواع الإرجافِ وأنواع المخاوِف؛ بلا ميزانٍ صحيح!
إنها وحشِيّة الأنفُس الأمّارة، والأهواء الغرارة، والشياطين المَكَّارة؛ بِوَحيهم المضاد لوحي الله -جل جلاله وتعالى في علاه-!
فيَا معشر من عَقَلَ - لا من المسلمين وحدهم؛ المسلمين الأمر موجّهٌ إليهم بآكَد وأشد وأعظم- ولكن العُقلاء على ظهر الأرض من الإنس والجن: أقيموا الميزان، حَكِّموا ما آتاكم الصانع الخالق الفاطر من أسماعٍ وأبصار وعقول، أَنصِفُوا، مِيلُوا إلى العدل، ارفعوا الظُّلم، ارفعوا الجَوْر، لا تجعلوا حُماةَ الجَوْرِ والظُّلم ومؤسِّسُوه، والقائمون عليه.. القادة ولا السادة ولا المُقتَدى بهم! ارجعوا إلى ساطع نور الإنسانية الذي جعله الله تعالى في كُلِّ فِطرةٍ وفي كُلِّ تركيبة ركَّب عليها هذا الإنسان {لَقَد خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}.
وإذا هذا الخطاب للعُقلاء على وجه الأرض؛ يا طوائف من المسلمين: اغتررتُم بالدَّجال والدجاجلة وكذِبهم سنين طويلة! احتقرتم صلحاءكم، احتقرتم حَمَلَة سِرّ النبوة والقرآن فيما بين أظهركم، احتقرتُم أصفياء الله من هذه الأمة على مدى القرون، وصدَّقتم الكَذَبَة الفَجَرَة سنين بعد سنين! ولَعِبُوا على عقولكم! ولَعِبُوا على أخلاقكم! ولَعِبُوا على مسار أولادكم! وإلى متى تبقون هكذا؟!
والله إنَّ كُلَّ ما فيكُم من ذُلٍّ ما سببه على الحقيقة إلا مخالفة خير الرُّسُل، والخروج عن هديه؛ قيادتهُ الكاملة التامّة، التي تَليقُ بمكانته عند الله غابت من قلوب الكثير منكم، وغابت من بيوت الكثير منكم، وغابت عن أفكار الكثير منكم، وغابت عن أزياء الكثير منكم، وغابت عن أقوال الكثير منكم، وغابت عن تصوّرات الكثير منكم!
وإذا غابت هذه القيادة المُوصِلَة إلى السعادة؛ فلابُد أن يقود بدلها مَن يوصل إلى الشقاء، ولابُد أن يقود من يهوي بالناس في الهاوية؛ إذا لم تكن قيادة المصطفى هي القَوِيَّة الآخذة بمجامع قلوبنا {فَلَا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
وَجَبَ أن يُفيق مَن يشهد أن "لا إله إلا الله" وأنّ "محمد رسول الله" إفاقة لائقة بمكانة الإسلام، ومكانة كرم الإنسان الذي هُدِيَ إلى توحيد الله، والتصديق برسالة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليكون نورًا، ليكون هُدىً، ليكون مفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، ليكون حامل هُدى، ليكون مُبلِّغًا عن مُختارٍ اختارهُ رَبُّ العرش ومُكوّن الأرض والسماء؛ اسمه: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
بل يُخاطَبُ غير المسلمين من عُقلاء الأرض: القيادة للأهواء وللنفوس وللشهوات؛ انحطاط للإنسان، وهُوِّيٌّ عن مكانته الشريفة، وتحويلٌ لحال الإنسان إلى أحوال الوحوش والسِّبَاع والحيوانات والبهائم، وأشد! {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}!
وأمَّا اِتِّخَاذ قيادات صمَّاء عمياء سكرانة بِمحبة السلطة وأخذ الأموال والاعتداء على الآخرين.. فهذا الذي لا يجوز لأيِّ عاقل ولأيِّ واعٍ على ظهر هذه الحياة!
فلتَعِ البشريَّة واجبها في الحياة؛ أقلَّ ما يكون: أن يعيشوا عِيشة المُسَالَمة، وكَفِّ شَرِّ بعضهم عن بعض، وتأمين الناس على أموالهم، وعلى أعراضهم وعلى أديانهم.
كم تبَجَّحوا بــ: حُرِّيَّة الأديان -كما يقولوا- وفيها حاربوا الإسلام خاصَّة وبقيّة الأديان عامَّة! في مرحلة بعد مرحلة، وأسلوب بعد أسلوب! إلى أن يقول هؤلاء الأحرار اليوم الذين يدَّعون الحرية: لابُدّ أن يُدَرَّسُ الأبناء في المدارسِ ثقافة السقوط والهبوط والشذوذِ الجِنسي والعقلي والفكري! وأن يقولوا في دُولهم المتقدِّمة: مَن غرَّد تغريدة من شعبنا ينصر فيها المظلومين في غزَّة فعليه سجن كذا وغرامة كذا!
هذه الحرية! هذا حقوق الإنسان! برَزَت في قوانينهم وفي قراراتهم!
مَن هُم؟! هم الذين أذلُّ عند الله تعالى في حالهم هذا من الجُعَل ومن البعوض ومن الحيوانات، هم أضل من ذلك.
أيكونون عندك قادة؟ أيكونون عندك سادة؟ أيكونون عندك قدوة؟!
تبًّا لك إن توهّمتَ ذلك فضلاً عن أن تعتقده!
والله ما القدوة والأسوة إلا أنبياء ورسل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقد جاءك سيّدهُم، وقد جاءك إمامهُم، وقد جاءك مُقدَّمهُم! الذي لو بُعِث في يومنا هذا وزماننا هذا؛ الأنبياء مِن عهد آدم إلى عند عيسى بن مريم؛ والله.. ما استطاعوا أن يُقيموا على وجه الأرض حقًّا وهُدَى ورِضىً للمولى إلا في تبعيّة محمدٍ وهديه، إلا في الاقتداء به، فلنا الشرف ولنا العِز والكرامة بمتابعة محمد زين الوجود صلى الله عليه وسلم.
ويَا مسلمين! بأهوائكم اتبعتُم فَسَقَة ومجرمين: أنقِذوا أنفسكم قبل الوفاة، فإني أخشى على أحدكم عند الموت أن يُزَاغَ قلبه فلا يبقى فيه ذَرَّة من إيمان ويُحشَر مع الكفرة! وأخشى على أحدكم أن يُزلزل في القبر عند السؤال فلا يستطيع أن يُجيب عن محمد مَن هو ولا ما مقامه! وأخشى أن يُقبَر في بلاد المسلمين ويُحشَر مع نصراني أو يهودي أو ملحد، لأنه تشبَّه به وأخذ فِكره وأخذ أسلوبه في الحياة!
يا معشر أهل الإسلام: الدين غالي، والإنسانية غالية، لا تبيعوا أنفسكم بالرخيص، لا تبيعوا أنفسكم لعدوكم! إنَّ رَبَّ العرش يُنادي: {أَلَم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأن اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا}.
ولتكُن مِن مَحَاصِيل شَهرِ ربيع الأول، وما تَمَّ فيه من احتفاء المسلمين بهذا المصطفى صلى الله عليه وسلم:
وليصدقوا في طلب إعلاء كلمة الله؛ وسيُعليهم الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
جلسوا سنوات تلو سنوات.. بل عشرات من السنين تلو عشرات، ينشرون أنهم القوة الغالبة التي لا تُغلَب، وأنها القاهرة التي لا يستطيع أحدٌ أن يُقابِلها! وينشرون الشِّقاق بين المسلمين والخِلَاف، وينشرون التبرُّج والدعوة إلى الفواحش، وينشرون المُخدّرات والمُسكِرات بأصنافها، وظنّوا أنه بعد عشرات السنوات لن يبقَ في غزة أو في فلسطين، أو في هذه البلاد مَن يقول "لا إله إلا الله" وينهضوا لإعلاء كلمة الله ؛ ولكنهم يرون ذلك أمام أعينهم؛ لِيروا أن خِططهم خَبَط، وأن الله أقوى مَن خَطَّط {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}، وهكذا.. لا بُدَّ أن يمضي أمر الله، وينصُر الله من ينصره. والله يجعلنا وإياكم مِمّن ينصره- مُخلِصين صادقين، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فقدنا الحبيب/ أحمد بن عبد القادر بن محمد عبد المولى بن عبد القادر بن أحمد بن طاهر بن حسين بن طاهر -عليه رحمة الله- هل جال في يوم في باله لحظة طول عمره أنَّ هناك شرف أو عِزة مع كافر أو فاجر على ظهر الأرض؟ من يوم تربَّى وخُلِق يعلم أنَّ العزة لله وحده، ولا يُقَارِب اعتقاده ولا تصوّره ولا فكره أن هناك عِزَّة في غير طاعة الله واتباع محمد مِن قريب ولا من بعيد! هذه التربية التي نحتاجها، هذه الصياغة للأفكار والعقول التي يقوم عليها الحق، وتقوم عليها السماوات والأرض، ويقوم بها العدل على ظهر الأرض! {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}.
وبذلك من أيام طفولة مثل هذا الإنسان بيننا، إلى أن توفّي، ما افتتحت عينه على نظر صورة مُزرِيَة ولا صورة غشَّاشة، تبعثُ الشهوات وترمي لها، لا في المجلَّات ولا في التلفزيونات ولا في الجوالات، ولا في الايبادات ولا في غيرها! ما جلس مجلس إلا وأوَّل المجلس ووسطه وآخره: ذكر الله، وذكر محمد بن عبد الله ؛ فهؤلاء الذين بَنوا المجد، وهؤلاء الذين بنَوا الشرف، وهؤلاء الذين بنوا حُسنَ المصير، وبنوا الملك الكبير في الدار الآخرة. نحن محتاجون إلى هذه المسالك، محتاجون أن نَبْعُد عن التَّلَطُّخ في أفكارنا ووِجهاتنا بِوَسوسة إبليس وجنده، محتاجون أن نتَحرَّر من كل هذا السوء، ونرجع إلى مَسْلَك قَوْم:
هم أقوام غُذُوا في المَحبَّة من صغرهم ** وعاشوا في مخافات وغابوا في فكرهم
جاء بعض الزائرين له قدَّم له خمسمائة ريال سعودي، وقال له: يا حبيب أحمد شوفها سعودي ما هي مثل التي في بلادنا، شوفها تجيب مبلغ كبير. سكت. ثاني مرة كرَّرها، ثالث مرة.. خرَّج الخمسمائة قطّعها ورماها في الأرض، شوف حقك هذه الدنيا التي تقول لي خذها خذها، ظنّيتها كبيرة عندي؟ قطّعها أمامه ورماها. يعني: اِعرِف قدر الدنيا عندنا، اِعرِف نظرتنا إلى هذه الحياة كيف هي، وأنت فرحان بحقّك هذا؟ قال سيدنا سليمان: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}! قلوب مُعلّقة بالله -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- وعلى أوصاف الهدى والخير مضى خيار الأمة، ولا نبتغي بهم بديل، و: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}.
ومحصولات ربيع -إن شاء الله- تظهر بنور الشفيع وتعمّ الجميع، ويُظهِر الله رايات الحق والهدى، ويخرجون عن مضيق التَّحَزُّبَات والتعصبات، إلى أن يكونوا : لله، ومع الله، وبالله، ولأن يكون القصد: نصر دين الله؛ لتكون كلمة الله العليا. تَبَرُّع المُتَبَرِّع، ودعاء الداعي، وجهاد المجاهد، وتقديم النفس؛ من أجل أن تكون كلمة الله هي العُليَا. "يا رسول الله، الرجل يُقاتِل حَمِيَّة، الرجل يُقاتِل غَيرة، الرجل يُقاتِل ليُرى مكانه، الرجل يُقاتِل للمَغْنَم، الرجل يُقاتِل للذكر، أيُّهم في سبيل الله؟" نَفَاهم كلهم وأثبت واحد، قال: "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"! فقط.. صاحب المغنم، صاحب الذكر، صاحب الوجاهة.. ليسوا في سبيل الله، ولا دخلوا فى الجهاد في سبيل الله، ولابد أن يقوم بين الأمة أهل هذا الوصف. والله يجعل من إخواننا هؤلاء بذوراً لهم. تنمو في الأمة هذه المعاني، وتعلم الأمة أنها لها قضية دين على ظهر الأرض.
أشغلونا بالصور والوظائف والآمال وكسب الدنيا، وأنسونا ديننا على ظهر الأرض! ومُهِمّتنا على ظهر الأرض! مَسْرَى نبينا يُمتَهَن! مَسْرَى نبينا يُعتدى عليه! والأمور في الأرض قائمة على الظلم الواضح، وعلى العنجهية، وعلى الكَيْل بكيلين لخلق الله تبارك وتعالى! هذا كذا وهذا كذا، وينسّونا نحن أن ما كأن شيء! روحوا روحوا العبوا صلِّحوا لكم ألعاب وصلِّحوا لكم كذا.. وتنافسوا على الدنيا واسكتوا!
فجاءت غَزَّة هاشم، تقول لهم: تذكَّروا سيِّد بني هاشم، تذكَّروا حفيد غَزَّة هاشم المنسوبة إليه غَزَّة؛ هاشم بن عبد مناف؛ جَدّ المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي مولد سيدنا الإمام الشافعي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ومولد كثير من الأولياء والصالحين والعارفين. والله يُعيد على الناس وللناس مجدهم وشرفهم وكرامتهم.
شاهَدت بعض الفلسطينيات -امرأة كاملة الحجاب- والتفتت إليها قالت: والله هذا زِيِّ جدتي، جدتي كانت تمشي هكذا في فلسطين!
فما الذي حصل؟! لِمَ الابنة ليست كجدتها؟! والحفيدة ليست كأمها؟ ولِمَ راحت الأشياء؟! كانت التربية هكذا.. كان آثار الإيمان في الناس هكذا! والله يُعيد ذلك، ولابُد أن يُعيده، على رغم مَن فجَر، على رغم مَن كفر، على رغم مَن جحَد، على رغم من ألحد {هُو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
والله يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ويجعل بيوتنا محل نُصرة لله ولرسوله، ويجعل أبناءنا وبناتنا أعضاء نُصرة لله ولرسوله؛ ليُعلوا كلمة الله ويُحييوا دين الله.
انتخِبنا لذلك يا رب، واصطفينا لذلك يا رب، وفَرِّج عنَّا وعن المؤمنين فرجًا عاجلاً، والطف بنا وبالأمة لطفا شاملا، رُدَّ كيد أعدائك أعداء الدين، ولا تُبلِّغهم مُرادا فينا ولا في أحدٍ من المؤمنين.. يا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين.
يا ربّنا يا ربّنا يا ربَّنا يا ربَّنا ** أنت لنا كهفٌ وغوثٌ ومعين
عجِّل برفع ما نزل إنك رحيم لم تزل ** من غيرك عز وجل ولاطِف بالعالمين
ربِّ اكفنا شر العِدا وخذهم وبدِّدا ** واجعلهم لنا فِدا وعبرة للناظرين
ياربِّ شتِّت شملهم يا ربِّ فرِّق عدَّهم ** يا ربِّ قَلِّل عدَّهم واجعلهم في الغابرين
ولا تُبلِّغهم مراد ونارهم تصبح رماد ** بـ (كهيعص) في الحال ولّوا خائبين
وشَرِّ كُلِّ ماكرِ وخائن وغادر ** وعائنٍ وساحرِ وشرِّ كل المؤذيين
من مُعتد وغاصب ومفتر وكاذب ** وفاجر وعائب وحاسد والشامتين
ياربنا يا ربنا يا ذا البها وذا السنا ** وذا العطا وذا الغنى أنت مجيب السائلين
يسر لنا أمورنا واشرح لنا صدورنا ** واستر لنا عيوبنا فأنت بالستر قمين
واغفر لنا ذنوبنا وكل ذنب عندنا ** واُمْنُن بتوبة لنا أنت حبيب التائبين
بجاه سيدنا الرسول والحسنين والبتول ** والمرتضى أبي الفحول وجاه جبريل الأمين
ثم الصلاة والسلام على النبي خير الأنام ** وآله الغُرِّ الكِرَام وصحبه والتابعين
"يَا عُمْدَتِي يا عُدَّتِي يا مُنْقِذِي مِنْ شِدَّتِي * وَجَّهْتُ لَكَ وِجْهَتِي عَجِّلْ بِغَوْثِي ياعَظِيمْ
وَسَخِّرِ الْأَسْبَابَا وَذَلِّـلِ الصِّعَابَا * وَافْتَحْ لَنَا الْأَبْوَابَا بِالنَّصْرِ مِنْكَ ياكَرِيمْ
وَرُدَّ كَيْدَ الْكَائِدِ وَكُلَّ طَاغٍ مَارِدِ * وَحَاسِدٍ مُعَانِدِ بِحَقِّ سِرْ (طسم)"
06 ربيع الثاني 1445