(229)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 7 ذو القعدة 1439هـ بعنوان: أولوا الألباب وآيات الكتاب ونداء سيد الأحباب
الحمدُ للهِ على عظيمِ ما يَصْدُرُ مِن حضرتِهِ العظيمةِ الإلهيةِ الرَّبَانِيَّةِ الرَّحْمَانِيَّةِ مِن جُوُدٍ بغيرِ حَدٍّ محدودٍ. سبحانَ الملكِ المَعبود، ربِّ الوجود، الذي زَيَّنَهُ بعبدِهِ زَيْنِ الوجودِ محمدٍ؛ مَن ختمَ به الرسالةَ، وأحسنَ به الدلالة، وجعلَنا به خيرَ أمة. مهما كان في هذا الوجودِ مِن ظهورِ كُفْرٍ أو شَرٍّ أو ظُلْمَةٍ فإنَّ في خَيْرِ الأمةِ عجائبَ مِن رحمةِ الرحمنِ جل جلاله وتعالى، ومِنَّتِهِ العظيمةِ يَقْصُرُ عن الإحاطةِ بها كُلُّ فِكِر وكُلُّ إدراكٍ لأحدٍ مِن البشرِ والإنسِ والجنِّ بل والملائكةِ، ذلك فضلُ الله الذي اقتضتْهُ عنايتُه ورعايتُه لمحمدِ بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك عليه على آله.
فعلى الحاضرين في مثل هذه البلدة التي تَنَوَّرَت بأسرارِ النبيِّ، وإرثِ النبيِّ، وذُرِّيَّةِ النبي، وأخلاقِ النبيِّ، وسَعْيِ النَّبِيِّ، وعِنَايةِ النبيِّ، ورِعَايةِ النبيِّ.. والحاضرين في دارِ المصطفى، والسامعينَ إلى ما يدورُ فيه في أيِّ مكان، والمُحِبَّة قلوبُهم للمصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: أن يَسْتَشْعِرُوا يَدَ الرحمنِ المَمدودةِ بالفضلِ والامتنانِ والجودِ والإحسانِ، وأن يَرغبُوا في القُرْبِ والتَّدَانِ، وأن يَتطهَّرُوا عن الأدرانِ، وأن يُصغُوا بإمعانٍ إلى شريفِ النِّداءِ مِن الرحمنِ، حَمَلُهُ حبيبُه سيدُ الأكوان، وأنزلَ اللهُ عليه هذا القرآن. وترك لنا السُّنةَ الغراء، وترك لنا أهلَ البيتِ الطاهر، وتركَ لنا الصحابةَ الأكرمين، وتركَ لنا القلوبَ الطاهرةَ مِن المَيامينِ مِن أربابِ اليقين والعلمِ والتَّمكينِ مِن أمَّتِهِ. اختارَهم بعنايتِهِ مِن مختلفِ القبائل ومختلفِ الجهات، عَرَبَاً وعَجَمَاً، إِنْسَاً وجِنَّاً .. فيَا فوزَ مَن انْتَخَبَهُ اللهُ واختارَه واصطفاه، والله يدخلنا وإياكم والسامعين فيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
وشؤونُ الكمالِ الإلهي في أن يَنتقِم ممَّن أراد، وأن يُخذلَ مَن أراد، ويُبعد مَن أراد عمَّالةٌ في مَن لم تَسْبِقْ لهم سَوابقُ السعادة، ولم يُحظَوا بوصولِ هذا النداءِ الإلهيِّ الربانيِّ إلى قلوبِهِم وإلى أسماعِهم وإلى بصائرِهِم، والذين استجابُوا هم أولوا الألبابِ الذين تسمعُونَ النَّبأ عنهم مِن ربِّ الأرباب؛ يقول إنهم أدركُوا سِرّ خلقِ السماء والأرض فتعلَّقُوا بربِّ السماءِ والأرض: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) سبحانك، ما خلقتَ هذه السموات والأرضَ وما بينهما مِن الشواهدِ العُظمى على عظيمِ إبداعك وجميلِ صُنعك وقدرتك وإرادتك.. لِيَعْبَث مَن يَعبثُ على هذه الأرض، ولا أن تقومَ الدول على ظلمٍ أو على فسادٍ أو على غفلةٍ عنك؛ يفعلونَ ما شاؤوا تحت إبليس وتحت جنودِ إبليس مِن نفوسِهم الأمارة وشياطين الإنس والجن ثم يَذهبُ الناسُ هكذا (مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) ولكن خلقتَه لِتقومَ الحجةُ على مَن أعرضَ، وعلى مَن تولَّى، وعلى مَن أدبرَ، وعلَى مَن كَفَرَ.
فَيَا رَبِّ حَصِّن قلوبَ وعقولَ أهلينا وأولادِنا وأهلِ ديارِنا مِن تَسْوِيلاتِ الكفارِ والأشرارِ وأهلِ الاغترارِ، وارزق قلوبَهم سماعَ ندائك بلسانِ نبيِّك المختار وورثتِهِ الأطهارِ، يا كريمُ يا غفَّار يا الله. واخْصُص القلوبَ الحاضرةَ معنا والسامعةَ لنا بسماعٍ وافرٍ لِسرِّ هذا النداءِ الطاهرِ؛ يرتقونَ به إلى مقامِ قُرْبٍ فاخرٍ، ومعرفةٍ بك يا فاطر، واتِّصَالٍ قويٍّ بسيدِ الأوائلِ والأواخر؛ السراجِ المنيرِ الزاهرِ، يا ربِّ أكرِمنا بذلك، يا مَلِكَ المَمالك. سألناكَ لهذه القلوبِ فلا تخيِّب رجاءنا، ولا تردَّ دعاءنا، أسمِعها يا رب، فأنت القائل (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ) أسمِعنا يا ربّ..
هذه القلوب التي لَبَّت واستجابَت قبلَكم وخيراتُها عندكم، سمعتُم الحديث عنها، سمعتُم الحديث عن الإمام الغزالي عليه رحمة الله "حجة الإسلام". أحبَّهُ رجالُ البلدة وأئمتُها وصُلحاءُ العالم، كان يقول كثيرٌ مِن صلحاء الأمة: "علامةُ علماء الدنيا كراهتُهم لكُتبِ الإمام الغزالي، وعلامةُ علماء الآخرة محبتُهم لكُتبِ الإمام الغزالي". ثم سمعتم الكلام عمن أنتم في بلدتِهِ وفي ذكرى وفاتِهِ؛ حدَّاد القلوب؛ عبد الله بن علوي بن محمد الحداد؛ في مثلِ هذه الليلة لَقِيَ رَبَّه؛ في ليلةِ السابعِ مِن شهرِ ذي القعدة لَقِيَ الرَّحمن؛ سَرَى إلى مواطنِ القُرْبِ والرضوان. عليه رضوان ربنا جل جلاله . هذا الإمام الذي أنتم في حوليَّتِهِ وذكرى وفاتِهِ نُوُرٌ مِن أنوارِ العِترةِ الطاهرةِ، وسِرَاجٌ مِن سُرجِ أهلِ البيتِ النبويّ الزكيِّ. والحالُ فيه :
بالفتْحِ والاِرْشَاَدِ والإمْدَادِ ** ثَبَتَت قَواعِدُ شَيْخِنَا الحَدَّادِ
مُسْتَجْمَع السرّ الذي اِتَّصَفَت** بِهِ أَسْلَافُهُ وَخليفةُ الأجدادِ
فَرْعٌ تَسَلْسَلَ عن كِرَامٍ فضلُهُم** قد شَاعَ في الأغوارِ والأنجادِ
فهو المبلِّغُ عنهم أسرارَهم ** وعلومَهم للأهلِ والأحفادِ
فجميعُ مَن سَلَكَ الطريقة بعده ** مُسْتَصْبِحُونَ بِنُورِهِ الوَقَّادِ
هُوَ قُدْوَةٌ للمقتدينَ وكَعْبَةٌ ** للقاصدينَ ومَفْخَرٌ للوادي
قرَّت به عَيْنُ النبيّ محمدٍ ** فهو له مِن أحسنِ الأولادِ
أبدَت نصائحُه عُلوما طالما ** رَدَعَت عبيدَ الغَيِّ والإفسَادِ
أَتُوَاصِل كتبُهُ قلوباً يشعرُ القارئون لها أنه أُخِذَ بأيديهِم إلى حضرةِ ربِّهم حَد في كندا وحَد في الشرق والغرب، وفي بلدِهِ مَن لم يقرأ كتبَه ؟! مَن لم ينتفع بكتبِه ؟! يا رب أنقِذنا، يا رب أيقظِ القلوب. لم تزل هذه الكتبُ تَهدي إلى الربِّ جلَّ جلاله وتعالى في علاه. بسرِّ ما فيها مِن نورِ الاتباعِ والاقتداء والاهتداء. وهو الذي كان يقول: "ما مِن سُنَّةٍ سَنَّها رسولُ الله إلا وأرجو أني قد عَمِلْتُ بها". عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. فكان الأمرُ والشأنُ:
فهو الخليفةُ في جميعِ أمورِهِ ** عنِ خيرِ دَاعٍ للبريةِ هادي
الحمد لله أنَّا نسمعُ أسماءَ هؤلاء القوم، وفيكم مَن في بلدِ هؤلاء القوم، ومَن زار بلدَ هؤلاء القوم، وكتبُهم بين أيدينا -الله ينفعنا بها وبجميعِ الصالحين، ولا يحرِمْنا خير ما عندَه لِشرِّ ما عندنا إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين-.
هذا الكتاب الذي أشار إليه وقرأه وتأثَّرَ به مترجماً بالإنجليزية [ رسالة المعاونة والمظاهرة والمؤازرة للراغبين من المؤمنين في سلوكِ طريق الآخرة] جاء بعضُ العلماءِ الأكابرِ إلى الإمام عيدروس بن عمر الحبشي، وقال له: أشِر عليَّ بكتابٍ أقرأه عليك، قال له:" المعاونة والمظاهرة والمؤازرة" فحمل الكتاب وجابه إليه؛ إلا أنه في نفسِه قال: ظننتُ أنه سيُشير عليَّ بعوارف المعارف للسَّهرَوردِي أو بالرسالة للقُشيري؛ إنما اختار هذه الرسالة المختصرة ؟! فلما جاء يريد يقرأ عنده، قال: اصبر، قبل ما تقرأ.. قل لي: هذا الكتاب لِمَن؟ قال: عبد الله الحداد. قال: ألَّفَهُ لمن؟!. قال: أحمد بن هاشم الحبشي. قال: "إمام عارف بالله ألَّفه لِعارفٍ بالله، تظنُّه صغيرَ؟ تظن هذا الكتاب صغير؟! ، ما في الكتب الأخرى في هذا الكتاب، اقرأ في هذا الكتاب". أي أبعِد نظرتَك في استصغارِ الكتاب، فالكتاب كبير والكتاب عظيم. عارف ألَّفَه لعارف، وَلي ألَّفَه لولِي. وقد قال في مقدمته:" وقد طلب الوصيةَ مِنَّا أخٌ مِن السادة، سالك سبيلَ السعادة، صادق في الإرادة؛ أحمد بن هاشم الحبشي" وانتهى إلى مراتب كبرى في الولاية هذا وذاك.. عليهم رضوان الله . يقول "عارف بالله ألَّفه لعارفٍ بالله" .. فماذا يحوي هذا الكتاب؟ .. منهج محمد صلى الله عليه وسلم؛ عليكَ بكذا، عليكَ بكذا.. منهج واضح يقول كيف تصلُ إلى الرب، كيف تدرك ترجمةَ الوحيِ الشريف في التطبيقِ والعمل. وألَّفَه في سنٍّ صغير دون الثلاثين من عمره؛ في السابعة والعشرين مِن عمرِه ألَّف هذا الكتاب أو في الخامسة والعشرين. كتاب مُحرَّر مُرَتَّب، على طريقةٍ عجيبةٍ نافعةٍ مُتكاملةٍ مُستوعبة، يُملِيه إملاءً وهو أعمَى البصر، ولمرَّة واحدةٍ بدونِ مراجعة، مِن دون ما يرجع إليه ثاني مرة ؛ لا مسودة ومبيضة .. هذه هي مرة مبيضَّة مِن أولها، قدها مبيضة مِن أولِ ما يُمليه، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وكان على ذكر الله تبارك وتعالى (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ) يتكلم المتكلم معه ويتحدث فيقول: "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله" ؛ مدة ما يستمع كلامَ الثاني يقول " لا إله إلا الله" ويختلط كلامه بـ"لا إله إلا الله" . وهكذا.
يقول لتلميذِه الشيخ الذي جاءه من الأحساء ونقل عنه كثيراً من الفوائد وكَتَب [تثبيت الفؤاد]. سأله في مسألة، وردَّ السؤال، قال له:" إذا أخذتم مِنَّا الجوابَ اليسيرَ فاقنعُوا به واقبلُوه، فإنا نتكلَّف الحضورَ معكم تَكَلُّفَاً" .. قلوبُنا مع الله، ونتكلَّفُ الحضورَ معكم لأجل القيامِ بحقِّ هذه الأمانة التي ائتمنَهم اللهُ عليها في الإرشادِ والدعوةِ إلى الله. فكان قطبَ الدعوة والإرشاد عليه رحمة الله تبارك وتعالى. وقلوبُهم مجموعةٌ على الرحمن، سبحانَ الذي أعطاهم، سبحان الذي آتاهم. واتَّصل بالرجال وسلاسل الإسناد.. يقول عن رجالِ سنده :
وجماعةٌ منهم أخذنا عنهم الطريق ** القصدِ فأنصتِ واسمعِ
مثل الإمام نزيل مكة شيخِنا** والفخر والصوفي عقيلِ المصقَع
ثم قال:
وأبي حسينٍ عمرِ العطاس مَن ** قد صار مِن أهل اليقينِ بموضعِ
ويقول:
وكصاحبِ الشحرِ ابنِ ناصِر أحمد ** مَن بالعنايةِ والرعايةِ قد رُعِي
وهكذا عدَّد شيوخَه الذين أخذ عنهم، وكانوا وُصلتَه إلى الرحمن بواسطة سيد الأكوان، ثم يقول:
بقيةُ قومٍ قد مضَوا وخلَفتُهم ** وهم خلَّفوني في الحِمى عندما سارُوا
ثم يقول:
ولي مِن رسولِ الله جدِّي عنايةٌ ** ووجهٌ وإمدادٌ وإرثٌ وإيثارُ
سبحان المعطي، سبحان المنان.
وهذه الدواعي تدعوكُم لتلحقُوا بأولِي الألباب (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). اللهم نجِّنا من النار، وسَلِّمنا مِن النار، واحفَظنا من النار، ولا تُدخِل أحداً مِنَّا النار، يا ربَّ النار لا تعذِّبنا بالنار (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) ما للظالمين الذين يدَّعونَ الأراضي أو الأماكنَ أو المقدَّسات، أو يدَّعونَ الأموال، أو يدَّعون الولايةَ على الناس بغيرِ حق (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) فليَظلمُوا ظُلمَهم، وأمام الظالمين يومٌ يقومُ الحيُّ القيومُ بالحكمِ بينهم (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) وقد أنذرَنا سيدُ الأحباب. فالله يرزُقنا حُسْنَ الفهمِ للنَّذَارَة، حتى نَحُوزَ البشارةَ، ونَسْلَمَ مِن العذابِ وندخل الجنةَ.
(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) محمد قال لنا: آمِنُوا بربِّكم.. ما تدري أنه لو سَرَى مِن سرِّ هذه الكلمة بَرْقَة ذَرَّة مِن معناها إلى قلبِك اليوم خرجَ مِن قلبَك عشقُ جميعِ الأكوان بما فيها بعِشقِ المُكَوِّن (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ترى هذه الظُّلُمَات المستحوِذةَ على قلوب الكثير.. لو سَرَت سِرَاية مِن معنى (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) لتبدَّدَت كلُّ هذه الظلمات والاغترارات والسُّلُطات والوجاهات والسِّياسات والمظاهر والزخارف بأصنافِها، وهي والله ما سَاوَت عند ربِّ العرشِ جناحَ بعوضة، ولو ساوت جناحَ بعوضَة ما سقى كافراً منها شربةَ ماء. وأين الشرفُ وأين العزة؟ في تقواه، في رضاه، في القرب منه. حقَّقنا الله وإياكم بحقائقِ ذلك إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
(أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ *رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) يا حاكمَ يومِ القيامة، يا ربَّ يومِ القيامة، يا ملكَ يومِ القيامة اجعلنا يوم القيامة في زمرةِ المُظَلَّلِ بالغمامةِ، اجعلنا يومَ القيامة في دائرةِ حبيبِك محمد مع عبادِك الصالحين، وورثتِهِ الأكرمين .. آمين، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وفي الأمس فقدنا واحداً من كبارِ علماءِ المسلمِين في موريتانيا؛ الشيخ مرابط الحاج -أعلى الله له الدرجات-، فوق المائة والعشر من السنوات، لكن عمرُه مضى في الشريعة، علوم الشريعة، أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما خَلَّفَهُ مِن العلوم النافعة، مضى عمرُه وزمانُه على ذلك مِن الصَّغر، كما يقول الحبيب علي:
مَضَى في العمر والتَّقوَى زَمَانِي ** وفي الأخرى إلى يومِ القيامةِ
وكان في كِبَرِ سنِّه وشيخوختِه يَنشط وقت الصلاة ووقت الدرس، وبعدين ما يقدر يتحرك في بعضِ الأحيان؛ ما يقدر يتحرك كذا ولا كذا. ولم تزل مَحْضَرْتُهُ معمورةً بالخيرات، والوافدين وفدُوا إليه من شرقِ الأرضِ ومِن غربها.
وانتقل عليه رحمة الله في اليوم الذي فقدنا فيه هذا الشاب ابن الأخ عبد الرحمن –أعلى الله درجاتِهم وجمعَنا بهم في أعلى الجنة-.
كم نفقد وكم فقدنا في هذا العام وغيره؛ ولكنَّ الحيَّ الذي لا يموتُ يختارُ ويدبِّر ويأخذُ هذا ويقبِض هذا ويُولد هذا وينشر هذا ؛ ومحمد موعود بخيرٍ في أمَّته، والله يجعلنا مِن خيارِ أمته.
وخُصِصْتُم بهذه الحصونِ وهذه الموائلِ التي يؤول إليها أربابُ الوِجهةِ إلى الله وأربابُ الصدقِ مع الله والذين يريدون الوصولَ إلى الله تبارك وتعالى.. الحمد لله على ذلك، عسى الله يتمُّ النعمة علينا وعليكم، لا يُبقِ فينا ولا ديارِنا ولا في جوارِنا محروماً ولا شقياًّ ولا مأثوماً .. يذهب فكرُه في أيِّ شيءٍ من الأمورِ الحقيرة ويَغِيب عن هذه المعاني، ويغيب عن هذه الوجهات، ويغيب عن حركةِ القلوبِ في وجهتِها إلى علام الغيوب جل جلاله فأيُّ شيء يعوِّضه إذا فاتَته هذه الخيرات؟ وإذا فاتته هذه المبرات والبَرَكَات والرحمات، والتَنَزُّلَات والعَطَفَات الرَّبَانِيَّات الرَّحْمَانِيَّات الإلِهَيَّات مِن حضرةِ القُّدوسِ المَلكِ الجوادِ، الرحيمِ الحكيمِ، الَمَّناحِ الفتاحِ الواحدِ الأحدِ، ربِّ السماوات ورب الأرض؛ مِن باب واسع بابِ الشافع ذي الجاهِ الأوسع والمقامِ الأرفع؛ محمد أحمد صفي الله، وباب أهل كسائه، وباب أهل ولائه، وباب أهل إرثه واقتفائه.
يا أحباب هذه المِنن وهذه المِنَح مِن حضرةِ الفَتَّاح اعرفُوا قدرَها، وقومُوا بأمرِها. ومَن حضر يحضر بقلب، وساعة -وإن جاء من ليلة الجمعة إلى ليلة الجمة- باتجمَعُهُ بالرفيقِ الأعلى إذا استقام، إذا أصغَى باهتِمام.. بل مَن حافظ على سماعِ ذلك -ولو في بيته من النساء أو غيرهم-.
لكن أعداد كبيرة مِن نسائنا شغَلُوا أجهزتَهم بصُور الفجرَة، وكلام الكفرة والسَّقَطة، والكلام الذميم البذيء الذي يكرهه الله، لا حضروا، ولا فتحوا مجالسَ الخير في ديارهم! حرمُوا أنفسَهم، ديارُهم تُظْلِم، وقلوبهم تُظْلِم، والأيام تمر عليهم وكم بايتحسر الواحد منهم! وإن عاده إلا وقع في المناكر أو الكبائر أو سَبّ الأخيار.. يا مُسَلِّم ! كيف الحال عند الموت؟ كيف الحال في البرزخ؟ كيف الحال يوم القيامة ؟! { بحسب امرىْ مِن الشرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم } أمّا يضحك عليك الشيطان وجندُه فتحتقر مجالس العلم أو مجالس الخير أو مجالس الأصفياء أو الأولياء أو الصالحين.. أعْلِم نفسك أنك وقفتَ على أعظمِ خطر! لو آخذك اللهُ بعدلِه ما نجيتَ إلى الأبد والعياذ بالله .
فالله يتداركنا والأمة، وينشر الرحمة، ويدفع النقمة، ويرزقنا تعظيمَه، وتعظيم شعائرَه، وتعظيم دينَه، وتعظيم أمرَه. والبركة في هذه المجالس تربطنا بالحقِّ وبرسوله، ونستقيم على المنهاج، ونرقى رقيَّ السَّامِين من غيرِ اعوجاجٍ، إلى مراتبِ المحبوبين مِن العِباد المقرَّبين الصالحين.
الله يرحم موتانا وأحيانا، ويخلُف فينا مَن مضوا بالخلَف الصالح. ويجعل خاتمةَ هذا العام صلاحاً للمسلمين، وفرَجاً للمسلمين، وغياثاً للمسلمين، ونصراً لـ: لا إله إلا الله. ويجعل مَن يحضر معنا ومَن يسمعُنا مِن أنصارِهِ وأنصارِ رسولِهِ بحسِّهِم ومعناهم، وظاهرِهم وباطنهم، وقلوبِهم وأرواحِهم وعقولِهم وأموالِهم مُوفِين بعهدِ الله. اللهم أكرِمنا بذلك؛ اجعَلنا مِن أنصارِك حقيقة، ومِن أنصارِ خيرِ الخليقةِ على الحقيقة. يا حي يا قيوم لا تسلِّطْ علينا أنفساً ولا أهواءَ ولا شياطينَ إنس ولا جن نُستَعبَد لهم؛ عباد لك وحدَك، عباد في محضِ العبودية خُلَّص لك يا أحد، ننصرُك وننصرُ نبيَّك، بالصدق وبالأرواح وبالأموال وبكلِّ ما أوتينا .. نحيا على ذلك ونموتُ على ذلك.
اللهم سألناكَ فاقبَل سؤالنا، وأمّلناك فحقِّق آمالَنا، واجعل المجمع يا رب صَبَّابَة عليه سحائب جودك تملأ ساحة كل قلب، وتغفر لنا بها كلَّ ذنب، وتكشف عنا وعن الأمة كلَّ كرب، ورحمة للأحياء والأموات. يا رب ارفعِ العذابَ عن المعذَّبين في قبورِهم، واجمعنا وإياهم في دائرةِ حبيبِك محمد يوم بَعثِهم ونشورِهم، يا حي يا قيوم. وارحَمنا إذا صِرنا إلى ما صارُوا إليه قبلَنا. وبحقِّك عليك اختِم لكلٍّ منَّا بأكملِ الحُسنى، بحقِّك عليك اختِم لكل منَّا مِن الحاضرين والسامعين بأكملِ الحُسنى، يا الله، بحقِّك عليك اختِم لنا بأكملِ الحسنى، واجعل آخرَ كلامِنا من الدنيا " لا إله إلا الله" متحقِّقين بحقائقِها حِسَّاً ومعنى، برحمتِك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
يا ذا الجلالِ والإكرام يا ذا الجلالِ والإكرام ** يا ذا الجلالِ والإكرامِ أمِتْنَا على دينِ الإسلام.
08 ذو القِعدة 1439