(536)
(235)
(575)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 6 جمادى الأولى 1446هـ، بعنوان:
أسرار وشرف تعرُّف الخلاق إلى عباده وعجائب وخطر أعمار المكلفين القصيرة
الحمد لله.. مِنَّةُ المنَّان الإله الرحمن -جلَّ جلاله- سارِية في خلقه بميزان، وسابِقِ إرادة من قَبلِ خَلْقِ الأكوان.
كان من أعظم ما كَتَب وقدَّر -سبحانه وتعالى-، ورتَّبَ ودبَّر: عالم الأرواح وخَلْقُ الأرواح فيه، وتنقُّلها في الأصلاب والأرحام، إلى أن يَلِدَ كُلٌّ من الإنس والجن من بين أَبٍ وأم.
ثم ما يمرُّون به من مرحلة في هذا العمر القصير الخطير؛ أنه فيه استجلاء كل ما كان من قبل، وعليه يترتب كل ما يكون من بعد.
فمَا أعجب هذا العمر! وما أغرب هذا العمر! وما أهم هذا العمر!
عمر التكليف، ومعنى عمر التكليف: عمر التَّنَزُّل من الإله اللطيف لعبده؛ بتبيين سبيله، والطريق الموصلة إلى رِضاه وقُربِهِ، وموجبات سعادة الأبد.
وكان هذا التكليف واصلاً إلى الخلق بأيدي أشرف الخلائق.. أنبياء الله ورسله، حتى جاءنا أعظمهم وأشرفهم وأكرمهم..
وقد أتانا خَاتمُ الرسالة ** بكُلِّ ما جاءوا به من حَالَة
فعَمَّ كُلَّ الخَلْقِ بالدَّلَالة ** وأشرقَت مَنَاهِجُ الكَمَالِ
فكُلُّه فضلاً أتى ورحمة ** وكلُّه حُكْمُ هُدىً وحِكمة
وهو إمام كل ذي مُهِمّة ** وقدوةٌ في سَائرِ الخِصَالِ
فحمداً لربٍّ خصَّنا بمحمد..
جعل الله تعالى في هذا العمر؛ موائد التَّعَرُّف عليه وعلى حبيبه المصطفى لمن سَبَقت لهم سَابِقَةُ السعادة.
فمن مَرَّ عليه هذا العمر ولم يعرف الله ورسوله.. فلا مقدار لِمَا عرَف، ولا مقدار لِمَا عَلِم -كائناً ما كان- مِن أَلِفِه إلى يائه، من أوله إلى آخره! والله العظيم.. لا مقدار ولا شرف لمعلوماتٍ ومعرفةٍ مع الانقطاع عن معرفة الله ورسوله!
مَن لم يعرف الله ورسوله فلا تُفيد معارفه.. كانت ما كانت، بأي صورة من الصور، وبأي مجالٍ من المجالات!
والحق تعالى يتعرَّف؛ بالفضل والإحسان، بالإرسال والإنباء والقرآن، والكائنات وما فيها من الآيات، وبأسرار الإرث للنبوة والرسالة.. يتعرَّف لمن شاء من عباده أن يُلحِقه بأهل محبته ووداده؛ ليَحظى بعظيم إسعاده..
إنه الله!
إنه الله!
يا حاضر، يا سامع، يا مشاهد : إنه الله!
تعرَّض للتعرُّف!
ولن تحظ بنصيبٍ من سِرِّ المعرفة به حتى يتكرَّم هو بِتَعرُّفِهِ إليك.
وتعرُّفه إلى عباده بوسائل ووسائط من هذه الموجودات، وأعظمهم الأنبياء والمرسلون، وخُصِّصنا بأكرمهم وإمامهم ومُقدّمهم.. محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف.
نذكر اسمه ونحن مُمتلئون به، نذكر اسمه ونحن مُفتخرون به، والعرش يَغبُطنا، والكرسي يَغبُطنا، وسدرة المنتهى تغبطنا.. على ذكره بهذا الوجه، وعلى ذكره بهذا الأساس والخصوصية!
إن كان للعرش اهتزاز لمثل سعد بن معاذ؛ فما هو إلا ذرَّة من ذرات زين الوجود ونوره وبركته ﷺ، وإن كان لقوائم العرش اهتزاز بمن يقول "لا إله إلا الله"؛ فما هو إلَّا أثر من آثار نور محمد بن عبد الله ﷺ!
فيَا فوزنا بهذا النبي.. صلوات ربي وسلامه عليه.
ملأ هذا العالم انتماءات وانتسابات وافتخارات ومَرجعيّات إلى ذا وذا وذا وذا وذاك، وكُلُّ ما انقطع عن هذه المرجعية وهذا الأصل؛ عاد على أهله وأصحابه بالخسران والندامة، في الدنيا ويوم القيامة، وإلى هلاك الأبد!
(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور:٥٤]، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)[آل عمران:٣١]، (إِنَّ ٱلَّذِینَ یُبَایِعُونَكَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ ٱللَّهَ)[الفتح:١٠].
ففي العمر القصير اغنم نصيبك من العلي الكبير، بواسطة البشير النذير والسراج المنير!
وكل ما يُطرَح في هذا العالم فدون ما نتحدث عنه؛ لأننا نتحدث عن كلام من الله جاء، وحَمَلَهُ الأنبياء!
وإذا حُشِرنا ومن في زماننا.. من المسلمين والكافرين، ومن الموافقين والمخالفين، ومن المستمعين ومن المضادين، ومن الذين يريدون إطفاء نور الله -تبارك وتعالى-؛ إذا قاموا من مرقدهم -أي بين النفختين- (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا..) فتُناديهم ملائكة الله في الموقف: (..هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس:٥٢]، إن شي قيمة لحكوماتكم هاتوها؟ إن شي قيمة لأحزابكم هاتوها؟
(صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) القيمة للأنبياء وللرسل! الحمد لله الذي ربطنا بهم على يد سيدهم وإمامهم.. صلوات ربي وسلامه عليه.
ارتبط بقلبك، ارتبط بروحك، وارتبط بسِرّك، فإن موائده هذه عُقِدَت لينال المرتبط ارتباطه، وليُحَقِّق في الدارين اغتباطه؛ بجود الحقِّ -سبحانه وتعالى- الذي يُفيضه على مَن سبَقَت له سابقة السعادة.
ما تقدر ولا تستطيع قُوى الأرض بمن فيها أن تَعقِدَ مجلسا فيه هذا الروح، ولا أن تَعقِدَ مجلساً فيه هذا النور، ولا أن تَعقِد مجلساً فيه هذا الصفاء! بأحزابهم، بحكوماتهم، بجيوشهم.. من أولهم إلى آخرهم!
رَبَّ العرش والأرض والسماء خبَأها لنا بواسطة واحد اسمه محمد بن عبد الله! اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أبو القاسم، وأبو عبد الله الطيب الطاهر، وأبو إبراهيم، وأبو زينب، وأبو أم كلثوم، وأبو رُقية، وأبو قُرَة العين البتول فاطمة الزهراء.. صلوات ربي وسلامه عليه، ابن عبدالله وابن آمنة بنت وهب.. صلوات ربي وسلامه عليه..
صفوة خالق الأكوان من جميع أكوانه، وخِيرة رَبِّ السماوات والأرض من أهل أرضه وسماواته.. أحمد، المُصطَفى، المُجتَبَى، المُنتَقَى، الأَتْقَى، الأحب، الأَطْيَب، الأَقْرَب، الأَنْوَر، الأَفْخَر، الأَطْهَر، الأَصْلَح، الأَنْجَح، الأَفْلَح، الأَرْشَد، حبيب القلوب، ودواؤها وطبيبها.
ينتظر من أمته في كُلِّ زمان مَن يُسرِع وروده إلى حوضه، ومن يَقرُب منه تحت لواء الحمد.
وإلى الرحمن نتوجَّه به: أن ينظر إلينا، وإلى جمعنا، ومن يسمعنا ويشاهدنا، ويتكرَّم علينا بالقُربِ من هذا الجناب، ويجعلنا من أوائل أهل الورود على حوضه المورود، وأقرب أُمَّتِهِ إليه تحت لواء الحمد المعقود.. يا بَرُّ يا ودود، يا بَرُّ يا ودود.
وترون هذه المطالب تُعرَض على الخالق وتُطلب في شيء من مجالس هؤلاء؟
(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ)[آل عمران:٧٤].
لك الحمد يا مُنعِم، لك الحمد يا مُتكَرِّم، لك الحمد يا وهَّاب، فأتمِم لنا النعمة، أتمِم لنا النعمة.
دواعي الأهواء والشهوات والفساد زَحزِحها عن قلوبنا، زَحزِحها عن قلوب أهلينا، زَحزِحها عن قلوب أولادنا وطلابنا، وثبِّتنا على ما تحبه وترضى به مِنَّا.. في أقوالنا وأفعالنا، وحركاتنا وسكناتنا، اجعل هوانا تبَعاً لما جاء به حبيبك، اجعل هوى كُلِّ واحد مِنَّا تبعاً لِمَا جاء به حبيبك.
اللهم لا أصبح واحدٌ مِنَّا وبات ليلته إلا وهواه تَابِعٌ لِمَا جاء به حبيبك.. صلواتك وسلامك عليه، في كل لمحة ونفس، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين: حقِّق لنا المطلب، وأنِلنا المأرب، واكشِف عَنَّا جميع الكُرَب والتعب والشَّغَب والنَّصَب، يا رب.. يا رب، يا رب يا رب يا رب.
يا الله..
جمعكم وأسمعكم وتجلَّى عليكم وتنزَّل لكم..!
إنه الله!
إنه الله!
إنه الله!
ومَن يَغنَم خصائص تعرُّفِهِ بلطائفهِ ومعارفهِ في هذه المجامع؛ فَليهنهُ ما يؤتيه الكريم الواسع، وما يربطهُ بالحبيب الشافع!
يا سيدنا ومولانا: اقطع عنَّا القواطع، وارفع عنَّا الحُجُب الموانع، وقرِّبنا إليك، ودُلَّنا بك عليك..
يا الله .. يا الله .. يا الله
وأَغِث أُمَّته، وسُرَّ قلبه، وأَقِرَّ عينه بما تؤتينا وتتفضَّل به علينا، وبما تُكرِمُ به زمننا وأهل زمننا.
يا الله.. بما بينك وبينه وبجاهه عليك؛ افتح لنا من الخزائن التي خزنتها له لزمننا وأهل زمننا.
يا وهَّاب، يا رَبَّ الأرباب، يا من يرزق بغير حساب، يا من يُعطي بغير حساب، يا من يتفضَّل بغير حساب، يا مَن قال: (هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[ص:٣٩]، يا وهَّاب، يا وهَّاب، يا وهَّاب، يا رَبَّ الأرباب، يا مُسَبِّب الأسباب، يا غفور يا توّاب، يا كريم يا مجيب، ويا قريب يا مُستجيب، يا ذا الفضل الوسيع الرحيب.
يا الله: لا تحرِم قلب من حضر معنا ولا من يسمعنا ويُشاهدنا من سِرِّ نور الصدق معك، والإقبال بالكُلِّيّة عليك، وتعرُّفك إليه.. وتعرُّفك إليه؛ يا ربنا.. حتى نَثبُت على قدم الاقتداء والاتِّباع، ونرقى في مراتب الارتفاع، ونغنم فوائد هذا العمر القصير الخطير؛ لنكون في البرازخ مع خَوَاصِّ أهل التنوير، مِمّن قبورهم رياض الجنة وأرواحهم في عِليّين، ونَسعَد في القيامة بالقُربِ مِن المُظَلَّلِ بالغمامة.. عند البعث، وساعة الوقوف بين يديك، وعند الميزان، وعند الحوض، وعند الصراط، وفي الجنة.. وفي الجنة.. في فراديسها يا رب، من غير سابقة عذاب ولا عتاب، ولا فتنة ولا حساب، يا كريم يا وهاب.. يا الله.
فاصدقوا معه، وعظِّموا أمره، وامتثلوه، واجتنبوا كل ما نهاكم عنه.. قولاً وفعلاً، ونيَّةً، وإرادة وقصداً؛ فإنه آتاكم الهدى على يد نبي الهدى.. فيَا فوز مَن اهتدى.
اهدنا اللهم واهدِ بنا، وانشر الهداية في العرب والعجم، والإنس والجن والشرق والغرب.
يا حيُّ يا قيوم: عدوك إبليس وجنده يريدون أن يطفئوا نورك بِخططهم وأفواههم.. اللهم فاخذلهم، وفَرِّق جمعهم، وشَتِّت شملهم، وادفع شرهم واجعل كيدهم في نحورهم.. يا قوي يا متين، يا حي يا قيوم..يا حي يا قيوم.
ليلة بدر ناداك السيد المعصوم وقال: يا حيُّ يا قيوم، آمنّا بك وبه، ونحن من بعده موقنين مؤمنين نقول لك على تبعيته والانطواء فيه: يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم.. اكشف عنَّا الهموم والغموم، وفَرِّج كروب أهل الإسلام، وبلِّغنا ما نروم وفوق ما نروم.
يا حيُّ يا قيوم.. يا حيُّ يا قيُّوم.
كما قالها حبيبك نقولها من ورائه: يا حيُّ يا قيوم.
ونِعمَ الحي القيوم.. ونِعمَ الحيّ القيوم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
يا من جمعتنا وأسمعتنا: انفعنا وارفعنا، واستجب لنا، وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تُخزِنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
يا الله..
الله الله يا الله لنا بالقبول..
06 جمادى الأول 1446