(209)
(536)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك في دار المصطفى، ليلة الجمعة 17 ربيع الأول 1446هـ، بعنوان:
آثار ونتائج الصدق في لا إله إلا الله وعجائب وجلائل رضوان الرحمن تعالى في علاه
مقطع من المحاضرة (من آثر صفقة الدنيا على الآخرة):
مقطع من المحاضرة (نعبده كأننا نراه):
لتحميل المحاضرة مكتوبة (نسخة إلكترونية pdf):
الحمدُ للهِ الحيِّ القيُّومِ الذي لا يموتُ، مَن بيدِهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ وإليهِ مرجعُ كلِّ شيءٍ، فلا شيءَ عليهِ يفوت.
خلقَ الخلقَ لِحِكمةٍ، وطوى عليها علمَهُ، وجعلَ ممَّا أبدى لنا مِن عظيمِ تلكَ الحكمةِ أنْ يعرفَ المُكلَّفونَ مِن بني آدمَ والجانِّ عظمةَ إلهِهِم سبحانَهُ، ويؤمنوا بهِ ويوحِّدوهُ سبحانَهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنْ يُقوِّموا مسارَهُم في الحياةِ على ما عَلِمَ أنَّهُ خيرٌ لهم مِن منهجِهِ الذي ارتضاهُ.
وهيَّأَ السبيلَ لكلِّ ذلكَ بما جعلَ في فِطَرِهِم، وثمَّ بما أرسلَ إليهِم مِن رُسُلٍ وأنبياءَ، وما أوحى إلى أولئكَ الأنبياءِ، وما جعلَ مِن سِرِّ الترجمةِ عنهُ وعن وحيِهِ وعن منهاجِهِ، وعن مرادِهِ لعبادِهِ في حياةِ هؤلاءِ الأنبياءِ وأخلاقِهِم وشمائلِهِم، وصفاتِهِم وبلاغِهِم عن إلهِهِم جلَّ جلالُهُ وتعالى في علاهُ.
وما يسري منهم إلى مَن آمنَ بهِم واتَّبعَهُم وصدَّقَهُم واقتدى بهِم واجتمعَ قلبُهُ عليهِم، فكانوا لهُ قِبلةً وكعبةً توصِلُ إلى الرحمنِ، وما يتسلسلُ في ذلكَ مِن أتباعِ الأتباعِ وأتباعِ الأتباعِ، تستقبلُ القلوب القلوب والأرواح الأرواح، إلى حضراتِ النبوَّةِ والرسالةِ.
وأهلِ النبوَّةِ والرسالة مَن قالَ عنهُمُ الربُّ جلَّ جلالُهُ: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِم.
ويرجعُ الفضلُ والاستقبالُ المعنويُّ في الوِجهة إلى اللهِ إلى أولي العزمِ مِن الرسلِ، ويرجعُ إلى سيِّدِهِم وإمامِهِم مَن أنتُم في ذكرى ميلادِهِ صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهِ، ومَن جُعِلتُم بأمرِ اللهِ تباركَ وتعالى بهِ خيرَ أمَّةٍ بينَ جميعِ عبادِهِ، فلكَ الحمدُ شكراً ولكَ المنُّ فضلاً يا رحمن.
وأنَّ مِن هذهِ الحكمةِ لمن فَقِه ووعى سرِّ وجودِهِ وتكوينِ الكائناتِ، وأنَّ المآلَ مآلُ دوامٍ وخلودٍ واستقرارٍ، إمَّا في الجنَّةِ دارِ النعيمِ والنَّوالِ والجودِ والإفضالِ، بما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ يخطرُ ولا خاطرٌ يخطرُ ببالٍ، أو في النارِ والعذابِ والنَّكالِ، والبُعدِ والغمومِ والهمومِ والأتعابِ الثِّقالِ.
هذهِ حكمةٌ مِن أعظمِ الحِكَمِ التي أوجدَ اللهُ لها العرشَ والكرسيَّ والجنَّةَ والنارَ جلَّ جلالُهُ، وأنزلَ الكتبَ وأرسلَ الرسلَ وكوَّنَ كلَّ هذهِ الكائناتِ.
فكلُّ ما لا يؤدِّي إلى الاستقرارِ في دارِ الكرامةِ والجنَّةِ فنوعٌ مِن العبثِ واللَّعبِ والهزو، كائناً ذلكَ ما كانَ، ما لا يوصِلُ إلى خيرِ مستقرٍّ، ما لا يوصِلُ إلى دارِ الكرامةِ والنَّظرِ، فما هو إلَّا مِن جملةِ اللَّعبِ واللَّهوِ والضَّلالِ.
وكلُّ ما يوصِلُ إلى دارِ العذابِ والنَّكالِ فهو الشرُّ وهو الشَّقاءُ وهو السُّوءُ، في أيِّ صورةٍ ظهرَ، وبأيِّ تبهرُجٍ تبهرجَ وبأيِّ مسمًّى سُمِّيَ، ما يوصِلُ إلى النارِ هو الضَّلالُ، هو الشَّقاءُ، هو الخزي، هو السُّوءُ تحتَ أيِّ مسمًّى كانَ، وتحتَ أيِّ تصويرٍ كانَ، وتحتَ أيِّ تسميةٍ كانَ.
ما أوصلَ إلى النارِ فهو الخزيُ وهو الضَّلالُ وهو الشرُّ، وما ذاكم إلَّا الكفر والفسوق والعصيان، الذي يُكَرِّههُ اللهُ في قلبِ مَن أرادَ أنْ يُسكِنَهُ جنَّتَهُ، كما قالَ تعالى عن رعيلِنا الأوَّلِ مِن هذهِ الأمَّةِ، يقولُ سبحانَهُ وتعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
يا عليمُ يا حكيمُ يا متفضِّلُ يا منعِمُ، ثبِّتْنا على الحقِّ والهُدى، حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْهُ في قلوبِنا، وكرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، واجعلْنا مِن الرَّاشدينَ.
في أوَّلِ الآيةِ يقولُ جلَّ جلالُهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ). لو يمشي معَ آرائِكُم ومُنتهى وقُصارى مدارِكِكُم وأفكارِكُم ويمضي معكم فيها لحلَّ عليكُمُ العنَت والمشقَّة والتَّعب، ولكن الله هيأكم لأن تتركوا الهوى؛ إدراكاً لحقيقة عظمة من خلق، واستعداداً للقائه، وتجعلوا هواكم تبعاً لهذا المصطفى، (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً).
يقولُ ولو تركناكُم لأهوائِكُم ونفوسِكُم لما أدركتُم إلَّا الشَّقاءَ في الدُّنيا والآخرةِ، لكنَّنا أعطيناكُم الإيمانَ فتهيَّأتُم لمعرفةِ الحقيقةِ والتَّسليمِ لخيرِ الخليقةِ، فاستمسكتُم بالعروةِ الوثيقةِ، (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ثمَّ أحوالُ النَّاسِ مَن استمسكَ بالعروةِ الوثقى ومَن أعرضَ عنها واستمسكَ بالسَّرابِ، واستمسكَ بالخرابِ واستمسكَ بالهوى واستمسكَ بالكذبِ، فحالُهُم ما قالَ الله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والعياذُ باللهِ تباركَ وتعالى.
ولقدْ أُكرِمتُم بالإسلامِ والإيمانِ فللَّهِ الحمدُ، حقَّقَكُمُ اللهُ وإيَّانا بحقائقِ الإسلامِ والإيمانِ؛ حتَّى نرقى بهِما وباستبيانِهِما والعملِ بمقتضاهُما إلى مراتبِ الإحسانِ، فنكونَ في حياتِنا القصيرةِ عابدينَ للمُحيي المُميتِ جلَّ جلالُهُ، والذي خلقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ عملاً، عابدينَ لهُ على بصيرة، سائرينَ في خيرِ سيرة، مستعدِّينَ للقائِهِ جلَّ جلالُهُ وتعالى في علاهُ، فنعبدَهُ كأنَّنا نراهُ.
وهذهِ مرتبةٌ شريفةٌ ولكنْ ليستْ مقصودةً لذاتِها، فإنَّ مَن قامَ بحقِّ الإحسانِ وعبدَ اللهَ كأنَّهُ يرى اللهَ؛ تكرَّمَ اللهُ عليهِ بفتحِ بابِ معرفتِهِ الخاصَّةِ ومحبَّتِهِ الخالصةِ، وهناكَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، وهنا تعجيلُ الطُّمأنينةِ والسَّكينةِ ونعيمِ الرُّوحِ في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ، والاستعدادُ والتَّهيُّؤ لإمدادٍ مِن فيضِ الجوادِ، لا حدَّ لهُ ولا حصرَ ولا نفاد (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
وبالقلوبِ المنوَّرةِ يسمعُ النَّاسُ التَّرغيبَ في الإقبالِ على الله والوِجهة إليهِ والعملِ بشريعتِه، وبالظُّلماتِ وتسلُّطِ قاطعِ الطَّريقِ عدوِّ اللهِ إبليسَ بمَن معهُ مِن جندٍ ومِن أكبرِهِم النُّفوسُ الأمَّارةُ، يُستهزأُ بآياتِ اللهِ ويُستحسنُ الغفلةَ والإعراضَ عن اللهِ جلَّ جلالُهُ.
وبذلكَ سمعتم لمَّا دعا الدَّواعي الحقَّ أخاكُم هذا وتشوَّقَ لطلبِ العلمِ وأقبلَ عليهِ، رأى مَن يقولُ لهُ: أخطأتَ الطَّريقَ، وَما لك ترجعُ هكذا؟ إلى أين تذهب؟! هذا منطقُ الظُّلمةِ، هذا منطقُ الانقطاعِ عن اللهِ، هذا منطقُ السَّاحةِ الإبليسيَّةِ الدَّجَّاليَّةِ التي فيها قلب الحقائقِ، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، هذهِ الغفلةُ التي أوقعتْهُم في التَّكذيبِ أبعدتْهُم عن إدراكِ الحقيقةِ، واختاروا الضَّلالَ واشتروا الحياةَ الدُّنيا بالآخرةِ، (فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) كما قالَ جلَّ جلالُهُ وتعالى في علاهُ.
وهذا الدَّاعي إلى الحقِّ والهُدى قائمٌ بيننا بجميعِ إرسالِ الرُّسلِ وتنبئةِ الأنبياءِ إلى الخاتمِ الكاملِ الفاتحِ السَّيِّدِ الكريمِ الهادي محمَّدٍ ﷺ، الذي قالَ لهُ الرَّحمنُ في كتابِهِ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
وربُّنا القائلُ في بيانِ الحقيقةِ المُتعلِّقة بحكمةِ الخلقِ لهذهِ الخليقةِ: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) إنَّا نحنُ نرثُ الأرضَ ومَن عليها، فبأيِّ شيءٍ تغترّ في الأرضِ أو بأيِّ أحدٍ مِمَّن عليها؟ إنَّا نحنُ نرثُ الأرضَ ومَن عليها. يقولُ: لمَّا قالوا هؤلاءِ كلُّهُم إليَّ ومرجعُهُم إليَّ، فبمَن تغتر منهُم؟ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) وأهلَ المسلكِ القويمِ والصِّراطِ المستقيمِ فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ، إلى أنْ قالوا: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ) صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، تجتمعونَ في هذهِ المجالسِ والمنازلِ تُدعونَ لهذا الاقتداء بأهلِ الهُدى، والفوز بخيراتِ الحاضرِ والدُّنيا وغداً، فضلاً مِن الله سبحانَهُ وتعالى وجوداً وكرماً، فاللهُ يرزقُنا الاستجابةَ والتَّلبيةَ للنِّداءِ والثَّبات على الهُدى، لا ينازلُ أفكارَنا زيغٌ ولا ضلالٌ، ولا ينازلُ نيَّاتِنا رياءٌ ولا ابتعادٌ عن الصِّدقِ معَ المتعالِ، ولا ينازلُ أخلاقَنا انحرافٌ عن مسلكِ بدرِ الكمالِ باهي الجمالِ، ولا ينازلُ وِجهتَنا التفاتٌ إلى سوى الكبيرِ المتعالِ.
يا اللهُ، اهدِنا بهُداكَ، واجعلْنا مِن أهلِ رِضاكَ.
يا الله رضا يا الله رضا، والعفوَ عمَّا قدْ مضى.
أيدي فقرٍ امتدَّتْ إليكَ يا غني، أيدي ضعفٍ امتدَّتْ إليكَ يا قوي، أيدي عجزٍ امتدَّتْ إليكَ يا قادر، تسألُكَ أنْ تثبِّتَ قلوبَها على ما تُحِب، وأنْ تُحبِّبَ إلينا الإيمانَ وتُزيِّنَهُ في قلوبِنا، وأنْ تُكَرِّهَ إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وأنْ تجعلَنا مِن الرَّاشدينَ، فضلاً منكَ ونعمةً وجوداً منكَ ورحمةً.
يا وليَّ النِّعمةِ، يا واسعَ الرَّحمةِ، يا دافعَ النِّقمةِ، يا كاشفَ الغُمَّةِ، يا جاليَ الظُّلمةِ، بنبيِّكَ نبيِّ الرَّحمةِ ارحمْنا، ارحمْنا رحمةً لا تدع بها حاضراً في المجلسِ ولا سامعاً لهُ أو مشاهداً أو محبَّاً إلَّا باتَ في رضاكَ، وعاشَ في رضاكَ، وماتَ في رضاكَ، وحُشِرَ في القيامةِ معَ أهلِ رضاكَ.
يا اللهُ، نلحُّ عليكَ ونكرِّرُ السُّؤالَ لكَ، ونقدِّمُ الطَّلبَ إليكَ، خاضعينَ خاشعينَ متذلِّلينَ، واثقينَ منكَ بالإجابةِ، موقنينَ منكَ بالاستجابةِ، ليسَ لنا ربٌّ سواكَ نرجعُ إليه، ولا إلهَ غيرُكَ نعتمدُ عليهِ، يا اللهُ، ارضَ عنَّا وعن جميعِ الحاضرينَ والسَّامعينَ والمشاهدينَ والمُتعلِّقينَ، وعمَّن في بيوتِنا وبيوتِهِم، وعن أحبابِنا وعن طلَّابِنا وعن أهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ.
يا اللهُ، يا اللهُ، خلِّصِ الذينَ آثروا صفقةَ دنياهُم على آخرتِهِم مِن لا إلهَ إلَّا الله، وردَّهُم إلى حقيقةِ لا إلهَ إلَّا الله، يا الله، فإنَّهُم كُثر مِن رجالِنا ونسائِنا، آثروا صفقةَ دنياهُم على آخرتِهِم، ونبيُّكَ يقولُ: "لا تزالُ لا إلهَ إلَّا الله تدفع عن أهلَها سخط الله ما لمْ يؤثروا صفقةَ دنياهُم على آخرتِهِم، فإذا فعلوا ذلكَ ثمَّ قالوها قالَ اللهُ: كذبتُم لستُم بها بصادقينَ".
فنسألُكَ يا الله أنْ تجعلَ جميعَ أهلِ المجمعِ ومَن لنا يسمعُ ومَن لنا يشاهد مِن الصَّادقينَ في لا إلهَ إلَّا اللهُ، صِدقاً نتمكَّنُ بهِ تمكيناً في الإسلامِ والإيمانِ والعلمِ والبيانِ، ونرقى به مراتبِ الإحسانِ، ونُدركُ سرَّ العرفانِ، المعرفةَ الخاصَّةَ والمحبَّةَ الخالصةَ، وترضى عنَّا رضوانَكَ الأكبرَ يا منَّانُ، يا قديمَ الإحسانِ، بِوجاهةِ مَن أنزلتَ عليهِ القرآنَ، سيِّدِ الأكوانِ، ارحمْنا واسمعْ دعاءَنا يا رحمن.
يا اللهُ، خلِّصِ القلوب التي يقولُ أصحابُها "لا إلهَ إلَّا اللهُ" وقدْ كذبوا فآثروا صفقةَ دنياهُم على آخرتِهِم، خلِّصْهُم مِن هذهِ المآزقِ، خلِّصْهُم مِن هذهِ الضَّلالاتِ، خلِّصْهُم مِن هذهِ الجهالاتِ، وأنقذْهُم يا ربِّ إلى حظيرةِ الصِّدقِ في "لا إلهَ إلَّا اللهُ".
لا إلهَ إلَّا اللهُ نقولُها مستمطرينَ رحمتَكَ أنْ تتداركَ كلَّ مَن قالَها ليكونَ صادِقاً فيها، لا إلهَ إلَّا الله، لا إلهَ إلَّا الله، لا إلهَ إلَّا الله، محمَّدٌ رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يا ربَّنا، والمتحقِّقينَ بها والصَّادقينَ فيها زِدْهُم رُقيَّاً في الصِّدقِ واعتلاءً في التَّحقُّقِ بحقائقِها.
يا ربَّنا، وأهل مجمعِنا مَن كانَ منهُم ضعيفاً في القيامِ بحقِّها ومقتضاهُ، ومَن كانَ متناقضاً في بعضِ أحوالِهِ معها، انظرْ إليهِم يا حيُّ يا قيُّومُ، فإنَّكَ يا مولانا بسطتَ لنا بساطَ هذهِ المجامعِ لترحمَ ولتُكرِمَ ولتعفوَ ولتغفرَ ولتحوِّلَ الأحوالَ. دعوتَنا على لسانِ نبيِّكَ لنعقدَ المجامعَ؛ نتذكَّرُ ونتدبَّرُ، وندعو ونتذاكرُ، ونتواصى بالحقِّ والصَّبرِ، ووعدتَنا أنْ تُدخِلَ مسيئَنا في بركةِ محسنِنا وتحوِّلَ شقيَّنا إلى سعيدٍ، وتقولُ: "هُمُ القومُ لا يشقى بهِم جليسُهُم".
فيا رباه، بأصدقِ خلقِكَ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ، انظرْ إلى كلِّ حاضرٍ وسامعٍ ومشاهدٍ لهذا المجمعِ، نظرةً كبيرةً ربَّانيَّةً رحمانيَّةً أحديَّةً واحديَّةً قيُّوميَّةً صمدانيَّةً، تُصلِح بها شأنَهُم في الدَّاريْنِ، ويمتدُّ خيرُها إلى قائلي لا إلهَ إلَّا اللهُ. ربِّي، بلْ ويمتدُّ إنعامُكَ إلى مَن لمْ يعرفْها ويقولها مِن كثيرٍ مِن الإنسِ والجنِ فتُدخِلُهُم في حضرتِها، وفي حظيرتِها، وفي رحابِها وساحتِها والتحقُّق بحقائقِها.
يا اللهُ، يا اللهُ، يا اللهُ، يا أكرمَ الأكرمينَ ويا أرحمَ الرَّاحمينَ.
فخذوا النَّصيبَ مِن هذا العطاءِ الرَّحيب، مِن الرَّبِّ القريبِ السَّميعِ المجيبِ، الواحدِ الأحدِ الفردِ الصَّمدِ؛ بالتَّذلُّلِ بينَ يديهِ والرَّغبةِ فيما عندَهُ، اسمعوا خطابه لسيِّدِنا وإمامِنا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)، وقالَ عن سادتِنا الأنبياءِ مِن قبل: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
ندعوكَ يا ربِّ رغباً ورهباً، فارزقْنا الخشوعَ وصدقَ الرُّجوعِ، والعطاءَ الواسعَ الغيرَ محصورِ ولا ممنوعِ، يا اللهُ، يا اللهُ.
وبكلِّ كُلِّيَّاتِكُم قولوا: يا الله، نِعمَ مَن تدعونَهُ ومَن ترتجونَهُ، ومَن تسألونَهُ ومَن تستغفرونَهُ، ومَن تسترحمونَهُ، وهو الأعلم بكُم والأرحم بكُم، والمطَّلِعُ على ضمائرِكُم والنَّاظرُ إلى سرائرِكُم، وبيدِهِ نواصيكُم وإليهِ مرجعُكُم ومآلكُم، إنَّهُ الله، إنَّهُ الله، تعالى في علاهُ.
فبكلِّيَّاتِكُم وراءَ حبيبِهِ قولوا: يا الله، أتدرونَ مَن دعوتم؟ مَن رجوتم؟ مَن سألتم؟ على بابِهِ وقفتُم، وبأعتابِهِ قمتُم، ولهُ رجوتُم، وهو الأكرمُ وهو الأرحمُ، وهو الأعظمُ وهو الأجلُّ، وهو اللهُ، (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
نادوهُ واسألوهُ وادعوهُ وارجوهُ وناجوهُ، وقولوا: يا اللهُ، أنتَ الغنيُّ عنَّا ولكنَّنا نحنُ الفقراءُ إليكَ. وصدقتَ فيما أنبأتَنا بالحقِّ والحقيقة وقلتَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ).
لا إلهَ إلَّا أنتَ، ارحمْ مَن استرحمَك، وانصرْ مَن استنصرَكَ، وأكرمْ مَن استكرمَكَ، يا اللهُ، اعتمدْنا عليكَ والتجأنا إليكَ، وتذلَّلْنا بينَ يديكَ، ولا ملجأَ ولا منجى منكَ إلَّا إليكَ، فارحمْنا يا رحمن، وأكرمْنا بسرِّ القرآنِ، وطهِّرْ لنا كلَّ قلبٍ وجَنانٍ، عن جميعِ الشَّكِّ والشِّركِ والأدرانِ.
يا كريمُ يا رحمنُ، يا عظيمُ يا منَّانُ، يا قديمَ الإحسانِ، يا مَن يُعطي ولا يُبالي، يا مولى الموالي، يا كريمُ يا رحيمُ يا والي. يا اللهُ، يا اللهُ، يا الله!
أوضاعُ المسلمينَ أنتَ أعلم بها، والذي يظهرُ ويُنَبّأ به في كلِّ يومٍ أنَّهُ قُتِلَ كذا وكذا، وأوذيَ كذا وكذا وجُرِحَ كذا وكذا، ربَّنا، اقتضت ذلكَ ذنوبُنا ونستغفرُكَ منها ونتوبُ إليكَ، ربَّنا، ولطفُكَ يسعُنا ورحمتُكَ.
انظرِ اللَّهُمَّ إلى أكنافِ بيتِ المقدس، وإلى أهلِ الضِّفَّةِ الغربيَّةِ ورفحَ وغزَّةَ، وإلى أهلِ السُّودانِ وإلى أهلِ الصُّومالِ، وإلى أهلِ العراقِ وإلى أهلِ ليبيا، وإلى أهلِ الشَّامِ وإلى أهلِ اليمنِ، وإلى أهلِ مصرَ وإلى أهلِ المغربِ، وإلى أهلِ أفريقيا كلِّها، وإلى المؤمنينَ في القارَّاتِ كلِّها
نظرة تزيلُ العنا عنا، نظرة تزيلُ العنا عنا،
نظرة تزيلُ العنا * عنا وتُدني المُنى * مِنا وكلَّ الهَنا * نعطاهُ في كلِّ حينٍ
يا أرحمَ الرَّاحمينَ، يا أرحمَ الرَّاحمينَ، يا أرحمَ الرَّاحمينَ.
حقِّقْ ما رجوناه، وأنِلْنا ما طلبْناه، وهبْنا فوقَ ذلكَ ممَّا أنتَ أهلُهُ يا غايةَ رغبتِنا، يا إلهَنا وسيِّدَنا، يا خالقَنا وموجدَنا، يا مَن بيدِهِ أمرُنا، يا مَن إليهِ مرجعُنا، يا عُدَّتَنا يا حسبَنا، يا كافيَنا يا مُنقذَنا، يا مَن بيدِهِ جميعُ أمرِنا، يا اللهُ، يا اللهُ، يا اللهُ، اجعلْها ساعةً يعمُّ خيرُها البقاعَ والأراضي والعوالي، ويظهرُ شأنُها يومَ تقومُ السَّاعةُ، يا اللهُ.
يا اللهُ، يا اللهُ، يا اللهُ، يا اللهُ، يا الله، يا غوثاهُ، يا ربَّاهُ، يا سَنداهُ، يا كهفاهُ، يا ذُخراهُ، يا مَن لا يردُّ مَن دعاهُ ولا يُخَيّب مَن رجاهُ، يا اللهُ، يا اللهُ، يا اللهُ.
اجعلْ باقي شهرِ ربيعِ الأول خيرِ لنا مِن ماضيهِ، وباركْ لنا في بقيَّةِ أيَّامِهِ ولياليهِ، سُرَّ القلوبَ بما تربطُها بحبيبِكَ المحبوبِ، وبما تُنقِيها عن كلِّ الكدرِ والشُّوبِ، وبما تُثبِّتُ الأقدامَ على الارتقاءِ بسلَّمِ الإسلامِ والإيمانِ، إلى يفاعِ إحسانٍ ومراتبِ المعرفةِ الخاصَّةِ والمحبَّةِ الخالصةِ، ونيلِ رضوانِكَ حتَّى تزدادَ عنَّا رضاً في كلِّ لحظةٍ وكلِّ آنٍ أبداً سرمداً.
وتجعلْ خيرَ ساعاتِنا وأيَّامِنا ولحظاتِنا يوم وساعة ولحظة لقاكَ لِكُلِّ فردٍ منَّا، حتَّى يلقاكَ كلٌّ منَّا وأنتَ راضٍ عنه يا اللهُ.
يا الله رضا، يا الله رضا، يا الله رضا، يا الله رضا، يا الله رضا، يا الله رضا، يا الله رضا، والعفوَ عمَّا قدْ مضى، يا حيُّ يا قيُّومُ، نبيتُ في خيرِ ليلةٍ ونصبحُ وأنتَ راضٍ عنَّا، ونحيا وأنتَ راضٍ عنَّا، ونموتُ وأنتَ راضٍ عنَّا، نلقاكَ وأنتَ راضٍ عنَّا، نُحشَرُ وأنتَ راضٍ عنَّا، ندخلُ الجنَّةَ وأنتَ راضٍ عنَّا.
تُوفِّرْ حظَّنا مِن سرِّ ندائِكَ لأهلِ الجنَّةِ: "هلْ رضيتُم؟"، وسرِّ قولِكَ لهُم: "أُحِلُّ عليكُم رضواني فلا أسخط عليكُم بعدَهُ أبداً". أُحِلُّ عليكُم رضواني فلا أسخط عليكُم بعدَهُ أبداً، أُحِلُّ عليكُم رضواني فلا أسخط عليكُم بعدَهُ أبداً.
وفِّرْ حظَّنا مِن هذا النِّداءِ، ومِن هذا العطاءِ، ومِن هذا الوفاءِ، ومِن هذا السَّخاءِ ومِن هذا الجودِ، ومِن هذا الإحسانِ ومِن هذا الامتنانِ، يا كريمُ، يا منَّانُ.
فيا ربِّ واجمعْنا وأحباباً لنا * في دارِكَ الفردوسِ أطيب موضعِ
فضلاً وإحساناً ومَنَّاً منكَ يا * ذا الجودِ والفضلِ الأتمِّ الأوسعِ
16 ربيع الأول 1446