كشف الغمة 321- كتاب الزكاة (29) مضاعفة ثواب الصدقة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 321- كتاب الزكاة (29) تكملة فصل: فيما جاء في جهد المقل وذم البخل
صباح الأربعاء 8 ذو الحجة 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- سبق درهم مئة ألف درهم
- درجات مضاعفة ثواب الصدقة
- مضاعفة الله ثواب صدقة تمرة أو لقمة
- قصة مع الآية: يقرض الله قرضا حسنا
- ثواب الصدقة 5 أنواع
- قصة رجل أوصى بثلث ماله صدقة
- قصة تصدق السيدة عائشة بشاة
- ما الذي يبقى من المال؟
- مواقف من صدقات عبدالله بن المبارك
- الصدقة تطفئ غضب الرب وتظلنا في القيامة
- نفع العباد من أعظم الصدقات
نص الدرس مكتوب:
"وكان ﷺ يقول: "سبق درهم مائة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذلك یا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به"، وكان ﷺ يقول: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل، وإن الرجل ليتصدق باللقمة تربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل الجبل فتصدقوا ثم قرأ: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّيَوا وَيُرْيِي الصَّدَقَتِ) [البقرة: 276]، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: لما نزل قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد: 11] قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله ليريد منا القرض؟ قال له رسول الله ﷺ نعم، قال: أرني يدك يا رسول الله ﷺ فناوله يده قال إني أقرضت الله عز وجل حائطي وكان فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها وجاء أبو الدحداح فنادى يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي -عز وجل- فعمدت إلى صبيانها وبناتها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم وهي تقول: ربح البيع ربح البيع، فقال رسول الله ﷺ: كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح -رضي الله عنه-"، وكان ﷺ يقول: "ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: ذبحنا شاة فتصدقنا بها غير كتفها فقال النبي ﷺ: ما بقي منها؟ قلت: يا رسول الله ما بقي منها إلا كتفها فقال النبي: بقي كلها غير كتفها.
وكان ﷺ يقول: "يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس"، وكان عبدالله بن المبارك يعطي العطاء الكثير حتى ربما يخرج جميع أمتعة البيت للفقراء والمساكين وقال له مرة وكيله: إن المال قد فني فقال له: إن كان المال فنى فالعمر أيضاً قد فني، وكان ﷺ يقول: "إن الصدقة لتدفع غضب الرب وتذهب ميتة السوء"، وكان ﷺ يقول: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته"، والله سبحانه وتعالى أعلم"
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلَّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذَّااكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته خير الورى سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأهل بيته الذين حازوا به منزلةً وطهرًا، وعلى أصحابه الذين رفع الله لهم به قدرًا، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسان سرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الراقين في الفضل والشرف والكرامة أعلى الذرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- ذِكْرَ ما ورد في ثواب الصدقة وإخراج المال لوجه الله -تبارك وتعالى-، وتفاوت الثواب، ومنه ما أشار إليه في هذا الحديث،"وكان ﷺ يقول: "سبق درهم مائة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذلك یا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به"، فكانت صدقة الدرهم هذا لهذا الرجل -الذي الدرهم نصف ماله ونصف ما يملك- وأخرجه طيبة به نفسه، مخلصًا لوجه ربه- زائدةً في الثواب والمكانة على المئة الألف التي أخرجها ذاك الرجل ولم تكن مائة الألف عشر ماله، ولا نصف عشره-معه مال كثير- ثم لم يبلغ مبلغ هذا في إخلاصه لوجه الله -تبارك وتعالى- وصدقه معه.
وهكذا يبين أنه يَعْرِضُ للصدقات ما يوجب مضاعفة ثوابها، ومن ذلك: ما كان من قلِ يد المتصدِّق وماله قليل ومع قلة ذات اليد يعظم ثواب صدقته، ثم ما كان أخلص لوجه الله تعالى، ثم ما كان أنفع لعباد الله، ثم ما كان في يد مقرّب عند الله -تبارك وتعالى-، وعلى أن الإمام السيوطي ذكرها، ونقلها عنه في الفتاوى الحبيب عبد الرحمن المشهور -رحمه الله تعالى-:
ذكر السيوطي -عليه رحمه الله- في خُماسية أن ثواب الصدقة خمسة أنواع أنه أخذها من مجموع ما ورد فيه أحاديث وغيرها، فصارت لثواب الصدقة خمسة أنواع:
- واحدة بعشرة؛ إنْ تتصدق على صحيحِ الجسم.
- وواحدة بتسعين؛ إن تتصدق على الأعمى والمبتلى.
- وواحدة بتسعمائة؛ وهي الصدقة على ذي القرابة المحتاج.
- وواحدة بمائة ألف؛ الصدقة -ما ينفقه- على الأبوين الأب أو الأم.
- وواحدة بتسعمائة ألف وهي الصدقة على عالم أو فقيه -يخدم الشرع وينفع المسلمين-.
وهذا من جملة ما يتضاعف به الثواب، وهكذا هناك مواطِن وأحوال يتضاعف بها أجر الإعطاء وأجر الثواب، وأجر الصدقة.
وكان ﷺ يقول: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب" أي: الحلال الذي لا شبهة فيه، "إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا" جلّ جلاله؛ "فإن الله يقبلها بيمينه" بعنايته ورعايته "ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلُوَّهُ" ابن الخيل الصغير يعتني به و يربيه ليكبر له، قال: "حتى يكون" يعني عدل التمرة "مثل الجبل" في الثواب والمكانة عند الله -تبارك وتعالى- "وإن الرجل ليتصدق باللقمة تربو في يد الله أو قال في كف الله" تعالى، والمراد عنايته وكنفه -سبحانه- ورعايته "حتى تكون مثل الجبل فتصدقوا ثم قرأ -قوله تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّيَوا وَيُرْيِي الصَّدَقَتِ) [البقرة: 276]"، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَما آتَيتُم مِن رِبًا لِيَربُوَ في أَموالِ النّاسِ فَلا يَربو عِندَ اللَّهِ وَما آتَيتُم مِن زَكاةٍ تُريدونَ وَجهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُضعِفونَ﴾ [الروم: 39]، هنا تأتي مضاعفة البركة والخير والمال للإنسان إذا أخرجها على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه، مخلصاً لوجه الله -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال: "وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: لما نزل قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [الحديد: 11]"، ونَازلت قَلبَ سيدنا أبي الدحداح الأنصاري -عليه رحمة الله- معاني ما يَعْرِضْ الرحمن على عباده، حتى سمّى إعطاءهم لوجه ربه بقرض، فعلم من ذلك منزلة هذا الإعطاء من العبد لوجه الله في سبيل الله تعالى وطاعته عند الله.
فجاء النبي ﷺ، قال: "وإن الله ليريد منا القرض؟" يعني: يتنزّل إلينا مثل هذا التنزّل ويقبل منّا هذا ويعدّه بهذه المكانة؟ "قال له رسول الله ﷺ: نعم، قال: أرني يدك يا رسول الله ﷺ" هات يدك، قال: "فناوله ﷺ يده -الكريمة، فأمسكها سيدنا أبو الدحداح- وقال إني أقرضت الله عز وجل حائطي وكان -أعز أمواله- فيه ستمائة نخلة" وقال: -تصرف فيه- ضعه حيث ترى، وتوجه مباشرة إلى الحائط "وأم الدحداح -زوجته وأولاده فيها- نادى -أول ماوصل من الخارج قبل أن يدخل إلى عندهم- "يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي عز وجل" -سمعت الكلمة المرأة، والمرأة مرباه في مائدة النبوة، وفي دائرة الرسالة، فمجرد ما سمعت منه هذه الكلمة هي أيضاً تحرك باطنها واعتلج فيها إعظامْ وإجلالْ لهذا الأمر، وقامت بسرعة- فعمدت إلى صبيانها وبناتها -ماذا تعمل؟- تخرج ما في أفواههم، قالت خلاص هذا قد أقرضناه ربنا- تخرج ما في أفواههم -ما عندهم من تمر وما عندهم من ثمر ذلك الحائط تخرجه- وهي تقول: ربح البيع ربح البيع، "تنفض أكمامهم -من أثر الحائط، وتخرج ما في أثوابهم- "تقول: ربح البيع ربح البيع"، فحيّاهن الله من نساء فالحات عارفات ذائقات، عاملن رب الأرض والسماوات هذه المعاملة.
ولو كانت من الغافلات لقالت: أتخرجنا من حائطنا؟ سنرى، هذا الكلام ثاني! هذا لنا ولعيالي! ولن أخرج -فعلك وتترك-! ولكنها عمدت إلى صبيانها وبناتها تخرج ما في أفواههم، تقول: خلاص خلاص، هذا قد أقرضناه لربنا تعالى، ما عاد لنا شيء فيه، تنفض أكمامهم تقول: اخرجوا! خرجنا! تقول: ربح البيع، ربح البيع وقد صدقت، عليها رضوان الله تعالى. "فقال رسول الله ﷺ: كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح رضي الله عنه"، وفي رواية: "كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَوَّاحٍ". وفي رواية: "كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَحْرَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ" رضي الله تعالى عنه وأرضاه.لا إله إلا الله.
"كَمْ مِنْ عِذْقٍ رُحْرَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ ومن سلك سبيله الطيب الوضاح.
"وكان ﷺ يقول: "ما نقص مال من صدقة"، بل يجعل الله فيه البركة والخير، كان بعض الأخيار قد جعل ثلث ماله صدقة، وأوصى ورثته أن يديموا على ذلك، وكان يقول لهم بعض أهل للعلم والصلاح: ما دمتم منفذين لوصيته فالبركة تحصل لكم، إذا غيرتموها تتغير الأشياء عليكم، فما زالوا في خير كثير حتى تغير أمر الوصية والثلث، وتغيرت الأمور عليهم وذهبت منهم.
"ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً"، كل من عفا عن شيء مما يستحقه، عمن آذاه، عمن ظلمه، عمن اعتدى عليه، "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً"، ما يذله أبدًا، ويرفع قدره ويعزه بعفوه عن الناس وعن عباده.
"وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"، فالله يجعل قلوبنا متواضعة منيبة مخلصة صادقة خاشعة.
"وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: ذبحنا شاة فتصدقنا بها غير كتفها فقال النبي ﷺ: ما بقي منها؟ قلت يا رسول الله ما بقي منها إلا كتفها فقال النبي ﷺ: بقي كلها غير كتفها"، يعني: كلها باقية لنا بسبب الصدقة وإخراجها، فهي محفوظة كلها لنا ومدخرة، إلا هذا الكتف سنأكله وسيفنى ويروح، وأما الباقي في الشاة كلها بقي لنا لأننا أخرجناها لله تعالى، فهي الباقية، يسأل: "مَا بَقِيَ مِنَ الشَّاةِ؟ "مَا بَقِيَ مِنْهَا؟" قالت: "ما بقي منها إلا كتفها." قال: "بقي كلها غير كتفها" فكلها باقية إلا هذا الكتف الذي خلفناه، هذا سيفنى. أما الباقي -باقيها كله- ما دام أُخرجناه لله، فهو باقٍ لنا "بقي كلها غير كتفها".
"وكان ﷺ يقول: "يقول العبد مالي مالي"، مالي و حقي ولي ومني وعرقي وكسبي… "وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى -أخرج- فأقْنَى-ادّخر ذلك وأبقاه له- "وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس"، إما ورثة أو غيرهم وهو يحاسب عليه وهم يتصرفون فيه؛ فليس بماله، من أين مالك؟ مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، وما أعطيت لله فاقتنَيت، هذا مالك، ما عدا ذلك ليس مالك، مال غيرك.
قال في الحديث الآخر: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟" قالوا: يا رسول الله، كيف؟ ما أحد منا مال وارثه أحب إليه من ماله! قال: "فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا خَلَّفَ"؛ هذا الذي تخلفه حق الوارث، هذا ما هو حقك، الذي تقدمه هذا مالك، "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟" ﷺ .
"وكان عبدالله بن المبارك" -رضي الله عنه- هذا العالم الزاهد الورع العارف، "يعطي العطاء الكثير حتى ربما يخرج جميع أمتعة البيت للفقراء والمساكين" ومع ذلك يزيد الله رزقه ولا يزال يفتح له أبواب رزقه، وهو ينفق ويتصدق، "وقال له مرة وكيله: إن المال قد فني فقال له: إن كان المال فنى فالعمر أيضاً قد فني" نحن قربنا على اللقاء، أيش معك؟ عليه الرضوان. وكان مرتب على نفسه: يتفرغ للعلم سنة، وللحج سنة، وللخروج في الجهاد سنة؛ سنة يخرج للجهاد، وسنة يروح للحج، وسنة يقعد مع أهل التعليم والعلم.
وكان والد سيدنا البخاري من تلامذته -إسماعيل بن إبراهيم- يأتي إليه ويجلس معه، فكان من أثر تربيته على يده؛ كان يقول وكان من أهل التجارة -إسماعيل بن إبراهيم- والد سيدنا محمد بن إسماعيل البخاري، والده إسماعيل-: أرجو أن لا يكون دخل في تجارتي ولا مالي ولا خالطه درهم من شبهة، ما هي شبهة! ولا درهم واحد! كله حلال خالص؛ لهذا خرج من صلبه محمد البخاري، محمد بن إسماعيل -عليهم رضوان الله تعالى-، كان والده يجالس سيدنا عبد الله بن المبارك.
عبد الله بن المبارك إذا كان بينَ أهل العلم، من وقت إلى وقت يخرجهم ليتنزهون ويتنشطون للعلم، ويجعل لهم بيوتًا صغيرة من حلوى وإذا انتهوا، يقول: هيّا انتهبوا، فيأخذونها فيقتسموها بينهم البين. وإذا جاءت سنة الغزو، أخذ ما استطاع من ماله وأنفقه في سبيل الله وجاهد ورجع، وإذا جاءت سنة الحج، ينادي من أراد يخرج الحج هذه السنة من أهل بلده، فليأتي بما عنده ونخلط ما عندنا ونتقاسمه، فكل من يجيب له شيئًا من الدراهم يكتب عليه: الكيس هذا حق فلان وهذا حق فلان، يجمعها -ويخليها-، وينفق عليهم من عنده، ويقدم بهم إلى المدينة المنورة، ويقول للواحد منهم: ماذا تحب من طرائف المدينة لأهلك وولدك؟ فيشتري لهم الهدايا، يجيء إلى مكة كذلك ويشتري لهم الهدايا، ما يحبون من طُرف مكة لأهلهم ولأولدهم، يرسل قبل وصولهم من يصلح ديارهم ويتفقد مساكنهم ويهيئونها لهم. ويقدمون، ويخرج أهل المدينة لاستقبالهم، ويحصلون ديارهم مهيأة ومصلّحة، ثم يجمعهم يوم، يقول: خذوا أكياسكم، هذا كيس فلان، وذاك... فيرد لهم كل الذي سلموه، ويكون هو الذي أنفق جميع ما احتاجوا إليه ذهابًا وإيابًا، وتغذية وهدية، وكلٌّ من عنده، عليه رحمة الله ورضوانه عبد الله بن المبارك؛ حتى في بعض الأوقات يخرج أمتعة البيت يعطيها الفقراء والمساكين، يُجيب له بعد ذلك متاع ثانٍ.
"وقال له مرة وكيله: إن المال قد فني فقال له: إن كان المال فنى فالعمر أيضاً قد فني، وكان ﷺ يقول: "إن الصدقة لتدفع غضب الرب وتُذْهِبُ ميتة السوء" تذهب ميتة السوء، فلا يموت صاحبها في حادث شنيع، ولا في أمر فظيع ولا مزعج.
"وكان ﷺ يقول: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور" فيجد بردًا في القبر على مقدار ما كان يتصدق، "وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته"، "كُلُّ امْرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ" يَومَ القِيامةِ.
وهكذا تأتي آثار الصدقة في القيامة، فما كان خالصًا، وما أُخرج طيبةً به النفس، وما استلمته يد العناية من الله تعالى وربته، فظله ظليل وعظيم، ويفرح به صاحبه في القيامة، وذلك الذي راح يجيب الحشف ويحطه في محل الصدقة، قال: ما وجد غير هذا، إنَّ صاحب هذا يأكل حشفًا يوم القيامة، نتيجة الصدقة حقه يحصلها. لا إله إلا الله.
أن تصدق بأحسن ما عنده من أجل الله طيبة به نفسه، وأخذته يد الرحمن ونمته له، فيجد العجب العُجاب من آثر ذلك، وماكان إلا (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ)[النخل:61]، ويأخذ أخس الأشياء.. يحصل مقابل لذلك. لا إله إلا الله، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:40].
ثم هكذا تذكركم الصدقات وثوابها، ما رتب الله تعالى على نفع المسلم ونفع العباد، من كلمة طيبة، من إنقاذ له، من إرجاعه من سبيل غفلة إلى سبيل ذكر، من سبيل معصية إلى سبيل طاعة، من سبيل عقوق إلى سبيل بر، ومن سبيل إهمال إلى سبيل إقبال، من سبيل جهل إلى سبيل علم، هذه أعظم الصدقات، ومكانها عند الله في أعظم الدرجات.
أن تنفع عبادهُ بالتوجيه الحسن، بالرأي الحسن، بالنقل من الظلمة إلى النور، من الغفلة إلى الذكر، من البعد إلى القرب، ومن العقوق إلى البر، ومن الجهل إلى العلم، هذه نعمة كبيرة إذا أجرى الله على يدك ذلك، فقد نفعت عباده بما هو أحب إليه وأغلى عنده، فيكون أجرك وثوابك أعظم منه -سبحانه وتعالى-.
"يا داوود، من رد لي آبقاً كتبته عندي جهبذاً". من رد لي آبقاً –هارب بعيد فار عن الله- رده، كتبته عندي جهبذاً، يعني: رفيع الدرجة والمكانة، رئيساً، من رد لي آبقاً. ويقول: "يا داوود، إذا وجدت لي طالباً فكن له خادماً".. "إذا وجدت لي طالباً فكن له خادماً".
فالله يوفقنا وإياكم في هذه الأيام خاصة لأنواع الصدقات وأنواع الخيرات والمنافع للعباد والبلاد، ويوفر حظنا من هذا الموسم وما فيه من جود الله على أهليه، وما يتكرّم به على من يخلص لوجه ويقبل عليه من المقبولين لديه، الله لا يحرمنا بركة طائف، ولا بركة عاكف، ولا بركة راكع، ولا بركة قائم، ولا بركة ساجد، ولا بركة واقف بعرفة، ولا بركة محبوب عند الله، ولا بركة مقرب لدى الله، ويصلح الله شؤون الأمة، ويكشف الغمة، ويحوّل الحال لأحسنه.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
08 ذو الحِجّة 1446