كشف الغمة -74- باب سنن الوضوء: (9) الدعاء والتسمية
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب سنن الوضوء: (9) الدعاء والتسمية
صباح الثلاثاء: 04 ربيع أول 1445هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:
- دعاء بعد الوضوء: اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي في رزقي
- التسمية عند ذكر الله
- التسمية في أول الوضوء، وإذا نسيها
- ما هي صيغة التسمية في الوضوء؟
- أدعية تقال عند كل عضو في الوضوء
- العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال
- ذكر عظيم يقال بعد الوضوء وبعد كل مجلس
- دعاء بعد الوضوء يغفر الذنوب
- عدم الكلام أثناء الوضوء بلا حاجة
- هل يشرع السلام على المتوضي؟
- معنى الموالاة في الوضوء وحكمها
- ماذا قال ﷺ لرجل ترك موضع ظفر من الوضوء؟
نص الدرس مكتوب:
"التاسعة الدعاء والتسمية: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله ﷺ إذا وضع يده في الماء سمّى ثم توضأ"، وكان ﷺ يقول : "لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، وفي رواية: "ما توضأ من لم يذكر اسم الله عليه، وما صلّى من لم يتوضأ". وكان ﷺ يقول: "من ذكر اسم الله تعالى أول وضوئه طَهُر جسده كله، وإذا لم يذكر اسم الله تعالى لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء"، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: "أتيت رسول الله ﷺ وهو يتوضأ فسمعته يقول: اللهم اغفر لي ذنبي، ووسّع لي في داري، وبارك لي في رزقي".
وكان ﷺ يقول: "من توضأ ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين، فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" ، وكان ﷺ يقول: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتب في رقٍّ ثم جُعل في طابعٍ فلم يُكسر إلى يوم القيامة".
وكان ﷺ يقول: "من توضأ ثم لم يتكلم حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، غُفر له ما بين الوضوءين" وكان عثمان -رضي الله عنه- إذا سلّم عليه أحد وهو يتوضأ لا يرد عليه حتى يفرغ من وضوئه ويقول: رأيت رسول الله ﷺ يفعل ذلك.
العاشرة الموالاة: تقدّم في الباب أنه ﷺ لم يُخِل بالموالاة في الوضوء أبدًا. وقال نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يغسل قدميه بعدما يجف وضوءه، وكان ﷺ إذا اغتسل، اغتسل إلا رجليه يتنحّى من مقامه ذلك فيغسِل رجليه، والله سبحانه وتعالى أعلم."
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مُكرمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته خير بريّته سيدنا محمد بن عبد الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه وأهل محبّته وقربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل محبة الله وأهل قربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلّقة بأفعال الوضوء وسُننه، وذكر: "الدعاء والتسمية" أي: قَوْل بسم الله تعالى عند الوضوء، وأورد حديث: "كان رسول الله ﷺ إذا وضع يده في الماء سمّى ثم توضأ" أي: سمّى الله تعالى وذكر اسم الله جلّ جلاله وتعالى في علاه، وكان ﷺ يقول: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده ورواه غيره عند أبي داود وابن ماجه، وفي مفرد الطريق منه فيه ضعف في السند؛ ولكن بمجموع الطرق يتقوّى، وبه أخذ الإمام أحمد بن حنبل كما سيأتي معنا، فأوجب على القول المعتمد عندهم: التسمية عند الوضوء وأن من تركها متعمّدًا لم تصحّ طهارته.
"لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، وفي رواية: "ما توضأ من لم يذكر اسم الله عليه، وما صلّى من لم يتوضأ". وكان ﷺ يقول: "من ذكر اسم الله تعالى أول وضوئه طَهُر جسده كله،.." أي: من الذنوب والمعاصي والآثام "..وإذا لم يذكر اسم الله تعالى لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء" ما أصابه الماء من الأعضاء تُطهَّر من ظلمات الذنوب، ويبقى عليه بقية ذنوب البدن، ولكن إذا ذكر اسم الله ارتفعت ظُلمة الذنوب عن البدن كله.
"وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: "أتيت رسول الله ﷺ وهو يتوضأ فسمعته يقول: اللهم اغفر لي ذنبي ووسّع لي في داري وبارك لي في رزقي"." وهذا أيضًا من الدعوات التي يؤتى بها بعد الوضوء، وزاد فيها بعضهم: "ولا تفتنّي بما زويت عنّي".
ومن المراد "ووسّع لي في داري":
- القبر؛ القبر دارنا الذي نرجع إليه، فيوسَّع على بعض الناس ويُضيَّق على بعضهم.
- "ووسّع لي في داري": والمنازل في الجنة.
وذكر لنا التسمية في الوضوء، بل جاء في الحديث ما يدل على أنه ينبغي للذاكر أن يكون على طهارة، بأي ذكرٍ كان، وإن كان يجوز الذكر مع الحدث وحتى مع الجنابة وللحائض والنفساء يجوز ذكر الله تعالى، ولكن مع الوضوء أفضل. ويقول المهاجر بن قنفذ: أنه سلّم على النبي ﷺ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ فردّ عليه، وقال له: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة". ففيما أورد الإشارة إلى التسمية في الوضوء، فالتسمية في أوّل الوضوء:
- قال الجمهور: هي سُنّة؛ فهي كذلك.
- ويعبّر المالكية بقولهم: مستحبّة، فالمشهور عندهم أنها مستحبة.
- وهي سُنّة عند الحنفية والشافعية وفي قولٍ عند الإمام أحمد ؛ لكن المعتمد في مذهبه أنها واجبة
ولم يوجبها الجمهور لِمَا قالوا أن آية الوضوء مطلقة، ما ذكر فيها شرط التسمية (..إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ..) [المائدة:6] لأنّ الماء خُلِقَ في الأصل طهورًا، فما تتوقّف طهوريته على شيءٍ من أقوال العبد ولا من أفعاله فهو طاهر. وكذلك رواية ابن مسعود هذه عند الترمذي دليل على الاستحباب، "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورًا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورًا لما أصاب من بدنه" أي: ما أصابه الماء.
قال: فإذا نسيَ المتوضئ البسملة فينبغي أن يذكرها متى ذكرها؛ أن يسمّي حتى لا يخلو وضوءه عن اسم الله تبارك وتعالى ما دام لم يفرغ من الوضوء.
- يقول الحنفية: أن التسمية تحصل بأي ذكر، فإذا سبّح أو حمِد أو كبّر أو هلّل فقد سمّى الله تبارك وتعالى، يقولون أنه أقام أصل السُنّة، لكن المنقول: بسم الله، وجاء أيضًا عن بعض السلف: بسم الله العظيم والحمدلله على الإسلام، وبسم الله الرحمن الرحيم، أو بسم الله والحمد لله، إلى غير ذلك.
- يقول الشافعية: أن أقلّها: بسم الله، وأكملها: بسم الله الرحمن الرحيم ثمّ الحمد لله على الإسلام ونعمته، الحمد لله الذي جعل الماء طهورًا، هذا عند بداية الوضوء.
- وذكر الإمام الغزالي أيضًا: ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّي أن يحضرون، في بداية الوضوء. فيجمع بين التسمية والتعوّذ. ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّي أن يحضرون. لأن التعوّذ مقترن بالبسملة في كثير من المواطن الواردة في الشرع. فيجمع أيضًا عند الوضوء بين البسملة والتعوّذ، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّي أن يحضرون، وكذلك ينبغي أن يقول: الحمد لله على الإسلام ونعمته، الحمد لله الذي جعل الماء طهورًا.
فأوّل الوضوء عند غسل الكفين، ينوي الوضوء ويسمّي الله تعالى أو ينوي أداء سُنن الوضوء، ويسمّي الله تبارك وتعالى.
- يقول المالكية على المشهور عندهم: أن المتوضئ عند ابتداء وضوئه؛ أي: عند غسل يديه إلى كوعيه يقول: بسم الله، وعندهم قولان في زيادة: الرحمن الرحيم؛ بسم الله الرحمن الرحيم.
- قال الحنابلة: التسمية في الوضوء واجبة، ولا بدّ فيها من قول: بسم الله. حتى إذا جاء بذكرٍ آخر أو حتى قال: بسم الرحمن أو قال: بسم الرحيم أو بسم الملك أو بسم العظيم، ما يكفي.. فلا بدّ أن يقول: (بسم الله) عند بداية الوضوء.
وجاء عند بعضهم -الحنابلة- يقول: يجزئ إذا قال بسم القدوس أو بسم الرحمن … ولكن ينبغي أن يقول: بسم الله، وأخذوا بحديث: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله" كما جاء عند الترمذي وابن ماجه وعند الإمام أحمد بن حنبل في المسند، قالوا:
- في حالة السهو تسقط تجاوزًا، فإذا ذكر المتوضئ في أثناء الوضوء سمّى وبنى،
- قالوا: وإن تركها عمدًا لم تصحّ طهارته؛ لأنه لم يذكر اسم الله على طهارته، فهذا مذهب الحنابلة.
- قالوا: والأخرس ومن اعتُقِل لسانه يُشير بها؛ يشير إلى البسملة.
هذا التسمية في بداية الوضوء، بعد ذلك للفقهاء نظر في التسمية عند كل عضو، وقال فقهاء الحنفية: أن من آداب الوضوء التسمية عند كل عضوٍ في الوضوء؛ من أعضاء الوضوء، أو عندما يمسح ما يمسح من أعضاء الوضوء، بسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام، وهكذا… وزاد بعضهم الشهادتين. وقال في الحلية عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ: "ما من عبدٍ يقول حين يتوضأ بسم الله، ثم يقول بكل عضو أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، ثم يقول حين يفرغ: اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين إلا فُتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيّها شاء، فإن قام من وقت ذلك فصلّى ركعتين يقرأ فيهما ويعلم ما يقول انفتل من صلاته كيوم ولدته أمّه"، أي: مبرأً من جميع الذنوب "ثم يُقال له: استأنف العمل". الحنابلة يقولون: ما تُستحب التسمية عند كل عضو، إنما في بداية الوضوء فقط.
ثم بعد ذلك ذكر الله عند غسل الأعضاء، أورد بعض أهل السنن في باب الذكر في الوضوء قولهم في الحديث "كان ﷺ يذكر الله على كل أحيانه"؛ ومن الأحيان: الوضوء،. "..يذكر الله على كل أحيانه" فذكر الله عند كل عضو، وأيضًا نظروا في الأدعية الواردة التي جاءت عند كل عضو من من أسانيد ضعيفة، فمن أهل العلم من قال أن هذا ممّا يُعمل به في فضائل الأعمال؛ فيُستحبّ ذكر الله تعالى عند غسل كل عضوٍ من الأعضاء، وهكذا الدعاء عند كل عضو، وبذلك يقول الحنفية والمالكية وكثير من الشافعية وجماعة من الحنابلة: أنه يُستحبّ الدعاء عند كل عضوٍ.
- فيقول عند غسل الكفّين: ما تقدّم من البسملة والحمد والتعوّذ، ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون، وأيضًا أورد الإمام الغزالي في البداية وغيرها: "اللهم إني أسألك اليُمن والبركة وأعوذ بك من الشؤم والهلكة".
- ثم بعد ذلك يتمضمض ويقول عند المضمضة: "اللهم أعنّي على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك وثبّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، وفي لفظٍ: "اللهمّ أعنّي على تلاوة القرآن الكريم وذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وأورد الغزالي قوله: "اللهم أعنّي على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك وثبّتني بالقول الثابت في الدنيا وفي الآخرة".
- كذلك عند الاستنشاق: "اللهم أرِحني رائحة الجنة وأنت عنّي راض"، وعند الاستنثار: "اللهم إني أعوذ بك من من روائح النار وسوء الدار".
- وعند غسل يده اليمنى: "اللهم أعطني كتابي بيميني وأدخلني جنّتك بغير حساب"، وفي لفظٍ: "وحاسبني حسابًا يسيرًا"، وعند اليسرى: "اللهم إنّي أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري".
- عند مسح الرأس: "اللهمّ أظلّني في ظل عرشك يوم لا ظل إلاّ ظلك، اللهم حرِّم شعري وبشري على النار"، وأورد الغزالي: "اللهم غشّني برحمتك، وأنزل عليّ من بركاتك وأظلّني في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك".
- وعند مسح الأذنين: "اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه"، وأورد الغزالي أيضًا: "اللهم اسمِعني مناديَ الجنة في الجنة مع الأبرار"، قالوا: ومناديَ الجنة في الجنة: سيدنا بلال، ينادي للولائم، ولائم الأنبياء وولائم المقربين؛ ينادي أهل الجنة كما كان ينادي للدخول في حضرة الله؛ مائدة الكرم في الدنيا.
- وعند مسح العنق والرقبة: عند من يقول بها، يقول: "اللهم اعتق رقبتي من النار، وأعوذ بك من السلاسل والأغلال".
- وعند غسل الرجل اليمنى: "اللهم ثبّت قدمي على الصراط المستقيم مع أقدام عبادك الصالحين"، عند غسل الرجل اليسرى: "اللهم إنّي أعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط في النار، يوم تزل أقدام المنافقين والمشركين"، وفي لفظ: "اللهم اجعل ذنبي مغفورًا، وسعيي مشكورًا، وتجارتِي لن تبور"، هذا من جملة ما جاء أو ورد في الدعاء.
قال الإمام النووي: أنَّه لا أصل له؛ ولكن تُعقِّب بعد ذلك أنه بمجموع ما وَرَد من الحديث ينتهض، وأنَّه أقلَّّ ما فيه أنّه من الضعيف الذي يُعمل به في فضائل الأعمال، وقد ذكره الإمام النووي في مقدمة الأربعين النووية، وقد اتّفق الحُفّاظ على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. وهكذا، فإذًا الرأي الثاني هذا عند الشافعية، الذي ذكره الإمام أحمد، ورأي أيضًا عند بعض الحنابلة: أنَّه لا يُُستحب الدعاء عند كل عضو، ولكن لا وجه لمنع الذِّكر أو الدعاء، وإنَّما كلامهم أي: أنَّه لا يعتقد استحبابه على الخصوص، إذ لم يثبت عندهم، وسمعت أنّ له أصل.
ولهذا يقول بعض متأخري الشافعية: ولا بأس بالدعاء عند الأعضاء، وكما ذكر ذلك الإمام الرافعي في المحرّر، ولكن بعد ذلك حذفه الإمام النووي من المِنهاج وقال: أنَّه لا أصل له. وجرى بعضهم على قول: لا أصل لدعاء الأعضاء، وقد رُويَ من طرقٍ ضعيفة، في تاريخ ابن حبَّان وغيره، قال: ومثله يُعمل به في فضائل الأعمال. ولذا اعتمد الإمام الرملي وولده: استحباب الإتيان بهذه الأدعية عند كل وضُوء.
ثم ذكر لنا حديث الدعاء بعد الوضُوء، يقول: قال رسول الله ﷺ: "من توضأ ثم رفع رأسه إلى السماء"، فهذا من السُّنة يرفع يديه، ويرفع رأسه نحو السماء؛ يستقبل القبلة بعد الوضُوء يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". في الصحيحين اقتصار على هذه الشهادتين، وأنّه من قالها بعد كل وضُوء؛ "..فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيِّها شاء". وفي روايات في السنن: "اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين" وفي بعضها زيادة: "واجعلني من عبادك الصالحين".
وذكر هنا رواية الترمذي والنسائي: "من توضأ ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهرين، فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". ثم هناك ذِكرٌ آخر، وأورد بهذا الذكر الأول أورد الإمام الغزالي زيادة: "واجعلني صبورًا شكورًا واجعلني أذكرك كثيرًا وأسبّحك بُكرةً وأصيلًا".
الذكر الآخر الذي ورد في الحديث، هذا الذي أشار إليه بقوله: وكان ﷺ يقول: "من توضأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتب في رقٍّ ثم جُعل في طابعٍ فلم يُكسر إلى يوم القيامة"، وهذا الحديث عند النسائي والطبراني والحاكم في المستدرك، وهذا الذِكر يحبّه العارفون عند:
- ختام المجلس
- وبعد كل عمل صالح
ويقولون أنَّه يكون سبب ما ذُكر في هذا الحديث؛ أنَّه يُطبع على ذلك العمل؛ يُختم ويُحفَظ، فلا يتطرّق إليه بعد ذلك الخلل، أو ما يُبطله، وما يُحبطه، فما يناله شيء. فيحبّون أن يختموا أعمالهم الصالحة ومجالسهم بهذا الدعاء: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" وفي الحديث أنَّه "مَن قاله عند القيام من المجلس كفَّر الله عنه ما كان من لغوه في ذلك المجلس" فكذلك أيضًا هي: كفّارة للذنب، وهي مُثبّتة للعمل الصالح أن يُقبل. كما سمعت في الوضُوء: "كُتب في رق ثم جُعل في طابعٍ فلم يُكسر إلى يوم القيامة"، أي: ما يتطرّق إليه بعد ذلك أن يُحبط.
وكان ﷺ يقول: "من توضأ ثم لم يتكلم حتى يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، غُفر له ما بين الوضوءين" هكذا عند الدارقطني، "وكان عثمان رضي الله عنه إذا سلّم عليه أحد وهو يتوضأ لا يرد عليه حتى يفرغ من وضوئه ويقول: رأيت رسول الله ﷺ يفعل ذلك." وهذا الذي ذُكر في الحديث.
فإذًا الدعاء بعد الوضوء، فيُسنّ أن يقول المتوضئ عقب فراغه من الوضوء، وهو مستقبل القبلة، رافعًا يديه وبصره إلى السماء: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله" والحديث ورَدَ في الصحيح، وورَد أيضًا: "اللهمّ اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهّرين"، ووَرَد أيضًا: "واجعلني من عبادك الصالحين"، والدعاء الآخر: "سبحانك اللهمّ ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك". فما يتطرّق إليه إبطال ولا يُحبط حتى يلقى الله تبارك وتعالى، وكذلك قال هو من مواضع الصلاة على النبي ﷺ بعد الوضوء، يقول: "صلى الله وسلم على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ". وهكذا جاء عند الحنفية والمالكية زيادة: "واجعلني من عبادك الصالحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون".
كذلك يقول بعض الحنابلة والشافعية: يقرأ سورة القدر، مرةً أو ثلاث مرّات (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1] ، ويُروى فيها عند الديلمي حديث أيضًا بسند ضعيف، أنه يقول: "من قرأ (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ..) عَقِب الوضوء مرّة كان مع الشهداء، ومن قرأها مرّتين حُشِر مع الصّدّيقين، ومن قرأها ثلاثًا حُشِر مع الأنبياء"، سورة (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) بعد الوضوء.
وعند الوضوء ينبغي أن لا يكون له كلام بغير الذكر والدعاء، فيستحبّ أن لا يتكلم المتوضئ أثناء وضوئه بلا حاجة.
- وقال المالكية والحنابلة: يُكره الكلام مع الوضُوء.
- قال الحنفية والشافعية: يُستحبُّ أن لا يتكلم المتوضئ؛ فالكلام بغير ذكر الله وبغير الدعاء في الوضُوء لا يُستحبّ، وقيل: أنّه مكروه، ويُروى: أنّ على المُتوضئ قبّة من نور فإذا تكلم مع أحد من الناس ارتفعت عنه.
وهكذا يقول المالكية وبعض الشافعية وبعض الحنابلة: يُشرع السلام على المتوضئ؛ كما يُشرع ردّه، يقول الشيخ زكريا: بخلاف المُشتغل بالغسل لا يُشرع السلام عليه، فإنه ما تليق مخاطبته، ولكن قال بعض الشافعية: ما يُكره السلام؛ لا على المتوضئ ولا على المُغتسل، وكذلك ردُّ السلام جائز، وإن أخّره حتى يُكمل الوضُوء، فجائز كما تقدّم معنا من فعل سيدنا عثمان -رضي الله تعالى عنه- ويُروى ذلك في حديث.
ثم ختم بذِكر الموالاة، والموالاة:
- سُنَّة عند الجمهور
- واجبة عند المالكية
الموالاة: أن يوالي بين أفعال الوضُوء؛ بحيث يغسل العضو الثاني قبل جفاف الأول.
فيقول الحنفية والشافعية ورواية عند الحنابلة: أنَّ الموالاة سُنّة؛ تُسنّ الموالاة، قالوا لأن التفريق لا يمنع من امتثال الأمر، فلا يمنع من الإجزاء. وعن ابن عمر "أنه توضأ في السوق فغسل وجهه ومسح رأسه ثم دُعيَ لجنازة ليُصلّي عليها حين دخل المسجد فمسح على خفّيه، ثم صلّى"، فأخَّر المسح على الخفين.
إذًا فالموَالاة في الوضُوء أفضل، وهي سُنّة عند الجمهور، واجبةٌ عند المالكية، وقيل أيضًا عند الشافعية: أنّها واجبة، كما هو مذهب المالكية. وهو القول القديم أيضًا عند الشافعية، وهي أيضًا الرواية المشهورة عند الحنابلة كَالمالكية قالوا: تجب الموالاة؛ الموالاة واجبة، قالوا: لأن مقتضى الأمر يقتضي الفورية والتعجيل.
وجاء في صحيح مسلم، عن سيدنا جابر عن عمر: "أنّ رجل توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي ﷺ فقال: ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلّى" .
يقول الدسوقي من المالكية: أمَّا الناسي والعاجز فلا تجب الموالاة في حقهما، وأخذوا بظاهر رواية: "أنَّه ﷺ رأى رجلًا يصلّي وفي ظاهر قدمه لُمعة، قدر الدرهم لم يُصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة". وهكذا جاء في صحيح مسلم: "أنَّ رجلًا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ﷺ فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى".
يقول: "العاشرة الموالاة: تقدّم في الباب أنه ﷺ لم يُخِل بالموالاة في الوضوء أبدًا. وقال نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يغسل قدميه بعدما يجفّ وضوءه، وكان ﷺ إذا اغتسل، اغتسل إلاّ رجليه يتنحّى من مقامه ذلك فيغسِل رجليه" لكن هذا ما يخالف الموالاة؛ لأنّه قبل الجفاف يغسل القدمين، وإنما يكون ترك الموالاة إذا قد جفَّ العضو، مضى وقت يجف فيه الماء على العضو مع اعتبار اعتدال الهواء والمِزاج والزمان.
رزقنا الله الاتباع والاقتداء بنبي الهُدى، فيما خفى وفيما بدا، وكشف عنّا الزيغ والرّدى، وتولّانا بما تولّى الصالحين من عباده أهل وداده.
بسِرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه
الفاتحة.
05 ربيع الأول 1445