كشف الغمة -7- باب ما جاء فيمن بدأ بالخير ليُسْتَنَّ به

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب ما جاء فيمن بدأ بالخير ليُسْتَنَّ به، وباب ما جاء في فضل العلم والعلماء والمتعلمين

الثلاثاء 19 شوال 1444هـ

يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:

- السبق إلى الخير وثمراته، والحذر من السبق إلى السوء

- توضيح معنى السنة والبدعة

- مبادرة الصحابة إلى الخير واستبشار النبي ﷺ بفعلهم

- ما هو المراد بالبدعة في قوله: كل محدثة بدعة

- من سن سنة حسنة ومن سن شراً

- معنى "من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله"

- طوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير

- من الذي يكون مفتاح للشر ومغلاق للخير؟

- الاعتراض على الله (لِمَ وكيف)

- توضيح معنى: أفضل العبادة الفقه

- أفضل الدين الورع

- ما علامة العلم وعنوانه؟ 

- صاحب الجهل المعجب برأيه

- كيف يسهل الله طريق طالب العلم إلى الجنة؟

- معنى أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم

- من فضائل الإخلاص في العلم

 

نص الدرس مكتوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وبسندكم المتصل إلى الإمام أبي المواهب سيدي عبدالوهاب الشعراني في كتابه: (كشف الغمة عن جميع الأمة)، إلى أن قال -رضي الله تعالى عنه وعنكم ونفعنا بعلومه وعلومكم وعلوم سائر الصالحين في الدارين آمين-: 

 

"باب ما جاء فيمن بدأ بالخير ليستن به"

"عن جرير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من سنّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عَمِلَ بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عَمِلَ بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" ، وفي رواية: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها ما عَمِلَ بها في حياته وبعد مماته حتى تُترك، ومن سنّ سنة سيئة فعليه إثمها حتى تُترك". 

وكان ﷺ يقول: "من أحيا سنّة من سنّتي  قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عَمِلَ بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عَمِلَ بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً".

 وكان ﷺ يقول: "إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويلٌ لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير"، والله أعلم.

باب ما جاء في فضل العلم والعلماء والمتعلمين 

عن معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما يخشى الله من عباده العلماء"، وفي رواية: "إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين وألهمه رشده" وكان ﷺ يقول: "أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع"، وفي رواية: "فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع"، وفي رواية: "قليل العلم خير من كثير العبادة وكفى بالمرء فقهًا إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلاً إذا أُعجب برأيه".

وكان ﷺ يقول: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله عزّ وجل يتلون كتاب الله عزّ وجل ويتدارسونه بينهم إلا حفّتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه".

وكان ﷺ يقول: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب"، وكان ﷺ يقول : "العلماء ورثة الأنبياء إذ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر"."

الحمد لله مُكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته عبده وحبيبه وصفوته سيّدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل متابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة الرحمن تبارك وتعالى في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويذكر الإمام الشعراني -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذا الباب: الأحاديث التي تدعو إلى المبادأة بالخير والسبق فيه ليكون السابق أسوةً وقدوةً لِمَن يلحقه فيه، وأن يحرص المؤمن على أن تكون له آثار الخير، يسبق فيها فتكون في حياته سببًا لمضاعفة أجوره ورفعة درجاته، وبعد وفاته كذلك يُعمل بها؛ فيمتدّ له ثوابها وخيراتها من ثواب كل من عَمِلَ بها من بعده. وأن يكون على حذرٍ من أن يؤثَرَ عنه أو يسبق أو يسنّ شيئًا يُخالف الشرع المصون وهدي الأمين المأمون؛ فيكون له مثل آثام من تَبِعَه في ذلك، ومن اقتدى به في ذلك في حياته، وما كان بعد وفاته كذلك يصل إليه آثامهم لأنه الذي سنّ لهم ذلك، وقد قال لنا زين الوجود ﷺ: "….ما من نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ منها؛ لأنه أول من سنّ القتل.."، وفي قوله: أول من سنّ القتل؛ التعبير عن السنّة بالمعنى اللغوي، فعليه جاء هذا الحديث الذي سمعناه، فالسنّة كالبدعة لها معنىً في اللغة ولها معنى في الشرع؛ أما معناها الشرعي الخاص: فلا تكون السنّة إلا محمودة وإلا حَسَنة وإلا طيّبة وإلا مُقربة إلى الله وإلا كاسبة للفضل لصاحبها، والبدعة أيضا بالمعنى الخاص في الشرع ما تكون إلا مذمومة سيئة قبيحة موجبة للبعد لصاحبها؛ لكن بالمعنى اللغوي تكون السُّـنّة حَسَنة وسيئة، وتكون البدعة حَسَنة وسيئة، وبهذا المعنى يأتي الحديث: "..أوّل من سنّ القتل" فالقتل سُـنّة! سُـنّة من سنّها؟! سنّها قابيل بن آدم، لكن سُـنّة خبيثة هذه! ليست معنى سُنّة أنها طريقة أنبياء ولا طريقة صالحين ذلك المعنى الشرعي في السُّنة؛ أما المعنى اللغوي في السُّنة: فكل من اُقتدِيَ به في عملٍ أو بادر إلى عملٍ تُوبع فيه فهو سُنّة سنّها، سواءً كانت حَسَنة أو سيئة، لها مثال سابق أو لم يكن لها مثال سابق لا فرق في هذا.

كذلك في البدعة؛ تأتي بمعناها اللغوي: إحداث شيءٍ لم يسبق له نظيرٌ أو مثيل، ابتداعه، فذلك يكون في الخيرات وفي الطيّبات وفيما وافق الشرع المصون، ويكون فيما خالفَ الشرع ومنهاجه؛ فيكون حينئذٍ عند المخالفة البدعة في اصطلاح الشرع المصون.

وهذا الحديث الشريف أصله جاء في صحيح مسلمٍ برواياتٍ منها: أنه وفد على النبي ﷺ جماعة من ذوي الفقر والحاجة بادٍ عليهم في ثيابهم، وأثر الجوع بادٍ عليهم، ويقول سيدنا جرير: "كنّا عند النبي ﷺ في صدر النهار، فجاءه قومٌ حفاةٌ عراة مُجتابي النمار.." يعني: لابسيها ".. مُجتابي النمار أو العباء، متقلّدي السيوف، عامّتهم بل كلّهم من مُضر، فلما رأى ﷺ حالهم تمعّر وجهه ﷺ،.." أي: تغيّر "…لِمَا رأى ما بهم من الفاقة والحاجة، فدخل، فأمر بلال فأذّن فأقام، فصلى ﷺ  ثم خطب في الناس وقال: {ا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا..} إلى قوله: {..إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] وقرأ: {..اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] وقال: "تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشقّ تمرة،  فبادر وسبق رجل من الأنصار وذهب جاء بصرّة كادت تعجز عنها كفّه من التمر، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس،" وهذا جاب كذا وهذا جاب كذا.. "حتى رأيتُ كَوْمَيْنِ.." ركمتين "كَوْمَيْنِ من طعامٍ وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلّل.." أي: يستنير فرحًا وسرورًا "كأنه مُذْهَبَةٌ" فضة مُذْهَبَةٌ، " فقال: "من سنّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عَمِلَ بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سُنّة سيئة.." فقال سُنّة سيئة، وما تكون السنة سيئة إلا بمعناها اللغوي، سنّة سيئة، أما السنة بالمعنى الشرعي: كلها قرب وخير وفضل، فبهذا المعنى تكون سيئة، قسّمها ﷺ، قسّم السُنّة إلى حَسَنة وسيئة، ومُقابلها البدعة كذلك.

 يُعرف من هذا الحديث أنه ما أراد بقوله: "كل محدثةٍ بِدعة" إلّا كل مُحدثٍ خالفَ الأصل وخالف الشرع وخَرَج عن الهدي الذي دعا إليه؛ لأن المعنى هناك هو المعنى الشرعي لا اللغوي في البدعة، فإنّ الحق تعالى في قرآنه عابَ على من ترك البدعة الحسنة، وعَتَبَ على ذلك ونهى فقال: {..وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ..} ما فرضناها عليهم على لسان النبي عيسى -على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- {..إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ..} هم رتّبوها على أنفسهم يبتغون رضواني {..إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا..} [الحديد:27] قصّروا فيها فعاتب عليهم الحق ونَدَب -إلى المداومة على البدعة الحسنة-، هذا الذي أحدثتموه لطلب رضاي، لماذا قصّرتم فيه؟! لماذا تأخرتم عليه؟! لماذا ما قمتم به؟! عابَ عليهم ذلك، فقال: {..فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا..} فعَتَبَ عليهم التقصير فيما ابتدعوه من الخير، يقول: ما قمتم به من خيرٍ فدُوموا عليه واثبتوا عليه؛ ما دام مندرجًا فيما دُعيتم إليه على لسان أنبيائي، وإن كنتم أحدثتموه من عند أنفسكم، {..وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ..} فبيّن أنه يُبتغى رضوان الله بالبناء على ما بُعث به الأنبياء وإحداث ما طابَقَ ما دعوا إليه، فيُبتغى بذلك رضوانه سبحانه وتعالى، ولا شكّ ذلك كله مقيّدٌ بما اندرَجَ تحت دعوتهم ودلالتهم وهديهِم. 

يقول ﷺ في الرواية الأخرى: "من سنّ في الإسلام سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عَمِلَ بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عَمِلَ بها" من بعده "من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"  وجاء في عدة رواياتٍ. جاء عن سيدنا حذيفة في مسند الإمام أحمد بن حنبل يقول: سأل رجل على عهد رسول الله ﷺ فأمسك القوم، ثمّ إنّ رجلًا أعطاه فأعطى القوم، فقال ﷺ:  "مَن سنّ خيرًا فاستُنّ به كان له أجره ومِن أجور من تَبِعه غير منتقَصٍ" أو "مُنتقِصٍ"، "ومَن سنّ شرًّا.." من سنّ شرًّا هذه البدعة الضلالة التي قال: "إن كلّ محدثةٍ بدعة"، "..من سنّ شرًّا.."  فإنما يُعرف كلام رسول الله بكلام رسول الله، ويُفَسّر كلام الرسول الله بكلام رسول الله، "..من سنّ شرًّا.." هذه البدعة الضلالة، فاستُنّ به من بعده.." أو "فاستُنّ به؛ كان عليه وزره ومن أوزار مَن تبعه غير منتقصٍ من أوزارهم شيئا".

وذكر "رواية: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها ما عَمِلَ بها في حياته وبعد مماته حتى تُترك، ومن سنّ سنة سيئة فعليه إثمها حتى تُترك"."  ذكر أنه عند " الطبراني في الكبير ورجاله موثّقون". ".. حتى تُترك" يعني: ما دام عُمِلَ بتلك السُنّة بسبب إقامته لها أو حرصه عليها أو دعوته إليها؛ فأجرها يمشي عليه ما دام يُعمل بها ولو من بعد قرون. وهكذا، فيُسارع المؤمن؛ لأن تكون له آثار الخير، والحق يقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ..} [يس:12] ما يبقى بعدهم من أثر يُكتب لهم إن خيًرا وإن شرّا.

وذكر الرواية الثالثة: وكان ﷺ يقول: "من أحيا سنّة من سنّتي  قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عَمِلَ بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء..". كما جاء في الرواية الأخرى: "فكأنما أحياني ومن أحياني كان معي في الجنة". من أحيا سُنّة قد أميتت؛ تُرك العمل بها وهُجرت حتى نُسيت وغاب القيام بها بين الناس فأحياها. وعند انتشار الفساد في الأمة يعظم الثواب، "مَن أحيا سنّتي عند فساد أمّتي فله أجر شهيد" في رواية: "سبعين شهيد" وفي رواية: "مائة شهيد" على اختلاف درجاتهم بحسب اختلاف أحوالهم. "من أحيا سنّتي عند فساد أمتي.." أي: عند انتشار وظهور الفساد بينهم. 

"..ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله.." هذا هو تفسيره للبدعة ﷺ، ما الذي أراده بقوله: "كل محدَثة بدعة؟ هذا الذي قاله بنفسه "..ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله.."، أمّا واحد ذكر الله تعالى أو دعاه بدعاء أو تصدّق بصدقة ويجيء يقول: بدعة بدعة بدعة! هذا الذي لا يرضاه الله ورسوله؟! الذي ما يرضاه الله ورسوله ما خالف شريعته، ما خالف منهاجه، منه تطاولك على الفتوى! هذا ما لا يرضاه الله ورسوله، ادّعائك هذا حلال وهذا حرام، هذا هو، هذا بدعة لا يرضاه الله ورسوله.

أمّا ذكر الله أو دعاؤه أو الصلاة على نبيّه.. كيف ما يرضاه الله ورسوله وهو أمر بها؟ وهو الذي فسّر هذا ﷺ: "ومن ابتدع بدعةً ضلالةً لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عَمِلَ بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً".

 وذكر قوله ﷺ : "إن هذا الخير خزائن"، وكما بيّن ذلك في الرواية عند مسلم: "مَن عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا"، ليس عليه أمرنا أي: ما اندَرَجَ فيما قامَ الدين عليه. والخيرُ كل ما أحبّه الله ورسوله، كل ما دعا إليه الله ورسوله، وكل ما رضيَ به الله ورسوله؛ هذا هو الخير. والشرّ كل ما كَرِه الله ورسوله، كل ما نهى الله عنه ورسوله، وكل ما يُسخط الله ورسوله؛ هذا هو الشر. فالخير كل ما يحبّه الله ورسوله من أنواع الطاعات والقربات، ولذلك قال في مثل الصلاة: "الصلاة خير موضوع، فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقلِل". وجاء عن  سيدنا عثمان أنه يصلي في الليلة مائة ركعة، ما أُثِر لا عن النبي ولا عن أبي بكر ولا عن عمر، وأن عثمان يصلي مائة ركعة، ما له عثمان يصلّح من عنده؟! ولا من عند…؟! شرعها الله ورسوله على لسان رسوله شرعها له، قال: "..فمن شاء فليستكثر، ومن شاء فليستقلِل".

 وهكذا قال: " إن هذا الخير.." وهو ما يرضاه الحق تعالى ويحبّه من الصفات ومن الأقوال ومن الأفعال ومن الأعمال ومن المعاملات ومن الأزياء؛ كل ما يحبه الله ورسوله "..خزائن" يفتح الله لمن يشاء، ويعطيها من يشاء. "إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح،.."  فيُجريها الله على يد من يشاء ويفتحها على يده، "..فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر،.." مفتاحًا للخير؛ لأنوَاع الصلوات والصدقات والتلاوات والأذكار والإحسان والإصلاح بين الناس والذكر للرّحمن جلّ جلاله، والصلاة على النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والتواضع والخشوع، "..فطوبى لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للخير.." لهذه الخيرات التي يحبّها الله رسوله، يتّصِف بها، يدعو غيره إليها، يؤثر على غيره، فيصير مفتاحًا للخير، فكان مفتاحًا للخير.

"..مغلاقًا للشر،.." يُحذّر ويزجر ويبتعد عن كل ما لا يرضاه الله في النظرات، في المسموعات، في الأقوال، في الأفعال، في المعاملات، في الأزياء؛ ما لا يحبّه رسوله يبتعد عنه، ويُحذّر منه فيُغلقه، ولا يساعد أحد عليه، بل يُحذّره منه؛ هذا مغلاق للشرّ. 

والثاني والعياذ بالله الذي له الويل: "وويلٌ لعبدٍ جعله الله مفتاحًا للشر.." يُعلّم الناس الغيبة، يُعلّم الناس النميمة، يُعلّم الناس الحسد، يعلّم الناس الكِبر، يعلّم الناس سوء الظن،  يعلّم الناس البخل، يعلم الناس القطيعة، لا حول ولا قوة إلا بالله! يُعلّم الناس البُعد عن مجالس الخير، يعلّم الناس إضاعة الأوقات في الترّهات، أي مصيبة عليه هذا؟! "..مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير"،  واحد مرتب نفسه يحضر مجالس الخير ويقوم في الليل، يقول له: ماذا تريد من هذا؟ تعال معي! ويشغله بشيء ثاني؛ يغلّق الخير يفتح الشر، نعوذ بالله من غضب الله! أناس بارّين بآبائهم قائمين بحقهم؛. يُجَرِئهُم على العقوق وعلى المخالفة، هذا مفتاح للشر مغلاق للخير والعياذ بالله تبارك وتعالى، ويلٌ له! جاء في رواية: "..وويلٌ ثم ويل لِمَن قال لِمَ وكيف" يعني: اعترض على الله. يُسيّر من شاء فيمن شاء، وكن أديب مع الرب، تقول لِمَ وكيف؟ "..ويلٌ ثم ويلٌ لِمَن قال…" لا لِمَ ولا كيف، إنّه فعال لما يريد، وما شاء كان وما لم يشاء لم يكُن، واسأله أن يجعلك مفتاح للخير مغلاق للشر،ّ وتأدب معه واصدق معه، والأمر له من قبل ومن بعد، ولا اعتراض على الله، يهدي من يشاء ويُضلّ من يشاء، كما يُحيي ويُميت؛ يُقرّب ويُبعد، يُشقي ويسعِد، يرفع ويخفض، يهدي ويُضِل، يُصِحّ ويُمر،. والأمر له، شي لك اعتراض؟ شي لك في المملكة؟ خلقت شيء أنت؟ أوجدت بيدك شيء؟ إليك مرجع شيء؟ خلاص اسكت! اسكت وامشِ خاضع، خاشع، متأدّب لهذا الرب جلّ جلاله.

وكُن راضي بما قدّر المولى ودبّــر *** ولا تسخط قضا الله رب العرش الأكبر

وكن صابر وشاكر*** تكن فائز وظافِر *** ومن أهل السرائر

رجال الله من كل ذي قلب منـــــوّر *** مصفّى من جميع الدَنَس طيّب مطهّر

 

"إن هذا الخير خزائن، وللخزائِن مفاتيح.." وفي هذا اللفظ عندكم: "إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح،.." اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر.

ثم ذكر ما هو مشهورٌ ومعلومٌ: "فضل العلم والعلماء والمتعلمين"، فضل العلم والتعلّم والتعليم، وذكر حديث: "من يُرِد الله به خيراً يفقهه في الدين.." وهو هكذا في الصحيحين وغيرهما. "..وإنما يخشى الله من عباده العلماء" آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، "إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه في الدين وألهمه رشده" عند الطبراني وغيره، بزيادة: "وألهَمه رشده" يعني: لمّا علمه الدين؛ ألهمه أن يفعل ما هو محبوب وما هو مُرضي للرب جل جلاله، وأن ينأى بنفسه عمّا لا يحبّه الله في الصفات والأقوال والأفعال؛ هذا ملهَم الرشد. وأمّا فقه من دون رشد فهو حجّة على صاحبه؛ ما ينفعه، بل يكون حجّة عليه والعياذ بالله تعالى. 

"أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع" أفضل العبادة الفقه في دين الله، وهي: الوعي والفَهم والإدراك لدلالات كلام الله وكلام رسوله ﷺ؛ فهذا هو الفقه في الدين. أمّا تخصيصه بما يتعلّق بالأحكام الظاهرة والمعاملات فهذا مجرد اصطلاح، ليس مرادًا في شيءٍ من الأحاديث؛ إنّما المراد عموم الفقه وهو: الفهم عن الله فيما أوحاه إلى رسوله ﷺ في الاعتقادات وفي الأحكام وفي الأعمال وفي الصفات وفيما أُمِرَ الإيمان به، إلى غير ذلك، فَقهَ: الفقه الفهم عن الحق وعن رسوله ﷺ. ولمّا وعى الصحابي معاني سورة الزلزلة قال ﷺ: "فَـقُـهَ الرجل"!!، وهل يوجد في سورة الزلزلة أركان وشروط للمسائل والمعاملات؟! بل وَعَى خطاب الرحمن، ودلالة الرسالة التي بُعث بها سيد الأكوان، وخطر المصير إلى الحقّ ووجوب الاستعداد له. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]  قال: حسبي! يكفينا هذا.. أخبروه ﷺ قال: "فَـقُـهَ الرجل". اللهم فقّهنا في الدين.

وهذا الفقه للأحكام بابٌ من أبواب الفقه في دين الله تبارك وتعالى، "يقول: " أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع" " وهو التحرّز من الشبهات والبُعد عنها، وهو الذي عبّروا عنه بقولهم: كّنا ندعُ تسعة أعشار الحلال خشية الوقوع في الحرام. والمُشار إليه بقوله ﷺ: " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهنّ كثيرٌ من الناس، فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". 

"فضل العلم خير من فضل العبادة وخير دينكم الورع"، في رواية: " قليل العلم خيرٌ من كثير العبادة.." أي: بلا علم، "قليل العلم.." مع العبادة "..خيرٌ من كثير العبادة.." بلا علم؛ هذا معناه، أو مع نقصان العلم. "..وكفى بالمرء فقهاً إذا عَبَد الله،.." آثر العبادة وقام بها على وجهها؛ فكفى به فقهًا هذا الفقيه، "..وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه" وفي قوله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ..} [الزمر:9] إشارة إلى العلم والحال وأنّ ذلك هو علامة العلم وعنوانه، {..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ..} يعني: الذين يعلمون؛ هذا الذي هو قانت آناء الليل ساجد وقائم يحذر الآخرة هذا العالم، {..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ..} على هذا الوصف {..وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ..}؟ ما لهم قنوت ولا حذر من الآخرة! فهؤلاء هم العلماء {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ..} مَن قاموا بحقّ هذا {..وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ..} ما يستوون. "..وكفى بالمرء فقهاً إذا عَبَد الله، وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه"؛ لأنه نصب عقله صنم يعبده من دون الله، هذا هو المعجب برأيه نصب عقله صنم يسجد له. الأكياس أعقل الناس ويتهمون آرائهم، ويحبّون أن يستنيروا برأي الآخرين، وقال الله لأعقل الناس على الإطلاق وأعرَفهم بالله، وأكبرهم منزلة لديه: {..وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ..} [آل عمران:159] حتى قال بعض الصحابة: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله. ولو كان أحد يغتني بعقله عن المشاورة لكان سيّد الوجود، وما تساوي عقول الناس عند عقله ﷺ. يقول: "..كفى بالمرء فقهاً إذا عَبَد الله، وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه". مشيرًا إلى دقيق شأن المعاصي والذنوب: وهو العُجُب؛ لأن دقائق العُجُب أخفى من دقائق الرياء، والرياء أخفى من دبيب النمل، وما عدا ذلك من المعاصي والذنوب أوضح، واضحة ومدركة؛ سهلة، لكن هذا ما يُنتهى إليه؛ آخر ما يكون من دقيق الذنوب: العُجُب؛ أخفى من دقائق الرياء، والرياء أخفى من دبيب النمل، فاللهمّ خلّصنا وطهّرنا.

"يقول: "من سلك طريقاً يلتمس" يطلب "فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة،.." "  رتّب على نفسه كل يوم الفجر يحضر الجماعة ويحضر مجلس علم، "..سلك طريقاً يلتمس فيه علماً.."  سافر من بلد إلى بلد يطلب العلم، رتب لنفسه الساعة الفلانية إلى الساعة الفلانية… وقت وقتين ثلاثة أوقات في اليوم، يتفرّغ فيها لتلقّي العلم من كلام الله وكلام رسوله وما استُنبِط من ذلك على أيدي الراسخين في العلم؛ هذا سلك طريقا يلتمس فيه علم. النتيجة والعاقبة: "..سهل الله له طريقاً إلى الجنة،.." كيف سهّل الله له طريق الجنة؟ فين طريق الجنة؟ في فتحة تأتي عنده في الدار؟ لا مكان ولا شيء؟ من أين يأتي ..؟ "..سهل الله له طريقاً إلى الجنة،.." أي: أمدّه بالتوفيق في الدنيا لأعمَال أهل الجنة وصفاتهم، فإذا جاء وقت المحشر حشره في نور، وإذا جاء وقت المرور على الصراط ثبّت قدمه حتى يدخل الجنة؛ هذا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة؛ في الدنيا بالتوفيق لأعمال أهل الجنة وصفاتهم، وعند الحشر بالنور وقت الظلمة، الناس يُحشرون في ظلمة إلا من له نور، {..يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ..} [التحريم:8] {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ..} [الحديد:13]. الثالثة: عند المرور على الصراط؛ يثبّت قدميه ويمشي إلى الجنة "..سهل الله له طريقاً إلى الجنة،.."

"..وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله عزّ وجل يتلون كتاب الله عزّ وجل ويتدارسونه بينهم إلا حفّتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده،.." الله أكبر! "..ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" فلينتبه من عمله وإقامته على وجهه؛ فإنه الذي سيحكم عليه {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ..} [النساء:123].

"يقول: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع،.." ". يقول ﷺ للمنتمين إليه:  "..لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم..". أي: اعملوا. "..وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع،.." أي: تكفُ عن الطيران وتضع أجنحتها إذا مشى طالب العلم احترامًا له، تضعُ أجنحتها، ما تطير ولا تستمر في المشي إذا رأت طالب العلم وقفت حتى يمر طالب العلم؛ احترامًا وتوقيرًا. "..رضًا بما يصنع،.."وهو سعيه في طلب العلم؛ لأن به حياة الدين على ظهر الأرض. "وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب." فمنزلة العلماء المخلصين الصادقين عند الله كبيرة، يشتغل بالاستغفار والدعوة لهم الملائكة وحيوانات البر وحيوانات البحر، كلها تستغفر لهم ويدعون لهم؛ لأن بهم قوام الدين. هذا لكل من كان في علمه مخلصًا صادقًا قائمًا بحقّ الله جل جلاله. "حتى الحيتان في الماء" ، وفي الرواية الأخرى: "حتى النملة في جحرها". "وفضل العالم على العابد.." أي: الذي اتسع في علمه مع أخذه نصيبه من العبادة على العابد الذي اقتصر على ما يصحح به عبادته فقط "..كفضل القمر على سائر الكواكب". وإذا طلع القمر فالكواكب ما يبقى لها ظهور عند القمر، وينتفع الناس بضوء القمر أكثر، فكذلك العالم ينتفع به الناس.

"وكان ﷺ يقول : "العلماء ورثة الأنبياء.." " أي: حملوا عنهم من بعدهم ما يبيّنون به شرع الرحمن جلّ جلاله ومنهاجه لعباده،  "..إذ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر"، وفّر الله حظنا وإيّاكم من العلم النافع: وهو الحكمة، {..وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا..} [البقرة:269] والحكمة: العلم النافع؛ العلم النافع ما قرّبك إلى الخالق، ما بصّرك بعيوب نفسك لتتنزّه منها، ما عرّفك عظمة الآخرة وحقارة الدنيا؛ هذا العلم النافع؛ ما زاد إيمانك وخشيتك من الله؛ هذا العلم النافع وهو الحكمة و"رأس الحكمة مخافة الله". {..إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..} [الزمر:28] .

اللهم زدنا علمًا، وتولّنا بما تولّيت به محبوبيك ممّن آتيتهم فهمًا وحلمًا. وكن لنا بما أنت أهله جودًا وكرمًا، واعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وانظمنا في سلك محبوبيك والمقرّبين إليك في عافية بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. الفاتحة.

تاريخ النشر الهجري

19 شوّال 1444

تاريخ النشر الميلادي

09 مايو 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام