كشف الغمة 318- كتاب الزكاة (26) النهي أن يسأل العبد ربه أن يبسط عليه الدنيا
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة 318- كتاب الزكاة (26) فصل في النهي أن يسأل العبد ربه أن يبسط عليه الدنيا
صباح الأحد 5 ذو الحجة 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- أدب سؤال الله مقرونا بالعافية والبركة والصلاح
- حديث ثعلبة يُروى للاعتبار
- واقع الناس عند حصول النعم
- كيف يسأل الإنسان خيرات الدنيا؟
- بيان عدم صحة قصة ثعلبة
- إغلاق الله باب الدنيا لبعضهم
- تذكر النعم وعدم التعرض لزوالها بالنكران
- قصة ثلاثة اختبرهم بالله بالدنيا
نص الدرس مكتوب:
فصل في النهي أن يسأل العبد ربه عز وجل أن يبسط عليه الدنيا
"قال أنس -رضي الله عنه-: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يكثر مالي، فأعرض عنه النبي ﷺ ثم جاءه الثانية فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يكثر مالي، فقال له النبي ﷺ: "ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم جاءه الثالثة فقال له: يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ؟ فقال ثعلبة: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله ﷺ: اللهم ارزق ثعلبة مالاً فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل وادياً من أوديتها حتى صار يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ثم كثرت غنمه حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، فسأل عنه رسول الله ﷺ فأخبروه بخبره فقال: يا ويح ثعلبة فأنزل الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) [التوبة: 103]، فبعث رسول الله ﷺ كتابه إلى القبائل لأخذ الصدقات وبيانها وقال لمن معه الكتاب وهما رجلان أحدهما من بني سليم: إذا مررتما بثعلبة فاسألاه الصدقة واقرآ عليه كتابي، فلما مرّا عليه وأخبراه هز رأسه وقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا انطلقا لبني سليم ثم عودا إلي، فذهبا إلى بني سليم فرحبوا بهما وقالوا: مرحباً برسل رسول الله ﷺ ثم نظروا إلى خيار إبلهم فعزلوها لهما فقالا: إن رسول الله ﷺ لم يأمرنا بخيارها فقالوا: إن أنفسنا بها طيبة فساقوها فلما رجعوا بكتاب رسول الله ﷺ ومروا على ثعلبة قال: أروني الكتاب حتى أنظر فيه ثانياً فنظر فيه وأمعن النظر وقال ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي ﷺ فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة قبل أن يكلماه ودعا لبني سليم بالبركة فأنزل الله تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ) حتى بلغ (وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة : 75-77]، وعند رسول الله ﷺ رجل من أصدقاء ثعلبة فخرج إلى ثعلبة فأخبره وقال: ويحك قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة من الوادي يحثو التراب على رأسه حتى أتى النبي ﷺ فسأله أن يقبل منه صدقته فقال له رسول الله ﷺ: إن الله منعني أن أقبل صدقتك فجعل يبكي فقال رسول الله ﷺ: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فرجع ثعلبة وقبض رسول الله ﷺ ولم يقبض منه شيئاً فلما استخلف أبو بكر أتاه فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله ﷺ وموضعي من الأنصار فقال له أبو بكر: شيء لم يقبله رسول الله ﷺ لا أقبله، ثم جاء عمر أيام خلافته فلم يقبله ثم جاء عثمان أيام خلافته فلم يقبله فمات في خلافة عثمان"، وكان ﷺ يقول: "إذا أحب الله عبداً أغلق عنه أمور الدنيا وفتح له أمور الآخرة"، والله سبحانه وتعالى أعلم".
فصل في الحث على تذكر النعم والاعتراف بها وعدم التعرض لزوالها بالكفران
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: كان رسول الله ﷺ يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله -عز وجل- أن يبتليهم فبعث إليهم ملك في صورة آدمي، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس لأجله فمسحه فذهب عنه قذره فقال له: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل فأعطي ناقة عشراء وقال له: بارك الله لك فيها، ثم أتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن فدعا له فذهب ما به فقال له: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطي بقرة حاملاً وقال: بارك الله لك فيها، ثم أتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله تعالى على بصري فأُبْصِر الناس فمسحه فرد الله تعالى عليه بصره فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم فأعطي شاة والداً فقال: بارك الله لك فيها فأنتج هذا وولد هذان فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم؛ ثم إن الملك أتى الأبرص في صورته وهيئته الأولى فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحيل في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال أن تعطيني بعيراً أتبلغ به في سفري فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، ثم أتى الأقرع فقال له مثل ما قال للأبرص ورد عليه الأقرع مثل ما رد عليه، ثم إنه أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحيل في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله عليّ بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله ثم لك فقال له: الملك أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك"، والله أعلم."
اللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ الذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله مكرمنا بالهدى وبيانه على لسان عبده المقتدى، سيدنا محمّد صلى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وصحبه السعداء، ومن والاهم واتبعهم وبهم اقتدى، وعلى ساداتنا الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- في هذين الفصلين أدب المؤمن مع ربه -جلّ جلاله وتعالى في علاه- أن لا يسأل شيئا مما تحبّه النفس وتهواه من مال وغيره إلا مقرونًا بالعافية والتوفيق والبركة والصلاح، وإن عَلِم الله له في ذلك خير، فإن الإنسان لا يدري ما هو الخير له، من فقر أو غنى، أو مرض أو صحة، أو إقامة أو سفر، أو غير ذلك من الأحوال التي تَعرض للناس في هذه الدنيا.
ثم إنه أورد في الفصل الأول هذا الحديث -الذي يذكره كثيرا للاعتبار والإدّكار- وهو حديث ثعلبة، وهذا الحديث لم يصح عند أهل الحديث من حيث السند، يذكرونه للاعتبار والإدّكار، ومن المعلوم أن الآية التي أوردها نزلت في أقوام من المنافقين، يقول قائلهم: (لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) [التوبة:75-76] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وهذا واقع في كثير من الناس، في أمام أنواع النعم عند فقدها، يقولون: لو كان عندي صحة، لو كان عندي مال، لو… لفعلت ولفعلت ولفعلت، فإذا جاء له ما كان يتمنّى لم يفعل شيء مما ذكر، وازداد بخلًا وازداد إعراضًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وادعى كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ) [القصص:78] فخسف الله به.
إذًا تقدّم معنا أيضًا فيما صحّ من الأحاديث أن الله له من مظاهر لطفه أن بعض عباده لا يصلح له إلا الفقر ولو أغناه لكفر، وبعضهم لا يصلح له إلا الغنى ولو أفقره لكفر، وبعضهم لا يصلح له إلا المرض ولو صحّحه لكفر، وبعضهم لا يصلح له إلا الصحة ولو أمرضه لكفر، وهو أعلم بمصالح عباده -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
فعلى المؤمن أن يكون حسن التفويض في أموره إلى الله تعالى، وإذا سأل شيئا مما يحبّه، أو يرى أنه لو في خير، يربطه "إن علمت لي في ذلك الخير"، كما قال ﷺ: "لا يتمنّين أحدكم موتًا لضرٍّ نزل به، إن كان محسنًا فلعلّه يزداد، أو كان مسيئا فلعلّه أن يتوب، ولئن كان لابد أحدكم فاعلًا فليقل: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"، ولا يجزم بالأمر، فإن كثير من الأشياء تميل إليها النفس ويتمناها الإنسان، فإذا جاءته كانت سبب لعطبه، أو لتعبه، أو لبعده، أو لطرده، أو لهلاكه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- الحسي أو المعنوي الأبدي، -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فليجعل الأمور مفوضة إلى الله، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44] -جلّ جلاله- وهكذا.
وكان من عظيم خصال المؤمن أن لا يحبّ تقديم ما أخّر الله، ولا تأخير ما قدّم الله، ولا إبطان ما أظهر الله، ولا إظهار ما أبطن الله، بل يرضى بقضاء الله كيف قضى -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
وقصة ثعلبة هذه التي أوردها للاعتبار والإدّكار لم تصح عند عامة المحدثين، وهناك رجل بهذا الإسم من البدريين، ليس بصاحب هذا، قد قُتل في أحد -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، هذا البدريّ المجمع على جلالته -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- كان قد قتل شهيدا في أحد، وكان قد حضر غزوة بدر، وهذا يُنسب إلى واحدة من هؤلاء، أولها ثعلبة بن حاطب بن عمر بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك، هذا من بني عوف بن عمر، أوسي أنصاري، كان شهد بدرًا، واستشهد في أحد -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- من خيار الصحابة.
والثاني ثعلبة بن حاطب بن حاتم الأنصاري، ذكر ابن إسحاق في السيرة، أنه ممّن بنى مسجد الضرار، وينسب إليه القصة، ولا يتأتى نسبتها إلى الأول من قريبٍ ولا من بعيد، وأيضًا لم تصح من حيث سندها إلى هذا الآخر، وهو مهما كان من المنافقين، فقد ذمّهم الله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ) [التوبة:107].
ولذا يقول بعض المحدّثين عن هذا الحديث أنه باطل بلا شك، لأن الله أمر رسوله بقبض الزكوات من أموال المسلمين، (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) [التوبة:107]، وما رد على أحد صدقته جاء بها، وما إلى ذلك.
وكان يحب توبة المنافقين إذا تابوا، ولمّا جاءه بعضهم، وشكى إلى النبي ﷺ، وقال له: يا رسول الله الإيمان والإسلام ها هنا وأشار إلى فمه، وقال: والكفر والنفاق هنا وأشار إلى صدره، وإني كنت كذا وأجلس مع قوم وكنا نكيد لك ونؤذيك، وأنا تبت إلى الله، فاستغفر له ﷺ، قال له: ألا أخبرك بمن كان معي؟! قال له: لا، أخبرك اللي كانوا معي كنا نتآمر عليكم، قال: لا، بل من تاب منهم وجاء كما جئتنا، استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن لا، فالله أعلم بهم وهو حسبهم. ﷺ فهذه سنته المعروفة وطريقته المألوفة ﷺ، وهذا يناقض أنه جاءه بالمال ورده إليه، ثم رده أبو بكر، ثم رده عمر، ثم رده عثمان، وما إلى ذلك.
وذكر لنا أيضًا في هذا الباب والجانب، إذا أحبّ الله عبدًا أغلق عنه أمور الدنيا، أي: من كل ما يلهيه أو يطغيه، وقليل يكفي خير من كثير يلهي، وارد أيضًا في الحديث، وفتح له أمور الآخرة.
وقد جاءنا أيضًا في السنة، سنة النظر إلى من هو فوقنا في الدين ومن هو دوننا في الدنيا، حتى نكون شاكرين ذاكرين.
ثم ذكر الفصل الثاني في تذكّر نعم الله -تبارك وتعالى- والإعتراف بها، وحالة الناس أكثرهم هكذا مع المال، ومع الصحة، ومع الجاه، ومع التوسّع في الدنيا، أكثرهم حالهم كما في حال ذاك الأبرص والأقرع، وقليل من الناس في حال الأعمى الذي ذكره، فهؤلاء ثلاثة ذكرهم ﷺ، وصح الحديث إنه في بني إسرائيل ذكّرنا بهم لنعتبر، ولنكون على بصيرة، فقال: إن واحد كان فقير وأبرص وأعمى، وبعثه الله أراد يختبرهم الثلاثة، الثلاثة كلهم.. الثاني الأقرع فاقد شعر الرأس، والثالث الأعمى، فأرسل إلى الأول ملك، فجاء الملك إليه، وقال له: ماذا تحب؟ قال له: جلد حسن يذهب عني هذا الذي قذرني الناس من أجله، فمسح فعاد جلدًا أحسن، وذهب عنه البرص، أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل فتناول بيده من الهواء فإذا بناقة حامل، قال: خذها بارك الله فيها، ذهب؛ ولدت وتكاثرت وكبرت. فجاء إلى الثاني الأقرع، ويقول له: ماذا تحب؟ قال: أحب شعر حسن، هذا أصلع بين الناس وأقرع، الناس يشمتون بي، فمسح على رأسه ونبت الشعر، قال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فتناول بقرة حامل، قال: خذها بارك الله فيها، ذهب ونَمَت. جاء إلى الأعمى سلّم عليه، ماذا تحب؟ قال: أحب يردّ الله عليّ بصري حتى أُبصر الناس، مسح على عينيه، قال: فردّ الله عليه بصره، قال: ما شاء الله، أي المال أحب إليك؟ قال له: الغنم، فتناول له شاة حامل، قال: خذها بارك الله لك فيها، توالدت هذه حتى صار معه وادي من إبل، وجاء واشترى العبيد، واشترى الرعاة معه، والثاني معه وادي من البقر، واشترى له العبيد والرعاة، والثالث معه وادي من غنم، وثم أراد الله أن يختبرهم، أرسل الملك إليهم مع الواحد بعد الثاني، قال: اذهب إلى الأول فتصوّر له بصورة الأبرص، وجاء، أين صاحب هذه الإبل؟ حتى وصل إليه، قال: أنا فقير ومسكين والآن قطعت بي السبل وأنا سفر، ولا بلاغ بي إلا بالله ثم بك، فأريد منك واحدة من الإبل تعطيني بعير أسألك بالذي حسن جلدك ولونك، وأعطاك هذا المال تعطيني بعير، قال: ايش؟! معي حقوق كثيرة، وكل واحد يأتي يأخذ بعير، اذهب وكذا، قال له: اتق الله، أنا في حاجة وما يضرّك هذا واحد، وأنا أذكرك أنت كنت مثلي، قال: ايش تقول؟! اذهب، إني ورثت هذا المال كابر عن كابر، الغرور يفعل بالناس هكذا، نسي نعمة الله عليه، ونسي الحالة اللي كان فيها، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق:6-7]، وأكثرهم في الدنيا على هذا الحال، قال: إن كنت كاذبًا فردّك الله إلى ما كنت، فهلكت جميع الإبل وما معه في لحظة، ورجع أبرص كما كان.
وذهب الملك، جاء إلى الثاني وتصوّر بصورة شخص أقرع، وجاء أين صاحب البقر هذا؟ أين هو؟ فلما وصلوه إلى عنده، قال: أنا أقرع ومحتاج وفقير، وتقطعت بي السبل، وأريد واحدة من البقر هذا حقك أتبلغ بها في سفري، قال: ماذا تقول؟ بقر!! الحقوق كثيرة، كل واحد يأتي.. بقر! من جاء يأخذ بقرة! قال: اتق الله واحدة ما تضرّك، وأنا قد أعرفك كنت فقير مثلي، وكنت أقرع، قال: ماذا تقول!؟ أسكت أنا ورثت هذا المال كابر عن كابر، -لا حول ولا قوة إلا بالله-، قال: إن كنت كاذبا فردّك الله إلى ما كنت، هلك جميع ما معه في لحظة، ورجع أقرع كما كان.
فذهب إلى عند الثالث، أين صاحب الغنم هذا؟ وصلوه إلى عنده، قال: أنا أعمى -جاء بصورة أعمى- وقطعت بي السبل ولا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أريد منك شاة من هذا الشياه حقك تعطيني إياها، قال: اسمع كنت مثلك، كنت أعمى وكنت فقير، وأعطاني الله، فردّ عليّ بصري وأعطاني هذا، فاليوم لا أمنعكم شيء، خذ ما شئت تفضّل، خذ من الغنم ما تشاء، فتح الملك عينيه، قال: بارك الله لك في مالك وفي حالك، إنما أنا ملك أرسلني الله لأختبركم، فهلك صاحباك ونجوت أنت، وهذا بقي باقي عمره يشكر الله على النعمة، ويتصدّق، وينفق، فالنجاح والناجحون قليل في هذا، والهالكون كثير، والهالكون كثير، كل من استغنى بشيء سقط -والعياذ بالله تعالى- إلا من رحم الله.
فالله يرزقنا الإيمان والإنابة والخشية والإستقامة والتوفيق، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
05 ذو الحِجّة 1446