كشف الغمة- 309- كتاب الزكاة (17) فرع في تفرقة الزكاة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كشف الغمة - 309- كتاب الزكاة (17) فرع في تفرقة الزكاة
صباح الإثنين 21 ذو القعدة 1446هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة منها:
- أحكام إعطاء الحكام الزكاة لصرفها
- قصة الإمام الحداد مع السلطان
- متى يجب إعطاء الإمام الزكاة؟
- هل تجزئ الزكاة إن لم يعطها الحاكم لأهلها؟
- حكم الزكاة إذا أخذ الضرائب عليها
- حديث: ادفعوا صدقات أموالكم إلى من ولّاه الله
- وضع وسم لتفريق إبل الزكاة من غيرها
- النهي عن إرجاع الزكاة ولو بشراء
- المَن بالصدقة
نص الدرس مكتوب:
"فرع: وكان رسول الله ﷺ يقول لأرباب الزكاة: "من أدى زكاته إلى رسول الإمام فقد برئت ذمته منها إلى الله ورسوله وله أجرها وإثمها على من بدلها من أئمة الجور"، وكان ﷺ يقول: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها فقال رجل: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم"، وكان ﷺ يقول: "اسمعوا لأمرائكم ولو منعوكم حقكم، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"، وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: "يا رسول الله إن علينا أئمة جور يأخذون منا زائداً على حقهم ظلماً فهل نكتم من أموالنا بقدرِ ما يتعدون علينا؟ فقال ﷺ لا"، وفي رواية: "فقال: يا رسول الله ما يأخذه أئمة الجور منا ظلماً هل يقع بدلاً عن الصدقة؟ قال: لا".
كان عمر -رضي الله عنه- يولي الناس تفرقة زكاة أموالهم الباطنة، وجاء رجل مرة بمائتي درهم فقال له: يا أمير المؤمنين هذه زكاة مالي فخذها فقال: اذهب بها أنت فقسمها، وكان -رضي الله عنه- يكل أمر الأموال الظاهرة إلى الولاة أحب الناس ذلك أم كرهوه ويقول: ادفعوا صدقات أموالكم إلى من ولاه الله أمركم فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها، وكان يأمر الساعي بأن يعد الماشية حيث ترد الماء ولا يكلف أربابها حشرها إليه ويقول: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم"، وفي رواية: "في ديارهم"، وكان ﷺ يَسِمُ إبل الصدقة والجزية وغنمها إذا تنوعت عنده مخافة أن تختلط بغيرها، وكان ﷺ يَسِمُ الغنم في آذانها بنفسه ﷺ.
فرع: وكان ﷺ ينهى الرجل إذا أخرج زكاته أن يشتريها ثانيةً من الفقير. وقال عمر -رضي الله عنه-: "نهاني رسول الله ﷺ أن أشتري فرسًا كنت حملتُ عليها في سبيل الله، ثم وجدته يُباع، فقال لي: "لا تشترِه، ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه". وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: المراد أن يشتريها لنفسه مع الغنى عنها. أما إذا احتاج إليها فاشتراها لنفسه، أو ليجعلها صدقة مرة ثانية، فلا حرج. قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: وكانوا يُعطون الشيء للفقراء وهم ساكتون، ويكرهون للرجل أن يقول للفقير: خذ هذا مني لوجه الله، أو احتسب به الخير، ونحو ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتك، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن.
الحمد لله مكرمِنا بشريعته وبيانِها على لسان خير بريته، عبده وصفوته سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم، وعلى آله وأهل بيته وصحابته، وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، خيرة الرحمن تبارك وتعالى من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- ذِكْرَ ما يتعلق بإخراج الزكوات وأدائها إلى أربابها، ويُشير إلى ما يستلم منها الحُكام والأئِمة، السُّلطة بين المسلمين، وما يُسلَّم إليهم في ذلك مع اختلافهم ما بين أهل عدل وأهل جور.
قال: "وكان رسول الله ﷺ يقول لأرباب الزكاة: "من أدى زكاته إلى رسول الإمام فقد برئت ذمته منها إلى الله ورسوله وله أجرها وإثمها على من بدلها من أئمة الجور"، يشير إلى أنه تختل بعده أمور الحكام، ويصرفون الأشياء في غير مصرفها، ويحيفون ويجورون على رعاياهم.
وقال: إنهم يتحملون بذلك الإثم، وأن من أخذوا منه الزكاة باسم الزكاة فقد برئت ذمة المُسَلِّم، ومع ذلك كله فهو مهما استطاع أن يُخرج شيئًا من زكاته بنفسه إلى من يستحقها فذلك خير.
وللأئمة في هذا اجتهادات:
فللحاكم والإمام حق أخذ الزكاة من المال التي وجبت عليه، كما كان في عهد رسول الله ﷺ وأمرَ اللهُ له:
-
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ) [التوبة: 103]
-
وقال سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه-: لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، في تعظيمه لفريضة الزكاة.
فمن هنا إذا كان الإمام أو الحاكم؛ حاكم عدل ومعه من السُّعاة من يُحسن أخذ الزكوات وصرفِها في محلها، فيجب عليه حينئذٍ أن يبعث السُّعاة الذين يسعون -وهم العاملون عليها في تعبير القرآن الكريم-، أحد الأصناف الذين تُصرف إليهم الزكاة:
-
ويُصرف إليهم مقدار أجرتهم، أجرة المثل على حسب ما يتعبون في المسافات والأيام كم يقضونها في العمل، فيُعطون أجرتهم أجرة المثل، لا فرق في ذلك بين غنيهم وفقيرهم من السُّعاة، فإنما هي أجرة على العمل.
-
فما زاد على أجرتهم رُدَّ إلى الأصناف الأخرى.
-
وما نقص فعلى بيت المال أن يُسلِّمهم كمال أجرتهم، الحاكم يسلمهم من بيت المال كمال أجرتهم، وإذا كان سهمهم سهم العاملين عليها، نقص عن أجرة المثل وهكذا.
-
أما وجوب ذلك على الإمام الذي يثق من إيصالها إلى محلها، والحاكم الذي يعلَم أنها ستنصرف في الأماكن التي أراد الله تبارك وتعالى:
يقول في أحد قولي المالكية: أن ذلك واجبٌ عليه؛ لماذا؟ لأن من الناس الكثير ممن تكون عليهم الزكوات ولا يعرفون مقدارها ولا كيفية تصريفها لأهلها، فيساعدهم الحاكم بإبعاث من يبين لهم مقدار ما عليهم من الزكاة، ثم يصرفونها في أماكنها ومواضعها التي عين الله تبارك وتعالى.
ولكن قالوا: أما إذا كان الحاكم لا يجد من يُحسن أخذ الزكوات وصرفها لأهلها، وعلم أن الناس يُخرجون زكواتهم ولا يتقاعسون عن أدائها، فليس يلزمه ذلك.
بل لما أراد بعض السلاطين في حضرموت أيام الإمام الحداد أن يأخذ الزكوات من الناس، كاتبه الإمام الحداد وقال له: لست على سنة عدل وهدى تأخذها من محلها، فالذين تبعثهم ليسوا بفقهاء ولا يعرفون المقدار، وقد يجحفون على الناس ويأخذون، ثم لا تأمن صرفها في أماكنها، فلست في خلافة راشدة تقوم عليها، فلا تحمّل نفسك إثم فوق الآثام، فحرض الناس على أن يخرجوا زكواتهم ويصرفونها حيث أمرهم الله، فذلك خير لك وأبعد عن أن تتحمل مسؤولية فوق مسؤوليتك، فنصحه في ذلك وردَّه حتى يُسلِّم الناس زكواتهم إلى من يلزمه.
ومع ذلك فإن الحاكم للمسلمين مهما كان إذا علم عن قوم يتهاونون في الزكاة أو يؤخرونها؛ يجب عليه أن يبعث إليهم وأن يأمرهم بها، وما عدا ذلك مما اطمأن إلى أن الناس يخرجون زكاتهم، فلا عليه فوق ذلك شيء من المسؤولية وهكذا.
فمن دفع زكاته إلى الإمام إن كان الإمام عادلًا جاز وأجزأت عنه باتفاق الأئمة.
فإذا كان بإمكانه دفعها إلى الإمام وتفريقها بنفسه:
-
جاء عن الإمام مالك وأبي حنيفة أن هناك فرقًا بين الأموال الظاهرة مثل الزروع والمواشي والمعادن ونحوها، وبين الأموال الباطنة مثل ما عند الإنسان من ذهب وفضة، وكذلك بعض نصاب ما عليه من الزكاة في التجارة وما إلى ذلك، قالوا مالك وأبو حنيفة: -
-
الأموال الظاهرة يجب دفعها إلى الإمام.
-
وأما الباطنة يقول الحنفية: للإمام طلبها، وحقه ثابت في أخذ الزكاة.
وسيدنا عثمان فوَّض ما ليس ظاهرًا من الزكوات إلى أصحابها، وأمرهم أن يُسلِّموها بأنفسهم إلى المستحقين، وما أخذ إلا ما يتعلق بالأموال الظاهرة.
-
وهكذا يقول المالكية والشافعية:
-
إن زكاة الأموال الباطنة مفوضة لأربابها، لرب المال أن يوصلها إلى الفقراء والمستحقين بنفسه أو يسلمها إلى الحاكم الذي يأخذ الزكاة.
-
ولكن المعتمد من قولي الإمام الشافعي، وهو ما ذهب إليه الحنابلة أيضًا: أن الدفع إلى الإمام غير واجب، لا في الأموال الظاهرة ولا الباطنة على السواء، فيجوز للمالك صرفها إلى المستحقين مباشرة، ولكن إذا كان الإمام عادل، فصرفها إلى الإمام أفضل من تفريقها بنفسه، لأنه أعرف بالمستحقين ولأنه يستوعب المحتاجين،
-
والذي اختاره الحنابلة أن تفرقتها بنفسه أولى وأفضل وأبعد عن أن تنالها أيدي خيانة أو تُصرف في غير محلها.
أما إذا طلب الإمام العادل تسليم الزكاة:
-
وجب تسليم الزكاة إليه، وعليه المسؤولية بينه وبين الله،
-
ولم يبقَ إلا احتياط الورعين فيما بينهم وبين الله، إذا لم يثقوا بأن الحاكم يصرفها في مصرفها، أن يُخرجوا ويعطوه شيء من الزكاة، ويصرفوا من عندهم الزكاة إلى أربابها، وحيث تطمئن نفوسهم وصولها إلى أهلها، وتبرأ ذممهم، ويتبارك لهم مالهم وحالهم.
-
حتى المالكية: أيضًا صرحوا بأنه إذا طلبها الإمام العادل، فادعى المزكي أنه أخرجها بنفسه أنه لا يُصدَّق، وعلى الإمام يأخذ منه الزكاة.
أما أئمة الجور الذين يأخذون الزكاة قهرًا:
-
فمن جهة الإجزاء، إذا سلَّمها تجزئ.
-
ومن جهة الورع والإحتياط، ينبغي أن يُخرج الزكاة عن نفسه، أو ما تمكَّن من إخفائها عن الإمام الجور فيخفيها ويخرجها بنفسه وهكذا.
فإذا لم يدفعوها لأربابها، أيضًا اختلف الأئمة هل يجزئ هذا عن الدافع أو لا؟
كما سمعت في الحديث أنه لما سُئل: "يا رسول الله إن علينا أئمة جور يأخذون منا زائداً على حقهم ظلماً فهل نكتم من أموالنا بقدرِ ما يتعدون علينا؟ فقال ﷺ لا".
وكذلك ما قال: وكان ﷺ يقول: "إنها ستكون بعدي أثرة –يعني: استئثار بالأمور، ووضعها في غير محلها– وأمور تنكرونها فقال رجل: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم"، أرشد الأمة إلى أن يبتعدوا عن إثارة الفوضى والإشكالات؛ فإنها تؤدي لهم إلى أتعاب ومشاكل كبيرة، فيكون ضرها أكبر وأضعاف نفعها، أو لا يحصل منها نفع أصلًا.
"وكان ﷺ يقول: "اسمعوا لأمرائكم ولو منعوكم حقكم، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"، هذا فيما رواه الإمام مسلم -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
وفي رواية: "فقال: يا رسول الله ما يأخذه أئمة الجور منا ظلماً هل يقع بدلاً عن الصدقة؟ قال: لا"، هذا الذي يأخذونه جور عليكم، عليهم إثمهمْ ولكم أجركم ولكم ثوابكم، ولكن صدقتكم صدقتكم، وزكاتكم زكاتكم، فما يفرضونه عليكم مما يسمونه الضرائب والإتاوات وما إلى ذلك؛ بل وحكومات الجور والكفر ومن تبعهم من الجائرين من الإسلام؛ تقوم أكثر مصالحها على هذه الضرائب، ويفرضون الضرائب على الديار وعلى المنازل وعلى السيارات وعلى كل شيء، ضريبة! ضريبة! ضريبة! ويأخذون من الناس الضرائب على كل شيء، مَكْسًا وجورًا، ويقيمون كثيرًا من شؤون دولتهم على ذلك، فيجحفون في حق الناس ويُتعِبونهم، لأنهم بعدوا عن المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لخلقه في المصادر التي يُؤخذ منها مال الدولة والمصالح العامة، ويرجعون بأن تكون على الناس بفرض الضرائب عليهم وما إلى ذلك. ولكن هذا لا يُسقِط الزكاةَ عن صاحبها من تاجر وغيره؛ إذا وجبت عليه الزكاة تاجر أو مزارع إذا وجبت عليه الزكاة، لا يُعفيه منها بما يأخذه أئمة الجور، وما تأخذه الدول من الضرائب وتفرضه عليهم. هذا غصب ونهب أُخِذَ عليهم، فلهم فيه أجر بينهم وبين الله تعالى، وعلى آخِذِه الإثم. ولكن الزكاة لا تسقط بأنهم أخذوا منه، ويأخذون ما يأخذون، حتى لو أخذوا ماله كله؛ فما بينك وبين الله يجب أن تُخرج الزكاة على ما فرض الله عليك.
يقول: "كان عمر -رضي الله عنه- يولي الناس تفرقة زكاة أموالهم الباطنة، وهذا قبل سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، وجاء رجل مرة بمائتي درهم فقال له: يا أمير المؤمنين هذه زكاة مالي فخذها فقال: اذهب بها أنت فقسمها، وكان -رضي الله عنه- يكل أمر الأموال الظاهرة إلى الولاة أحب الناس ذلك أم كرهوه ويقول: ادفعوا صدقات أموالكم إلى من ولاه الله أمركم" حتى قال الحنابلة: إنه إذا أخذها بالقوة الزكاة ولو كان حاكم جور، فالإثم عليه، وتسقط الزكاة عن هذا، إلا أن يتورع فيخرج من عنده زكاة أخرى؛ "فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها".
وكان يأمر الساعي بأن يعد الماشية حيث ترد الماء ولا يكلف أربابها حشرها إليه ويقول: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم"، وفي رواية: "في ديارهم"، وكان ﷺ يَسِمُ إبل الصدقة والجزية وغنمها إذا تنوعت عنده مخافة أن تختلط بغيرها، وكان ﷺ يَسِمُ الغنم في آذانها بنفسه ﷺ.
وكان ﷺ يأمر الساعي بأن يعد الماشية حيث ترد الماء ولا يكلف أربابها حشرها إليه ولا يتعبهم بأن يقول: جمعوها لي. ولكن حيث تجتمع للشرب، يعدها عليهم عندهم. ويقول: "تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم"، فإن عادتهم أن تجتمع مواشيهم على مياه معينة تشرب منها "وفي رواية: "في ديارهم"، وكان ﷺ يَسِمُ إبل الصدقة والجزية وغنمها إذا تنوعت عنده مخافة أن تختلط بغيرها" يعني: يجعل عليها وسمًا وعلامة تفرق به بين إبل الصدقة والجزية والغنم كذلك. "وكان ﷺ يَسِمُ الغنم في آذانها" يجعل لها وسمًا وعلامة في الأذن، وكذلك يجعل وسمًا للإبل تتميز به، فيُعرف ما هي إبل الصدقة -الزكاة- من غيرها، حتى لا يختلط الأمر ويضع كل شيء في موضعه ﷺ.
يقول: "وكان ﷺ ينهى الرجل إذا أخرج زكاته أن يشتريها ثانيةً من الفقير. وقال عمر -رضي الله عنه-: "نهاني رسول الله ﷺ أن أشتري فرسًا كنت حملتُ عليها في سبيل الله، ثم وجدته يُباع، فقال لي: "لا تشترِه، ولا تَعُدْ في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه" وتعليمٌ أن ما أخرجه الإنسان لوجه الله لا يُعلِّق نفسه به؛ ولا يلتفت إليه؛ ولا يعمل وسيلة لإرجاعه ولو بشراء ولو بغير ذلك؛ ما أخرجته لله فلله، فلا تُتبِعْه نفسَك.
قالوا: كان سادتنا المهاجرون عليهم رضوان الله، الذين هاجروا من مكة، كانوا إذا دخلوا إلى مكة في حج أو عمرة أو زيارة، فإذا مر أحدهم بجوار الدار التي كان قد تركها لله -تبارك وتعالى- لا يلتفت إليها، كانوا يُلوون رؤوسهم عن ديارهم ويمشون فلا يلتفتون إليها، لأنه لله تركها، فطابت أنفسهم بذلك، فلا يلتفتون إليها أصلًا، قد خرج لله -جل جلاله- "والعائد في صدقته كالعائد في قيئه"، مثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: المراد أن يشتريها لنفسه مع الغنى عنها. أما إذا احتاج إليها فاشتراها لنفسه، -فمن جهة الجواز جائز، لكنه مكروه، والأولى تركه- أو ليجعلها صدقة مرة ثانية، فلا حرج. قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: وكانوا يُعطون الشيء للفقراء وهم ساكتون، ويكرهون للرجل أن يقول للفقير: خذ هذا مني لوجه الله، أو احتسب به الخير، ونحو ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم". يعني: لا يظهرون المِنَّة ولا الفخر بها، فإنما هي حق الله تبارك وتعالى. وإذا قُبِلَت، فالمنُّ لله جل جلاله وتعالى. "لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ" (البقرة: 264). فمن راءى بصدقاته أو مَنَّ بها أبطلها؛ بل المَنَّان بالنفقة وبالعطاء ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة.
-
وكذلك نُهِيَ أن يشتري الرجل صدقته.
-
وكذلك يقول الحنابلة، وكذلك المالكية يقولون: ليس لمخرج الزكاة شراؤها ممن صارت إليه.
وذكروا حديث سيدنا عمر هذا، وقوله : "العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" كما جاء في الصحيحين.
-
ويقول الشافعية: يجوز مع الكراهة، ولكنه غير محرم، والأولى ترك ذلك. فجعلوا النهي نهي تنزيه لا للتحريم.
وعلى كل حال، ما قدر الإنسان أن يتنزه عما تركه لله فلا يلتفت إليه، بل يفرح بتوفيق الله له أن صرفه لوجهه ومن أجله -جل جلاله وتعالى في عُلاه-.
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنا بمننه والمواهب والكرامات، وكتب لنا سبحانه وتعالى حسن الأدب معه ومعهم، والاستقامة. وكتب لنا العزة والشرف والكرامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة ودار المقامة، وكرَّمنا فيها بمرافقة نبيه المظلل بالغمامة. ودفعَ الله به صلى الله عليه وسلم عنا السوءَ وعن أمته في المشارق والمغارب، ودفع عنا جميع النوائب، وختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا.
بِسِرِّ الْفَاتِحَةِ
إِلَى حَضْرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
الْفَاتِحَة
21 ذو القِعدة 1446