كشف الغمة - 3 - باب الإخلاص والصدق والنية الصالحة
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب الإخلاص والصدق والنية الصالحة
يتضمن الدرس:
- معنى الإخلاص والصدق، والفرق بينهما
- أمر يغفل عنه كثير من المسلمين
- إلى ماذا يوصل الإخلاص والصدق؟
- أهل الصدق مع النبي ﷺ
- جزاء المؤمن الصادق مع الله
- قصة أعرابي امتلأ بالصدق والإخلاص
- قصة الثلاثة الذين دخلوا غار فانطبق عليهم، وماذا فعلوا
- التوسل بالأعمال الصالحة وجاهها عند الله
- النجاة من الشدائد بالإخلاص حتى من فتنة الدجال
- تُنصر الأمة بضعفائهم
- مراتب الصدق العظيمة
- أكثر شهداء أمتي أصحاب الفُرش
- من هم أعلى الشهداء؟
- قصة الذي تصدق بِنيّته
- الناس أربعة
نص الدرس المكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم
رضي الله عنكم وبسندكم المتصل إلى الإمام عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في كتابه كشف الغمّة عن جميع الأمّة إلى أن قال:
باب الإخلاص والصدق والنية الصالحة
"كان أبو ذر يقول: "سألت رسول الله عن الإخلاص ما هو؟ فقال: حتى أسأل عنه جبريل، فسأل عنه جبريل فقال: حتى أسأل عنه ميكائيل فسأل عنه ميكائيل فقال: حتى أسأل عنه رب العزة، فسأل ربه تعالى عنه فقال: الإخلاص سر من أسراري أودعه قلب من أشاء من عبادي".
وكان ابن عمر يقول: بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال: بعضهم لبعض إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه.
فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز، فذهب وتركه، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره إلى ان اشتريت منه بقراً، وإنه أتاني يطلب أجره فقلت له اعمد إلى تلك البقر فإنها ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك فافرج عنا. فانساخت عنهم الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثاني: اللهم كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون.
وكان رسول الله ﷺ له يقول: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض".
وسأل رجل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: الإخلاص، قال فما اليقين؟ قال: التصديق.
وكان ﷺ يقول: "أخلص دينك يكفك العمل القليل ".
وكان ﷺ يقول: " إنما تنصر هذه الأمة بضعفائها بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
وكان ﷺ يقول: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغى به وجهه".
وكان عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: "يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال: ميزوا منها ما كان لله عز وجل، فيماز ثم يرمى بسائره في النار".
وكان ﷺ يقول: "إنما يبعث الناس على قدر نياتهم ".
وكان ﷺ يقول: "إن الله عز وجل لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". والأحاديث في ذلك مشهورة كثيرة، والله أعلم."
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرم على الأمين المأمون عبدك المصطفى سيدنا محمد أكرم قدوة في الحس والمعنى للسير إليك والتوجه إليك وطلبك ونيل رضاك وعلى آله وصحبه ومن والاه فيك واتبع في الاقتداء به هداك وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادتي أهل محبتك ورضاك وعلى آلهم وصحبهم وتابيعهم وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ولما كان الدين معاملة من هؤلاء الخلق المكلفين مع خالقهم جل جلاله قامت قائمته ودارت دائرته على إخلاص القصد لوجه الرب والصدق معه سبحانه وتعالى في الوفاء بعهده والعمل بطاعته جل جلاله، فدار الأمر كله على ما يكون في القلب من هذا الإخلاص والصدق، والإخلاص: تخليص الأقوال والأفعال والأحوال عن كل شائبة من إرادة غير الله تبارك وتعالى والتفات إلى ما عداه، والصدق: اجتماع القوى على القيام بالأمر والمهمة ظاهراً وباطناً، واستفراغ الوسع في إحسان ذلك القول أو الفعل أو النية أو الوصف أو العمل، فالصادق: يجمع قواه ويبذل وسعه في الإتقان والإحسان ظاهرًا وباطنًا فيندرج الإخلاص في الصدق، فكل صادق مخلص وليس كل مخلص صادق، وقد يكون خالص القصد؛ ومع ذلك يكسل ومع ذلك يتخاذل ومع ذلك يقصر في بعض الإتقان والإحسان في العمل، لكن الصادق لا يحصل منه ذلك بل يستفرغ طاقته ووسعه ويُقبل على الأمر بكليته ويؤديه على الإكمال والإتمام والإحسان.
فالمخلص لا رياء له، والصادق لا عجب له، و الرياء أخفى من دبيب النمل والعجب أخفى من الرياء، فالمخلص يتخلص من شوائب الرياء ولكن الصادق يتخلص منها ومن ما هو أخفى منها وهو شوائب العجب، والعجب نسبة شيء من الأقوال إلى نفسه مع غفلة عن أنها منة الله تعالى وفضل الله عليه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله جل جلاله وتعالى في علاه.
وذكر لنا جملة من الأحاديث، والذي ورد في الإخلاص والصدق وتصحيح النية كثير من الأحاديث والأخبار والآثار وهي أمر عظيم يغفل عنه كثير من المسلمين؛ فيحصل عندهم القصور والتأخر والانقطاع عن ربهم جل جلاله وتعالى في علاه لما يقيمون من صور الأعمال والأقوال بلا صدق ولا إخلاص ولا حقيقة لها فتصير كالهباء المنثور إن لم تكن سبباً لجلب الإثم والعقاب والعياذ بالله تبارك وتعالى.
رزقنا الله الإخلاص والصدق في النيات والأقوال والأفعال إنه أكرم الأكرمين.
مع صدق الإقبال في كل أمر *** قد قصدنا والصدق في كل نية
وبهذا الإخلاص والصدق يوصل إلى مقعد الصدق {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [سورة القمر: 54-55] جل جلاله ولما كان من أعلى وأعظم الأوصاف وصف الله به نبيه بل أخبر أنه هو الذي جاء به فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} [سورة الزمر:33-34] آمنا وصدقنا بما جاء به نبينا محمد ﷺ عن الله.
ولما كان مرتقًا عظيمًا دعا الله المؤمنين إلى أن يأخذوا بالأسباب والدرج في الرقي إليه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة الزمر: 119] ولو كلّّف الأمر أن يكونوا من الصادقين لأول وهلة لكان ذلك شديد لبعضهم؛ ولكن قال: مع الصادقين كان معهم بتصل إلى ما أوصلتهم إليهم وما أوصلت إلى قلوبهم من نور الإخلاص لي والصدق معي {كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
الله أكبر هو سيد الصادقين في الخلق وسيد المرسلين عبد الله ورسوله وحبيبه محمد ﷺ.
وذكر الحق تبارك وتعالى مظهر الصدق عند أهل الإيمان أنهم لا يرتضون لأنفسهم ولا يقوون ولا يقدرون على التخلف عن هذا النبي وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 119-120] ما يطيقون ولا يقدرون على التخلف عنه ولا تطيب لهم الحياة إلا بالمعية له والكون معه حتى قالوا له إن دخلنا الجنة ولم نرك لم تغننا الجنة ولم تنفعنا، وأنزل الله {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [سورة النساء: 69] {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} [سورة الزمر: 120] قال الله تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [سورة الأحزاب:23] ويقول: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [سورة الأحزاب: 24] ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [سورة الحجرات: 15] وكانت علامة الصدق عندهم البذل {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحجرات: 15] وشهد الله لسادتنا المهاجرين الأوائل بالصدق وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحشر: 8]
وقال ﷺ لصبي: " إن تَصْدُق الله يصدقك" وذلك أن هذا المؤمن الأعرابي الذي امتلأ بالإيمان واليقين والإخلاص، خرج مع النبي في غزوة خيبر وقسم النبي الغنائم وجاء إلى الخيمة التي فيها لم يجده، وجده يصلح بعض شأن الجيش شؤون أمتعة الجيش ودوابهم فقال لبعض من في الخيمة إذا جاء فأعطه هذا، فجاء فأعطاه فقال: ما هذا؟ قال قسمك من الغنيمة قسمه لك، رسول الله جاب لي هذا؟ قال: نعم، حمله وجاء عند النبي، قال: رسول الله ما هذا؟ قال ﷺ : "قسمك من الغنيمة قسمته لك، قال: أنا ما على هذا اتبعتك! .." أنا جئت أؤمن بك وأشهد أنك رسول الله واتبعك من أجل تعطينا مثل هذا! قال: أنا ما على هذا اتبعتك. فرأى عليه أنوار الصدق قال: فعلى ما اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أُرْمى ، على أن أُجاهد في سبيل الله فَأُرْمى بسهم هاهنا -وأشار إلى رقبته- فأدخل الجنة -أموت فأدخل الجنة- فاتبعتك على شيء كبير وعلى حياة دائمة، قال ﷺ : "إن تَصدُق الله يصدقك"، فنهضوا في قتال العدو مرة أخرى أصابه سهم في المحل الذي أشار إليه، وَوُجِد بين الصفوف مرمي مقتول فحُمل إلى النبي، قال: أهو هو؟ قالوا: هو يا رسول الله، قال: "صدَقَ الله فصدقه" ، ثم لما دفنه قام يدعو له ﷺ فكان من مظهر دعائه قال: "اللهم هذا عبدك خرج مجاهداً في سبيلك فقُتل شهيدًا وأنا على ذلك شهيد"، رضي الله تعالى عنه "إن تَصدُق الله يصدقك".
يقول: "سألت رسول الله عن الإخلاص ما هو؟ فقال: حتى أسأل عنه جبريل، فسأل عنه جبريل فقال: حتى أسأل عنه ميكائيل فسأل عنه ميكائيل فقال: حتى أسأل عنه رب العزة، فسأل ربه تعالى عنه فقال: الإخلاص سرٌّ من أسراري أودعه قلب من أشاء من عبادي"؛ لأن حقائق الإخلاص دقيقة ويطلع عليها هو؛ حتى يخفى عن الملائكة دقائق الإخلاص يفرقون بين الإخلاص والرياء؛ ولكن دقائق الإخلاص ما يطلعون على خفاياها، الحق يطلع عليها "سر من أسراري أودعه قلب من أشاء من عبادي" اللهم قلوبنا بين يديك فأودعها هذا السر يا أرحم الراحمين.
وذكر لنا قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، وقد جاء في الصحيحين وفي غيرهما بروايات متعددة، فيها أن ثلاثة من بني إسرائيل يمشون في طريق وهم مسافرين فأدركهم المطر، فدخلوا إلى غار يستكِنُّنَ من المطر في سفح جبل غار، فلما دخلوا سقطت حجرة كبيرة من رأس الجبل وسدت فم غار، وقفت محلها إذا بهم خلاص لا عاد ضوء ولا عاد طريق للمخرج وهم محلهم غار صغير يموتون فيه وما شي طريق ولا يستطيعون دفع الحجرة كبيرة لقوتها، فماذا يفعلون؟ فرجعوا إلى ربهم توسلوا إليه بالصدق معه فيما صدقوا فيه من أعمال.
وهكذا عُدَّةُ المؤمن لمختلف الأهوال في الدنيا والآخرة صدقه مع الكبير المتعال ووجهته إليه {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [سورة النمل: 62] لا إله إلا الله سبحانه.
قال: "بعضهم لبعض إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل" ربه سبحانه وتعالى بما صدق فيه مع الله، فهؤلاء وجدوا لهم أعمال صدقوا فيها مع الله.
كان يقول الحبيب علوي: ولو نابتنا اليوم نائبة أيش من عمل معنا نتوجه به إلى الله؟ ما معنا إلا نكون مع الصادقين نقرأ مثل راتب الإمام الحداد ونتوجه إلى الله عسى الله يفرج ما عندنا أعمال مثل هؤلاء.
"قال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجيراً عمل لي على فَرَقْ من أرز" مقدار من الكيل من الأرز يقال له (فَرَقْ)، فأعطوه أياه سخط وذهب وتركه عنده، قال عمدت إلى ذلك الفَرَقْ فزرعته، أثمر فزرعه ثاني مرة أثمر، اشترى أرض وزرع فيها أثمرت، اشترى بقر في المزرعة تكاثرت، اشترى راعي عبد مملوك يرعى ويقوم بمصلحة المزرعة، جاء صاحب الفَرَقْ من الأرز أصابته حاجة، ذكر أنه ترك الحق -الأجرة- عند الرجال هذا جاء إليه فقال له: فَرَقي من الأجرة في يوم كذا تركت الأجرة عندك ما أخذت الأجرة سخطتها أما الآن أنا محتاج إليها، قال: ترى المزرعة هذه وما فيها من بقر وغنم وراعي، قال: نعم، قال: كل هذه حقك، قال: تهزأ بي تضحك عليّ، قال: لا لا ما اضحك عليك حقك الفَرَقْ والرز هذا أنا زرعته لك ونميته، واشتريت لك الأرض، واشتريت لك الأنعام هذه، واشتريت لك الأجير القائم عليها المملوك، قال: صدق!! قال: أخذها كلها وراح ولم يترك لي شيء منها..، ما الذي دفعه؟! ولو بيعطيه فرق الرز وبيقوله: رح لك..، خوفه من الله وصدقه مع الله تبارك وتعالى.
وفي هذا جاء مذهب الإمام مالك والمذهب القديم عند الشافعي أنه يجوز أن يبيع مال غيره إذا علم رضاه -إذا أقره بعد ذلك- فصحًَّ البيع، الذي يسمونه بيع الفضولِي، زرع له واشترى له وهو غير موجود؛ حتى ترجم عليه البخاري من باع مال غيره بغير إذنه فرضي وأتى بهذا الحديث؛ لأن النبي عرضه في معرض الثناء عليه ولم يبين أن هذا ما يصح ولا كذا فكان حجة؛ لا لكونه مجرد شرع من قبلنا، النبي أقره عليه وما بين أن هذا لا يصح ولا يجوز، وعرضه في معرض الثناء عليه، فكان دليل من قال بجواز هذا البيع، وذلكم أيضًا راجع إلى شأن الصدق، في الشريعة عندنا أن المؤمنين بحكم إيمانهم لهم حرص على بعضهم البعض ولهم محبة وصدق في الولاء؛ فقد تعرض أحياناً لبعض أموال الإنسان فرصة وفائدة يكسب منها كثير، فيأتي أخوه يغنم الفرصة ويبيع له ويشتري له من ماله، فهذا سبب قول القائلين بصحة هذا البيع؛ لأن الدوافع إليه مراعاة فائدة الآخر وحق الآخر، كما أنه قد يصيب المسلمين في قلوبهم قلة نصح وقلة صدق ولا يبالي ..، ولو كان له لا صدق ولا نصح فيه أكثر ولكن للغير يتساهل، وبهذا قال الجمهور من العلماء:صاحب أنه لا يصح بيع الفضولي باطل كله؛ حتى يبيع المالك؛ صاحب الملك نفسه يبيع، فلو كان جرى بيع أو شراء للغير وكان فيه الغبطة والفائدة والمصلحة كان هذا زين، لكان القول بصحة هذا البيع هو اللائق بهذا الحال، ولو جرى تساهل أو غبن في بيع أو شراء وبعدين قال: قد بعت لك، فالبيع باطل من أصله لأنه ما فيه مصلحة لهذا، من قالك تبيع أنا وكلتك؟ قال: لا، ومن قال لك تبيع؟ أنا اشتريت له كذا، اشتريت له بثمن فوق قيمته خسرتني! بيع باطل رد لي مالي وأنت خذه لك هذا الذي بعته، فيوشك أن يكون هذا قول الجمهور واللائق بمثل هذا الحال؛ لأن الأمر دائر على النصيحة لكل مسلم والنصح لكل مسلم، فهذا قال: يا رب أخذ الرجل البقر كلها والعبد والغنم وذهب ولم يترك لي ولا شيء، ولا كافأنا بشيء من هذا! اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك من أجل وجهك ففرج عنَّا ما نحن فيه، وإذا بالصخرة تتحرك ودخل الضوء عليهم؛ لأنهم ما يقدرون يمشون، ما يقدرون يخرجون فجوة صغيرة الضوء دخل عليهم منها، دخل الضوء والهواء.
جاء الثاني، "وقال الثاني: اللهم كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها" كانت تقية تخاف الله فأبت "فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين" حاجة شديدة لقوتها وقوت أولادها، "فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار" لكن بشرط "على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت" فلما جئت إليها قرُبت منها "قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه،" قال: فخفتك وتركتها وتركت الذهب الذي جئت بها، "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه،" فتزحزت الصخرة أكثر إلا أنه ما يسع خروجهم، دخل ضوء أكثر وهواء لكن أجسادهم عاد ما تتأتى تخرج من هذه الفجوة، سبحان الله.
"قال الثالث: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران" منزلة بر الوالدين عند الله تبارك تعالى، ومعرفة ذلك على مدى توالي الأمم من آدم إلى نبينا ﷺ أن برَّ الوالدين قُربة إلى الرحمن، وسبب لنيل رضوانه، "قال: وكنت لا أغبِقُ" قال: وكنت لا أغبِِق يعني: أعطي اللبن والشرب لأن ما يتناول من الطعام في أول الليل ووسطه يقال له: غَبوق؛ وما يتناول آخر الليل والصباح يقال له: صَبوح فعندنا صبوح وغبوق؛ قال سيدنا الشيخ أبو بكر:
واصطبحنا من أقداح الهوى واغْتَبَقْنا، شربناها أول الليل وآخره.
واصطبحنا من أقداح الهوى واغْتَبَقْنا.
"قال: وكنت لا أغبِقُ" قبلهما أهلاً ولا مالاً،" يعني: لا زوجتي ولا أولادي ما أخلي أحد يشرب اللبن ويتعشى قبل أبوَي، إذا اكتفى أبوَي؛ الباقي أعطيه لزوجتي وأولادي؛ قال: "فنأى بي طلب الشجر" يعني: المرعى حقُّه -الخاص به- الأغنام يوم؛ "فلم أرح عليهما حتى ناما" يعني:لم يرجع في المساء حتى ناما، قال: "فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين،" قالوا: الأولاد أعطنا قلت لهم: ما أسقيكم قبل الوالدين، قالت الزوجة خلنا نشرب -دعنا نشرب- قال: ماشي قبل الوالدين - لن تشربوا قبلهما-، أول أبوي وأمي بعدين نعطيكم، وكره أن يوقظهما حتى لا يشوش عليهما ولا يخرجهما من راحتهما، فحمل الإناء فوق أبويه منتظر ساعة ساعتين ثلاث ساعات وحامل الإناء.. أربع ساعات خمس ساعات؛ برَق الفجر؛ قاموا، حتى جاء في بعض الروايات الصبية يتضاغَون عند رجلي وما أعطاهم، مارضي يعطي أحد من أولاده إكرامًا لوالديه، "فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة وخرجوا يمشون." بحمد الله تعالى، ومن أخرجهم من هذا المكان؟
قالوا: وفي هذا التوسل، التوسل بالمخلوق؛ من المخلوق؟ العمل، العمل الصالح مخلوق؛ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] والمعنى: أنهم لم يعملوا وسط الغار شي -أي- عمل يتوجهون به إلى الله يخلصهم! لا؛ الأعمال إلا قد عملوها من سابق، إلا بقي جاهها فقط، جاهها وقدرها عند الله؛ فهي أعمال مخلوقة، قد ذهبت إلا بقي أجرها؛ ما عملوا شيء وسط الغار عمل يتوسلون به؛ إلا أعمال سابقة بقي فقط مكانها وجاهها عند الله تعالى هي قد روَّحت؛ قد عملوها من قبل ما عملوها من أجل هذه الحادثة ولا لأجل هم في الغار ما عملوا شيء كل الأعمال التي توسلوا بها إلى الله إلا سابق قد عملوها من قبل فكانت وجاهة لها عند الله تعالى فتوجهوا إلى الله بما لها من الله عند الله من المحبة ففرج عنهم، فدخل الحديث في أدلة التوسل إلى الله بالمخلوق؛ لا بعمل العمل المخلوق؛ ولكن بعمل قد سبق ماهو إلا بوجاهته فقط؛ وجاهته عند الله لا بعمله، وما حدثنا بهذا إلا لنرغب في مثل هذه الأعمال ونخلص لوجه الله، حتى نظرَ العلماء وقالوا: من أفضل هؤلاء الثلاثة في هذه الأعمال الثلاثة؟ فقيل: كل واحد هو الأفضل، وكلهم فضلاء عملوا أعمال فضيلة عند الله تبارك وتعالى.
ولكن ما كان أشق على النفس وأخلص لوجه الرب فهو الأفضل، ويعلم الله مشقة هذا ومشقة هذا؛ من الذي كان.. وكان أخلص لوجه الله؟ فالشاهد: أنهم نجوا بالإخلاص، رزقنا الله الصدق والإخلاص.
كما نجوا هؤلاء من الحجرة، أخبرنا ﷺ أنه في الشدائد التي تحصل في الأمة وآخر الزمان من أشد الشدائد وأعظم الفتن والبلايا فتنة الدجال المسيخ الدجال؛ وأيضًا ينجوا الصادقون ويُخْلصْ الصادقون. وجاء في رواية عند ابن عساكر وابن حماد يقول: أنه طائفة من هؤلاء المؤمنين يكونون في بعض الجبال في نواحي الشام فينتحون بُعدًا من فتنة الدجال، قال: فيجتمعون إحدى الليالي يقولون إلى متى ونحن هنا؟ وهذا الخبيث يعمل في الأراضي ويفسد خلق الله؟ وما أنتم إلا بين إحدى الحسنييْن: موت أو شهادة، فيتعاهدون على الموت، قال: فيعلم الله الصدق منهم، يعلم أنهم صادقين، فلمّا يعلم صدقهم يأمر سيدنا عيسى يذهب إليهم، يأتي إليهم سيدنا عيسى قال: فيأتيهم عيسى بن مريم يُقبل عليهم يقولون: من أنت؟ قال: أنا روح الله وكلمته عيسى ابن مريم؛ مرحبًا بك، يقول: إن الله أرسلني إليكم يقول: أُخيِّرًكم بين ثلاث بشأن أتباع الدجال وقومه؛ أن يهلكهم الله بعذاب من عنده أو يخسف بهم الأرض أو يسلّط عليهم سيوفكم ويكف سيوفهم عنكم، قالوا: هذا أشفى لغيظنا يا نبي الله، فيقول: اخرجوا؛ فيخرجون فلا يجدون أتباعه؛ قال: من اليهود الرجل الضخم منهم القوي بيده السيف مايستطيع يحمله ويرتعب ويخافون ويقتلونهم وتنتهي فتنة الدجال، وسيّدنا عيسى هو الذي يتولّى قتل الدجال، فهؤلاء أيضًا جاءهم الفرج وانكشف عنهم الغمة بالصدق؛ ولمّا علم الله صدقهم فيما تعاهدوا، وكذلك في مختلف الأحوال الشخصية والأسرية والاجتماعية والخاصّة والعامة؛ إذا وجدت قلوب صدقت مع مُقلب القلوب ومع محوّل الأحوال ومع المقدّر المقدّم المؤخر؛ يحصل الفرج وترتفع الشدة. فالله يرزقنا قلوب صادقة مخلصة لوجهه الكريم تصدُق معه، ويفرّج الكربة عنّا وعن أمة نبيه محمد ﷺ.
يقول: "وكان رسول الله ﷺ له يقول: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض" " وهنيئًا له، ويُنادى عند موته: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30].
"وسأل رجل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: الإخلاص، قال فما اليقين؟ قال: التصديق." أي: أظهر علامات الإيمان: الإخلاص لوجه الله؛ ومرتكز الإيمان على قوة التصديق مع الطمأنينة حتى يصير علم يقين وعين يقين وحق يقين، اللهم ارزقنا الإخلاص والصدق، وارزقنا كمال اليقين.
يقول: "وكان ﷺ يقول: "أخلص دينك" يعني: عبادتك "يكفِك العمل القليل "." فقليل مع الإخلاص يفوق كثيرًا من العمل وفيه الشوائب. من أخلص لله أربعين يومًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، "وكان ﷺ يقول: " إنما تنصر هذه الأمة بضعفائها بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم"." ضعفائهم: من جهة الأبدان والقوى المادية الحسّية هم هؤلاء يترتب عليهم وبهم النصر، عجيب! مع أن الذي يتبادر للأذهان أن النصر بالعتاد والقوة والسلاح؛ هذا سبب؛ ولكن الله ما ينزل نصره بمجرد هذا؛ ولكن بهؤلاء بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم؛ هؤلاء الضعفاء بسببهم ينزل نصر الله؛ فما أبعد أن يكون ناصرًا لله صاحب قوى وجَلَد وأعمال يحتقر هؤلاء؛ ويرى أنه أفضل منهم! ما أبعده عن أن يكون ناصرًا لله وما أقرب من أن يكون مخبولًا مخذولًا مُلبّسًا الأمر عليه ما يفيده عمله شيء. ولما مرّ بعض قادة المسلمين على الجيش في الليل ورأى واحد من الجنود ساجد رافع أصبعه نحو السماء متضرّع خاشع بقي ينظر إليه؛ قال: والله لهذه الأصبع المرتفعة إلى الله في هذه الساعة أحب إليّ من ألف فارس يقاتلون معي؛ يعني: يحصل بها سبب النصرة والتأييد؛ اللهم ارزقنا الإخلاص والصدق معك.
"وكان ﷺ يقول: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغى به وجهه"." قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ..} [الزمر:3]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ…} [البينة:5]، الدين أي: العبادة.
قال: "يجاء" يوم القيامة "بالدنيا يوم القيامة فيُقال: ميزوا منها ما كان لله عز وجل،"؛ يُمَيَّز ما عُمِل لوجه الله، ما أُطْعِم لوجه الله، ما أُنفِق لوجه الله، ما أُكِل لوجه الله، ما أُخِذ لوجه الله، فقط "فيُماز" والباقي؟ يقول: " ثم يرمى بسائره في النار".
لهذا قال سيدنا الحداد:
لا بارك اللَه في الدنيا سوى عَرَضٍ***منها يُعدُّ إذا ما عدت القرب
يريد صاحبه وجه الإله به***دون الريا إنه التلبيس والكذب
يقول: "الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" ما أُخلِص فيه لوجه الله هو له، والباقي كله إلى النار ماينفع،
لا بارك اللَه في الدنيا سوى عَرَضٍ***منها يعدُّ إذا ما عدت القرب
يعني: من الطاعات والعبادات
يريد صاحبه وجه الإله به***دون الريا إنه التلبيس والكذب
".. ميزوا منها ما كان لها عز وجل فيُماز ثم يرمى بسائره في النار" سائره: باقي الدنيا، لا إله إلا الله! "وقال ﷺ : "إنما يبعث الناس على قدر نياتهم"،وسُئل عن جيش يخسف الله بهم؟ ذكر رسول الله ﷺ أنه هذا مُقبل بيجيء؛ جيش يكونون بين مكة والمدينة فيخسف الله بهم، يريدون قتال المهدي هؤلاء، فيخسف بأولهم وآخرهم، فسُئل صلى الله عليه وسلم قال: فيهم سوَقتهم ومن ليس منهم، كيف يُخسف بهم كلهم؟ ما كلهم ناويين قتال المهدي ولا مضادة الدين؛ فيهم ناس مُتَسَبِّبين، وناس أهل بيع، وناس ما لهم دخل فيه؛ قال: "يُخْسَف بأولهم وآخرهم ويبعثون على نياتهم"؛ يُبعث بعدين على النية ،وأما الخسف يعمّ الجميع لأنهم حضروا معهم وكانوا بينهم، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً..} [الأنفال:25]. هكذا، يبعثون على قدر نيّاتهم، الله يرزقنا الصدق في النية والقول والعمل.
قال: يكون الصدق في القول: لا يخبر إلا بالواقع؛ والصدق في النية، والصدق في الإرادة، والصدق في العزم، والصدق في الوفاء بالعزم، والصدق في العمل، والصدق في تحقيق مقامات الدين كلها. مُصلي صادق، مُصلي غير صادق، مُصلي صادق فى القيام وغير صادق فى الركوع، مصلي صادق فى القيام والركوع غير صادق فى الاعتدال، مصلي صادق فى القيام والركوع والاعتدال غير صادق فى السجود، ومصلي صادق في القيام والركوع والسجود غير صادق في الجلوس بين السجدتين، ومصلي صادق في القيام والركوع وفي أحد السجدتين دون الأخرى، ومصلي صادق في غير التشهد، ومصلي صادق في الصلاة كلها؛ وهذا هو الذي ينْفُذْ عمله إلى سماء القبول قال الله: {..هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ..} [المائدة:120].
صائم صادق، صائم غير صادق، مزكّي صادق، مزكّي غير صادق، حاج صادق، حاج غير صادق، معتمر صادق، معتمر غير صادق، والصدق درجات ومراتب والكذب عاده كذلك دركات؛ قارىء قرآن صادق، وقارئ غير صادق، حاضر مجلس علم صادق، حاضر مجلس علم غير صادق، والحق يرقب القلوب، كما نقرأ في هذا الحديث الذي جاء في صحيح مسلم وغيره: "إن الله عز وجل لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فأوّلها: صدق اللسان إذا تمّ بدأت الأركان تصدق في الأعمال، ويأتي الصدق في الأحوال، ويأتي الصدق في الوجهة إلى الرب جل جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا، "لا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقا"، "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة"، وتعددت الروايات في معاني هذا الحديث "وإيّاكم والكذب، فإن الكذب يدعو إلى الفجور والفجور يدعو إلى النار، وإن الرجل لا يزال يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّابًا" ولذلك تعلم خطر الكذب وكيف تساهل المسلمون به وهو شديد! ولما سُئل ﷺ: أيكذب المؤمن؟ قال: لا! ، وتلى قوله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] والعياذ بالله تعالى، فلابد من صدق في القول وصدق في العمل وصدق في النية.
مع صدق الإقبال في كل أمرٍ*** قد قصدنا والصدق في كل نية
ومن له حظ في الصدق في شيء فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صِدْقُه؛ فتتدرّج من صدق اللسان إلى صدق النية إلى صدق في العمل وصدق في القصد لوجه الرب جل جلاله وتعالى في علاه، فالله يكرمنا وإياكم بالصدق ويُلحقنا بالصدّيقين.
جاء: "أكثر شهداء أمتي أصحاب الفُرُش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته" رواه الإمام أحمد في مسنده. أكثر الشهداء في القيامة ناس ماتوا على الفُرُش حقهم، وكثير من الذين قُتلوا في المعارك لا هم شهداء ولا يُحشرون مع الشهداء، ولا لهم فضل الشهادة ولا ثواب الشهادة؛ "أكثر شهداء أمتي يوم القيامة أصحاب الفُرُش، ورُبّ قتيل بين الصفّين الله أعلم بنيته"، الله أعلم بنيّته. "ما تعدّون الشهيد فيكم؟ قالوا يا رسول الله: من قاتل لتكون كلمة الله العليا وقُتل في سبيلها فهو شهيد؛ قال: إذًا شهداء أمتي قليل، قالوا: من؟ قال: المبطون شهيد، والغريق شهيد، والمرأة تموت بجُمع (أي: ولادة) شهيد .." وعدَّد شهداء، كلهم هؤلاء يعدون شهداء؛ هم أصحاب فرش ينامون على الفرش ولكن يُبعثون مع الشهداء، لا إله إلا الله! قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ..} [الحديد:19].
هؤلاء هم الشهداء عند الله، أرباب الصدّيقية، قال أهل المعرفة: درجة الشهادة عظيمة عند الله وفيها اصطفاء {..وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ..} [آل عمران:140] يصطفي منكم شهداء؛ ولكن أعلى الشهداء: من كان موته بسبب شدة الشوق والمحبّة، قال: فشهداء المحبة أعلى الشهداء عند الله؛ تقطع المحبة نياط قلوبهم فيموتون شوقًا إلى ربهم، هؤلاء أعلى الشهداء،لا إله إلا الله!
يقول: "إن الله عز وجل لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ، أصلح قلوبنا وأعمالنا يا ربنا برحمتك يا أرحم الراحمين. جاء في بعضِ الأخبار: أنّ رجلًا من بني إسرائيل مرّ على وقت مجاعة -الناس كان عندهم مجاعة- مرّ على كثبان من الرمل كثيرة وكان ينظر ويقول: يا ليت لي مثل هذا كله طعام بُر أتصدّق به على الناس في هذا الغلاء؛ في هذه الشدة والمجاعة! فقير كان وماعنده شيء لكن كان صادق، أوحى الله إلى نبي ذاك الزمن قل لفلان بن فلان: قد قبلنا صدقتك، فجاء قال: يا نبي الله أنا ما تصدّقت بشيء، أنا فقير ما عندي شيء! قال: قل له: أما مررت بالكثبان والرمال فقلت: ليت لي مثل هذا طعام أتصدّق به؛ قال: نعم؛ إنما نويت بقلبي يا نبي الله، قال: فإن الله قبِلْ ذلك منك؛ وكتب لك ثواب الصدقة بالرمال هذه كلها بُرِ وكتب ثوابه، هذا هو بسبب النية.
يقول صلى الله عليه وسلم: "الناس أربعة رجلٌ أتاهُ الله مالًا وآتاه علمًا فهو يعملُ في ماله بعلمه.." يتصدّق وينفق في وجوه الخير ويجاهد في سبيل الله.. "ورجلٌ أعطاه الله علمًا ولم يؤته مالًا فيقول: لو كان لي مثل ماله لفعلت مثل عمله فهما في الأجر سواء.." هذا بعمله وهذا بنيّته، " ورجلٌ آتاه الله مالًا ولم يؤته علمًا فهو يخبط في جهله بماله.." ويُنفقه في المحرمات وفي قطع الأرحام وفي الأذى للخلق؛ فيقول آخر: "لم يؤته مالًا ولا علمًا ليت لي مثل ما أوتي فلان لعملت مثل عمله" لو كان لي مثله.. "فهما في الوزر سواء" هذا بعمله وهذا بنيته. لا إله إلا الله!
اللهمّ ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم، وانظمنا في سلك أهل الصراط المستقيم، وحنِّن روح نبيك علينا، واجعل لنا سراية من كريم صدقه إلى قلوبنا ونيّاتنا وأقوالنا وأفعالنا يا أكرم الأكرمين، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
13 شوّال 1444