(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: باب الاقتصاد في العمل
السبت: 28 ذو القعدة 1444هـ
"باب الاقتصاد في العمل"
كان رسول الله ﷺ يحث على الاقتصاد في الأمور كلها ويقول: "يسّروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"
وكان ﷺ يقول: "سدّدوا وقاربوا وأبشروا فإن أحدكم لن ينجيه عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته". وكان ﷺ يقول : "الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه"
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، قالوا فأين نحن من رسول الله ﷺ الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلى الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله ﷺ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منّي".
قالت عائشة رضي الله عنها: وصنع رسول الله ﷺ مرة شيئاً فرخّص فيه فتنزّه عنه قومٌ فبلَغه ذلك فصعد المنبر فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوامٍ يتنزّهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهو له خشية".
وكان ﷺ يقول لمن يشدد على نفسه: إن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فقم ونم وصم وأفطر، إنك لا تدري لعلّه يطول بك عمر فتعجز عن ذلك، فاكلُفوا أيها الناس من العمل ما تطيقونه، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا".
اللهم صلِّ أفضل صلواتك على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون (3 مرات)
الحمد لله مُكرمنا بالشريعة الكاملة التامة، ومبيّنها على لسان رسوله ﷺ في جميع شؤونها الخاصة والعامة، صلّى الله وسلّم وبارك وكرّم على المبيّن المرشد المعلّم الموضّح الهادي إلى سواء السبيل والصّراط المستقيم عبده المصطفى سيدنا محمّد، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به إلى يوم القيامة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات أهل الفضل والكرامة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
يبيّن لنا الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- في هذا الباب المسلك الوسط الحميد، والمنهج السديد الرشيد في طاعة الحق جلّ جلاله والقيام بأمره بلا إفراطٍ ولا تفريط، بل بحسن اقتداء واهتداء (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى..) [مريم:76]، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17]، وبيّن أنه لا يقوم التوجّه إلى الله تبارك وتعالى بالحرص على صور الأعمال الصالحة والإكثار منها إلى الحدّ الذي يُوقع في الإنقطاع أو في التقهقر والرجوع، أو في تكليف النفس ما لا تُطيق، ولكن بكفّ النفس عن شهواتها بالضوابط في السنّة الكريمة، ومداومة قرع الباب بحضور القلب؛ وبما يتناسب مع الترقّي ومع الاعتلاء ومع الزيادة بالتدريج، وسنّة الله تبارك وتعالى في تكثير الأشياء. وكما يحدّثنا أنّ الشيطان يحب أن يستبعِث الملل من الإنسَان بإغوائِه بكثرة صورة الأعمال، حتى يعجز عنها فيتركهَا.
يقول: "باب الاقتصاد في العمل" وأخبر أن نبيّنا كان يحثّ على الاقتصاد، وهو: الاعتدال والأخذ بالأمر على وجه الوسط بين الإفراط والتفريط، فلا مجال للإفراط المؤدّي إلى الملل والوقوع في الخلل، ولا إلى التفريط الذي يوصل إلى الزلل؛ ولكن أخْذُ النفس بالحكمة والعقل والرفق بها إلى أن يوصلها إلى الطمأنينة، وإلى الرضا من راضيةٍ ومرضية إلى الكمال الإنساني، فإنما يكون الرقي إليه والوصول إليه بالتدرّج وحسن النظر والأخذ بالسنة لا بالمهاجمة والاندفاع على غير بصيرة.
قال: "بل كان ﷺ يحث على الاقتصاد في الأمور كلها عملًا وقولًا ومعاملةً، ويقول: يسّروا ولا تعسّروا..". فأكّد أمر التيسير بقوله: ولا تعسّروا، وليفيد أنه ربما طبّق الأمر من يسّر في بعض الأحيان ثم أخذ يعسّر، فبيّن أن الأمر ليس كذلك ولكن دوام التيسير بالبعد عن التعسير في مختلف الأمور، ولهذا كرّر المعنى وقال: ولا تعسّروا "يسروا ولا تعسروا"، بتيسير الله تبارك وتعالى لكم. والميزان في ذلك ما جاء عن الله ورسوله من فرضٍ ومن نفلٍ ومن إباحة، ومراتب النهي ما بين تحريم مُجمعٍ عليه ومُختلفٍ فيه، وما بين كراهةٍ وشبهة تُتقى، وما بين ما اعتنى بالنص على تحريمه الحق ورسوله ﷺ، وما بين ما تُوصّل إلى تحريمه بالاجتهاد من الذين هم أهل الاستنباط؛ فكلها مراتب لا يُقدّم فيها المهم على الأهم، ولا يُتساهل بالمهم مقابل غير المهم. فوجب هذا الاقتصاد بالميزان الموروث عن خير العباد الذي وعاه عنه الأجواد أرباب الرشاد والسداد ألحقنا الله بهم.
"يسّروا ولا تعسّروا" ولا يأتي معنى هذا الحديث في الإهمال ولا التراخي ولا الإضاعة للمستطاع؛ كما أنه لا يُمكن أن يكون معناه تشدّد وتعسير وإلحاق مندوبات بفرائض ولا إلحاق مكروهات بمحرمات، كذلك لا يمكن أن يكون معناه إسقاط الأمر وإلحاق فرائض بمسنونات ولا إلحاق محرّمات بمكروهات، ولكن بالميزان الذي جاء به ﷺ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..) [الحديد:25]، المدعو إليه.
"..وبشّروا.." برحمة الله وفضله وإحسانه، "ولا تنفّروا.." ببعث ما يؤدي بالنفوس إلى اليأس وإلى الملل أو الإنقطاع عن الوجهة والعمل. وكرّر ﷺ هذا الأمر وهذه الوصية لأفراد أمّته وعمومهم. وقال: "وقد بعث إلى سيدنا معاذ بن جبل ومعه سيدنا أبو موسى الأشعري -عليهما رضوان الله- قال: "يسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفّرا وتطاوعا ولا تختلفا" وقاموا بأمره ﷺ فثبّت الله على أيديهم في اليمن حكم الشريعة الغراء والاقتداء بخير الورى وتهيؤ من يتهيأ لارتقاء الذرى.
قال: "يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا" وبهذا الحديث يبيّن أنه خرج عن سنته من أفرط وشدّد وبالغ وعسّر على العباد، ومن تساهل وأهمل وفرّط وضيّع حق الله تبارك وتعالى فلا هذا ولا هذا على طريقة النّبي محمّد ﷺ ومنهجه وسنّته الغراء.
يقول: وكان يقول: "سدّدوا وقاربوا، فإن أحدكم لن ينجيه عمله.." بمجرد عمله ولكن عمله إن صحّ وأُخلص وقُبِل فهو من الرحمة ونتيجته من الرحمة؛ وليست النّجاة في العقبى بمجرد العمل؛ ولكن بسابق ولاحق الرحمات من الحق عزّ وجل. "قالوا: ولا أنت يا رسول الله!" ليست النّجاة عندك بالعمل؟ "قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمّدني الله برحمته". فبرحمته الواسعة يجعلني أول شافع وأول مشفّع، برحمته الواسعة يقدمّني على من سواي من البريّة، وبرحمته الواسعة يحرّم الجنّة على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وعلى الأمم حتى تدخل أمّتي؛ وليس بشيءٍ من مجرد عملي، وعملي من رحمته، "ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته".
وهكذا جاءنا البيان الواضح عنه ﷺ، فوجبَ أن يُؤخذ من العمل ما يُطاق ويُقبل به على الخلّاق بالسرور والفرح والمحبة، فإن الحق كره أن يُقبل عليه أحد كُرهًا، وقال: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة:256]، ولكن من عرفني وعرف عظمتي وأحبّني وأقبل فرحًا بي معظّما لأمري، فمرحبا أُكرمه وأُعطيه، ولست محتاجًا إلى أحد حتى يُكره على طاعتي ولا على عبادتي، وهو الغنيّ الغنى المطلق -جلّ جلاله وتعالى في علاه- يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج إلى شيء سبحانه وتعالى.
وكان ﷺ يقول: "الدين يُسرٌ.." بُنيَ على ذلك وجاء به عن الله تعالى على هذا الوجه، "..ولن يُشادّ.." يعني: يطلب الشدّة "..هذا الدين أحدٌ إلا غلبه"، الدين؛ فهو أعظم وهو أكبر فلا مجال لمشادّته، ولكن للطاعة والانقياد بالسرور والأنس والحبور ﷺ.
ويقول: "كانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "جاء ثلاثةٌ رهط.." " أي: ثلاثة نفر أو ثلاثة ناس ورجال، وإلا الرّهط ما بين الثلاثة إلى العشرة، "..ثلاثة رهطٌ إلى بيوت أزواج النبي ﷺ، يسألون عن عبادته" وما يقوم به من الصلوات والأذكار والصدقات وما إلى ذلك، فأخبروهم عن منهجه ﷺ وعمله، "فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها.." أي: اعتقدوا وظنوا أنها قليلة، وأنهم يستطيعون أن يقوموا بأكثر من ذلك؛ فرجعوا يقولون أين نحن من رسول الله ﷺ المعصوم المقطوع له بسلامة العاقبة! ونحن غير معصومين ولا ندري بالعاقبة ولا يُقطع لنا بالسلامة، فلذا يجب أن نحتاط لأنفسنا! فاخطأوا في طريقة التفكير، "فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا" كلّه في كل ليلة طول العمر، "قال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر" طول السنين، وقال الثالث: "وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله ﷺ" وأُخبر بخبرهم، "قال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا!؟ أما والله إني لأخشاكم لله.." أعظمكم خشية منه، "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له.." أعظمكم تقوى، "ولكنّي" في سنّتي ومنهجي "أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ﷺ أي: ليس السّير إلى الله والقيام بشريعته إلا الاقتداء بي والاهتداء بهديي، وأن هذا هو المسلك الصحيح في الوجهة إلى الحق تبارك وتعالى على هذا الاقتصاد وعلى هذا الخير.
يقول: وقد جاء فيما روى الترمذي الحكيم أن سيدنا جبريل قال له ﷺ: "إنّ رجلا كان من بني إسرائيل يعبد الله تعالى أجرى الله له عين ماء صغيرة فيها ماء عذب وأنبت بجانبه في ناحية الجبل الذي هو فيه رمّانة تُثمر له في كل يوم رمّانةً أو رمّانتين، فكان يأكل رمّانة ويأتي إلى العين يشرب ويتوضأ ويقوم يصلي، ولم يزل على ذلك في انقطاعه إلى العبادة خمسمائة سنة، وسأل الله أن يقبضه في السجود وأن يدفع عنه ما يُفسد عليه ذلك، قال فقبض روحه في السجود فنحن نمرّ عليه عندما ننزله عندما نصعد، قال فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: يا ربي بعملي خمسمائة سنة وفي العبادة هذا منقطع، يقول: حاسبوا عبدي بنعمتي وعمله، فيبدأون بنعمة البصر فتذهب عبادته كلّها وبقي بقية النعم عليه وعاد ما حاسبوه على العين هذا التي أجراها له ولا على الرمّانة التي بعثها له وأنبتها، وعاد إلا في البصر وحده وقد كمّلت حسناته كلها وعبادته خمسمائة عام. قال: فاذهبوا به إلى النار، قال: وتأخذه الملائكة.. فيصيح يا رب برحمتك، يقول: ردّوا عبدي؛ قال: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ونعم العبد عبدي، فما هم ولا عبادتهم وما عندهم إلا من رحمته ولا يُمَنّ على الله بشيء وله المنة على كل أحد جلّ جلاله وتعالى في علاه.
و لم يزل الأمر كذلك في مسالك الأتقياء والأصفياء، وكل الذين رُويت عنهم أنواع المجاهدات الشاقّة ارتقوا إليها بهذا السلّم، وراضت أنفسهم واستعدّت لذلك، ومن الناس أقوياء لا يصلح لهم إلا القوة، ومن الناس ضعفاء لا يصلح لهم إلا ما يليق بحالهم، وبذلك جاء ميزان التشديد والتخفيف لحاجة الناس إلى ذلك.
"قالت عائشة -رضي الله عنها-: وصنع رسول الله ﷺ مرة شيئا رخّص فيه أن يصنعه الناس، فتنزّه عنه قومٌ، بلغ ذلك النبي ﷺ، خطب وحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوامٍ يتنزّهون عن الشيء أصنعه! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية"، وهذه الخشية قائمة على المعرفة، فمن كان أعرف بالله كان أخشى له وكان أرجى له، وقد كان أخشانا وأرجانا للرّب ﷺ؛ لأنه أعرف بالرّب، وليست الخشية محصورة بأهل الذنوب ولا أهل المعاصي ولكن من عرف الله خَشِيَه. قال تعالى عن الملائكة المعصومين والعبّاد له في السماوات العلى: (..وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:28] وهم من خشيته وكل من عرف الله فلابد أن يخشاه، ولابد أن يرجوه على قدر معرفته، كلما زادت المعرفة زادت الخشية والخوف وزاد الرجاء والطمع في رحمته سبحانه وتعالى. "ما بال رجال بلغهم عني أمر ترّخصت فيه فكرهوه وتنزّهوا عنه، فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدّهم له خشية". هكذا جاء في رواية مسلم وجاء هذا اللفظ الذي عندنا في الكتاب في رواية البخاري، صلى الله على الأخشى الأتقى والحبيب المنتقى.
وكان ﷺ يقول لمن يشدّد على نفسه: "إن لأهلك عليك حقًّا وإن لضيفك عليك حقًّا وإن لنفسك عليك حقًّا، فقُم ونَم وصُم وافطر، إنّك لا تدري لعلّ يطول بك عمرًا فتعجز عن ذلك". تصحيح هنا: جاء عندكم فاكفلوا والمروي في الحديث فاكلُفُوا، "فاكلُفُوا" بتقديم اللام على الفاء- "فاكلُفُوا من العمل ما تطيقون" يعني: تكلّفوا واعملوا ما في طاقتكم لا تقصّرون فيه ولا تتجاوزون إلى ما يخرج عن الطاقة، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا والمعنى: إذا أكثرتم مللتم فانقطعتم فانقطع الثواب عليكم، والوارد من فضل الله عليكم بانقطاعكم عن العمل بسبب تكلّفكم؛ ولكن دوموا يَدُم فضل الله عليكم ويدم ثوابه، فإنّ الله ما يقطع عن عبد جزاءًا حسنًا ولا ثوابًا على صالح حتى يقطع هو العمل، وإكثاركم للعمل يؤدي إلى قطعه فتنقطعوا، فلا تسلكوا هذا المسلك واسلكوا مسلك ما تدومون عليه وتواظبون، فيدوم لكم الفضل وإفاضة الخير والثواب من الله تبارك وتعالى. "فإن الله لا يمل حتى تملّوا" فتجنّبوا طريق الملل بالإكثار الزائد، وكان ﷺ كثيرًا ما يقول لأصحابه "ما تركت شيئا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به ولا شيء يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم".
فإن بعد الفرائض نوافل مشروعة ينبغي أن يرتّب الإنسان نفسه فيها بما يستطيع، ويرقّي نفسه ترقية ويتدرّج تدريجًا، كل ذلك محتاجٌ إلى عزمٍ وإلى حزمٍ وإلى صدق، "فصُم" أي: بعض الأيام وأفطر بعضها، "ونَم": بعض الليل وقُم بعضه، لتقتدي بالنبي ﷺ ولتُقبل عند ربّك -جل جلاله-.
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص هو الذي قال: "كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فذُكرت للنبي ﷺ، وأرسل إليّ فأتيته قال: ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ قلت: بلى يا نبي الله؛ ولم أُرِد بذلك إلا الخيرأردتُ التقرّب إلى الله، قال: فإنّ بحسبك أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقًّا ولزورك عليك حقا ولجسدك عليك حقًّا فصُم صوم داؤود؛ فإنه كان أعبد الناس، قلت: يا نبي الله وما صوم داؤود؟! قال: كان يصوم يوما ويفطر يوما، واقرأ القرآن في كل شهر، قلت: يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرين يوم، قال: قلت: يا رسول الله يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشر، وقال: يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقا ولزورِكَ عليه حقا ولجسدك عليك حقا، قال: فشدّدت فشُدّد علي. وقال لي النبي ﷺ: لأنك لا تدري لعلّك يطول بك عمر فصرت الى الذي قال ﷺ، كبرت وضعفت وما عاد قدرت اترك شيء مما وعدت به النبيّ، يا ليتني قبلت رخصته.."ليتني قبلت رخصة النبي من البداية هو أعلم بي وبحالي مع الله، فلو كان قبلت رخصته من البداية كان أحسن وأرفق بي، لا اله الا الله.. "فلما كبرت وددت أني قبلت رخصته ﷺ."
"اكلُفُوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملّوا" ، "وإن أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل"، وكان عمله ﷺ ديمة إذا عمل عملًا أثبته، ومعنى "اكلُفُوا من العمل ما تطيقون" يعني: أحبوا وتولّعوا وتعلقوا من العمل بما تطيقون، يقول: كَلِف بكذا أي: تولع به وأحبه. "اكلُفُوا من العمل" أي: تولعوا وأحبوا من العمل ما تطيقون؛ فهو السبيل الموصل لكم إلى المراد، "فإن الله لا يمل حتى تملّوا"، يقول كَلِفَ بفلانٍ أي: تولع به وأحبه. "اكلُفُوا من العمل" أي: تولعوا وأحبوا من العمل ما تطيقون المداومة عليه، فلا يأتيك الشيطان يحمّلك ما لا تطيق ولا يكذب عليك فيما تطيق يقول لك ما تطيق وأنت تطيق، هو يتربص وأنت انتبه بنفسك ولا تقصّر فيما تطيق ولا تتكلف ما لا تطيق. لا اله الا الله..
رزقنا الله الاستقامة، وأتحفنَا بالكرامة، وتولّانا بما هو أهله في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
29 ذو القِعدة 1444