كشف الغمة 219- كتاب الصلاة (109) باب موقف الإمام والمأموم وإحكام الصفوف
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: (109) باب موقف الإمام والمأموم وإحكام الصفوف
صباح الأربعاء 27 ربيع الثاني 1446 هـ
يتضمن الدرس نقاط مهمة، منها:
- حكم صلاة المأموم الواحد يسار الإمام
- هل يتأخر المأموم عن الإمام أو يساويه؟
- العبرة في التقدم والمساواة بعقب الرجل
- حُكم تقدم المأموم للضرورة
- هل تصح صلاة المرأة بمحاذاة الرجال؟
- كيفية الصفوف لجماعة الرجال والصبيان والنساء
- حكم صلاة المأموم في محل مرتفع عن الإمام
- صلاة المرأة خلف الرجال
- معنى قوله: لينوا في أيدي إخوانكم
- تخالف القلوب نتيجة تخالف الصفوف
- أمنع الصفوف من الشيطان الصف الأول
- من كان يلي النبي ﷺ في الصلاة؟
- إمامة المرأة للنساء ووقوفها بينهن
- ماذا قال النبي عند ازدحام الصحابة على الصف الأول؟
- التأخر عن الصف الأول لتقدم من هو أولى
- ملحظ ذوقي في الصلاة آخر الصفوف
- من عَمر الجانب الأيسر فله كِفلان من الأجر
نص الدرس مكتوب:
باب موقف الإمام والمأموم وإحكام الصفوف
"قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان رسول الله ﷺ إذا كان يصلي وحده فجاء رجل يصلي خلفه أقامه عن يمينه، فإن جاء آخر أشار إليهما أن يتأخرا خلفه ويقول: "إذا كنتم ثلاثة فيتقدم أحدكم عن صاحبيه يؤم بهما"، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: قمت عن يسار النبي ﷺ مرة في صلاة الليل فأخذني بيده وأدارني من خلفه وأقامني عن يمينه ولم يأمرني بافتتاح الصلاة ثانياً، وفي الحديث دليل على كراهة تقدم المأموم على موقف إمامه لقوله فيه: "فأدارني من خلفه".
وكان أبو بردة يقول: قال لي رسول الله ﷺ: "إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه"، وكانت عائشة -رضي الله عنها- إذا جاءت فوجدت أحدًا يصلي عن يمين النبي ﷺ صفت خلفه وجعلته بينها وبين رسول الله ﷺ، وكان ﷺ يقول: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل ولينوا في أيدي إخوانكم وسووا صفوفكم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق".
وكان ﷺ يقول: "أمنع الصفوف من الشيطان الصف الأوّل"، وكان ﷺ يقول: "الرحمة تنزل على الإمام ثم على من عن يمينه الأوّل فالأول"، وكان ﷺ يحب أن يليه المهاجرون والأنصار وألو الأحلام والنهى على اختلاف مراتبهم ليأخذوا عنه الأحكام.
وكان ﷺ ويصف الرجال أمام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان، وكانت عائشة وأم سلمة يؤمان النساء فيقفان بينهن لا يتقدمن، وكان ﷺ يقول: "خير صفوف الرجال أوّلها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "وكانت امرأة تصلي خلف رسول الله ﷺ من أجمل النساء فكان الصحابة -رضي لله عنهم- يبادرون إلى أول الصفوف حتى لا يرونها، فتأخر بعض الناس إلى آخر صف وصار ينظر إليها من تحت إبطه إذا ركع فأنزل الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ [الحجر:24].
قال عكرمة -رضي الله عنه-: ولما رغب النبي ﷺ في الصف الأول ازدحموا وأذى بعضهم بعضًا قال النبي ﷺ: "من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي مسلمًا فصلى في الصف الثاني أو الثالث أضعف الله له أجر الصف الأول"، وكان كعب الأحبار -رضي الله عنه- يتحرى الصلاة في أخريات الصفوف ويقول: بلغنا أن من هذه الأمة من يخرّ ساجدًا لله فيغفر الله لمن خلفه فأنا أصلي في آخر صفوف الرجال لعل الله يغفر لي".
وكان ﷺ يقول: "من عمر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله كفلان من الأجر"، وكان ﷺ يقول: "لا يقف أحدكم خلف الصف وحده".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمد لله الذي أكرمنا بالشريعة والهدى والبيان عن لسان رسوله وعبده وصفوته المقتدى؛ سيدنا محمد صلى الله وسلّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه الأكابر، ومن والاهم وبهم اقتدى فيما خفي وفيما بدا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين السادات السعداء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،
يذكر الشيخ الشعراني -عليه رحمة الله- في هذا الباب ما ورد من الأحاديث والآثار فيما يتعلق بموقف الإمام وأين يقف؟ وما يتعلق بالصفوف في الجماعة.
قال: "باب موقف الإمام والمأموم وإحكام الصفوف"
"قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان رسول الله ﷺ إذا كان يصلي وحده فجاء رجل يصلي خلفه أقامه عن يمينه" إنما يكون هذا في نوافله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إذا أتاه أحدٌ وهو يصلي من الليل أو يصلي الضحى، "فإن جاء آخر أشار إليهما أن يتأخرا خلفه ويقول: "إذا كنتم ثلاثة فيتقدم أحدكم عن صاحبيه يؤم بهما" تمييزًا للإمام عن المأموم؛ وليكون معلومًا يقتدى به.
- فإذا كان الإمام يصلي معه اثنان أو أكثر فيتقدمهم الإمام في الموقف، فيكونون خلفه في الصف الذي يليه كما فعل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وعليه الإجماع. وجاء "أن جابرا وجبارا وقفا -مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في الصَّلاةِ- أحدهما عن يمين النبي ﷺ والآخر عن يساره، فأخذ بأيديهما حتى أقامهما خلفه"، كما جاء في رواية الإمام مسلم وغيره، فيكون الإمام متميزًا متقدمًا على الصفوف لا يشتبه على الداخل، يمكنه الاقتداء به.
- فإذا قام الإمام وسط الصف أو في ميسرة الصف كان ذلك مكروهًا مع صحة الصلاة.
- إلا عند الحنابلة فقالوا: إذا وقف عن يسار الإمام وليس عن يمينه أحد بطلت صلاته، ما تصح صلاته إذا صلى عن يسار الإمام وليس عن يمين الإمام أحد.
- إذا كان وحده لا يقف على اليسار ولا الخلف بل عن اليمين، فإذا وقف عن اليسار أو عن الخلف فهو مكروه عند الأئمة الثلاثة، وتبطل صلاته عند الإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.
إذن فيصطف الواحد عن يمين الإمام، ويكون الإمام عن يسار المأموم كما جاء "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: قمت عن يسار النبي ﷺ مرة في صلاة الليل فأخذني بيده وأدارني من خلفه وأقامني عن يمينه.."، وكان يقول سيدنا ابن العباس" بتُّ عندَ خالَتي ميمونةَ -أم امؤمنين وهي أخت أمه- زوجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ فصلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ العشاءَ ثم جاء فصلَّى أربعًا ثم نام ثم قام فصلَّى أربعًا فقال : نام الغُليمُ أو كلمةً نحوَها قال : فجئت فقمت عن يسارِه فجعلني -وفي لفظ فحولني- عن يمينِه".
- فيقف الواحد عن يمين الإمام مساويا له عند الجمهور.
- قال الشافعية وكذلك محمد بن الحسن من الحنفية: يكون متأخر قليلاً -ما يكون مساوياً له-؛ بحيث تكون أصابعه عند عقب الإمام.
- وقال الأئمة الثلاثة: مساوياً له.
- وعند الشافعية: تكره المساواة للإمام؛ والتقدم عليه يبطل الصلاة؛ لكن العبرة في التقدم والمساواة بالعقب وهوُ: مؤخرة الرجل؛ لا بالكعب ولا بالأصابع:
- فلو كانت رِجْل المأموم طويلة وقام ليصلي مع الإمام وعقبه متأخر عن عقب الإمام ولكن أصابعه متقدمة على أصابع الإمام فلا يضر ذلك لأن العبرة بالعقب.
- ولو كان رِجْل المأموم صغيرة فتقدم بعقبه على عقب الإمام وكانت أصابعه خلف أصابع الإمام متأخرة فصلاته باطلة؛ لأن عقبه متقدم على عقب الإمام.
- ولابد أن يكون المأموم متأخر عن الإمام إلا عند المالكية، إذا كان هناك حاجة أو ضرورة يجوز أن يتقدم على الإمام، وتصح الصلاة عندهم، وإلا تكون مع الكراهة عندهم التقدم على الإمام، فإذا كان لحاجة أو ضرورة جائز وتصح الصلاة عندهم؛ أما لغير حاجة فلا يصح أن يتقدم على الإمام ويكون مكروه عند المالكية، وهو مبطل للصلاة عند غيرهم.
إذًا إذا كان مع الإمام رجل واحد أو صبي مميز يعقل الصلاة:
- يقف عن يمين الإمام ومساوياً له عند الجمهور.
- متأخراً عنه قليلاً عند الشافعية ومحمد بن الحسن من الحنفية.
- فإذا كان معه امرأة واحدة -يصلي بامرأة واحدة الجماعة-:
- فتقوم خلفه لا تقف لا عن يمينه ولا عن يساره بل تصلي خلفه؛ فإذا كان معه زوجته أو أخته أو عمته تصلي فتكون خلفه في الصف الذي بعد ولا تساويه ولا تحاذيه.
- ثم إن الحنفية قالوا: إذا حاذت المرأة الرجال في الصلاة فسدت صلاة الرجال.
- وقال الأئمة الثلاثة ما تبطل الصلاة إنما يكون مكروه، مكروه أن يحاذي المرأة والصلاة صحيحة.
إذًا: إذا كان مع الرجل امرأة واحدة فتقوم خلفه.
- وإن كان رجلان وامرأة:
يقيم الرجلين خلفه والمرأة في صف خلف الرجلين؛ كما كان يقيم ﷺ الصفوف في مسجده الكريم، وكان يأمر الرجال ويحب أن يتقدم أولي الأحلام والنهى الكبار من المهاجرين والأنصار، ثم إذا انتهى الرجال يصف وراءهم الصبيان -الصبيان الذكور-، ثم يصف خلفهم النساء.
ويأتي معنا أحاديث أن: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها، وخَيْرُ صُفُوفِ النِّساءِ آخِرُها، وشَرُّها أوَّلُها".
فإذا صلِّينَ النساء خلف الرجال فآخر صف أفضل، -آخر صف أفضل من الصف الذي قبله-.
وإذا صلى الرجال خلف الإمام فأول صف أفضل "إنَّ اللَّهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على الصَّفِّ الأوَّلِ قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وعلى الثَّاني؟ قالَ: إنَّ اللَّهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على الصَّفِّ الأوَّلِ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وعلى الثَّاني؟ قالَ: وعلى الثَّاني".
محاذاة المرأة للرجال في الصلاة:
- يقول جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة: محاذاة المرأة للرجال لا تفسِد صلاتهم ولكنها تكره؛ فلو وقفت في صف الرجال لم تبطل صلاة من يليها؛ ولا من خلفها؛ ولا من أمامها ولا صلاتها؛ كما لو وقفت في غير الصلاة؛ وإنما الأمر في الحديث بالتأخر لا يقتضي الفساد مع عدمه.
- وقال الحنفية: محاذاة المرأة للرجال تُفْسِد صلاتهم؛ فإن حاذته امرأة مشتهاة في صلاة مطلقة؛ وهي التي لها ركوع وسجود مشتركة بينهما تحريمة وأداءها في مكان واحد بلا حائل، ونوى الإمام إمامتها وقت الشروع؛ قال: بطلت صلاته دون صلاتها؛ لأنه هو المخاطب فيكون هو التارك لفرض القيامِ وصفُّها خلفه فتبطل صلاته عند الحنفية.
فإذا اجتمع الرجال والنساء والصبيان والصبيات وأرادوا يصطفوا الجماعة:
- فكما كان يصف ﷺ فيما أشرنا إليه؛ يقف الرجال في صف أو صفين إذا أكملوا؛ والصبيان من بعدهم؛ فإذا كملوا يقف النساء.
- والنساء لا فرق عند المالكية والشافعية بين كبيرة وصغيرة ومراهقة يصطفين.
- الحنفية والحنابلة قالوا: النساء الكبيرات أول؛ ثم البنات المراهقات وراءهن -من خلفهم الصبيات- يكنّ من خلف النساء هذا عند الحنفية والحنابلة.
- أما المالكية والشافعية قالوا: النساء يصطفين صغارهم وكبارهم مرة في الصفوف. وفي وجه أيضا يذكر عند الشافعية: أنه يصطف الصبيان بين كل رجلين، بين كل رجلين يدعون صبي ليتعلم الصلاة.
- وعند بعض المذاهب مثل الهادوية: أن الصبي يقطع الصف فيفوت ثواب الجماعة؛ فلهذا يؤخرونهم حتى إذا جاءوا وهم يصلون يبعِّدونهم ويتقدمون؛ ويخلون الصبيان في الطرف أو في الصف الذي يليهم؛ لأنه عندهم يقطع الصف -الصبي يقطع الصف فيصير الصف غير متصل- فتبطل ثواب الجماعة؛ يذهب ثواب الجماعة.
- والجمهور: أنهم لا يقطعون الصف -الصبيان ولا غيرهم-.
لا يجوز أن يتأخر الإمام عن المأموم في الموقف بالعقب عند جمهور الأئمة وجمهور الفقهاء منهم الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل.
وأجاز المالكية تأخر المأموم عن الإمام؛ إذا أمكنَ للمأمومين متابعته في الأركان؛ فشرط صحة الجماعة عندهم شرط واحد هو أن يعلم انتقالات الإمام -يتابعه-، لكنهم قالوا: أن ذلك لغير الضرورة مكروه أيضاً؛ مكروه وإن كان تصح الصلاة يتقدم المأموم عن الإمام كان لغير ضرورة فمكروه؛ وإن كان للضرورة كما يحصل أحيانًا في زحمة الحرم وغيره في المدينة فيصلون قدام ويصعب عليهم الإنتقال إلى الخلف مع الزحمة فيصلون أمام الإمام ما دام يعلمون انتقالاته فصلاتهم صحيحة عند المالكية.
علمنا أن الاعتبار في التقدّم:
- بالعقب -مؤخر القدم- لا بالكعب ولا بالأصابع، هذا إذا صلوا قيام.
- فإذا صلوا قاعدين في العبرة في التقدم والتأخر بالإليتين يتأخر عن الإمام.
- وفي صلاة الحرب إذا التحموا وقت القتال يجوز أن يتقدم الإمام وأن يتأخر، وأن يصلوا خلف القبلة أو إلى غير القبلة، كما جاء في الآية: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ)[البقرة:239]، فيصلون إذا خافوا فوات الوقت؛ يصلون وهم في أثناء القتال ويعذرون في الكر والفر والضرب دون الصوت، -ما يعذرون في الكلام- ما يتكلم ولا يصيح، يقرأ أذكار الصلاة ويضرب ويتقدم ويتأخر؛ ولكن الصياح ما هو شجاعة؛ ولا ينفع في القتال؛ ولا يتكلم لغير الضرورة، فإذًا يصلون في هذه الحالة إلى القبلة أو إلى غير القبلة ويجوز أن يتقدم الإمام؛ فتسن لهم الجماعة؛ ما يسقط سنية الجماعة حتى وهم في شدة القتال -في شدة الحرب- تسن أن يصلوا جماعة، يجوز أن يكون الإمام أمامهم وسطهم وخلفهم حيث ما كان؛ ويرفع صوته بالتكبيرات والانتقالات ويتابعونه من حيث ما هم، حرصاً من الشارٍع على الجماعة وأدائها حتى في هذه الحالة، فكيف بالآمن المطمئن قاعد كسلان يفوت الصلاة في الجماعة يقوم يصلي وحده في غفلة كبيرة. كان سيدنا ابن مسعود يقول: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتْخَلَّفْ عَنَّهَا -يعني: الجماعة- إِلَّا مُنَافِق مَعْلُوم النفاق"، والعياذ بالله تبارك وتعالى سواه.
فإذا كان موقف المأموم فيه شيء من العلو في درج ولا غيره أو في سطح، هل يجوز أن يكون موقف المأموم عالياً مرتفع في طابق فوق والإمام تحت؟
- فهو كذلك عند الحنفية والشافعية والحنابلة: نعم يصح.
- وكذلك المالكية إلا في صلاة الجمعة؛ يقول ما يعتلي على الإمام، فيكره أن يكون موقف الإمام عالياً أيضاً عن موقف المقتدين، إلا إذا أراد تعليمهم -يشاهدونه ويعلمهم- لما جاء في الحديث أنّ ﷺ صلى مرة على المنبر رءاه الناس، وإلا فعامة صلواته على الأرض نفسها مع المأمومين، وقال لما تقدم مرة ﷺ وصلى على المنبر: "إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي" كما جاء في صحيح الإمام مسلم.
- عند إرادة التعليم قال الشافعية: يسن؛ أن يرتفع على مكان يعلم من وراءه كيفية الصلاة، وأما لغير إرادة التعليم ولغَير حاجة فمكرُوه، فإذا كان لأجل الترفع في النفس والتكبر فحرام.
- قال الحنابلة: لا بأس بالعلو اليسير، قالوا: بمثل درجة المنبر، وقدّر الحنفية كذلك العلو المكروه بقدر ذراع، ما كان قدر ذراع فأكثر، فيكره للإمام أن يعتلي على المأمومين بهذا المقدار.
يقول:"وكان أبو بردة يقول: قال لي رسول الله ﷺ: "إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه"، وكانت عائشة -رضي الله عنها- إذا جاءت فوجدت أحدًا يصلي عن يمين النبي ﷺ صفت خلفه"، فالمرأة تصف خلف ولا تجيء على اليسار ولا على اليمين، "وجعلته بينها وبين رسول الله ﷺ، وكان ﷺ هو يقول: "وسطوا الإمام"، اجعلوه في وسط الصف، "وسدوا الخلل ولينوا في أيدي إخوانكم"، إذا أشار عليك تتقدم وترفع وتوسع"لينوا"، كن لينًا سهلاً منقادًا للحاجة تتقدم تتتأخر، تذهب إلى اليمين قليل تذهب إلى اليسار قليل "لينوا في أيدي إخوانكم وسووا صفوفكم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، والعياذ بالله تعالى؛ فجزاء مخالفة سنته ﷺ في تسوية الصفوف؛ أن تتخالف القلوب مصيبة كبيرة، فلا تحسبن أن شيئًا من سننه هينًا ولا أن شيء من سننه ضعيفًا بل كل سننه عظيمة، وكل سننه خطيرة ، فيترتب على ترك سنة تسوية الصفوف تخالف القلوب؛ هذا مصيبة كبيرة، مخالفة القلوب تقتضي رد الأعمال الصالحة وعدم قبولها عند الله.
فإذًا ينبغي الاعتناء بتسوية الصفوف وقد توصلوا إلى ذلك الآن بواسطة هذه الخطوط في الفرش وغيرها، وأنما كانوا في عهده يصلون فوق التراب، لكن يضبطون أنفسهم بأنفسهم، يصفون في الصلاة كصفوفهم في القتال، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ )[الصف:4]، وهكذا كان الصحابة يصلون خلف النبي ﷺ.
قال: "وإياكم وهيشات الأسواق"، في ما يكون من الفوضى وما يكون من عدم الانتظام وفي ما يكون من رفع الصوت.
"وإياكم وهيشات الأسواق"، هذا عمل لا يليق بالمسجد ولا بمكان العبادة.
وكان ﷺ يقول: "أمنع الصفوف من الشيطان الصف الأوّل"، أبعدها عن أن يتسلط الشيطان على أربابه؛ الصف الأول يكون أصعب عليه إلقاء الوسوسة إليهم والتلاعب بصلاتهم، والثاني أخف والثالث أخف وهكذا. فالصفوف المتأخرة يتمكن منهم أكثر، شياطينهم تتمكن منهم أكثر -تستطيع-، وكلما تقدم إلى جهة الإمام يصعب على شيطانه أن يأثر عليهم أن يوسوس له.
"أمنع صفوفي من الشيطان الصف الأوّل"، وكان ﷺ يقول: "الرحمة تنزل على الإمام ثم على من عن يمينه الأوّل فالأول"، وكان ﷺ يحب أن يليه المهاجرون والأنصار وألو"، يعني: أصحاب "الأحلام والنهى" يعني: أرباب الوعي والفقه "على اختلاف مراتبهم ليأخذوا عنه الأحكام".
"وكان ﷺ ويصف الرجال أمام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان، وكانت عائشة وأم سلمة يؤمان النساء فيقفان بينهن لا يتقدمن" ،فإذا صلت المرأة بالنساء فتقف وسطهن، وقد تقدم معنا أن صلاة المرأة بالنساء صحيحة عند الجمهور، ولم يرى ذلك المالكية، فقالوا: لا تؤم المرأة، لا مرأة ولا غير امرأة، فلا يصح أن المرأة تؤم، وغيرهم قال: يصح أن تؤم المرأة النساء.
وقد جاء عن السيدة عائشة وأم سلمة كما أورد في هذا الحديث قال: "وكانت عائشة وأم سلمة يؤمان النساء فيقفان بينهن لا يتقدمن". وعلمنا أيضًا أن وسطهن مساويات لها، كذلك عند الجمهور كما تقدم معنا، ولكن قال الشافعية: تتقدم قليلًا ، كما هو في الرجل الواحد إذا صلى مع الرجل يساوي عند الجمهور، قال الشافعية: يتأخر قليلاًعن الإمام، كذلك النساء المرأة إذا صلت بين الصفوف مساوية لهن عند الجمهور، قال الشافعية: تتقدم قليلاً في نفس الصف.
وكان ﷺ يقول: "خير صفوف الرجال أوّلها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"، وكان يتقدم عامة الصحابة وأخيارهم يحبون الصفوف الأولى ليكونوا أبعد عن النظر إلى النساء، فلما تأخر بعض الناس أنزل الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ)[الحجر:24]، نحن أعلم بأهل تقوى القلوب ممن يريدنا ويخافنا ويترك شهواته من أجلنا، ومن تغلبه نفسه وشهواته نحن أدرى وأعلم بكم، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ)، وإن ربك هو يحشرهم بيجمعهم كلهم وبيجازيهم على ما في قلوبهم إنه حكيم عليم جل جلاله.
"قال عكرمة -رضي الله عنه-: ولما رغب النبي ﷺ في الصف الأول ازدحموا وأذى بعضهم بعضًا قال النبي: "من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي مسلمًا فصلى في الصف الثاني أو الثالث أضعف الله له أجر الصف الأول"".
لأنه حريص عليه وماتركه إلا خشية أن يؤذي فتجنبه لأذية المسلم أفضل من إدراكه للصف الأول، فإذا كان لم يمنعه من التقدم إلا خشية الأذية فله ثواب الصف الأول وإن كان في الصف الثاني، ويؤخذ أيضًا من هذا ما جاء عن بعضهم -بعض أهل الذوق- أنه إذا تأخر عن الصف الأول أو عن الإمامة لوجود من هو أولى منه ومن هو أفضل منه ومن هو أعلى منه فإنه لا ينقص عليه من الثواب شيء، فإذا كان خشية الأذية للمسلم لا يفوت بها الثواب، فكذلك التأخر على من هو أولى بالتقدم؛ التأخر عنه أولى بأن لا يفوت الثواب من تأخر من أجل هذا، فإذا جاء أبوه أو شيخه أو كبير السن أو أو صاحب علم أو شهرة بالصلاح فتأخر للصف الأول عنه، فلهم مثل ثوابه للصف الأول لأنه لم يتأخر إلا لأمر شرعي يُقصد به وجه الله سبحانه وتعالى.
"وكان كعب الأحبار -رضي الله عنه- يتحرى الصلاة في أخريات الصفوف ويقول: "بلغنا أن من هذه الأمة من يخرّ ساجدًا لله فيغفر الله لمن خلفه فأنا أصلي في آخر صفوف الرجال لعل الله يغفر لي"، هذا ملحظ ذوقي آخر كان عليه بعض العارفين ويقول: إنما محل الصفوف الأولى من لم تتلطخ جارحة من جوارحه بمعصية الله. قال: وما مثلي أحسن أكون في الأخير يشفع في كل المتقدمين هؤلاء يكونوا شفاعة لي.
وإن من العباد من يقبله الله ويقبل من خلفه لمكانته عند الله، فقال: أحد في الصفوف من هذا النوع من هذه العينة أكون خلفهم وأُقبل بسببهم، وهذا ملحظ ذوقي آخر والأصل فيه أن الحرص على الصف الأول هو الأولى والأفضل الصف الثاني، إلا لغلبة حاله أو لمقصد شرعي آخر كما تقدم معنا، وإلا فالأصل أن الحرص على الصف الأول هو الأفضل.
وكان ﷺ يقول: "من عمر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله كفلان من الأجر"، لأنهم ازدحموا على اليمين وتركوا اليسار ثم أمرهم أن لا يبدأوا في صف حتى يكملوا الصف الذي قبله، وكانوا يحبون اليمين لما علموا من فضله ولأنه كان إذا سلّم التفت عن يمينه فكأنّ وجهه ورقة مصحف، فكانوا يترقبون النظر إلى وجهه عند خروجه من الصلاة من حضرة الرحمن -جل جلاله-، فعمروا الصف اليمين وخلوا اليسار فأمرهم أن لا يصطفوا في صف ثاني حتى يكملوا الصف الأول.
وقال: "من عمر جانب المسجد لقلة الأيسر فله كفلاني من الأجر"، وكان ﷺ يقول: "لا يقف أحدكم خلف الصف وحده"، وهذا إذن بيان مسألةٌ أخرى تأتي معنا إن شاء الله تعالى أن "لا يقف أحد من المصلين وحده في الصف".
رزقنا الله الاستقامة وإقامة الصلاة على الوجه الذي يرضاه فرائضها ونوافلها، ووفر حظنا من الصلاة وسرها والحضور معه فيها، والخشوع فيها، والرقي في مراقيها، والمعراج بها إلى مراتب القرب منه والفهم عنه، والمعرفة به والمحبة منه والمحبة له والرضا منه والرضا عنه في لطفٍ وعافية، ولا حرمنا بركة قيام ولا ركوع ولا اعتدال ولا سجود ولا جلوس ولا تشهد؛ ولا عمل من أعمال الصلاة ولا قول من أقوال الصلاة؛ وفر حظنا من جميع ما فيها واجعل لأهلها في خير ولطف وعافية.
بسر الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه
الفاتحة
02 جمادى الأول 1446