(228)
(536)
(574)
(311)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الصلاة (36) شروط صحة الصلاة - الفصل الرابع في وجوب استقبال القبلة ( 3) فرع في صلاة الخوف
صباح الأحد 15 شعبان 1445هـ
"فرعٌ: وكان ﷺ كثيرًا ما يصف لأصحابه صلاة الخوف ثم يقول: "فإن كان خوف هو أشد من ذلك فصلوا رجالًا وركبانًا". قال نافع -رضي الله عنه-: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: يعني بقوله رجالًا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ولا أراه ذكر ذلك إلا عن رسول اللهﷺ، وكان ﷺ إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوّعًا استقبل القبلة فكبَّرَ للصلاة ثم خلى عن راحلته فصلى حيثما وجهت به، قال ابن عمر -رضي الله عنهما- وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة : ١١٥].
وكان ﷺ إذا صلى على الراحلة يخفض السجود عن الركوع ويومئ إيماء، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "رأيت رسول الله ﷺ وهو متوجه إلى خيبر يصلي على حمار بالإيماء"، قال جابر -رضي الله عنه-: وكنا إذا اختلفنا القبلة ونحن سَفَر يصلي كلُّ واحد على حدة فاجتهدنا مرة وصلينا وخط كل واحد بين يديه خطا، فلما زالت الظلمة فإذا نحن صلينا لغير القبلة فلم يعد أحد منا".
وكان ﷺ لا يسمع دلالة مشرك على شيء من أمر الدين ويقول: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا". وكان ﷺ لا يأمر بالإعادة من سها فصلّى لغير القبلة، وكان عامر بن ربيعة -رضي الله عنه- يقول: قال ربيعة: "كنا مع النبي ﷺ في سفر في ليلةٍ مظلمة فتغيمت السماء وأشكلت القبلة فصلينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا لغير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: مضت صلاتكم، ولم يأمرنا أن نعيد ونزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَتَمَ وَجْهُ الله) [البقرة : ۱۱٥]، وقد تقدم أول الفصل إثبات الاستدارة في الصلاة عند العلم بالنسخ، والله أعلم".
آللهُمَّ صلِّ أَفضلَ صَلَواتِكَ على أَسْعدِ مَخلوقاتكِ، سَيِدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصَحبهِ وَسلمْ، عَددِ مَعلوماتِكَ ومِدادَ كَلِماتِكَ، كُلََّما ذَكَرَكَ وَذَكَرَهُ اٌلذّاكِرُون، وَغَفِلَ عَنْ ذِكْرِكَ وَذِكْرِهِ الغَافِلوُن
الحمدلله مكرمنا بالشريعة والبيان على لسان سيد الأكوان من أنزل عليه القرآن، وبه عرفنا الفضائل للأزمان وللأمكنة والشؤون والأحوال في السر والإعلان، به عرفنا شعبان ورمضان، وتميّزت لنا أشهر الحج والأشهر الحرم عن غيرها من بقية أشهر السّنة على ممر الأزمان، فصلّى الله على خير مُعَلِّمٍ علَّم، ومن له المولى قرَّب ونادى وخاطب وناجى وكلّم، سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن سار في ركبه، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الشيخ -عليه رحمة الله- في هذا الفرع ما يتعلق بصلاة الخوف، وكذلك بالاجتهاد في القبلة، ويذكر لنا أنه ﷺ يصف لأصحابه صلاة الخوف، يقول: "فإن كان خوف هو أشد من ذلك فصلوا رجالًا وركبانًا"، والمعنى: أن الفرائض العظيمة لا رخصة لعاقلٍ في تركها فمهما عَجِز يؤدي المستطاع؛ ولو لم يكن إلا إجراء الأركان على قلبه؛ فضلا عن الإيماء برأسه أو عينيه؛ فضلا عن الإيماء بالركوع والسجود بظهره، فكل ذلك واجب عليه. قال ﷺ: "صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب فإن لم تستطع فمستلقيًا" ولا عذر لعاقلٍ في ترك فريضةٍ من الفرائض الخمس؛ فهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ وهي عماد الدين وصلة المسلم بربه -سبحانه وتعالى- فشأنها عظيم. حتى جاء عنه ﷺ في تفسير السهو عن الصلاة أنه تأخيرها عن وقتها في قول الله تعالى: (فَوَيلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) [سورة الماعون:4-5] قال: يؤخرونها عن وقتها، فلهم الويل تهديد، ومسكنهم الويل وادٍ في جهنم لو سُيّرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره -والعياذ بالله- مسكن المتهاونين بالصلاة، فكيف بمن ترك الصلاة من أصلها؟! نعوذ بالله من غضب الله.
فلا يجوز ترك الصلاة ولو كان في حالة شدة الخوف؛ ولو في حالة القتال فيصلي:
لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، وفي التحام الحرب صلّوا مهما أمكنهم ركبان أو بالإيماء. وكذلك ما جاء التفسير في ما نقل عن "نافع -رضي الله عنه-: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: يعني بقوله رجالًا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا يعني: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها"، راكبين على خيولهم وعلى دوابّهم وهم في حال القتال، قال: "ولا أراه ذكر ذلك إلا عن رسول اللهﷺ"، هذا في صلاة الخوف. والحديث أيضاً جاء في الصحيحين يقول ابن عمر: "فإنْ كانَ خَوْفٌ هو أشَدَّ مِن ذلكَ، صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا علَى أقْدَامِهِمْ أوْ رُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ أوْ غيرَ مُسْتَقْبِلِيهَا". هكذا جاء في الصحيحين ويقول نَافِعٌ: "لا أُرَى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذلكَ إلَّا عن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم". أي: ليس بمجرد اجتهاده، وإنما يرويه عن حبيب الله ﷺ.
فإذا قدروا على الركوع والسجود وجبْ عليهم الركوع والسجود، فإن عجزوا فالإيماء يكفيه، ويكون الإيماء بالسجود أخفض من الإيماء بالركوع، قلنا: وأن الجمهور قالوا: لا بأس أن يستمروا في القتال ويكونوا مقاتلين، قال الحنفية: يشترط لجواز الصلاة بهذه الكيفية أن لا يقاتل، وإن قاتل فسدت صلاته ولكن يومئ بالركوع والسجود ومتهيئ ومتحرز من أن يصاب، لا أن يصدر منه القتال حتى ينتهي من الصلاة، واستشهدوا بتأخير الصلاة في حفر الخندق إلى أربع صلوات، وقالوا إنه لم يصليها وهو يقاتل ولا وهو يعمل.
واختلفوا في من خاف صائلا ونحوه أن يُقتل، هل يجوز أن يصلي؟ فهرب منه -جرى- فهل يجوز أن يصلي وهو يمشي ويجري؟ وهذا إذا ضاق الوقت، وعلموا أن الوقت يخرج ولم تنتهي المعركة بعد، ولم ينتهي الخوف، وأما إذا كانوا يتوقعون انتهاء الخوف وإمكانية الصلاة على التمام في أثناء الوقت فيجب أن ينتظروا، فإذا علموا أنه لا يمكن تمكنهم من أداء الصلاة على الوقت حتى يخرج الوقت فيصلّوا صلاة شدة الخوف.
وقال أيضا: "وكان ﷺ إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوّعًا.." -هذا تقدم معنا في صلاة النافلة- فيجوز أن تُصَلّى على الدابّة ومنه السيارة ومنه الطائرة، يجوز أن يُصلّي فيها النافلة وهو على الكرسي جالس فيومئ بالركوع والسجود، هذا في النافلة إن سهُل عليه أن يستقبل عند الإحرام، أو كانت الدابّة سهلة يسيرة منقادة فيصرفها إلى الكعبة وقت الإحرام وجب عليه، فإن لم يتيسر له ذلك فهو معذور ولا يلزمه.
ويقول: "استقبل القبلة فكبَّرَ للصلاة ثم خلى عن راحلته فصلى حيثما وجهت به،" ففيه وجوب الاستقبال عند تكبيرة الإحرام، وهذا إذا كانت الدابّة منقادة وهو سهل أن يتوجّه نحو القبلة عند التحريم، فأما إذا كانت مقطورة أو كانت صعبة ما تنقاد فيُحرم إلى الجهة التي هو يقصدها،: "قال ابن عمر -رضي الله عنهما- وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة : ١١٥]" أي: إذا ما دمتم قاصدين الحق -سبحانه وتعالى- ولا تنحرفوا عن القبلة باختيار ولا بتعمّد، فإلى أي جهة توجهتم فالحق يقبل منكم لأنه لا تحدّه جهة، وإنما أمرنا بحكم تركيبنا في خلقنا وصنعنا أن نعظّم بعض الجهات مثل جهة القبلة، وأن نعظّم بناية الكعبة، وأن نستقبلها هذا راجع إلينا، وأما هو -جلّ جلاله- فجلّ عن الجهات وعن الأزمنة والأمكنة، وهو خالق الكل، وهو قبل خلق السماوات والأرض، وخلق الأزمنة والأمكنة، وهو الآن على ما عليه كان -جلّ جلاله وتعالى في علاه-.
إذًا مُصلِّى النافلة في السفر على الراحلة لا يلزمه استقبال القبلة؛ وعند الجمهور سواء كان السفر طويلًا أو قصيرًا؛ ولكن يقول المالكية: إنما يكون ذلك في سفر القَصْرْ يصلّي على الراحلة ففي السفر القصير لا.
فإذا أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة وجب عليه ذلك ثم يستقبل مقصده، ثم يكون مقصده حيث المشي المعتاد الطريق نائبة عن القبلة، فإذا انحرف إلى جهة القبلة لم يظهر، فإذا انحرف إلى غير جهة القبلة فصار لا هو مستقبل مقصده ولا هو مستقبل الكعبة بطلت صلاته. إما أن يكون إلى مقصده أو إلى الكعبة، وأما جهة أخرى ما تصح الصلاة إليها، إنما عُذِر لئلا يترك النوافل وهو مسافر، فعُذِر أن يصلّي وهو ماشي إن كان على رجليه، أو راكب إن كان على دابّة؛
فإذا كان على رجليه:
ويقول سيدنا أنس -رضي الله عنه-: "إن النبي ﷺ كان إذا سافر فأراد أن يتطوّع استقبل بناقته القبلة فكبّر ثم صلّى حيث وجّهه ركابه" ﷺ. وفي قول عند الشافعية إنه أيضا عند السلام يُشترط الاستقبال، وفي قول إنه ما يلزمه في السلام أن يستقبل القبلة، وعليه مذهب الحنابلة وغيرهم أنه لا يلزمه استقبال القبلة إلا إن سهُل عليه وقت الإحرام فقط، كذلك يقول الحنفية إنه يستحبّ حتى وقت الإحرام، يستحب له ذلك ولا يجب استقبال القبلة وقت التحريم، وأن ذلك مستحب وهو عند غيرهم واجب، إذا سهل فإن لم يسهل فعند الجميع معذور ولا يلزمه استقبال القبلة.
أما من كان في مثل سفينة فيجب عليه أن يقوم خصوصًا في الفرض، وأن يؤدي الفرض بركوعه وسجوده التّام مستقبل القبلة في مثل السفينة؛ كذلك الفرض بالنسبة لمثل الطائرة فهي مثل السفينة، يعرف اتجاه القبلة ويقوم ويصلّي من قيام ويتم الركوع والسجود وهو مستقبل القبلة، حتى من تهيأ له مثل محمل واسع وهودج ويستطيع أن يتم الركوع والسجود وجب عليه ذلك، فإنما العذر للعاجز -هذا كله الذي ذكرناه- في النافلة، أما الفريضة فيجب أن ينزل عن الرّاحلة ويقف عن المشي، ويصلي الفريضة إلى القبلة كاملةً، وإنه إن أمكنه ذلك في مثل سفينة أو طائرة فليصلي كذلك، الفريضة ما هو على الكرسي، بل يصليها وهو قائم، ويستقبل جهة الكعبة المشرفة، ويتم الركوع والسجود هذا في الفرض.
وكان ﷺ إذا صلى على الراحلة يخفض السجود عن الركوع -أي: يجعل السجود أخفض- ويومئ إيماء، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "رأيت رسول الله ﷺ وهو متوجه إلى خيبر يصلي على حمار بالإيماء" أي: يومئ بالركوع ويرتفع إلى الاعتدال، ثم يومئ بالسجود أوطأ من إيماءه بالركوع، فيكون السجود أخفض.
"قال جابر -رضي الله عنه-: وكنا إذا اختلفنا القبلة ونحن سَفَر" يعني: مسافرين، "يصلي كلُّ واحد على حدة.." إذا اختلفوا في الاجتهاد، إذا اجتهدوا وقال واحد القبلة كذا، لا لا قال الثاني الكعبة هنا؛ إلا القبلة كذا، فهذا ما يجوز يصلون جماعة كل واحد يصلي لوحده، وأما إذا اتفق اجتهادهم، فيصلون جماعة إلى الجهة، وهكذا يقول: "فاجتهدنا مرة -واتفقوا على الجهة- وصلينا وخط كل واحد بين يديه خطا، -أو لم يتفقوا- فلما زالت الظلمة فإذا نحن صلينا لغير القبلة فلم يعد أحد منا".
وفي هذا خلاف بين الأئمة:
ولو صلى بالاجتهاد أربع ركعات كل ركعة إلى جهة، تغيّر اجتهاده في هذه الصلاة صحّت صلاته ولا قضاء عليه؛ لأنه بالاجتهاد حتى يتيقن أنه كان في صلاته مخالفًا للقبلة، فإذا لم يتبين الأمر فالاجتهاد لا ينقض اجتهاد، إلا أنهم إن اتحد اجتهادهم في الجهة صلّوا جماعة وإن كان اختلفوا فكل واحد يصلي وحده؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة الثاني فكيف يصلّوا جماعة.
يقول: "وكان ﷺ لا يسمع دلالة مشركٍ على شيء من أمر الدين"، وهذا قاعدة من قواعد الشرع وأصل من الأصول في الدين، لا يُؤخذ الدين إلا عن أهله وبسنده إلى معدنه إلى رسول الله، المؤتمن على تبليغنا ولا يجوز لنا بطريقة من الطرق أبدًا، ولا في أي حال من الأحوال أن نستفيد حكم الدين من نصراني ولا من يهودي ولا من مجوسي، ولا من هندوسي ولا من مشرك ولا من ملحد، ما دخلهم في الدين هؤلاء؟ هؤلاء أبعد الناس عن الدين فلا يجوز أخذ الدين عنهم، إنما يُؤخذ الدين عن أهله، "إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم"، {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [سورة الفرقان:59]، (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء:83]، (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [سورة النحل:43]، وهكذا فلا يجوز أن يفسح المجال لكافر يقول أعلمكم الدين وهكذا، وقد حرصوا لأجل الانحراف ولأجل الانجراف، ورأسوا أن يتدخلوا في مفاهيم الدين، وحرصوا على أخذ بعض أولاد المسلمين وبعض أولاد علماء المسلمين إلى بلدانهم الكافرة يعلمونهم الدين، فيجيء الدين عبارة عن نظريات رأسها إبليس؛ وصاغها على أيدي جماعة من المتربصين بالإسلام؛ ليفهموا مفاهيم خاطئة عن النصوص؛ ويتصوّروا تصور آخر عن الدين؛ فيأتون مخالفين لآباؤهم ولمسالك خيار الأمة وعلمائها على مدى القرون كلها. ويقولون الدين إلا كذا وهذا المفهوم، أين سندك به؟ إلى من يرجع هذا المفهوم الذي أتيت إليه؟ وهم يفسرون لهم أن معنى الآيات كذا والأحاديث كذا بهوى، إذا كان مسلم وعالم لا يجوز أن يقول في القرآن برأيه، حتى يستند إلى اجتهاد صحيح وهو مسلم وعالم فكيف واحد دونه؟ كيف الفاجر يقول لكم معنى الحديث هذا معناه كذا؟ هذه خبالة وضلالة وبلاهة؛ ما لهم حق في الدين ولا ما يتعلق بالدين من الأخلاق والقيم، هذه نأخذها عن ربنا بواسطة نبيه، وعن نبيه بواسطة صحابته وآله، وعن آله وصحابته بواسطة السند إليهم، هذا هو الدين، دين الله، ما لأحد حق فيه. قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسْنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبُ) [سور النحل: 116] لأن الحق لله، ما هو لأحد ثاني.
ولذا تغيّر ﷺ لمّا رأى ورقة مع سيدنا عمر بن الخطاب، وأخذها من بعض اليهود فيها كلام منسوب إلى التوراة، فغضب ﷺ من عمر، وقال: "أتهوًّكٌ في الإسلام؟ ألم آتكم بالقرآن؟ لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا اتباعي"، موسى الذي أنزلت التوراة عليه لو كان في الحياة ما يجوز له أن يدين الله إلا باتباع النبي محمد ﷺ، فكيف بغير ذلك؟ فلهذا ما يُؤخذ الدين عن اليهود، ولا عن النصارى، ولا عن المجوس، ولا عن الهندوس، ولا عن المشركين، ولا عن الملحدين، ولا أي أحد من الكفار؛ بل وما يُؤخذ الدين حتى عن عوام المسلمين، ومن لا سند له، ولا ذوي الأهواء، وما يُؤخذ الدين إلا بسند قويم صحيح منتهٍ إلى أكابر الأمة وخيارها، إلى آل البيت الطاهر، إلى الصحابة الأكابر، إلى الحبيب الأعظم ﷺ. وما تفرّع عن ذلك من اجتهاد من تأهل وتهيأ للاجتهاد من أهل الاستنباط فتؤخذ منه الأقوال والاجتهاد.
وليس كل خلاف جاء معتبراً *** إلا خلاف له حظٌّ من النظرِ
وبين أهل السنة أظهر الله تعالى فيما يتعلق بفروع الشريعة الأئمة الأربعة، مع إن المجتهدين مئات من أهل السنة بلغوا رتبة الاجتهاد، سواء في عصر الصحابة أو عصر التابعين وتابع التابعين مئات من المجتهدين، ولكن الذين حُرّرت اجتهاداتهم وضُبِطت، وتُلُقيت عنهم، هؤلاء الأربعة واشتهروا بين أهل السنة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وفي أصول الدين اشتهر بين أهل السنة أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي؛ وذلك بما حرّروا وأخذوا بالسند المفاهيم الاعتقاد في الكتاب والسنة الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، ونزّهوه عن ابتداع المبتدعين وتأويل الجاهلين، فلما قاموا بهذه المهمة نُسب إليهم وقيل أشعري وماتريدي، وما هو إلا اعتقاد القرآن والسنّة المطهرة وما كان عليه الصحابة والتابعون.
فالأشعرية والماتريدية هم أهل السنّة، وهذان الإمامان ظهرا بحفظ وحراسة معاني الإيمان الموروثة عن رسول الله وصحابته وأهل بيته -صلوات الله وسلامه عليع وعليهم أجمعين-، وكما اشتهر بينهم في علوم الإحسان ساداتنا علي زين العابدين والحسن البصري وسعيد بن المسيب، ومن تبعهم من حارث المحاسبي، وكذلك من تبعهم من أبي طالب المكي ومن الإمام الغزالي، فهؤلاء أراكين علم الإحسان برز بعد ذلك أمثال سيدنا عبد القادر الجيلاني، والإمام أحمد الرفاعي، والإمام أحمد البدوي وأمثالهم، فهؤلاء أراكين علم الإحسان.
فعلوم الإسلام ظهرت في اجتهادات الأئمة الأربعة، وعلوم الإيمان ظهرت في اجتهادات الإمامين أبي حسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي، وعلوم الإحسان ظهرت في هؤلاء -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، وكلهم وارثون ومتّبعون، وأهل الاجتهاد مقتدون لا مبتدعون ولا متقوّلون برأي ولا بمجرد العقل، ولكن بالاتباع والاجتهاد في الاتباع -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
لهذا وجب علينا أن نعرف عمّن نأخذ الدين وممّن نقبل الدين؟ فانظر إلى حال الكثرة من المسلمين لو أمامه أقوال المعتبرين من الأئمة الكبار، يقول الآن الوقت الثاني ماذا تقول أروربا.. ماذا؟ أوروبا ولا أمريكا آلهتك ولا أنبياءك؟ هم أنبياءك ولا آلهتك؟! ها! تبًا لك ولكل من خالف شرع الله، يا أبله يا بليد، ما يُؤخذ الدين إلا عن الله بواسطة رسوله؛ ولا يُؤخذ عن رسول الله إلا بواسطة آله وصحابته؛ ويؤخذ عن آله وصحابته بواسطة السند إليهم؛ ماذا علينا من أوروبا ولا من آل أمريكا ولا من روسيا ولا الروسيين لا آلهة ولا أنبياء، ما دخلهم في قيمنا؟ ما دخلهم في ديننا؟ ما دخلهم في أخلاقنا؟ لا آلهة ولا أنبياء، من هم هؤلاء؟ وأنت من كي تضع من أمام الرب؟ من هذا الذي تأت به لمواجهة الله -سبحانه وتعالى- ومواجه للرسول؟ من هؤلاء؟ أنت بعقلك ولا بالعقل؟ بعدك ما عرفت معنى لا إله إلا الله من أصلها؟ صحح مفهومك في لا إله إلا الله، واعلم أنه لا إعتبار لفكر ولا جماعة ولا هيئة ولا شعوب ولا حكومة أمام وحي الله وبلاغ رسوله، لا إعتبار لأحد؟ باقي إبليس شيخك فقط، واحنا انتهينا من الدين كله -أعوذ بالله من غضب الله- إنما الدين لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا شرع لغربي ولا لشرقي ولا لعربي ولا لعجمي، الكل عباد الله والحكم حكم الله، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة النحل: 115-116].
ألا إن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرّم الله، وما ناقض ذلك فباطل وزور مردود مدحوض مرمي به، لا يجوز لمسلم أن يخضع له أصلًا (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء :83].
"وكان ﷺ لا يسمع دلالة مشرك على شيء من أمر الدين ويقول: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا"؛ ولذا أتباع أهل الانحراف وأهل الفسق في الآخرة لما يشتكون منهم، ويرجعون بعد ذلك إليهم يقولوا (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ) [سورة غافر: 47] يقولوا: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) [سورة إبراهيم:21]، أصلا نحن الضّالين لماذا تتبعونا؟ تبعتم الضّالين فأنتم الضّالين مثلنا خلاص كلنا في النار، قال (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) [سورة إبراهيم:21]، أرسل لكم الهدى ومهتدين أنبياء ورسل تركتموهم وجئتوا ورائنا والآن بتكلمونا -خلاص- أنتم مثلنا نار نار وغضب وغضب وخلاص انتهت المسألة (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [سورة إبراهيم:21] ما عاد في مخرج ولا طريق، خالفنا الرب والرسل، ما في إلا النار قدامنا نحن وإياكم فقط، كيف تتبعونا؟! من قال لكم تتبعونا! (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [سورة البقرة:166]، (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) [سورة إبراهيم:21] أصلا نحن الضالين من قال لكم تتبعونا؟! وتابع الضال ضال، وقال الله تعالى: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) [سورة إبراهيم:21] أصلا نحن في كفر وضلال وأنتم مثلنا ما في إلا النار ما في كلام ثاني ما عاد شي خلاص، {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [سورة إبراهيم:21] يقول الرأس حقهم الكبير: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [سورة إبراهيم:22]، في وعد للرّحمن أنزله على الأنبياء والرسل وقال: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة:7-8]، (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [سورة النساء:59] وعد مني أنا؟ قلت لكم اعملوا.. اعملوا، وعد الله الحق وأنا أُخلِف، بعدي خالف ما في شي (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [سورة إبراهيم:22] لماذا تروحوا ورائي؟! كونكم في الحياة تستطيعون تتبعون الأنبياء والأولياء والصالحين تروحوا معهم، تركتهم وجئتوا عندي والآن با تحتجّون عليّ (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ) [سورة إبراهيم:22] لا أنقذكم ولا تنقذوني ما عاد شي -خلاص- كلنا وسط الجحيم، (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ) [سورة إبراهيم:22] لمّا يقرأ الآية ابن عباس يقول: ضحك عليهم في الدنيا وضحك عليهم في الآخرة، هو نفس الكلام حقه وهذا هو (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [سورة النساء:120]، فالله يرزقنا الاستقامة وأخذ الأمر عنه وعن رسوله على الوجه الذي يرضاه، ويعزّنا بذلك ويرفعنا بذلك ويشرّفنا بذلك.
"وكان ﷺ لا يأمر بالإعادة من سها فصلّى لغير القبلة، وكان عامر بن ربيعة -رضي الله عنه- يقول: قال ربيعة: "كنا مع النبي ﷺ في سفر في ليلةٍ مظلمة فتغيمت السماء وأشكلت القبلة فصلينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا لغير القبلة.." ونظرنا أن المشرق كذا وبعدين طلعت الشمس وغلطنا في الاتجاه- "فذكرنا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: مضت صلاتكم.." أي: صحت أديتوها باجتهاد- "ولم يأمرنا أن نعيد ونزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَتَمَ وَجْهُ الله) [البقرة : ۱۱٥]، وقد تقدم أول الفصل إثبات الاستدارة في الصلاة عند العلم بالنسخ، والله أعلم"، لما قال لهم القائل: أنا صليت مع النبي وقد أُنزل عليها التوجه إلى الكعبة تحولوا وهم في الصلاة كمّلوا باقي الصلاة إلى الجهة الأخرى، وهذا يؤيد قول من قال: أنّ من صلى باجتهاد إلى أي جهة لا يلزمه الإعادة ولو تيقن الخطأ؛ ولكن قال قائلون: أنه ما عليه الإعادة مادام الأمر قائم على اجتهاد؛ فإذا تيقن الخطأ بعلامة ناجزة وجب عليه أن يعيد تلك الصلاة والله أعلم.
رزقنا الله تعظيم أمره وحسن امتثاله واتباع نبيه ﷺ، والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، وفي هذا يخلط بعض الناس بين شؤون المتاع الدنيوي والعمل في الصناعة وفي الزراعة وهذا ممكن، بثها الحق تعالى للمؤمن والكافر هذا ممكن، وممكن أن تؤخذ عن الكافر الصنعة والحرفة، لكن أخلاق لا، قيم لا، دين لا، ما يجوز، أما صناعة ولا زراعة ولا تجارب ولا حراثة قد كانوا أكابر الصحابة مع اليهود يتاجرون ويستأجرون ويؤجرون ويتبايعون ويشترون وما إلى ذلك، فأخذ شيء من الشؤون المادية البحتة التي لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالقيم ولا بالدين جائز؛ وأما نخلط هذا بأخذ شيء منهم يتعلق بقيمنا أو بديننا لا، ما نحن أتباع فجار ولا كفار، نحن أتباع المختار نحن أتباع نور الأنوار وسر الأسرار ﷺ.
رزقنا الله الإستقامة واتحفنا بالكرامة، وبارك لنا وللأمة في النصف من شعبان وبارك لنا في النصف الثاني والأخير منه، وهيئنا لرمضان تهيئة حسنة نسعد بها بنظرة الله في أول ليلة من ليالي رمضان، ونحوز من سر نظره إلى محبوبيه في تلك الليلة مقاما عظيما نرقى به أعلى مراتب ذروة دخول الجنة بغير حساب، والمرافقة لسيد الأحباب، ويرفعنا الله فيها مراتب ويعلي لنا فيها الدرجات ويقويها لنا ويعمقها لنا، حتى نسعد بشرف المرافقة له على خير رجوع وأعلاها وأكملها ويمتد لنا من سر ذلك ما نحسّه ونشعر به في دنيانا قبل آخرتنا، في كريم المرافقة لهذا الجناب الأشرف، في كريم المرافقة لهذا الجناب الأشرف، في كريم المرافقة لهذا الجناب الأشرف، حتى نمسي ونصبح ونحن معه محبة واتباعا واقتداءا وشهودا وأدبا وانطواءًا فيه ﷺ، فيتعجّل لنا في الدنيا من سرّ مرافقته ما يعظم لنا به النصيب في البرازخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة من شريف تلك المرافقة، لهذه الذات المكرمة والجناب الأطهر الأطيب الأنور الأشرف، اللهم اربطنا به ربطًا لا انحلال له أبدا، وارفعنا به أعلى مراتب السعداء، وتولّنا به ها هنا وغدا، واكفنا به شرّ النفس والهوى والشياطين والدنيا وشرور جميع العدا، وثبتنا على قدمه قدم الهدى فيما خفي وفيما بدا، واجعلنا من أسعد أمته بحسن متابعته والاقتداء به والتخلّق بأخلاقه والتأدب بآدابه، وافتح لنا به أبواب عنايتك الكبيرة ومنّتك الوفيرة وسر بنا في خير سيرة، واجعلنا به ﷺ من عابديك على بصيرة، والدّاعين إليك على بصيرة منيرة، بجاهه عليك ومنزلته لديك، واجعله مُسلِما وجوهنا إليك، بحقائق ما أمرت وقلت فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني، أجعل قلوبنا ووجوهنا مسلمة إليك على يدي هذا الأوجه والحبيب الأنزه ﷺ في خير ولطف وعافية.
بسرّ الفاتحة
إلى حضرة النبي محمد اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه
الفاتحة
18 شَعبان 1445