(536)
(208)
(568)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب كشف الغُمَّة عن جميع الأمة، للإمام عبدالوهاب الشعراني: كتاب الإيمان والإسلام
الأربعاء 27 شوال 1444هـ
- معاني الإيمان والإسلام والفرق بينهما
- شرح حديث: من مات على دين عيسى فهو على خير
- قوله ﷺ: من سمع بي اليوم ولم يؤمن فقد هلك
- من الذين يخرجون من النار ويخلدون في الجنة؟
- انحراف قول المُرجئة والقائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار
- من هو آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة؟
- ما معنى الإحسان وما هو وصف أهله؟
- ترقّي أهل المعرفة بالله إلى ما لا نهاية
- ما معنى الإيمان بالموت والإيمان بالقدر؟
- الرد على من يعصي ويقول قد قدّر علي
- من الذي ذاق طعم الإيمان؟
- الذي يذهب الهم والحزن
كتاب الإيمان والإسلام
كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله ﷺ يقول: "من مات على دين عيسى عليه السلام فهو على خير، ومن مات قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن فقد هلك".
وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: كنت لا أسمع عن النبي ﷺ شيئاً إلا وجدت تصديقه في القرآن العظيم، فبلغني أن رسول الله ﷺ قال: " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار".
فجعلت أقول: أين مصداقه حتى أتيت إلى هذه الآية: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتَلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) - إلـى قــولــه - (فَالنَّارُ موعده) [هود: ۱۷] فعلمت أن المراد بالأحزاب الملل كلها.
وكان ﷺ يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
وكان ﷺ يقول: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
وكان ﷺ يقول: "من قال رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ رسولاً، وجبت له الجنة".
وكان ﷺ يقول: "من كان آخر كلامِهِ لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال رجل: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق".
وكان ﷺ يقول: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه".
وكان منيب رضي الله عنه يقول: رأيت رسول الله ﷺ في الجاهلية وهو يقول: "أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قال: فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبَّه".
وكان ﷺ يقول: "عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً، وإن أصابته ضرَّاء فكان صبر خيراً".
وكان ﷺ يقول: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يموت ولم يؤمن بي ولا بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار".
وكان ﷺ يقول : "إذا أفصح أولادكم فعلموهم لا إله إلا الله، ثم لا تبالوا متى ماتوا".
وقيل لوهب بن منبه رضي الله عنه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ فقال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
وكان كعب الأحبار رضي الله عنه يقول في قوله ﷺ: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة "، كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، فلما نزلت لم تنفع لا إله إلا الله إلا بأدائها، والله أعلم.
فصل في حقيقة الإيمان والإسلام
كان رسول الله ﷺ يقول : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً"، زاد في رواية: "والغسل من الجنابة" .
وكان ﷺ يقول : "مكتوب على باب الجنة لا إله إلا الله، أنا لا أعذب من قالها، وكان رسول الله ﷺ إذا سئل عن الإيمان يقول: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وكان ﷺ يقول: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
وكان ﷺ يقول : لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر"
وجاءت جارية سوداء إلى رسول الله ﷺ أراد أهلها عتقها فشكوا في إسلامها واختلفوا في حالها فقال لها رسول الله ﷺ : " من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا ، قالت : رسول الله قال : أعتقوها فإنها مؤمنة"
وكان ﷺ يقول : "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ رسولاً ، وكان ﷺ يقول : "الإيمان نظام التوحيد" ، وكان ﷺ يقول: "الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ".
وكان ﷺ يقول : "الإيمان عفة عن المحارم، وعفة عن المطامع" ….. (يتبع في الدرس التالي)
الحمد لله مكرمنا بالشريعة والدين والبيان على لسان خاتم النبيين سيدنا محمد المجتبى المصطفى الأمين صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى تابعيهم بالصدق واليقين وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد.. فقد جعل الله في مراتب الدين الإسلام والإيمان والإحسان وإن كانت حقيقة الإسلام لا تتم وتتحقق إلا بالإيمان، وحقيقة الإيمان لا تتم ولا تتحقق إلا بالإسلام، فهناك من حيث اللغة ومن حيث الإصطلاح فوارق بين الإسلام والإيمان ومنها ما جاء في الكتاب العزيز عن من أسلم بظواهر الأحكام وبالجوارح ولمّا يفضي الإيمان إلى قلبه بعد في قوله سبحانه: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 14] مع أن أول أركان الإسلام النطق بالشهادتين وهي إيمان، ولكن تُجرى الأحكام على من نطق بهما بلسانه ولا سبيل للناس أن يطلعوا على ما في قلوب الناس فمن أبداها فهو مسلم.
والإيمان يتعلق بحقيقة التصديق القلبي ولا يتم حقيقة التصديق إلا بالخضوع لأمر الله وطاعته والقيام بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى عنه، وهكذا يرتبط الإسلام بالإيمان والإيمان بالإسلام في حقيقتهما، وكل منهما سلم إلى مراتب الإحسان وهي المرتبة الثالثة في دين الله تبارك وتعالى وهي تمكُّن شهود الحق من القلب حتى يعبده كأنه يراه، وهي التي تفتح أبواب المعرفة الخاصة والمحبة الخالصة ويترقى بها إلى شريف المقامات العظيمة.
حققنا الله بحقائق الإسلام والإيمان وجعلنا من خواص أهلها ورفعنا أعلى مراتب الإحسان، ورقَّانا في مراتب المعرفة به والمحبة منه والمحبة له والقرب منه سبحانه وتعالى ونيل رضوانه الأكبر إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه.
والإيمان هو: التصديق، يرى بكل ما بعث به سيدنا رسول الله ﷺ عن الله تعالى، فهو كما ذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى.
والإسلام هو: الاستسلام والانقياد، وهو من جهة اللغة أعم أن يكون الاستسلام بالظاهر وبالباطن فكله يشمله الإسلام، وهو بالاصطلاح أخص وهو التسليم لظواهر الأحكام.
ويقول: " كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله ﷺ يقول: "من مات على دين عيسى عليه السلام فهو على خير…" أي: قبل بعثته عليه الصلاة والسلام أو قبل وصول خبر بعثته إلى ذلك المتمسك بدين سيدنا عيسى فإنه هو الإسلام وهو دين الحق الذي تركه سيدنا عيسى في قومه لمن لم يبدل منهم ولم يغير فهو دين الحق الذي يجب عليهم أن يلتزموا به ومن التزم به فهو من الناجين وهو من المؤمنين الذين يحوزون رضوان الرب ودخول جنته جل جلاله، وكذلك من قبل عيسى من النبيين والمرسلين من مات قبل عيسى على دين سيدنا موسى فهو من أهل الجنة هو على خير، ومن مات كذلك قبل موسى على دين من قبله من الأنبياء والمرسلين فهو على خير، وكذلك من مات من أولاد آدم على دين آدم فهو على خير، ومن مات من أولاد شيث وهو على دين شيث فهو على خير، إلى أن بعث الله تعالى من بعده من الرسل إلى إدريس عليه السلام إلى من بعث الله بعده من الرسل إلى نوح عليه السلام وهكذا.
كلُّ رسولْ مصدق لمن قبله، وإذا بُعِثَ رسولٌ إلى قوم أو جماعة وجبَ عليهم الإيمان به، ولا يتمُّ إيمانٌ برسولٍ حتى يؤمنَ بجميع الرسل والأنبياء الذين بعثوا من قبل.
ولذا قال الله تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم ..) أي المرسلين السابقين (.. بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) [المائدة: 46] فكل رسول مصدق لمن قبله ولما بين يديه من الكتب المنزلة فكلهم أهل دين واحد، دين الإسلام من عهد آدم إلى خاتم الأنبياء خير الأنام ومن اتبعه (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران: 68] فيجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين والتصديق بما جاءوا به، فمن كان على ملة أحد من الأنبياء لم يحرِّف ولم يبدل فمات على ذلك فهو من المؤمنين الذين يدخلون الجنة.
"...ومن مات قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع بي اليوم…" عرف أن الله بعث النبي محمد ﷺ "...ولم يؤمن فقد هلك" استحق الخلود في النار بتكذيبه بمحمدٍ ﷺ فإن الله أرسل سيدنا عيسى مبشراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فمن كان متبعاً لعيسى فسمع بأحمد وجب عليه اتباعه والإيمان به، فمن كذبه فهو في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى، لا يقبل الله تبارك وتعالى إيماناً مع تكذيب بواحد من رسله من نص عليهم سبحانه في كتابه، وأوجب علينا الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين عامة وإجمالاً.
وأوجب علينا الإيمان بأسماء من ذكرهم من النبيين والمرسلين تفصيلاً، وهم المذكورون في كتابه سبحانه وتعالى خمسة وعشرون رسول، يجب علينا الإيمان بهم تفصيلاً أي: بمعرفة أسمائهم أن آدم رسول الله، وأن إدريس رسول الله، وأن نوح رسول الله وهكذا من بعدهم من الذين نص الله على ذكرهم في الكتاب العزيز، فمجموعهم خمسة وعشرون رسولاً ذكرهم الحق جل جلاله وتعالى في علاه، فهؤلاء يجب الإيمان بهم تفصيلًا، وأما بقية الأنبياء والمرسلين لا يجب علينا حفظ أسمائهم، ولكن يجب علينا التصديق بهم والإيمان بأن كل ما جاءوا به عن الله فهو حق وصدق. فآمنا بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول بعثه الله.
كذلك الإيمان بالكتب، يجب أن نؤمن بجميع كتب الله المنزلة على جميع الأنبياء والمرسلين، وقد شرفنا الله بالقرآن مهيمن على جميع الكتب وفيه الغنية وفيه الكفاية عن جميع الكتب. فآمنا به وبكل كتاب أنزله الله.
قال تبارك وتعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) [المائدة: 48]
"وكان سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: كنت لا أسمع عن النبي ﷺ شيئاً…"" يعني: ما يبلغني حديث من أحاديث النبي "...إلا وجدت تصديقه في القرآن العظيم، فبلغني أن رسول الله ﷺ قال: " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار". فجعلت أقول: أين مصداقه حتى أتيت إلى هذه الآية: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتَلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ…)
(أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ) يعني: جميع الملل والأديان يهودية ونصرانية وغيرهم "" (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود: 17]" (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) فكل من لم يؤمن بسيدنا المصطفى محمد وقد بلغه خبر بعثته فهو كافر مخلد في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.
"فعلمت أن المراد بالأحزاب الملل كلها." وقال سبحانه وتعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ)[غافر: 5]
"وكان ﷺ يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"."
أي: من مات على ذلك فلا بد من أن يدخل الجنة، لأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما العمل فيحاسب عليه الإنسان فما كان من السيئات والذنوب والمعاصي ما شاء الله غفره وعفا عنه، وما لم يشاء أن يغفره أخذ عليه ثم عذب صاحبه بقدر ما لم يعفو عنه من الذنوب ثم ينقل إلى الجنة.
فهذا معنى قوله: "...أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أي: فإن عمله يحاسب عليه، فإما أن يعفى عنه وإما أن يعذب بمقدار السيئات التي لم يعفَ عنها ثم يخرج من النار إلى الجنة، جعلنا الله من أهل جنته وادخلنا إياها بغير حساب ولا عذاب ولا عقاب، آمين اللهم آمين.
وفي هذا أدرج الإمام علي بن أبي بكر بن عبد الرحمن السقاف في عقيدته: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن كل ما جاء به رسول الله ﷺ حق.
تثبيتاً لهذا الإيمان في القلب، ورجاء أن يُختم العمر بهذه الشهادة وتكون سببًا لدخول الجنة.
"وكان ﷺ يقول: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان"" يخرجُ من النار (في الحديث الآخر) "...من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" يخرجُ" وهكذا.
وجاء من انحرف وشذ في الإعتقاد في المسلمين من جعل مرتكب الكبيرة مخلد في النار -والعياذ بالله تعالى- وفي قلبه مثاقيل من الإيمان؛ فلابد من خروجه من النار، فقولهم: مخلد؛ يناقض قوله ﷺ: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"،
وجاء آخرون وقالوا: الإيمان هو المهم؛ ومن مات على الإيمان لا يدخل النار أصلًا؛ نقول له: فكيف لا يدخل؟ والنبي قال: يخرج، يخرج من النار؛ كيف يخرج من دون ما يدخل؟! ممكن يخرج من النار من دون ما يدخلها؟! ما يتأتّى! أول يدخل بعدين يخرج ما يتأتّى خروجه إلا بعد دخول؛ فيعذب بقدر ما عُذِّب فلا كلام المُرجئة صحيح؛ ولا كلام القائلين بتخليد من ارتكب الكبيرة في النار صحيح؛ لا هذا صحيح ولا هذا صحيح، ولكن الله تعالى يعاقب ويعذب من شاء على ما كان من ذنوبهم مُددًا تتفاوت إلى أن يكون آخرهم سبعة آلاف سنة في النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فيخرج بعد سبعة آلاف سنة آخر من يخرج من النار.
هذا الذي سماه النبي ﷺ جُهينة؛ وهو آخر من يدخل الجنة، وما قبل ذلك من يُعذب السنة والسنتين والأقل والأكثر إلى سبعة آلاف؛ فآخرهم عنده ذرة من إيمان؛ ومن يقدر حتى سبع دقائق؟ حتى سبع ثواني؟ حتى ثانية واحدة؟ من يقدر على النار؟ اللهم أجرنا من النار.
وكان ﷺ يقول: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" -جل جلاله وتعالى في علاه- وهكذا؛ كما هو مشهور في حديث جبريل أجاب ﷺ عن الإحسان بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه" كأنك تراه كأنك، تراه كأنك تراه؛ أمر عظيم كبير يقتضي إجتماع جميع القوى وقوة الحضور وكمال الخضوع والإنكسار؛ كأنك تراه؛ أمر عظيم جليل كبير؛ وهو شأن المحسنين -ألحقنا الله بهم- فهم يشهدون رؤيته إياهم وإطلاعه عليهم فكأنهم يرونه من قوة إيمانهم ويقينهم وخوفهم منه ورجائهم فيه وأدبهم معه؛ فكأنهم يرون الله؛ يصلُّون كأنهم يرونه يقرأون كأنهم يرونه، يحضرون مجالس العلم كأنهم يرونه، ويتصدقون كأنهم يرونه - سبحانه وتعالى-، يبرُّون كأنهم يرونه، يواصلون الأرحام كأنهم يرونه، يذكرونه كأنهم يرونه جل جلاله وتعالى في علاه.
فهذا شأن الإحسان الذي يتمكن من القلب أفضى إلى العرفان، وليس للمعرفة بالله من نهاية، ولا يزال أربابها يترقَّون فيها درجة بعد درجة ورتبة فوق رتبة إلى ما لا نهاية سبحان الله، ولهذا الإحاطة به بمعرفةً مستحيلة من ملَك أومن نبي أومن دونهم من الخلائق؛ فإنه أعظم وأجل من أن يُحيط به مُحيط؛ ولا يحيط بصفته ولا بأسمائه محيط من الخلائق كلهم أجمعين، -جل جلاله وتعالى في علاه- ولكن يُكرمون من المعرفة بما سبق لهم في الأزل؛ ولا يزالون يزدادون معرفة ولا نهاية لمعرفة الله جل جلاله وتعالى في علاه.
وكان ﷺ يقول: "لَايؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَوْمِنَ بِأَرْبَعِ يشَهَدَ أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَني مُحَمَّدْ رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ؛ وَيَوْمِن بِالْمَوْت" ما معنى يؤمن بالموت؟ أحد يكذب بالموت؟! وكل الناس يعلمون أنهم سيموتون حتى الملحد حتى الكافر يعرف أنه سيموت؛ ولكن إيمانه بالموت أنه بقضاء الله تعالى وقدره وتقديره وتوقيته، كما أحياه يُميته -سبحانه وتعالى- (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [غافر:68].
"ويؤمن بالبعث بعد الموت؛ ويؤمن بالقدر" أن الله سبحانه وتعالى قد سبق في علمه كل ما هو كائن وقدَّرَ ما سيكون تفصيلًا وإجمالًا إلى الأبد في شؤون الدنيا والبرزخ والآخرة والجنة والنار وما إلى ذلك؛ كلُّهُ بقدره وكله بقضائه وكله بعلمه وإحاطته جل جلاله وتعالى في علاه، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29]، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ). وقالﷺ: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"، إذًا: لا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ فإنه صاحب الملك على الحقيقة ورب المملكة لا يكون فيها إلا ما قضى وقدّر و(لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ …) [الأنعام:149]، ولا عذر لعاصي أن يعصي ويقول: قد قُدِّر علي. كما لا يحرم ثواب طائع، ويقال: إنما أطعت الله بالقدر فلا ثواب لي؛ بل يقال: (... مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:123]، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:40]، (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا…) [الأنعام:160]. ولا يُمنع هذا من الثواب؛ لأن: الطاعة مُقدَّرة؛ ولا يُحجب هذا عن العذاب؛ لأن: المعصية مُقدَّرة، الكل مُقدَّر والمطيع مثاب والعاصي معاقب بإرادة الله جل جلاله وتعالى في علاه؛ وقد رتَّبَ الثواب والعقاب على ما أعطى الناس فيه إختيارًا وإرادة؛ كل عاقل في الأرض يُفرِّق بين من يرتعش بسبب مرض فتكون حركته لا إرادية ولا إختيارية، وبين من يمد يده قاصدًا، فرق بين هذا وهذا؛ فهذا عنده الإرادة والإختيار؛ ففرق بينه وبين من ترتعش يده من دون إختيار؛ فهذا مايعاقب على حركة يده هذه الي من دون إختيار؛ لكن صاحب الحركة بإختيار (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8]
"يقول: وجاءت جارية سوداء لرسول الله ﷺ أراد أهلها عتقها أي:عن كفارة؛ فشكُّوا في إسلامها واختلفوا فيها قال لها: رسول الله ﷺ قال: رسول الله من ربك؟ قالت: الله قال: ما أنا؟ قالت: رسول الله قال:اعتقوها فإنها مؤمنة" -ﷺ- وإنما يُعرَفُ إيمان المؤمن بقوله وبشهادته وبتعبيره عن تصديقه.
قال: وكان ﷺ يقول: "من قال رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً…" "رضينا بالله رباً" ومن رضي به رباً خضع لجلاله وانقاد له وراقبه وخشيه وخافه ورجاه "رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً" (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85] "وبمحمد رسولا" خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم.
وكان ﷺ يقول: "الإيمان نظام التوحيد" أي: ينتظم ويقوم عليه توحيد الله سبحانه وتعالى بالإيمان بما أنزل وبمن أرسل، وبما جاء عنه جل جلاله.
وكان ﷺ يقول: "الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن" فإن صاحبه يوقن أن الذي قدَّرَ الأشياء ودبرها أرحم به من نفسه وأرحم به من أبيه وأمه، وما قدَّرَ ما قدَّرَ عليه إلا ليثيبه منها مهما كان مؤمنًا
"إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" فبذلك يندفع عن قلبه الهم والحزن وتكثر الهموم والأحزان لمن لا يؤمن بالله وقضاءه وقدره وينسب الأشياء إلى الأسباب كأنها الفعالة ناسياً للمسبِّب، ويقول: هذا فلان وهذا كذا وهذا كذا لو ما كان كذا بيكون كذا.. ويظل في أحزان طول عمره لأنه تعلق بغير الله ونسب الأشياء إلى غير فاعلها، وغير مكونها ومنشئها جل جلاله، ولكن من عرف أن الله قادر ومقدِّرٌ لكل شيء وقاضٍ لكل شيء ذهبت عنه الهموم والأحزان.
قال بعض العارفين: برَد جأشي على ما شاء الله وكان ما لم يشاء لم يكن، "لا تُكْثِرْ هَمَّكَ ، فَإِنَّهُ مَا يُقَدَّرْ يَكُنْ ، وَمَا تُرْزَقْ يَأْتِكَ " في الحديث
"لا تُكْثِرْ هَمَّكَ ، فَإِنَّهُ مَا يُقَدَّرْ يَكُنْ ، وَمَا تُرْزَقْ يَأْتِكَ " ،
الذي لغيرك لن يصل لك والذي قُسم لك حاصل لديك
فاشتغل بربك والذي عليك في فرض الحقيقة والشرع المصون
لا تكثر همك ما قُدُّر يكون أنت والخلائق كلهم عبيد
والإله فينا يفعل ما يريد همك واهتمامك ويحك ما يفيد
القضاء تقدم فاغنم السكون لا يكثر همك ما قُدُّر يكون
"قال: وكان ﷺ يقول: "الإيمان عفة عن المحارم وعفة عن المطامع"" عِفَّةٌ عن المحارم: كل ما حرم الله تبارك وتعالى فإنها حقائق الإيمان تبدو في ذلك العمل والالتزام، وكذلك العِفَّة عن المطامع أي: ما تشتهيه النفوس مما حرم الله سبحانه وتعالى.
وكان ﷺ يقول: "من قال رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد ﷺ رسولاً، وجبت له الجنة"، "من قال رضيت بالله رباً" يعني: شهدَ بذلك وجبت له الجنة، أي: مآله يصير إلى الجنة، فإن لم تكن ذنوب فالجنة بغير حساب، وإن كانت ذنوب فبعدَ الحساب والعقاب على ما لم يعفُ الله عنه، "وكان ﷺ يقول: "من كان آخر كلامِهِ لا إله إلا الله دخل الجنة" اللهم اجعلنا من أهلها واختم بها أعمارنا، "فقال رجل: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق" هذا يردُّ على من قال أن صاحب الكبيرة يُخَلَّد في النار، وإن فعل الكبائر فيغفر الله ما يشاء، ويعذب على ما يشاء، وما دام مات وخرج من الدنيا وفي قلبه أي مثقال ذرة من إيمان فإنه لا بد أن يرجعُ ويعود إلى الجنة والله أعلم
حققنا اللهم بحقائق لا إله إلا الله، واجعلنا من خواص لا إله إلا الله، وارزقنا الصدق في لا إله إلا الله، والعمل بمقتضى لا إله إلا الله، ومكِّنها في قلوبنا، ومكِّنا في سرها والاطلاع عليها وعلى معارفها والعمل بما توجب ظاهرًا وباطنًا برحمتك يا أرحم الراحمين، وبسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ الفاتحة.
27 شوّال 1444